بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

فصل [ في آيات الصفات ]

فإن قيل : إنّه قد ذكر في القرآن : « يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ » (المائدة : ٦٤) ، وإنّ له جنباً ، وعيناً ، وأعيناً ، ونفساً ، وأيدٍ ، لقوله : « مِمّا عَمِلَتْهُ أيْدِينا » [ يس : ٧١ ] ووجهاً.

فقل : يداه نعمتاه ، ويَدُهُ قُدْرَتُه ، والأيدي هي : القدرة ، والقوة أيضاً.

وجنباً في قوله تعالى : « يَاحَسْرَتى عَلَى مَافَرَّطْتُ فِيْ جَنْبِ اللّه » [ الزمر : ٥٦ ] ، أي : في طاعته.

ونفساً في قوله تعالى : « تَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِي وَلأ أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ » [ المائدة : ١١٦ ] ، المراد به : تعلم سرّي وغيبي ، ولا أعلم سرّكَ وغيبك.

ووجهه : ذاته ، ونفسه : ذاته ، وقوله تعالى : « فَثَمَّ وَجْهُ اللّه » [ البقرة : ١١٥ ] ، أي الجهة التي وجّهكم إليها.

وما ذكر من العين والأعين فالمراد به الحفظ والكَلاءَة والعلم.

وقوله : « اسْتَوى عَلَى العَرْشِ » [ الأعراف : ٥٤ ] ، استواوَه : استيلاوَه بالقدرة والسلطان ، ليس كمثله شيء ، ولا يشبهه ميّت ولا حي.

فصل [ في أنّ اللّه تعالى غني ]

فإن قيل : أربك غني أم لا؟

فقل : إنّه غنيٌّ لم يزل ولا يزال ، ولاتجوز عليه الحاجة في حال من الأحوال ، لأنّ الحاجة لاتجوز إلاّ على من جازت عليه المنفعة والمضرة ، واللّذة والألم ، وهذه الأمور لاتجوز إلاّ على من جازت عليه الشهوة والنفرة ، وهما لا يجوزان إلاّ على الأجسام ؛ فيسترُّ الجسم بإدراك ما يشتهيه ويلتذ به ، وينمو ويزداد بتناوله ، ويغتم

٤٨١

بإدراك ما ينفر عنه ويتضرر به ، وينقص بتناوله. وقد ثبت أنّه تعالى ليس بجسم ، بل هو خالق الجسم ، فكيف يخلق مثل ذاته ، أو تشاركه الأجسام في صفاته؟! بل لا يجوز عليه شيء من ذلك.

فصل [ في أنّ اللّه لا يُرى بالأبصار ]

فإن قيل : أربك يرى بالأبصار ، أم لا يرى؟

فقل : هذه مقالة باطلة عند أُولي الأبصار ، لأنّه لو رئي في مكان لدل ذلك على حُدُوثه ، لأنّ ما حواه محْدُودٌ محدث.

فإن قيل : إنّه يرى في غير مكان. فهذا لا يعقل ، بل فيه نفي الروَية ، وقد قال تعالى : « لاتُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ » [ الأنعام : ١٠٣ ] ، فنفى نفياً عاماً لجميع المكلفين ، و [ لجميع ] أوقات الدنيا والآخرة.

وقال اللّه تعالى لموسى ـ لما سأله الروَية ـ : « لَنْ تَرَانِي » [ الأعراف : ١٤٣ ] ، ولم يسأل موسى عليه‌السلام الروَية لنفسه ، بل عن سوَال قومه ، كما حكاه اللّه في قصص قومه : « فَقَدْ سَألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوْا أرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ » [ النساء : ١٥٣ ] ، ولو سألها لنفسه لصعق معهم. ولما لم يقع منه خطيئة إلا سوَاله لهم الروَية من دون إذن ، قال لربه عزّ وجلّ : « أتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنّا » [ الأعراف : ١٥٥ ].

فصل [ في أنّ اللّه تعالى واحد ]

فإن قيل : أربّك واحدٌ لا ثاني له ، أم لا؟

فقل : بلى هو واحد لا ثاني له في الجلال ، متفرد هو بصفات الكمال ؛ لأنّه لو

٤٨٢

كان معه إله ثان لوجب أن يشاركه في صفات الكمال على الحد الذي اختصّ بها ، ولو كان كذلك لكان على ما قدر قادراً ، ولو كان كذلك لجاز عليهما التشاجر والتنازع ، ولصح بينهما التعارض والتمانع ، ولو قدّرنا هذا الجائز لأدى إلى اجتماع الضدين من الأفعال ، أو عجز القديم عن المراد ، وكل ذلك محال ، تعالى عنه ذو الجلال ؛ لقوله : « لَوْ كَان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاّ اللّه لَفَسَدَتا » (الأنبياء : ٢٢) ، ولقوله عزّ قائلاً : « أم جَعَلُوا للّه شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ » [ الرعد : ١٦ ] فتبين أنّ الخلق يشهد بإله واحد ، وأنّه ليس هناك خلق ثانٍ يشهد بإله ثان ، وهذا واضح ؛ فإنّ هذا العالم دليلٌ على إله واحد وهو الذي أرسل الرسل ، وأوضح السبُل.

