من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

وحدد موسى (ع) وقت التحدي بالضحى ، لان هذا الوقت يناسب الجميع فالنائم يكون قد استيقظ ، والبعيد وصل ، والإنسان يكون في أفضل حالاته الفكرية.

[٦٠] (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى)

وأخذ فرعون يعد عدّته ، ويجمع كيده ، ويلملم قواه.

[٦١] (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى)

لقد بادر موسى (ع) بإلقاء الحجة على السحرة قبل أن يتحداهم.

أولا : لأنه رسول إليهم أيضا ، وأول واجبات الرسول هو إنقاذ الناس بالموعظة.

وثانيا : هزّ ضمائرهم ليلحق بهم هزيمة نفسية ، فكأنه قال لهم أيها السحرة! يا من تخدمون النظام بعلمكم ، وتصبحون مرتزقة للظالمين من أجل لقمة خبز .. لا تفتروا على الله كذبا بادعائكم إني ساحر ، أو بتأليهكم فرعون وتكذيبكم رسالتي فانكم إذا كنتم كذلك ، سيسحتكم الله بعذاب بئيس ، لان العلم نعمة من عند الله للإنسان يجب أن تشكر ، فاذا لم تشكر أصبح نقمة ، والسحت اقتلاع الشيء من جذوره ، وإذا قلعت الشجرة من جذورها ، يقال سحتّها.

[٦٢] (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)

بين مصدّق ومكذّب.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوى)

١٨١

يبدو أنهم اتفقوا على أمر معين واخفوه ، ولم يكن اتفاقهم على باطل ، لأنهم كانوا متفقين عليه منذ السابق.

يقول بعض المفسرين : إن السحرة اتفقوا على أنه لو غلبهم موسى خضعوا له ، وقد كان هذا المنظر مثيرا ، لأن السحرة يعتبرون كيدا لفرعون ، وأداة ينفذ بها مآربه ، وها هم يناجي الواحد منهم الآخر ، خشية بطش فرعون ، وتتضح هنا تبعية العلم للقوة.

[٦٣] (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى)

يبدو إنّ المعارضة كانت موجودة ، وان الطاغوت كان خائفا من أن يميل الشعب تجاه موسى ، ولذلك كان يريد أن يخلق البعد النفسي بين الشعب ومنقذيه ، فادعى أن موسى وهارون يستخدمان السحر للوصول الى أهداف سياسية ، بل أهداف إجرامية تتمثل في إخراجكم من أرضكم ، وهذا ما يعمله الطغاة عند ما يريدون أن يواجهوا تجمعا أو حركة حيث يربطون تحركهم بما يكره الناس ، ثمّ بعد أن اتهموا موسى (ع) بأنه ساحر أضافوا كلمة أخرى وهذه الكلمة لا يقولها عادة إلّا مرتزقة الأنظمة من علماء السوء حيث قالوا : بأن موسى وهارون يريدان أن يذهبا بطريقتكم المثلى ـ أي إن هؤلاء يريدان أن يخرجاكم من دينكم وقيمكم ، وهذا ما يقوم به علماء السوء في كلّ عصر ومصر ، إنهم يدّعون بأن الثوار يريدون هدم مقدسات الأمة.

[٦٤] (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا)

ولا يعني ذلك إن الطغاة يدعمون الوحدة ، بل يريدون صنع وحدة مزيفة تقف حجر عثرة أمام الرساليين ، وعلماء السوء يؤكدون على ضرورة الوحدة حتى تلك

١٨٢

الوحدة القائمة على أساس باطل ، ومن ثمّ أثار هؤلاء العلماء رغبة نفسية وسخة حين قالوا :

(وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى)

إننا الآن في صراع ، وهذا الصراع حادّ ، وهذه اللحظات مصيرية في حياتنا ، ونحن نريد أن تجمعوا كيدكم ، وتوحدوا صفوفكم ، حتى نتغلب على هؤلاء المتمردين .. هذه الكلمات لا يشيعها إلّا وعاظ البلاط ومرتزقة الفكر.

