بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

الفصل العاشر

في أُمور متفرقة

الأوّل : حلقات المناظرة بين الاِمامية والزيدية :

يشهد التاريخ على أنّ حلقات المناظرة كانت تنعقد في الجامعات وبيوت الشخصيات في عصر الشيخ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٣ هـ) ويشارك فيها الاِمامي والزيدي والمعتزلي وغيرهم ، وكان الشيخ يناظر كل هذه الفرق ، ببلاغة تثير إعجاب المشاركين.

وقد ذكر السيد المرتضى (٣٥٥ ـ ٤٦٣ هـ) قسماً من هذه المناظرات في كتابه « الفصول المختارة » الذي اختاره من كتاب « العيون والمحاسن » لأستاذه الشيخ المفيد ، وقد طبع الأوّل دون الثاني.

ونذكر هنا أجوبة الشيخ للاعتراضات الثلاثة التي طرحها أحد شيوخ الزيدية المعروف بالطبراني ويدور الجميع على محاور ثلاثة.

إنّ الاِمامية حنبلية من جهات ثلاث :

١ ـ يعتمدون على المنامات كالحنابلة.

٢ ـ يدّعون المعجزات لأ كابرهم كالحنابلة.

٣ ـ يرون زيارة القبور مثلهم.

٥٠١

وإليك الاعتراضات والأجوبة بنصهما.

قال الشيخ : كان يختلف إليّ حدَث من أولاد الأنصار ويتعلّم الكلام فقال لي يوماً : اجتمعت البارحة مع الطبراني شيخ من الزيدية ، فقال لي : أنتم يامعشر الاِمامية حنبلية وأنتم تستهزئون بالحنبلية ، فقلت له : وكيف ذلك؟ فقال : لأنّ الحنبلية تعتمد على المنامات وأنتم كذلك ، والحنبلية تدّعي المعجزات لأكابرها وأنتم كذلك ، والحنبلية ترى زيارة القبور والاِعتكاف عندها وأنتم كذلك ، فلم يكن عندي جواب أرتضيه ، فما الجواب؟

الجواب على الاعتراض الأوّل :

قال الشيخ أدام اللّه عزّه : فقلت له : أرجع فقل له : قد عرضتُ ما ألقيته إليّ على فلانٍ ، فقال لي : قل له إن كانت الاِمامية حنبلية بما وصفت أيها الشيخ فالمسلمون بأجمعهم حنبلية والقرآن ناطق بصحة الحنبلية وصواب مذاهب أهلها ، وذلك أنّ اللّه تعالى يقول : « إذْ قَالَ يُوسُفُ لاِبيهِ ياأبَتِ إنّي رَأيتُ أحَدَ عَشَرَ كَوكَباً وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ رَأيتُهُمْ لِي ساجِدِينَ * قَالَ يابُنيَّ لاتَقصُصْ رُوَياكَ عَلَى إخوَتِكَ فَيَكيدُوا لَكَ كَيداً إنّ الشَّيطانَ لِلاِنسانِ عَدُوٌّ مُبين » (يوسف : ٤ ـ ٥).

فأثبتَ اللّه جلّ اسمه المنام وجعل له تأويلاً عرفه أولياءه عليهم‌السلام وأثبتته الأنبياء ودان به خلفاوَهم وأتباعهم من الموَمنين واعتمدوه في علم ما يكون وأجروه مجرى الخبر مع اليقظة وكالعيان له.

وقال سبحانه : « وَدَخَلَ مَعَهُ السِجنَ فَتيانِ قالَ أحَدُهُما إنّي أراني أعصِرُ خَمراً وَقالَ الآخرُ إنّي أراني أحمِلُ فَوقَ رَأسي خُبزاً تَأكُلُ الطَيرُ مِنهُ نَبّئنا بِتَأويله إنّا نراكَ مِنَ المُحسِنين » (يوسف ـ ٣٦).

فنبّأهما عليه‌السلام بتأويله وذلك على تحقيق منه لحكم المنام ، وكان سوَالهما له مع جهلهما بنبوته دليلاً على أنّ المنامات حقّ عندهم ، والتأويل لأكثرها صحيح

٥٠٢

إذا وافق معناها ، وقال عزّ اسمه : « وَقالَ المَلِكُ إنّي أرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يأكُلُهُنَّ سَبْعٌ عُجافٌ وَسَبْعَ سُنْبلاتٍ خُضرٍ وَأُخَرُ يابِساتٍ يا أيّها المَلأ أفتُوني في روَياي إن كُنتُمْ لِلروَيا تُعَبرُونَ * قَالوا أضغاثُ أحلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأويلِ الأحلامِ بِعالِمين » (يوسف : ٤٣ ـ ٤٤) ثم فسرها يوسف عليه‌السلام وكان الأمر كما قال.