ويَدُل على ذلك قوله عزّ وجلّ : « فَاعْلَمْ أنّهُ لا إِلهَ إلاّ اللّه » [ محمد : ١٩ ] ، وقوله : « شَهِدَ اللّه أنّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالمَلأئِكَةُ وَأُوْلُوْا العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ » [ آل عمران : ١٨ ] ، وقوله : « وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌج » البقرة : ١٦٣ ] ، وقوله : « قُلْ هُوَ اللّه أحَدٌ » [ الصمد : ١ ].

(العدل)

[ فصل في أنّ اللّه تعالى عدل حكيم ]

فإن قيل : أربّك عدل حكيم؟

فقل : أجل ، فإنّه لا يفعل القبح ولا يُخِلُّ بالواجب من جهة الحكمة ، وأفعاله كلّها حسنة.

وإنّما قلنا : إنّه لا يفعل القبيح لأنّه إنّما يقع ممن جهلَ قُبْحَه ، أو دعته حاجة إلى فِعْلِه وإن عَلِمَ قبحَه ، وهو تعالى عالم بقبح القبائح ؛ لأنّها من جملة المعلومات

٤٨٣

وهو عالم بجميعها كما تقدم ، وغنيّ عن فعلها كما تقدم أيضاً ، وعالم باستغنائه عنها ، وكل من كان بهذه الأوصاف فإنّه لا يفعل القبيح ، ألا ترى أنّ من مُلْكُه ألفي ألف قنْطارٍ من الذَّهب ؛ فإنّه لا يسرق الدّانق ، لعلمه بقبح السرق ، وغناه عن أخذ الدانق ، وعلمه باستغنائه عنه ، وكذلك لو قيل للعاقل : إن صدقت أعطيناك درهماً ، وإن كذبت أعطيناك درهماً ، فإنّه لا يختار الكذب ـ في هذه الحال ـ على الصدق ، [ وهما ] على وتيرة واحدة ، وطريقة مستمرة ، ولاعِلّة لذلك إلاّ ما ذكرناه.

فصل [ في أنّ أفعال العباد منهم ] (١).

فإن قيل : هل ربّك خَلَق أفعال العباد؟

فقل : لا يقول ذلك إلاّ أهل الضلال والعناد ، كيف يأمرهم بفعل ما قد خَلَق وأمضى ، أو ينهاهم عن فعل ما قَدْ صَوَّر وقضى ، ولأنّ الاِنسان يلحقه حكم فعله من المدح والثّناء ، والذمّ والاستهزاء ، والثواب والجزاء ، فكيف يكون ذلك من العلي الأعلى؟! ولأنّه يحصل بحسب قصدِه ودواعيه ، وينتفي بحسب كراهته وصرفه على طريقة واحدة ، ولأن اللّه تعالى قد أضاف أفعال العباد إليهم ، فقال :

« يَكْسِبُونَ » ، و « يَمْكُرُونَ » ، و « يَفْعَلُونَ » ، و « يَصْنَعُونَ » ، و « يَكْفُرون » ، و « يَخْلُقُونَ إِفْكاً » ، ونحو ذلك في القرآن كثير ، ولكنّه تعالى أمَرَ تخييراً ، ونهى تحذيراً ، أقدَرَهُم على فعل الضِّدين ، وهداهم النجدين ، ومكّنهم في الحالين ، لم يمنعهم عن فعل المعاصي جبراً ، ولا قهرهم على فعل الطاعات قهراً ،

__________________

١ ـ التعبير موهم للتفويض وهنا تفترق الزيدية عن الاِمامية ، فانّ لأفعال العباد عند الاِمامية نسبتين : نسبة إلى اللّه سبحانه ، ونسبة إلى العبد ، ولأجل وجود النسبة ، فأفعالهم منسوبة إليهم بالمباشرة وهم الفاعلون حقيقة ، وإلى اللّه سبحانه بنحو من النسب إمّا بالتسبيب ، أو اللطف منها ، ولأجل ذلك روى عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّه : « لا جبر ولاتفويض ».

٤٨٤

ولو شاء لفعل كما قال عزّ وجلّ : « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعاً » [ يونس : ٩٩ج يريد به مشيئة الاِجبار لا مشيئة الاختيار ، لأنّه لو أكرههم لم يكونوا مكلّفين ، ولَبَطل الغرض ببعثة المرسلين.

فصل [ في أنّ اللّه لا يعذب أحداً إلاّ بذنبه ]

فإن قيل : ربّك يعذب أحداً بغير ذنبه؟

فقل : لا يعذب أحداً إلاّ بذنبه ؛ لأنّ عقاب من لا ذنب له ظلم ، والظلم قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح ، وقد قال تعالى : « وَلأتَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى » [ الأنعام : ١٦٤ ].

فصل [ في أنّ اللّه لا يقضي إلاّ بالحق ] (١).