١٨٣

قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ

______________________

٦٧ [فأوجس] : فأحسّ ، ووجد في نفسه.

٧١ [من خلاف] : أي تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو بالعكس ، ليختلّ توازن البدن ، ويكون عذابه أكثر ما دام الإنسان حيا.

[جذوع] : أصول.

١٨٤

أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣)

______________________

٧٢ [لن نؤثرك] : لن نفضّلك ونختارك.

١٨٥

وألقي السحرة سجدا

بعد أن هزّ موسى (ع) ضمائر السحرة ، استجاب لتحديهم ، وقال : ابدأوا ، وهذا التحدي نجده عند الأنبياء دائما ، وهو أبرز دليل على نبوتهم ، وانهم رجال متصلون بالغيب.

وما كان من السحرة إلّا أن جاؤوا بمجموعة حبال وعصي ، وخلقوا أجواء صاخبة توحي بأنها تسعى ، فسحروا أعين الناس ، ولم يكن ذلك إلّا ضربا من السحر ، أما الحقيقة التي كانت تتمثل في عصا موسى فقد ابتلعت ذلك السحر مرة واحدة ، وآمن السحرة بموسى وخروا لربه وربّهم ساجدين.

وان لنا في ذلك لعبرة ، فحينما تكون لدنيا الحقيقة ، ولا يكون عندهم إلّا الخيال الباطل سترى كيف ، تبتلع الحقيقة سحرهم.

وحينما سجد السحرة وآمنوا ، حاول فرعون إلصاق التهم بهم ، ليكون ذلك مبررا لتعذيبهم أو قتلهم ، ولكنهم أصرّوا وصمدوا أمام التهديد ، بصلابة الإيمان

١٨٦

وبالاستعانة بالله.

بينات من الآيات :

[٦٥] (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى)

هل أنت تبدأ أم نحن؟

[٦٦] فطلب موسى منهم أن يكونوا هم البادئين وكان ذلك تحديا عظيما.

(قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى)

أي أنهم عملوا عملا أثاروا به خيال موسى (ع) ، وبالأولى أثاروا خيال المحتشدين!

ولعلّ هذا يعني : إنّ السحر تأثير نفسي في الإنسان من خلال إثارة خياله والإيحاء له ، أمّا هدفه فهو التضليل ، وعاقبته الخسران ، وأول ما يفكر به السحرة ، هو السيطرة على الجالسين نفسيا ، بالقيام ببعض الحركات المثيرة ، وبعد أن يستحوذوا على أنفس الحاضرين ـ بسرد القصص الخيالية ، وصنع أجواء صاخبة ـ يضحى كلّ عمل يقومون به عظيما ، يثير العجب والدهشة في أنفس الناس.

كما إنّ بعضهم يستفيد من الجنّ ، بالاضافة الى بعض العلوم الغريبة ، والسحرة مجموعة مرتزقة ، وضعوا علمهم في خدمة شهواتهم ، أو لدعم سلطة ظالمة ، شأنهم شأن الأقلام المأجورة التي توظف نفسها عند الظلمة.

هذا هو واقع السحر ، انه تخيلات لا تصمد أمام الحقّ ، ومن كلمتي «حبالهم» و «عصيهم» نستنتج إن السحر ليس إلّا تأثيرات نفسية لا يغيّر من الواقع شيئا ،

١٨٧

والتعبير القرآني غاية في الوضوح حيث يقول : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) فهي في الحقيقة لا حراك لها ، وما الحركة الظاهرة إلّا بتأثير الخيال السحري.

[٦٧] لقد تحدّاهم موسى (ع) وهو يعرف بأنهم على باطل وانه على حقّ ، ومع ذلك تسرب الخوف الى نفسه حيث قال الله :

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى)]

فلما ذا خاف موسى؟

لهذه الآية تفسيران :

الأول : هو أن موسى (ع) بشر كسائر الناس ، من حيث الذات والبنية الجسدية والنفسية ، ولذلك ساوره الخوف ، والملاحظ أنه كلما تحدث القرآن الحكيم عن معجزات الأنبياء ، تحدث في ذات الوقت عن جانب من ضعفهم البشري ، كالخوف والعجلة والجزع والميل في اتجاه الضغوط ، إلّا أنّ هذا الجانب سرعان ما يتلاشى بتأييد الله.