وقال تعالى في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام : « فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قَالَ يابُنيَّ إنّي أرى في المنامِ أنّي أذبَحُكَ فَانظُرْ ماذا تَرى قال يا أبتِ افعل ما تُوَمر سَتَجِدُني إن شاءَ اللّهُ مِنَ الصابِرين » (الصافات : ١٠٢) فأثبتا عليهما‌السلام الروَيا وأوجبا الحكم ولم يقل إسماعيل لأبيه عليه‌السلام يا أبت لا تسفك دمي بروَيا رأيتها فإنّ الروَيا قد تكون من حديث النفس ، وأخلاط البدن وغلبة الطباع بعضها على بعض كما ذهبت إليه المعتزلة.

فقول الاِمامية في هذا الباب ما نطق به القرآن ، وقول هذا الشيخ هو قول الملأ من أصحاب الملك حين قالوا : « أضغاث أحلام » ومع ذلك فإنّا لسنا نثبت الأحكام الدينية من جهة المنامات وإنّما نثبت من تأويلها ما جاء الأثر به عن ورثة الأنبياء عليهم‌السلام.

الجواب على الاعتراض الثاني :

فأمّا قولنا في المعجزات فهو كما قال اللّه تعالى : « وَأوحَيْنا إلى أُمّ مُوسى أن أرضِعيه فإذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَألقيهِ في اليمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحزَني إنّا رادُّوه إلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلين » (القصص ـ ٧).

فَضمَّنَ هذا القولُ تصحيح المنام إذ كانَ الوَحي إليها في المنام ، وضمَّنَ المعجز لها لعلمها بما كان قبل كونه.

وقال سبحانه في قصة مريم عليها‌السلام : « فَأشارت إلِيهِ قَالَوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهدِ صَبِيا * قالَ إنّي عَبدُ اللّه آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبيّاً * وَجَعَلَني

٥٠٣

مُبارَكاً أينَ ما كُنْتُ وَأوصاني بالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً » (مريم ـ ٢٩ ـ ٣١) فكان نطق المسيح عليه‌السلام معجزاً لمريم عليهما‌السلام إذ كان شاهداً ببراءة ساحتها. وأُمّ موسى عليه‌السلام ومريم لم تكونا نبيين ولا مرسلين ولكنهما كانتا من عباد اللّه الصالحين. فعلى مذهب هذا الشيخ كتاب اللّه يصحح الحنبلية.

الجواب على الاعتراض الثالث :

وأمّا زيارة القبور فقد أجمع المسلمون على وجوب زيارة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى رووا « منْ حجَّ ولم يزره متعمداً فقد جفاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثلم حجّهُ بذلك الفعل » ، وقد قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سلّم عليّ من عند قبري سمعته ، ومن سلّم عليَّ من بعيد بلغته » سلام اللّه عليه ورحمته وبركاته وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحسن عليه‌السلام : « من زارك بعد موتك أو زار أباك أو زار أخاك فله الجنّة ».

وقال أيضاً : في حديث له أوّل مشروح في غير هذا الكتاب : « تزوركم طائفة من أُمتي تريد به برّي وصلَتي فإذا كان يوم القيامة زرتها في الموقف فأخذت بأعضادها وأنجيتها من أهواله وشدائده ».

ولا خلاف بين الأمّة أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما فرغ من حجّة الوداع لاذ بقبر درس فقعد عنده طويلاً ثم استعبر فقيل له : يارسول اللّه ما هذا القبر؟ فقال : هذا قبر أُمّي آمنة بنت وهب سألت اللّه في زيارتها فأذن لي.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وكنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها ».

وقد كان أمر في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزيارة قبر حمزة عليه‌السلام وكان عليه‌السلام يلمّ به وبالشهداء ، ولم تزل فاطمة عليها‌السلام بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغدو إلى قبره وتروح لزيارته وكان أهل بيته والمسلمون يثبرون على زيارته وملازمة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن كان ما تذهب إليه الاِمامية من زيارة مشاهد الأئمّة عليهم‌السلام حنبلية وسخفاً من الفعل ،

٥٠٤

فالاِسلام مبني على الحنبلية ورأس الحنبلية رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا قول متهافت جداً يدلّ على قلة دين قائله وضعف رأيه وبصيرته.