فإن قيل : أربك يقضي بغير الحق؟

فقل : كلاّ ، بل لا يقضي بالكفر والفساد ، لما في ذلك من مخالفة الحكمة والسداد ، لقوله تعالى : « وَاللّهُ يَقْضِي بِالحقِّ » [ غافر : ٢٠ ] ، فلا يجوز القول بأنّ المعاصي بقضاء اللّه تعالى وقَدَره بمعنى الخلق والأمر ، لأنّها باطلٌ ، ولأنّ إجماع المسلمين منعقدٌ على أنّ الرضى بالمعاصي لايجوز ، وإجماعهم منعقد على أنّ الرضا بقضاء اللّه واجب ، ولا مخلص إذاً من ذلك إلاّ بالقول بأنّ المعاصي ليست بقضاء

__________________

١ ـ العنوان حسن جداً ، لكن إخراج المعاصي عن مجال قضائه وإرادته سبحانه يستلزم التفويض الممقوت ، فالحق أنّ كل ما يوجد في الكون من حسن وجميل ، وإيمان وكفر ، وطاعة وعصيان ، ليس خارجاً عن قضائه وعلمه وإرادته لكن على وجه لا يستلزم الجبر ولا يسلب الاختيار. والتفصيل يطلب من محله.

٤٨٥

اللّه ؛ بمعنى أنّه خلقها ، ولا أنّه أمر بها ، وأمّا أنّه تعالى عالم بها فهو تعالى عالم بها ، لأنّها من جملة المعلومات ، وعِلْمُه بها لم يحمل العبد على فعلها ، ولم يجبره على صنعها كما تقدم.

فصل [ في أنّ اللّه لا يكلف أحداً فوق طاقته ]

فإن قيل : هل ربك يُكلّف أحداً فوق طاقته؟

فقل : لا ، بل لا يكلف أحداً إلاّ ما يطيق ؛ لأنّ تكليف ما لا يطاق قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح ، فقد قال تعالى : « لأ يُكَلّفُ اللّه ُنَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا » [ البقرة : ٢٨٦ ] ، والوسع : دون الطّاقة ، وقال : « إلاّ مَا آتَاهَا » [ الطلاق : ٧ ].

فصل [ في أنّ اللّه لا يريد شيئاً من القبائح ] (١).

فإن قيل : أربك يريد شيئاً من القبائح؟

فقل : إنّه تعالى لا يريد شيئاً منها ، فلا يريد الظلم ، ولا يرضى الكفر ، ولا يحب الفساد ، لأنّ ذلك كله يرجع إلى إرادة القبيح ، وإرادة القبيح هي قبيحة ، وهو تعالى لا يفعل القبيح.

ألا ترى أنّه لو أخبرنا مُخبرٌ ظاهرهُ العدالة ، بأنّه يريد الزنا والظلم لسقطت عدالته ، ونقصت منزلته ، عند جميع العقلاء ، ولا علّة لذلك إلاّ أنّه أتى قبيحاً ، وهو إرادة القبيح.

وقد قال تعالى : « وَاللّه لأ يُحِبُّ الفَسَادَ » [ البقرة : ٢٠٥ ].

وقال : « وَلأيَرْضَى لِعِبادِهِ الكُفْرَ » [ الزمر : ٧١ ].

وقال : « ومَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً للعِبادْ » [ غافر : ٣١ ].

__________________

١ ـ مضى الكلام فيه في التعليقة السابقة.

٤٨٦

فصل [ في أنّ اللّه لا يفعل ما هو مفسدة ]

فإن قيل : فهل ربّك يفعل لعباده ما هو مَفْسَدة؟

فقل : كلاّ ، بل لا يفعل إلاّ الصّلاح ، ولايبلوهم إلاّ بما يدعوهم إلى الفلاح ، سواء كان ذلك محنة أو نعمة ؛ لأنّه تعالى لا يفعل إلاّ الصّواب والحكمة كما تقدم ، فإذا أمرضهم وابتلاهم أو امتحنهم بفوت ما أعطاهم ، فلابُدّ من اعتبار المكلفين ؛ ليخرج بذلك عن كونه عَبَثاً ، وقد نبّه على ذلك بقوله تعالى : « أوَ لأ يَرَوْنَ أنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرّةً أوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لأ هُمْ يَتُوبُونَ وَلأ هُمْ يَذَّكَّرُونَ » [ التوبة : ١٢٦ ] ، ولابُدّ من العِوَض الموفّي على ذلك بأضعاف مضاعفة ، ليخرج بذلك عن كونه ظلماً ، وقد ورَدَ ذلك في السنّة كثيراً ، والغَرَضُ الاختصار.

(النبوة)

فصل [ في معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ]

فإن قيل : فقد أكملت معرفة ربّك ، فمن نبيك؟

فقل : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإن قيل : فما برهانك على ذلك؟

فقل : لأنّه جاء بالمعجزة عقيب ادّعائه النبوّة ، وكل من كان كذلك فهو نبيّ صادق.

فإن قيل : فما برهانك على أنّه جاء بالمعجز عقيب ادّعائه النبوّة؟

فقل : المعلوم ضرورة أنّه كان في الدنيا قبيلةٌ تُسمّى قريش ، وأن فيهم قبيلة تسمّى : بنو هاشم ، وأنّه كان فيهم رجلٌ اسمه : محمد بن عبد اللّه ، والمعلوم ضرورةً

٤٨٧

أنّه ادّعى النبوة ، وأنّه جاء بالقرآن بعد ادعاء النبوة ، وأنّه مشتمل على آيات التحدّي ، وأنّه كان يتلوها على المشركين ويسمعونها وهم النّهاية في الفصاحة ، والمعلوم ضرورةً شدّةُ عداوتهم له.