وذلك حتى لا يظن البشر أنّ الاعجاز نابع من ذاتهم ، فيقدسونهم ويؤلهونهم ، ولكي يكونوا حجة على الناس ويقطع عنهم سبل الأعذار.

الثاني : إنّ موسى (ع) لم يكن خائفا على نفسه ، بل خشي أن يستأثر السحرة بقلوب الحاضرين فلا ينفعهم بعد ذلك إعجازه شيئا.

[٦٨] (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى)

وتدلّ هذه الآية على التفسير الثاني بما تحمل من تطمين لموسى بأنه هو الغالب ، وهذا النوع من التخوف موجود لدى كلّ الرساليين ، فهم يخشون من وسائل الاعلام

١٨٨

والثقافة المضللة أن تفسد الناس ، ولكن عليهم أن يتغلبوا على خشيتهم بذكر الله سبحانه وتعالى ، وأن يثقوا بأن أقلامهم النظيفة التي تبين الحقيقة تعادل ملايين الأقلام التي تكتب الزيف والباطل ، لأن الحقيقة قوة تبتلع سحر المبطلين.

[٦٩] (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا)

وتقوم عصاك بابتلاع حبالهم ، وعصيّهم التي صنعوها بما لها من وجود ماديّ ، وآثار نفسيّة.

(إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى)

فكلّ الذي قاموا به لا يعدو أن يكون مجموعة من الخطط الماكرة الباطلة ، التي لا تلبث أن تنتهي بوهج الحقيقة ، كما الظلام ينهزم أمام النور ، وباستطاعة الإنسان المتصل بالله أن يتجاوز تأثيرات السحر الوهمية ، وهكذا فالسحر لا يؤثر فيمن يؤمن بالله حقا ، وقد قال عنه تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (١) ، كما إنّ ذات الساحر لا يفلح ، لأن عمله هذا يكرس فيه الانحراف عن خط الفطرة والحياة في الدنيا ، ويسبّب له العذاب في الآخرة.

[٧٠] صحيح ان عاقبة الساحر هي الخسار ولكن متى ما دام متمسكا بسحره وانحرافه ، أما إذا تاب وتمسك بالحقّ والرسالة ، فان عاقبته ستكون الى خير ، وهذا يدلنا على إن عاقبة الإنسان ، رهينة عمله ، لا لونه ولا جنسه.

وقد طلب موسى (ع) الى السحرة أن يكونوا أول الملقين ، حتى يكون أثر انتصاره على فرعون عميقا في أنفس الجميع حتى السحرة ، حيث يصبح ذلك السحر الذي

__________________

(١) البقرة / ١٠٢.

١٨٩

أكبروه قبل لحظات هباء منثورا.

وبالفعل فقد جاءت النتيجة عظيمة إذ تجاوز الأثر الناس الى أعماق السحرة.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى)

لقد كان التأثير بالغا ، بحيث وقع السحرة سجدا منهارين أمام نور الحقيقة ، فكأنهم ألقوا بغير إرادتهم ، وفي الآية إشارة الى هداية الله بأنها العامل الحاسم في سجودهم.

والسجود هو قمة العبودية والخضوع أمام الله ، ولم يكن هذا السجود هيكليا إذ احتوى أسمى معانيه ، وهو الاعتراف بالعبودية لله.

والسؤال : لما ذا يذكر الله هارون في هذه الحادثة ، مع أن موسى هو الذي واجه السحرة مباشرة ، وكان الحديث حتى الآن عنه وحده؟

هناك سببان رئيسيان؟

الأول : إنّ هارون كان الناطق باسم موسى ، وهو معروف في أوساط المجتمع.