ثم قال له : يجب أن تعلم أنّ الذي حكيت عنه قد حرّف القول وقبّحه ولم يأت به على وجهه ، والذي نذهب إليه في الروَيا أنّها على أضرب : فضرب منه يبشر اللّه به عباده ويحذرهم. وضرب تهويل من الشيطان وكذب يخطر ببال النائم. وضرب من غلبة الطباع بعضها على بعض ، ولسنا نعتمد على المنامات كما حكاه لكننا نأنس بما نبشر به ، ونتخوف مما نحذر منها ومن وصل إليه شيء من علمها عن ورثة الأنبياء عليهم‌السلام مَيزّ بين حقّ تأويلها وباطله ومتى لم يصل إليه شيء من ذلك كان على الرجاء والخوف.

وهذا يسقط ما لعله سيتعلق به في منامات الأنبياء عليهم‌السلام من أنّها وحي لأنّ تلك مقطوع بصحتها وهذه مشكوك فيها مع أنّ منها أشياء قد اتفق ذوو العادات على معرفة تأويلها حتى لم يختلفوا فيه ووجدوه حسنا.

وهذا الشيخ لم يقصد بكلامه الاِمامية ولكنه قصد الأمّة ونصر البراهمة والملاحدة ، مع أني أعجب من هذه الحكاية عنه وأنا أعرفه يميل إلى مذهب أبي هاشم ويعظّمه ويختاره ، وأبو هاشم يقول في كتابه « المسألة في الاِمامة » : إنّ أبا بكر رأى في منام كان عليه ثوباً جديداً عليه رقمان ففسره على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : إن صدقت روَياك تبشر بخير (فستخبر بولدين خ) وتلي الخلافة سنتين ، فلم يرض شيخه أبو هاشم أن أثبت المنامات حتى أوجب بها الخلافة وجعلها دلالة على الاِمامة. فيجب على قول هذا الشيخ الزيدي عند نفسه أن يكون أبو هاشم رئيس المعتزلة عنده حنبلياً بل يكون عنده أبو بكر حنبلياً بل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه صحح المنام وأوجب به الأحكام ، وهذا من بهرج المقال (١).

__________________

١ ـ السيد المرتضى : الفصول المختارة : ١٢٨ ـ ١٣٢.

٥٠٥

الثاني : وجود المزاملة بين الطائفتين :

إنّ السبر في التاريخ يثبت بأنّ المزاملة العلمية والاجتماعية بين الشيعة الزيدية والشيعة الاِمامية في الأعصار السابقة كانت وطيدة. وكانت كل طائفة تعرف ما عند الطائفة الأخرى من العقائد والأحكام ، والأدب والشعر. وكانت المجالس المنعقدة في الجامعات والبيوت تحتفل بهما معاً. فكان يدور بينهما النقاش والاِفادة والاستفادة ، ويظهر ذلك من كتاب الشيخ المفيد أعني الفصول المختارة. كما يظهر أيضاً من الرجوع إلى كتابه أوائل المقالات على أنّ له رسالة خاصة في عقائد الجارودية من الزيدية.

كل ذلك يعرب عن صلة وثيقة بين الطائفتين. ولا إشكال أنّ الصلة كانت لصالحهما. ولكن لانعلم في أي عصر ضعفت هذه الصلة إلى أن كادت أن تنقطع.

فلأجل ذلك لانكاد نرى زيديّاً في جامعة النجف الأشرف وسائر حوزات الشيعة الاِمامية وبالعكس إلاّ نادراً. كما لا نرى أي صلة بين الطائفتين في الكتب الموَلفة في العصور الأخيرة من عصر ابن المرتضى إلى يومنا هذا.

ولعلّ الأجواء والظروف السياسية قد أوجدت تلك الهوة ما بينهما فخسرت الطائفتان علمياً وأدبياً إذ هما صنوان يقومان على جذور واحدة.

اسأله سبحانه أن يعيد الوحدة ما بين المسلمين عموماً ، وبين الطائفتين خصوصاً.