وإنّما قلنا : بأنّه معجز لأنّه تحداهم على أنّ يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا ، ثم تحداهم بأنّ يأتوا بسورة من مثله فلم يقدروا على ذلك ؛ لأنّهم لو قدروا على معارضته ـ مع شدّة عداوتهم له وعلمهم بأنّ معارضته بمثل ما جاء به تبطلُ دعواه ـ لما عدلوا عنها إلى الشّاقّ من محاربته ، التي لا تدل على بطلان دعواه ، فدلّ ذلك على كونه معجزاً.

ولأنّ القرآن مشتمل على الاِخبار بالغيوب المستقبلة ، وعلى الاِخبار عن الأمور الماضية ، فكان الأمر على ما أخبر في الماضي والمستقبل ، فدَلّ ذلك على كونه معجزاً ، لايقدر عليه أحد من البشر.

وله معجزات كثيرة تقارب ألف معجزة ، نحو : مجيء الشجرة إليه ، وجريها على الماء كالسفينة ، وسير الشّجرة ، وإحيائه الموتى ، وتسبيح الحصى في يده ، ونحو ذلك كثير ، وإنما قلنا بأنّ من كان كذلك فهو نبي صادق ؛ لأنّ إظهار المعجز على أيدي الكَذّابين قبيح ، وهو تعالى لا يفعله ، وإذا ثبت صدقُهُ وصحّت نبوته ، وجب تصديقه فيما أخبرنا به عن الأنبياء والمرسلين قبله ، ووجب القضاء بصحة نبوتهم وتصديق رسالتهم ، وهذا واضح.

فصل [ في معرفة القرآن ]

فإن قيل : فما اعتقادك في القرآن؟

فقل : اعتقادي أنّه كلام اللّه تعالى ، وأنّه كلام مسموع محدثٌ مخلوق.

فإن قيل : فما دليلك على ذلك؟

٤٨٨

فقل ، أمّا قولي : إنّه كلام اللّه تعالى ، فلقوله تعالى : « وَإِنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلأمَ اللّه » [ التوبة : ٦ ] ، المعلوم أن الكلام الذي سمعه المشركون ليس بشيء غير هذا القرآن ، ولأنّ المعلوم ضرورة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدين ويخبر بذلك ، وهو لا يدين إلاّ بالحق ، ولا يخبر إلاّ بالصدق ، لأنّ ظهور المعجز على يديه قد استأمن وقوع الخطأ فيما يدين به ، وظهور الكذب فيما يخبر به.

وأمّا قولي : إنّه مسموعٌ فذلك معلوم بالحسّ ولقوله تعالى : « إِنّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً » (الجن : ١) والمعلوم ضرورة أنّ ذلك المسموع هذا القرآن.

وأمّا قولي : إنّه محدَثٌ ؛ فلأنّه فعل من أفعاله تعالى ، والفاعل متقدم على فعله بالضّرورة ، ومايتقدمه غيره فهو مُحدَث ، ولأنّ بعضه متقدم على بعض ، وذلك يدل على أنّه محدَث ، ولقوله تعالى : « مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍج » [ الأنبياء : ٢ ]. والذكر هو القرآن ، لقوله تعالى : « وإنّهُ لَذِكْرٌ لكَ ولِقَوْمِكَ » [ الزخرف : ٤٤ ] ، أيْ شَرَفٌ لك ولقومك.

وأمّا قولي : إنّه مخلوقٌ ؛ فلأنّه مُرَتَّبٌ منظومٌ على مقدارٍ معلومٍ موافقٍ للمصلحة. بهذه الصِّفةِ المنزَّلة جَازَ وَصفهُ بأنّه مخلوقٌ ، ولِما رواه عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « كان اللّه ولا شيء ثم خلق الذكر » ، والذكر هو القرآن كما تقدم.

ثم قل : وأعتقد أنّه حقّ لا باطل فيه ، لقوله تعالى : « وَإِنّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلأ مِنْ خَلْفِهِ » [ فصلت : ٤١ و ٤٢ ].

ثم قل : وأعتقد أنّه لا تناقض فيه ولا تعارض ولا اختلاف ، « وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوْا فِيهِ اخْتِلأفاً كَثيراً » [ النساء : ٨٢ ].

٤٨٩

(الاِمامة)

فصل [ في إمامة الاِمام علي عليه‌السلام ]

فإن قيل : من أوّلُ الأئمّة بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأولى الأمّة بالخلافة بعده بلا فصل؟

فقل : ذلك أمير الموَمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب.

فإن قيل : هذه دعوى ، فما برهانك؟

فقل : الكتاب ، والسنّة ، وإجماع العترة.