الثاني : هناك دائما قيادات ثانية تتمثل في الأوصياء والصالحين ، ويقتضي الموقف السليم ، أن تبرزها القيادات العليا في اللحظات الحاسمة ، كلحظة الانتصار ، حتى يتأكد دورها في المجتمع ، وهكذا نجد في تاريخ الرسالة الإسلامية أنّ النبي (ص) أعطى الراية لعلي (ع) حتى حين دخلوا مكة فقال (ع) : «اليوم يوم المرحمة اليوم تصان الحرمة» ، كما إنّه (ص) رفض دخول المدينة حتى يأتي علي (ع) ، وذلك ليعرف دوره في أداء الرسالة.

١٩٠

[٧١] ولكن هل كان فرعون يقبل بالحقّ أو يعترف بالهزيمة ، أو حتى يسمح للآخرين بذلك؟

كلا ..

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)

لقد كان نظام فرعون قائما على الديكتاتورية المطلقة ، ونرى كيف أنّ الطغيان بلغ بفرعون حدا سلب الناس حريتهم في معتقداتهم.

ولكن الإيمان بالله يقاوم الدكتاتورية ، ويعطي الاستقلال ، فالتبعية التي وقع فيها السحرة انتهت بمجرد إيمانهم بالله تعالى ، والإنسان إنّما يكون تابعا بسبب إحساسه بالضّعة ، فيعتقد أنّه يقوى نفسه ويصبح عظيما حينما يربط مصيره بالطغاة وأصحاب القدرة ، ولكنه يثق بنفسه حينما يتصل بنبع الإيمان ، إذ يعطيه الإيمان العزة وروح الاستقلال.

وحينما أحسّ فرعون بانفصال السحرة عنه ، حاول أن ينتقم منهم ، فأخذ يبحث عن مبرر للانتقام فقال :

(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)

وهذا ديدن الطغاة مع المؤمنين ، وسائر أطراف المعارضة الحقيقية ، إنّهم يلصقون بهم التهم الرخيصة ، لتبرر تعسفهم وممارساتهم الجائرة بحقهم.

(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى)

وكان الصلب قديما يتم ـ فيما يبدو ـ بمدّ يدي الإنسان على خشبة ، ثم يدقون

١٩١

فيها المسامير ، وهكذا أرجله ومواضع أخرى من بدنه ، ويظل على هذا الحال حتى يموت.

إلّا إن فرعون هدد بقطع أرجلهم وأيديهم من خلاف ، زيادة في التعذيب ، وربما أراد التنكيل بعوائلهم ، وتشوية سمعتهم بعد موتهم ، إذ قال : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى).

[٧٢] ولكنهم صمدوا أمامه بصلابة الإيمان ، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن أمام الطغاة صلبا شديدا.

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ)

أي اكتشفنا الحقيقة ، ومن يكتشفها يعشقها ، وأقسموا :

(وَالَّذِي فَطَرَنا)

تأكيد لقرارهم ودعما لموقفهم ، وإنّه الموقف الحاسم ، وأضافوا ردّا على تهديداته :

(فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا)

وهكذا يجب أن يكون المؤمن مستعدا لتحمل تبعات إيمانه واستقلاله.

ولكن السؤال : كيف بلغ هؤلاء السحرة وبهذه السرعة الى هذه القمة السامقة من الإيمان والجهاد ، حيث ألقوا بكلمة الحقّ أمام السلطان الجائر ، وحيث آمنوا ذلك الإيمان العميق بالآخرة؟!

والإجابة كالتالي :

١٩٢

أولا : إنّ الحقائق تبقى غامضة إلى أن يتصل القلب بالحقيقة الكبرى في هذه الحياة ، والتي تتجلى في معرفة الربّ ، فاذا عرف الإنسان ربه ، ذابت عن قلبه جبال الجليد المتراكمة فوق قلبه ، فرأى الحقائق بوضوح كاف.

أو ليس الله سبحانه خالق السماوات والأرض ، ومبدئ الخلائق جميعا؟ كذلك معرفته أول كلّ علم وينبوع كلّ معرفة.

وهؤلاء السحرة حينما آمنوا بالله صار بديهيا أن يتيقنوا بالبعث والجزاء و... و...