٥٠٦

الثالث : نشر الثقافة الزيدية :

إنّ الزيدية ـ بحق ـ تركت ثروة علمية في جميع مجالات العلوم الاِسلامية خصوصاً في الأدب والكلام والفقه ، وتراثهم الباقي ، وفهارس مكتباتهم يشهد على ذلك بوضوح. ولعل أحد العلل في تطور علومهم خصوصاً في الفقه عدم التزامهم بالأخذ بالمذاهب الفقهية المعروفة وإن كانوا متأثرين بالفقه الحنفي.

فوجود الاجتهاد واستمراره في حياتهم من عصر القاسم الرسيّ إلى يومنا هذا ضخّم ثقافتهم ، وأعطى لها أبعاداً كثيرة.

غير أنّ من الموَسوف عليه عدم اطّلاع المسلمين على تلك الثقافة لأنّها صارت محصورة في اليمن وما والاها.

وقد قام العلاّمة البحاثة السيد أحمد الحسيني دام علاه بفهرسة كتبهم بعد رحلتين إلى اليمن الخصيب فجاء مجهوده مطبوعاً في أجزاء ثلاثة ذكر فيها أسماء (٣٣٤٦) من كتبهم المختلفة حسب الحروف الأبجدية وأردفها بالفهارس العامة أهمها فهرس أسماء الموَلفين فقد ذكر أسماء الموَلفات حين التعرض لأسماء الموَلفين وبذلك يغني الاِنسان عن ملاحظة كل كتاب في محله. ومن حسن الحظ أنّ مكتبة الجامع الكبير بصنعاء تحفل بمخطوطات كثيرة للزيدية فعلى المهتمين بالتراث الاِسلامي السعي في تصويرها قبل أن تندثر.

وللتعرف على الشخصيات الزيدية وعلى ثقافاتهم وكتبهم لا محيص من الرجوع إلى كتبهم المختلفة في التراجم والرجال والتاريخ.

ومن هذه الكتب ما نذكره فيما يلي والكل مخطوط لم ير النور :

٥٠٧

١ ـ نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر : تأليف يوسف بن يحيى الحسني الصنعاني (١١٢١ هـ) ترجم فيه لمائة وأربعة وتسعين من شعراء الشيعة المتقدمين والمتأخرين منهم.

٢ ـ نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف : تأليف السيد محمد بن محمد زبارة الحسني الصنعاني ١٣٨٠ هـ ترجم لأعلام اليمن في القرون الأربعة بعد الألف الهجري إلى سنة ١٣٧٥ هـ. وقد أسمى لكل قرن اسماً.

٣ ـ مطلع البدور ومجمع البحور : تأليف القاضي أحمد بن صالح أبي الرجال الصنعاني (ت ١٠٩٢ هـ) وهو في أربعة أجزاء تشتمل على أكثر من١٣٦٠ ترجمة.

٤ ـ نشر كتاب الحدائق الوردية : لحميد الدين المحلي نشراً جديداً يناسب روح العصر.

إلى غير ذلك من الكتب التي تعرّف أئمة الزيدية وشخصياتهم.

نعم أُلّفت في العصور الأخيرة كتب في تاريخ اليمن لها قيمتها ، وللموَلفين أجرهم.

٥٠٨

الرابع : صيغة الحكومة الاِسلامية لدى الزيدية :

إنّ للحكومة الاِسلامية حسب ما يعطي الاِمعان في الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين أُسساً وأركاناً ثلاثة لكلٍّ شأنه ومكانته :

١ ـ السلطة التشريعية :

للسلطة التشريعية مراحل ثلاث بعضها بيد اللّه سبحانه ، والبعض الآخر موكول إلى الأمّة الاِسلامية في ضمن شرائط :

١ ـ التشريع والتقنين للّه خاصة بالأصالة فلا شارع ولا مقنّن سواه ولا يحق لأحد ـ كان من كان وبلغ ما بلغ من العلم والثقافة والمكانة الفكرية والاجتماعية ـ أن يشرّع حكماً أو يحلّ حلالاً أو يحرم حراماً فكل ذلك موكول إلى اللّه سبحانه ، إذ الحكم ، حكمان : إلهي وجاهليّ ولا ثالث لهما فإذا لم يكن معزوّاً إليه ، فهو حكم جاهلي قال سبحانه : « أفَحُكمُ الجاهِليةِ يَبغُون وَمَن أحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكماً لِقَومٍ يُوقِنُون » (المائده ـ ٥٠).