أمّا الكتاب ، فقوله تعالى : « إِنّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيْمُونَ الصَّلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ » [ المائده : ٥٥ ] ، ولم يوَتِ الزكاةَ في حالِ ركوعه غيرُ علي عليه‌السلام ، وذلك أنّ سائلاً سأل على عهد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال ركوع عليٍ في الصلاة ، وذلك في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يعطه أحدٌ شيئاً ، فأشار إليه عليه‌السلام بخاتمه وهو راكع ونواه زكاة ، فأخذه السائلُ ، فنزل جبريل عليه‌السلام بهذه الآية على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحال ، فكانت في علي عليه‌السلام خاصة دون غيره من الأمّة. وهي تفيد معنى الاِمامة لأنّ الوليّ هو : المالك للتصرّف ، كما يقال هنا : ولي المرأة ، وولي اليتيم ، أي المالك للتصرف عليهما.

وأمّا السنّة ، فخبر الغدير ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه. قال : فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَنْ عاداه ، وانصر مَنْ نصره ، واخذل مَنْ خَذَلَهُ » ، فقال له عمر : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل موَمن وموَمنة.

وروينا عن الموَيد باللّه بإسناده إلى الصادق جعفر بن محمد الباقر أنّه سُئِلَ

٤٩٠

عن معنى هذا الخير ، فقال : سئل عنها ـ واللّه ـ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « اللّه مولاي أولى بي من نفسي لا أمر لي معه ، وأنا ولي الموَمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي ، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي ، فعلي مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معه ».

وإذا ثبت ذلك فإنّه يفيد معنى الاِمامة ؛ لأنّا لا نعني بقولنا : فلان إمام إلاّ أنّه أولى بالتصرف في الأمّة من أنفسهم ، ولأنّ لفظ المولى لا يفهم منه [ إلاّ ] مالك بالتصرف ، كما يقال : هذا مولى العبد ، أي المالك للتصرف فيه ، وهذا يفيد معنى الاِمامة كما تقدم.

ومما يدلّ على ذلك من السنّة : (خبر المنزلة) وهو معلوم كخبر الغدير ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لانبيّ بعدي » ، فاستثنى النبوة ، فدَلَّ ذلك على شموله لخصال الفضل كلها ، ومن جملتها مِلْك التصرف على الأمّة ، وأنّه أولى الخلق بالتصرف منهم ، وذلك معنى الاِمامة كما تقدم.

وأمّا الاِجماع فإجماع العترة منعقد على ذلك.

فصل [ في إمامة الحسنين ]

فإن قيل : لمن الاِمامة بعد علي عليه‌السلام؟

فقل : هي للحسن ولده من بعده ، ثم هي للحسين من بعد أخيه عليهما‌السلام.

فإن قيل : فما الدليل على إمامتهما؟

فقل : الخبر المعلوم ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ، وأبوهما خير منهما » ، وهذا نصُّ جَلِيّ على إمامتهما ، وفيه إشارة إلى إمامة

٤٩١

أبيهما ، لأنّه لا يكون خيراً منه إلاّ إمام شاركه في خصال الاِمامة وزاد عليه فيها ، فيكون حينئذ خيراً منه ، وهذا واضح ، والاِجماع منعقد على أنّه لا ولاية لهما على الأمّة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا في زمن علي عليه‌السلام إلاّ عن أمرهما ، وأنّه لا ولاية للحسين في زمن أخيه الحسن إلاّ عن أمره ، فبقيت الاِمامة مخصوصة بالاِجماع.

فصل [ في الاِمامة بعد الحسنين ] (١).

فإن قيل : لمن الاِمامة بعدهما؟

فقل : هي محصورة في البطنين ومحظورة على من عدا أولاد السبطين ، فهي لمن قام ودعا من أولاد من ينتمي نسبه من قِبَل أبيه إلى أحدهما ، متى كان جامعاً لخصال الاِمامة ، من : العِلْمِ الباهر ، والفضل الظاهر ، والشجاعة ، والسخاء ، وجودة الرأي بلا امتراء ، والقوة على تدبير الأمور ، والورع المشهور.

فإن قيل : ما الذي يدل على ذلك؟

فقل : أمّا الذي يدلّ على الحصر فهو أنّ العقل يقضي بقبح الاِمامة ، لأنّها تقتضي التصرف في أُمور ضارة من القتل ، والصّلب ، ونحوهما ، وقد انعقد إجماع المسلمين على جوازها في أولاد فاطمة عليها‌السلام ، ولا دليل يدل على جوازها في غيرهم ، فبقي من عداهم لا يصلح ، ولأنّ العترة أجمعت على أنّها لاتجوز في غيرهم ، وإجماعهم حجّة.

وأمّا الذي يدلّ على اعتبار خصال الاِمامة التي ذكرنا فهو إجماع المسلمين.

فإن قيل : فسّروا لنا هذه الخصال.

فقل : أمّا العلمُ ، فإنّه يكون عارفاً بتوحيد اللّه وعدله ، وما يدخل تحت ذلك ،

__________________

١ ـ الاِمامية قائلة بالنصّ بعدهما إلى الاِمام الثاني عشر ، فالمخالفة بين الطائفتين واضحة في هذا المقام.