ثانيا : عند ما يكون طريقه للإيمان بحقيقة معينة مليئا بالعقبات والضغوط ، ولكن يصرّ الإنسان على تجاوزها فيختصر المسافة إلى الايمان الخالص ، الذي يصعب الحصول عليه في الظروف الطبيعية.

والسحرة ، حينما آمنوا بالله ، كانوا قد أسقطوا حواجز الإغراء والإرهاب الفرعوني ، وتنازلوا عن المكانة الاجتماعية ، واقتلعوا أنفسهم من حضيض الدنيا ، و... و...

وبالتالي وصلوا الى هذه المرتبة العليا ، بلى إن مجرد إيمانهم في تلك الظروف كان يعني تحديا لسلطات الشهوة والقوة ، بكلّ أبعادهما ، فطووا كلّ المراحل في لحظة عظيمة تجلى الرب فيها لقلوبهم ، بعد أن استعدوا للتضحية بكلّ شيء لله ، وللحقّ الذي شاهدوه بأعينهم.

ثالثا : لأنهم عبدوا الطاغوت لبعض الوقت ، ولعلّهم كانوا قد عرفوا ، بوحي ضميرهم ، ودلالة عقولهم : إنهم مجرمون ، لأنهم يؤيدون مجرما قذرا جبارا في الأرض ، فكانت عقدة الذنب تلاحقهم ، فلما آمنوا كانوا يبحثون عما يطهرهم

١٩٣

ويغسل ذنوبهم الكبيرة ، ويشهد على هذا التفسير الثالث ، السياق ، وهكذا حينما تجلت الحقيقة في عصا موسى (ع) لم يتمالك السحرة أنفسهم فألقوا ساجدين ، نعم .. لقد آمنوا بالآخرة وتيقنوا من البعث والحساب فاستهانوا بالدنيا ، حتى صار تنازلهم في سبيل القيم أمرا هينا ، ثمّ استدركوا :

[٧٣] (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا)

ولو كان هذا الإيمان ، وهذه الأمنية بالغفران ، يكلفنا العذاب والصلب ، وهذا هو الإيمان الحقيقي ، الإيمان الذي يستعد صاحبه لكلّ شيء إلّا التنازل عنه.

ومع إنهم يطلبون الغفران بشكل عام ، إلّا أنهم يخصصون خطيئة السحر ، لأنهم أدركوا أبعادها السيئة أن يخدم الإنسان نظاما فاسدا ، ويكون وسيلة له لمواجهة الرسالة والمؤمنين ، قالوا :

(وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ)

بسبب إغراءاتك ، وتهديداتك ، وخططك الماكرة.

(وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى)

ردّا على مقولة فرعون تحديا : (أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى).

قالوا : كلّا .. الله ـ ولست أنت ـ خير وأبقى.

١٩٤

إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي

______________________

٧٧ [دركا] : أي إدراك فرعون لك.

٧٨ [فغشيهم] : أي جاءهم الماء حتى أحاط بهم وغطّهم.

١٩٥

وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)

١٩٦

واضلّ فرعون قومه وما هدى

هدى من الآيات :

خلاصة رسالات الأنبياء التي تتكرر في القرآن ، هي أن الإنسان رهين عمله ، فعاقبة المجرمين النار لا موت لهم فيها ولا حياة ، بينما عاقبة المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار ، وليست نتيجة العمل محدودة بالآخرة ، بل قد يحصل الإنسان على عاقبة عمله في الدنيا أيضا كما انحرف فرعون بطغيانه. معاقبه الله بالغرق.

لهذا حذر الله بني إسرائيل من الطغيان وكفران النعمة حتى لا يحل عليهم غضبه ، أما لو انحرف الإنسان قليلا فان باب الرجعة والتوبة الصادقة يبقى مفتوحا له.

بينات من الآيات :

[٧٤] (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى)

الذي يستمر في جريمته الى حين لقاء ربه فان مصيره جهنم. والتعبير «فَإِنَّ لَهُ

١٩٧

جَهَنَّمَ» يوحي بأن المجرم يشتري جهنم بعمله الطالح ، حتى تصبح ملكا له فعلا.