نعم هناك مرحلتان : مفوضتان إلى فريق من الأمّة لهم صلاحيّات خاصة وهما :

١ ـ مرحلة التشخيص : أي استنباط الحكم الاِلهي من الكتاب والسنّة ، فهي للفقهاء العدول ، يبذلون جهدهم لفهم حكم اللّه واستخراجه من الأدلّة الشرعية.

٢ ـ مرحلة التخطيط وتبيين برامج البلاد حسب الضوابط الاِسلامية وهي للخبراء وذوي الاِطلاع من الأمّة وهذا ما يصطلح عليه اليوم بالمجلس النيابي.

والفرق بين صيغة الحكومة الاِسلامية والأنظمة البشرية الغربية والشرقية ، هو أنّ سلطة التشريع بيد اللّه سبحانه فيها دون تلك الأنظمة إذ فيها بيد وكلاء

٥٠٩

الشعب فالمجلس النيابي عندهم مجلس التقنين والتشريع وعند المسلمين مجلس التخطيط والتنظيم في ضوء قوانين السماء.

٢ ـ السلطة التنفيذية :

المراد بالسلطة التنفيذية في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء وما يتبعها من دوائر ومديريات منتشرة في أنحاء البلاد ومهمّتها تنفيذ ما يقرره مجلس الشورى من تصميمات وقرارات ومخطّطات في شتى حقول الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وبالتالي يقع على عاتقها مهمة إدارة البلاد بصورة مباشرة ، لها ألوان وصيغ في الأنظمة البشرية وأما لونها في الحكومة الاِسلامية فليس إلاّ كون السلطة ـ إذا لم يكن هناك نصّ من اللّه سبحانه على شخص خاص ـ موضع رضا الأمّة لأنّها تتسلم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم ، ولولا الرضا لعاد إلى الاستبداد المبغوض عند الشرع والعقل وقد بسطنا الكلام حول السلطة التنفيذية وصلاحياتها من التخصص ، والوثاقة ، والزهد ، والعدل ، وكونها موضع رضا الأمّة في كتابنا : « مفاهيم القرآن » (١).

٣ ـ السلطة القضائية :

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام ، والتنازع إلى التوافق وبالتالي ينشر العدل ويصون الحقوق والحرمات ، غير أنّه لا يصلح ذلك المقام إلاّ لفريق من الشعب يتمتعون بالبلوغ والعقل والاِيمان والعدالة وطهارة المولد والعلم بالقانون الاِلهي والذكورة ، سليم الذاكرة ، وعندئذ يحقّق القاضي أهدافه السامية.

__________________

١ ـ مفاهيم القرآن : ٢ / ٢٠٥ ـ ٢١٠.

٥١٠

لا استبداد في الحكومة الاِسلامية :

وما ذكرناه يوقف الاِنسان على صورة بسيطة من الحكومة الاِسلامية المتجلية في نظرية الاِمامة أو الخلافة وليس فيها أي استبداد وسلب الحريات ، وأمّا تخصيص التشريع باللّه سبحانه ، فلأنّه سبحانه أعرف بمصالح عباده ، ولأنّ التقنين سلطة على الأموال والنفوس وهي فرع وجود الولاية عليهما ، ولا ولاية لأحد على أحد إلاّ للّه سبحانه ، فلأجل ذلك خصّ التشريع به سبحانه ، وأمّا المرحلتان الباقيتان أعني الاِفتاء والتخطيط ، فيقوم به فريق منهم ، لهم صلاحيات وقابليّات. فالاِفتاء وإن كان رهن شروط ولكنه لا يشترط فيه رضا الأمّة ، لأنّه مقام علمي ، يتوقف على حيازته ويكفي ثبوت الصلاحية له ، اقترانه بتصديق الخبراء.

نعم التصدي للتخطيط ، رهن رضا الأمّة وتحقيق الرضا وتجسيدها يتبع مصالح العصر وشعور الأمّة.

وأمّا السلطة التنفيذية ، فلو كان الحاكم منصوباً من اللّه سبحانه ، فهو المتبع ، كما في مورد الرسول ، والاِمام المنصوص بعده ، وإلا فالسلطة لفريق من الأمّة ، يتمتع بصفات وقابليات مذكورة في السنّة ، أهمها كونها موضع رضا الأمّة ، ويتجسّد رضاهم بصورة مختلفة مذكورة في محلها.