٤٩٢

وأن يكون عارفاً بأُصول الشرائع وكونها الأدلة ، وهي أربعة : الكتاب ، والسنّة ، والاِجماع ، والقياس ، والمراد بذلك أن يكون فهماً في معرفة أوامر القرآن والسنّة ونواهيهما ، وعامّهما ، وخاصّهما ، ومجملهما ، ومبينهما ، وناسخهما ، ومنسوخهما ، عارفاً بمواضع الوفاق ، وطُرُق الخلاف في فروع الفقه ، لئلاّ يجتهد في مواضع الاِجماع ، فيتحرى في معرفة القياس والاجتهاد ، ليمكنه ردّ الفرع إلى أصله.

وأمّا الفضل ، فأن يكون أشهر أهل زمانه بالزيادة على غيره في خصال الاِمامة أو كأشهرهم.

وأمّا الشجاعة ، فإنّه يكون بحيث لا يجبن عن لقاء أعداء اللّه ، وأن يكون رابط الجأش وإن لم يكُثُر قَتْلُه وقِتالُه.

وأمّا السخاء ، فأن يكون سخياً بوضع الحقوق في مواضعها.

وأمّا جودة الرأي ، فأن يكون بالمنزلة التي يُرْجَعُ إليه عند التباس الأمور.

وأمّا القوة على تدبير الأمور ، فلا يكون منه نقص في عقله ، ولا آفة في جسمه ، يضعف لأجل ذلك عن النظر في أُمور الدّين وإصلاح أحوال المسلمين.

وأمّا الورع ، فأن يكون كافّاً عن المقبحات ، قائماً بالواجبات.

فرع [ في طريق معرفة مواصفات الاِمام ]

فإن قيل : فما الطريق إلى إثبات كونه على هذه الخصال؟

فقل : أمّا كونه عالماً فيحصل العلم به للعلماء بالمباحثة والمناظرة ، ويحصل لغيرهم من الأتْباع العلم بكونه عالماً بوقوع الاِطباق والاِجماع على كونه كذلك.

وأمّا سائر الخصال فلابد من حصول العلم بكونه عليها ، وإن كان غائباً ، فإنّه يحصل العلم التواتري بذلك ، وكذلك حكم العلم إذا كان غائباً ، فإن طريق

٤٩٣

العلم به الأخبار المتواترة للعلماء وغيرهم ، وإن كان حاضراً فلابد من حصول العلم بكونه جامعاً لها ، لأنّها من أُصول الدين ، فلايأخذ بالأمارات المقتضية للظن بكونه جامعاً لها.

فصل [ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]

فإن قيل : فماذا تدين به في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

فقل : أدين اللّه تعالى أنّه يجب الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر ؛ لقوله تعالى : « وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُون » [ آل عمران : ١٠٤ ] ، وإنما قلنا : إنّه يجب الأمر بالمعروف الواجب ؛ لاِجماع المسلمين أنّه لا يجب الأمر بالمعروف المندوب ، فلم يبق إلاّ القضاء بالأمر بالمعروف الواجب مع الاِمكان وإلاّ بطلت فائدة الآية ، ومعلوم خلاف ذلك ، وقلنا : يجب النهي عن كل منكر لاِجماع المسلمين على ذلك ؛ ولأنّ المنكرات كلها قبائح فيجب النهي عنها جميعاً مع الاِمكان ، كما يلزم الأمر بالمعروف الواجب مع الاِمكان.

(المعاد)

فصل [ في الوعد والوعيد ]

فإن قيل : فماذا تدين به في الوعد والوعيد؟

فقل : أدين اللّه بأنّه لابدّ من الثواب للموَمنين إذا ماتوا على الاِيمان مستقيمين ، ودخولهم جنات النعيم : « لأ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِمُخْرَجِينَ » [ الحجر : ٤٨ ] « خَالِدِينَ فِيْها أبَداً ».

٤٩٤

وأدين اللّه بصحة ما وعد به من سعة الجنة ، وطيب مساكنها ، وسرُرها الموضوعة ، ومآكلها المستلذة المستطابة ، وفواكهها الكثيرة التي ليست بمقطوعة ولا ممنوعة ، وأنهارها الجارية التي ليست بمستقذرة ولا آسنة ، ولا متغيرة ولا آجنةٍ ، وملابسها الفاخرة ، وزوجاتها الحسان الطاهرة ، والبهية النّاضِرة ، ونحو ذلك مما بيّنه اللّه تعالى في كتابه المجيد ، وهو حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد.

وأدين اللّه تعالى أنّه لابدَّ من عقاب الكافرين في جهنم بالعذاب الأليم ، وشراب الحميم ، وشجرة الزَّقُّوم طعام الأثيم ، وأنّهم يخلّدون فيها أبداً ، ويلبسون ثياباً من نار ، وسرابيل من القَطِران ، كلّما نضجت جلودُهم بدّلهم اللّه جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ، وكل ذلك معلوم من ضرورة الدين.

فصل [ في أهل الكبائر ]

فإنّ قيل : ماذا تدين به في أهل الكبائر سوى أهل الكفر؟

فقل : أُسمّيهم : فُسّاقاً ، ومجرمين ، وطغاة ، وظالمين ، لاِجماع الأمّة على تسميتهم بذلك ، ولا أُسمّيهم كفاراً على الاِطلاق ، ولاموَمنين (١) لفقد الدلالة على ذلك.