وكم هو المكوث في النار ، حيث يبقى المجرمون بين الموت والحياة ، يتجرعون العذاب ، ويذوقون الألم!؟

جاء في الأحاديث : يأتي أهل النار الى مالك يتوسلون إليه ـ بذلة ـ سبعين سنة ، حتى يخفف عنهم العذاب فيرفض ، فيقولون له : إذا لا نريد الحياة ، ولكنه لا يجيبهم الى حين ، ثم يأتيهم النداء انكم ها هنا ماكثون ، فييأسون ويطلبون من مالك أن يأذن لهم بالبكاء على ما فرطوا في جنب الله ، فيأتيهم الإذن فيبكون على أنفسهم ألف سنة.

[٧٥] وعلى العكس من ذلك تماما هو حال المؤمنين :

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ)

فالإيمان المستمر حتى لقاء الله ، والمقرون بعمل الصالحات ثمن الجنة.

(فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى)

فكل صالحة من العمل بدرجة من الجنة ، وكلمة الدرجات جاءت هنا بإزاء كلمة الصالحات ، وفي الخبر أن ما بين الدرجة والأخرى كما بين السماء والأرض.

[٧٦] (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها)

والخلود من أسمى طموحات الإنسان.

(وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى)

١٩٨

ان أعظم وأصعب مسئولية على البشر في هذه الدنيا ، هي أن يزكّي نفسه من آثار الشرك ، من البخل ، والكسل ، والضجر ، والخوف من غير الله ، و.. و.. والذي لا يزكي نفسه في الدنيا يمكث بنسبة رذائله وانحرافاته في جهنم ، لأن الجنّة لا يدخلها الا المطهّرون ، والسبيل الى الطهارة أما هو التزكي في الدنيا ، أو النار في الآخرة.

[٧٧] بعد التحدي بانتصار موسى على فرعون ، والحقيقة على السحر ، أوحى الله الى موسى بالخروج.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي)

الساري هو المسافر بالليل ، أما السارب فهو المسافر في وضح النهار ، وأمر الله موسى أن يسير ببني إسرائيل ليلا ، حتى لا يشعر به فرعون ولا جنده الا وقد فات الأوان ، وهذه من رعايته لعباده.

وبالرغم من أن بني إسرائيل يصل عددهم الى (٧٠٠) ألف ، الا أن واحدا منهم لم يفش السر ، ولذلك سماهم الله (عبادي) ، فقد كانوا مخلصين يستحقون أن يجعل الله لهم في البحر طريقا يبسا ، ويخلصهم من فرعون وجنده.

(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً)

لما ضرب موسى البحر بعصاه انفلق وصار كل جانب منه كأنه الجبل ، وبينهما طريق يابس يصلح للسير عليه.

(لا تَخافُ دَرَكاً)

أي لن يدركوك.

١٩٩

(وَلا تَخْشى)

لا تخاف من الغرق.

[٧٨] (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ)

لما طلع الصباح واتضح الأمر ركب فرعون وجنوده دوابهم ليلحقوا بموسى وبني إسرائيل ، ولما وصلوا البحر وجدوا موسى (ع) وبني إسرائيل قد عبروا خلال البحر ، فدخلوا خلفهم ، وقد أعماهم الحقد والتكبر ان يلتفتوا الى هذه المعجزة الالهية ، فغشيت الأمواج فرعون وجيشه وغرقوا.

(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ)

يوحي هذا التعبير القرآني بأن الموقف الذي مرّ به فرعون وجنوده بلغ من الهول والرعب ما يفوق كل وصف ، بلى إنّ منظر جبال الأمواج البحرية الهائلة وهي تبتلع مئات الألوف من الرجال والدواب إن هذا المنظر يفوق الوصف فعلا.

[٧٩] والعبرة التي نستخلصها من ذلك الموقف ، تتلخص في الآية الكريمة :

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)

ان النهاية المأساوية كانت بسبب ضلال الحاكم ، واتباع الناس له في ضلالته.

[٨٠] وحتى لا يطغى بنو إسرائيل ، أو ينسوا نعمة الله عليهم ، يذكرهم الله قائلا

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ)

٢٠٠