ومثلها السلطة القضائية فلا يصلح لها إلاّ فريق لهم صفات وموَهلات ، وتنتهي سلطته ، إلى رضا الأمّة الذي يتجسد بصور شتى.

نظرية الاِمامة لدى الزيدية :

إنّ المطروح لدى الزيدية من الاِمامة غير ما ذكرنا ولو كان الملاك لتبيين مذهبهم ما ذكره كتّاب العقائد من غيرهم ، وابن المرتضى من أنفسهم ، فنظام الاِمامة في غير مورد المنصوص عليه عندهم ، أمر لا يلائم روح الكتاب والسنّة ولا

٥١١

متطلبات العصر ، لأنّهم القائلون بإمامة أمير الموَمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين (بالتنصيص السماوي) وزيد بن علي ولاِمامة كل فاطميّ دعا إلى نفسه وهو على ظاهر العدالة ومن أهل العلم والشجاعة وكانت بيعته على تجريد السيف للجهاد (١).

وقال الشهرستاني : إنّهم (الزيدية) يعتبرون في نظام الاِمامة اتّباع كلّ فاطمي عالم ، شجاعُ ، سخي ، خرج بالاِمامة ، سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين عليهما‌السلام وربّما جوّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة (٢).

ويقول ابن المرتضى وتنعقد بالدعوة مع الكمال.

الاِمعان في كتب الزيدية حول الاِمامة أو ما حرروه بأقلامهم ، يعرب عن أنّ دعائم الاِمامة عندهم ثلاثة :

١ ـ الوراثة : كون الداعي فاطميّاً.

٢ ـ الدعوة إلى الاِمامة.

٣ ـ الخروج بالسيف.

ولكن باب المناقشة فيها مفتوح.

أمّا المبدأ الأوّل فإذا كان الاِمام منصوصاً من قبل اللّه فالمتبع أمره فاطمياً كان أو لا ، وإن كان أمره سبحانه في غير الاِمام علي عليه‌السلام منطبقاً عليه ، لكن لا بملاك كونهم فاطميين بل بملاكات خاصة أهّلتهم لأن يكونوا أُولي الأمر ، وواجبي الطاعة قال سبحانه : « أطِيِعُوا اللّهَ وَأطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأمر مِنكُم » (النساء ـ ٥٩).

__________________

١ ـ المفيد أوائل المقالات : ٣٩ ، طبعة جماعة المدرسين.

٢ ـ ٢ ـ الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ١٥٤.

٥١٢

وإذا كان غير منصوص فاللازم كون الاِمام ذا قابليات توَهّله لاشغال منصب الاِمامة سواء أكان فاطمياً أم لا ، فالاِصرار على هذا المبدأ خصوصاً فيما إذا كان غير الفاطمي أبـصر وأعلم ، وأتقى وأزهد وأوقع في القلوب ، غير صحيح.

ثم إنّ المبدأ الثاني والثالث يثيران الرغبة والطمع في كل فاطمي يرى نفسه عادلاً ، وعالماً وشجاعاً فعند ذلك ينتهي الأمر إلى النزاع والتشاجر وربما ـ لا سمح اللّه ـ إلى إراقة الدماء.

وحاصل الكلام : أنّ مكافحة الاستبداد ورفض ابتزاز أمر الأمّة بلا رضا منها ، رهن أحد أمرين :

١ ـ أن يصدر من اللّه الرحمن الرحيم على عباده ، الواقف على مصالحهم ومفاسدهم ، تنصيص على ولاية أحد ، كالنبي الأعظم وأئمة أهل البيت عند الشيعة.

٢ ـ مشاركة الشعب في بناء النظام حتى يكون مورد رضاهم بنحو من الأنحاء ولاشيء ثالث ، وإلاّ فلو لم يكن هذا ولا ذاك كثر الطالب وزادت الدعوة وربما ينتهي إلى حروب دامية ، وما ذكره الاِمام يحيى بن الحسين لحسم النزاع لايفيد شيئاً حيث قال : إن تشابها في العلم فالاِمامة لأورعهما وإن تشابها في الورع والعلم ، فالاِمامة لأزهدهما ، وإن تشابها في ذلك كله فالاِمامة لأسخاهما ، وإن تشابها فلأشجعهما ، فلأرحمهما ....

إنّ ما ذكره من الضابط لحسم مادة الخلاف لو كانت مفيدة فإنّما تفيد في رفع النزاع في إمامة المسجد ، لا في رفع النزاع في الزعامة الكبرى ، إذ كل يزعم أنّه ، أعلم ، وأورع ، وأزهد ، وأسخى ، وأشجع ، وربما يحلف عليه ويجمع الجموع ...