وأدين اللّه تعالى بأنّهم متى ماتوا مُصرّين على الكبائر فإنّهم يدخلون نار جهنم ، ويخلّدون (٢) فيها أبداً ، ولا يخرجون في حال من الأحوال ، لقوله تعالى : « إنَّ

__________________

١ ـ عند الاِمامية أنّهم موَمنون وللاِيمان درجات ومراتب وقد أوضحنا الحال في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند الكلام عن الأصل الرابع للمعتزلة : المنزلة بين المنزلتين.

٢ ـ عند الاِمامية أنّهم غير مخلدين وقد أوضحنا الحال في الجزء الثاني عند الكلام في الوعد والوعيد عند المعتزلة.

٤٩٥

المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهّنمَ خَالِدُونَ » [ الزخرف : ٧٤ ] ، والفاسق عاصٍ ، كما أنّ الكافر عاصٍ ، فيجب حمل ذلك على عمومه ، إلاّ ما خصّته دلالةٌ. وقوله تعالى : : « والَّذينَ لا يَدْعون معَ اللّهِ إِلهاً آخرَ لأ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرَّمَ اللّه إِلاّ بالحقّ وَلأ يَزْنُوْنَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيامَةِ وَيَخَلُد فِيهِ مُهَاناً » [ الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩ ]. وإجماع العترة على ذلك ، وإجماعهم حجة.

فصل [ في صفة الموَمن وما يجب في حقّه ]

فإن قيل : فمن الموَمن ، وما يجب في حقه؟

فقل : الموَمن من أتى بالواجبات ، واجتنب المُقَبّحات ، فمن كان كذلك ؛ فإنّا نسميه : موَمناً ، ومسلماً ، وزكياً ، وتقياً ، وبراً ، وولياً ، وصالحاً ، وذلك إجماع ، ويجب : إجلاله ، وتعظيمه ، واحترامه ، وتشميته ، وموالاته ، ومودّته ، وتحرم : معاداته ، وبُغضُه ، وتحظر : نميمته ، وغيبَتُهُ ، وهو إجماع أيضاً ، ومضمون ذلك أن تُحِبَّ له ما تحب لنفسك ، وتكره له ما تكره لنفسك ، وبذلك وردت السنّة.

فصل [ في صفة الكافر ]

فإن قيل : فمن الكافر؟

فقل : من لم يَعْلَمْ له خالقاً ، أو لم يَعْلَم شيئاً من صفاته التي يتميز بها عن غيره ، من كونه قادراً لذاته ، عالماً لذاته ، حياً لذاته ، ونحو ذلك من صفاته المتقدمة ، فمن جحد شيئاً من ذلك أو شك أو قلد ، أو اعتقد أنّه في مكان دون

٤٩٦

مكان ، أو أنّه في كل مكان ، أو شكّ في ذلك ، أو اعتقد له شريكاً أو أنّه يفعل المعاصي أو يُرِيدها ، أو يَشُكّ في شيء من ذلك ، أو جحد رَسُولَ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ردّ ما عُلم من الدّين ضرورة باضطراب أو شك في شيء من ذلك ، فهو كافرٌ بالاِجماع ، ويجوز أن نسمّيه : فاجراً ، وفاسقاً وطاغياً ، ومارقاً ، ومجرماً ، وضالماً ، وآثماً ، وغاشماً ، ونحو ذلك من الأسماء المشتقة من أفعاله بلا خلاف.

وإن كان يُظهرُ الاِيمان ويبطنُ الكفر ، جاز أن نسميه مع ذلك : منافقاً ، بالاِجماع.

ومن كانت هذه حالته ـ أعني غير المنافق ـ جاز قتله وقتاله ، وحصره ، وأخذ ماله ، وتجب معاملته بنقيض ما ذكرنا أنّه يجب من حقّ الموَمن ، وقد ذكرنا أحكامه مفصّلة في (ثمرات الأفكار في أحكام الكفار).

فصل [ في صفة الفاسق ]

فإن قيل : فمن الفاسق وما حكمه؟

قلنا : أمّا الفاسق فهو مُرْتَكِبُ الكبائر سوى الكفر ، نحو الزاني ، وشارب الخمرة ، والقاذف ، ومن فرّ من زحف المسلمين غير متحرفٍ لقتال ولا متحيز إلى فئة ، وتاركُ الجهاد بعد وجوبه عليه ، وتاركُ الصلاة ، والصيام ، والحج ، مع وجوب ذلك عليه ، غيرُ مُستحلّ لتركه ولا مستخفّ ، والسارق من سرق عشرة دراهم ـ أي قفلة ـ فما فوق بغير حق ، ونحو ذلك من الكبائر ، فمن فعل ذلك أو شيئاًمنه ، فإنّه يجوز أن نسميه بالأسماء المتقدمة قبل هذه في الكافر ، إلاّ لفظ : الكافر ، والمنافق ، فإنّ ما عداهما إجماع أنّه يجوز تسميته به ، وأمّا المنافق فلا بد من دلالة تدل على

٤٩٧

جواز إطلاقه عليه ، وأمّا لفظ : الكافر ، فمنعه كثير من العلماء ، وأجاز إطلاقه جماعةٌ مع التنبيه ، فقالوا : هو كافر نعمة ، وهو الصحيح ؛ لأنّه مروي عن علي عليه‌السلام ، وهو إجماع العترة ، ولِمُوافقة الكتاب.

وأمّا حكمه فحكم الكافر فيما تقدم إلاّ القتل والقتال ، وأخذ الأموال فلا يجوز إلاّ بالحق ، ولايجوز قتله على الاِطلاق ، وكذلك حصره فلا يجوز بحال من الأحوال.

فرع [ في الفرق بين فعل اللّه وفعل العبد ]

فإن قيل : ما الفرق بين فعل اللّه وبين فعل العبد؟

فقل : فعل اللّه جواهر وأعراض وأجسام ، يعجز عن فعلها جملة الأنام ، ومضمونه أنّ كلما وقف على قصد العبد واختياره تحقيقاً أو تقديراً فهو فعله ، ومالم يكن كذا فليس بفعله.

فصل [ في أنّه لا بد من الموت والفناء ]

ثم قل أيُّـها الطالب للنجاة : وأدين اللّه تعالى بأنّه لا بد من الموت والفناء ، والاِعادة بعد ذلك للحساب والجزاء ، والنفخ في الصور ، وبعثرة القبور ، والحشر للعرض المشهور ، والاِشهاد على الأعمال بغير زور ، ووضع الموازين ، وأخذ الكتب بالشمال واليمين ، والبعث والسوَال للمكلفين ، وأن ينقسموا فريق في الجنّة وفريق في السعير ، وكل ذلك معلوم من ضرورة الدين ، وأنّه لابد من المناصفة بين المظلومين والظالمين ، لدلالة العدل بيقين.

٤٩٨

فصل [ في الشفاعة ]

فإن قيل : ما تقول في الشفاعة؟

فقل : أدين اللّه تعالى بثبوتها يوم الدين ، وإنما تكون خاصة للموَمنين (١) ـ دون من مات مصـرّاً من المجرمين على الكبائر ـ ليزيدهم نعيماً إلى نعيمهم ، وسروراً إلى سرورهم ، ولمن ورد العَرْضَ وقد استوت حسناته وسيئاته ، فيشفع له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ليرقى درجة أعلى من درجة غير المكلفين من الصبيان والمجانين ، وإنّما قلنا : إنّه لا بد من ثبوتها ، لقوله تعالى : « عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً » [ الاِسراء : ٧٩ ] ، قيل : هو الشفاعة ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كذب بالشفاعة لم ينالها يوم القيامة ».

وأمّا أنّها تكون لمن ذكرناها ، فلقوله تعالى : « مَا لِلظّالمينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلأشَفِيعٍ يُطَاعُ » [ غافر : ١٨ ] ، « مَا لِلظّالِمينَ مِنْ أنْصَار » [ البقرة : ٢٧٠ ] ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي » ، وقوله تعالى : « وَلأيَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى » [ الأنبياء : ٢٨ ] كل ذلك يدلُّ على ما قلنا.

وتم بذلك ما أردنا ذكره للمسترشدين ، تعرّضاً منّا لثواب ربّ العالمين ، ربّنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهاب. وصلّ اللّهم وسلم على محمد صفيك وخاتم أنبيائك ، وعلى آله سفن النجاة آمين. وتوفنا مسلمين آمين اللّهمّ آمين.

__________________

١ ـ أراد بالموَمنين العدول وعند الاِمامية يعم العادل والفاسق وقد بينا الدليل في الجزء الثالث عند الكلام في الشفاعة عند المعتزلة.

وهذه المواضع الثلاثة ، هي من مواضع الاتفاق بين المعتزلة والزيدية.

٤٩٩

مصباح العلوم في معرفة الحيّ القيوم

وهناك رسالة أُخرى في عقائد الزيدية باسمّ « مصباح العلوم في معرفة الحيّ القيوم » للعلامة أحمد بن الحسن الرصاص المتوفّى عام ٦٠٠ ـ أو ـ ٦٥٠ وعلى كل تقدير فالرسالة تنتمي إلى النصف الأوّل من القرن السابع كالرسالة السابقة وهي معروفة بالثلاثين مسألة ، وقد حقّقها الدكتور محمد عبد السلام كفافي أُستاذ الآداب الاِسلامية بجامعة القاهرة وجامعة بيروت العربية وقوّم نصّها بالعثور على مخطوطات في مكتبة المتحف البرطاني بلندن ، ولها نسخ في مكتبات أوربا يقول المحقق : « والظاهر من كثرة عدد النسخ أنّ هذه الرسالة كانت ذائعة بين أتباع المذهب الزيدي ولاعجب في ذلك فهي تلخص معتقداتهم تلخيصاً وافياً في صفحات قلائل » (١).

إنّ تعاصر الموَلفين وتقارب مضامين الرسالتين ، ورغبة القراء إلى الاختصار حفزتنا إلى نشر الرسالة الأولى فقط.

__________________

١ ـ مصباح العلوم : المقدمة ٥.

٥٠٠