فلأجل ذلك المأزق الذي يواجه فكرة الاِمامة لدى الزيدية عاد المفكرون

٥١٣

من متأخّريهم إلى طرح الفكرة بشكل يلائم روح العصر ويقول أحد الكتاب :

أمّا الزيدية فلهم طريقان لاختيار الاِمام بعد المنصوص عليهم :

١ ـ ترشيح الشخص العارف من نفسه ، الأهلية بواسطة منشور ـ الدعوة ـ يوضح فيه موجبات الدعوة وأهليّته للقيام بالاِمامة ومنهج عمله فيها.

وعند ذلك يجتمع العلماء والزعماء والمثقفون ـ رجال الحل والعقد ـ ويصلون لمناقشته واختياره ان كان غير معروف لديهم ، ويتشاورون فيما بينهم في موضوع كفاءته ومكانته ، فإذا ارتضوه بعد ذلك بايعوه وإلاّ عدلوا إلى غيره.

٢ ـ يُرشِّـح رجـال الحـل والعقـد واحـداً لمن يرونه صالحاً لهذا المنصب العظيم ، وإذا وافقهم على ترشيحه بايعوه وإلاّ عدلوا إلى غيره (١).

ولعل هذه الأطروحة التي قدمها الفاضل المعاصر تزيح بعض النقاش حول النظرية ، ويصوّرها تصويراً هادئاً قابلاً للتجسيد كما أنّ المعلّق على البحر الزخار ، طرح نظرية الاِمامة بالشكل التالي معلقاً على قول ابن المرتضى « وتنعقد بالدعوة مع الكمال » قوله : مع عدم المنازع فيفوز بذلك أو بأن تحصل له البيعة من الأكثرية مع عدم وجود المنازع ، كل ذلك بعد سبق ترشيحه من ذوي الحل والعقد لمعرفة حصوله على الشروط الموَهلة له (٢).

إنّ ما نقلناه عن العلمين وإن كان يهوّن الخطب في مسألة الاِمامة ، لكن التاريخ يشهد على أنّ السيرة جرت على سيادة من غلب ، ولم يكن ترشيح الشخص ، أو ترشيح رجال الحل والعقد واحداً من الصلحاء إلاّ حبراً على ورق إلاّ

__________________

١ ـ الزيدية نظرية وتطبيق : ١١٨.

٢ ـ ابن المرتضى : مقدمة البحر الزخار : ٩٢.

٥١٤

في فترات قليلة.

هذا وما ماثله أعطت حجة للوسائل الاِعلامية أن تتهجم على نظام الاِمامة بأنّه حكومة استبدادية تسلب فيها الحريات بإرادة الفرد السائس ، ويرافق دائماً بالضغط على الشعب ، وتثني على الجمهورية بأنّ فيها ضماناً على الحريات المعقولة ولم تزل الحرب الاِعلامية قائمة على قدم وساق تدعمها المعسكرات الغربية والشرقية المحاربة لكل نظام ديني قائم في أي قطر من أقطار العالم ، إلى أن أُججّ نار الحرب المبيرة لكل رطب ويابس ، في بلد فقير كاليمن التي لا تملك إلاّ جمال الطبيعة وانتهت إلى انتصار المخالفين في ظل القوات المكثفة التي كانت وراءها الجمهورية العربية المتحدة ، في أيّام جمال عبد الناصر فسقط نظام الاِمامة سياسيّاً وحكومياً وإن كانت القلوب الموَمنة متنبّئة بها.

فالمرجو من اللّه سبحانه أن يوفق المسلمين لتوحيد الكلمة كما وفقهم لكلمة التوحيد ، ويجمع شملهم ، ويثير شعور المفكرين إلى واجبهم تجاه الحكومة الاِسلامية إنّه بذلك قدير وبالاِجابة جدير.

٥١٥

الخامس : المحاربة بين الطائفتين من الشيعة :

إنّ الزيدية والاِسماعيلية ، من الفرق الشيعية ، وبينهما موَتلفات ومفترقات ، وقد اتفقت الطائفتان ، على أنّ تحقيق القيادة الاِسلامية بعد رحيل النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بالبيعة والاختيار ، ولا للأمة فيها حظّ ، ولا نصيب شأن كلّ مورد سبقت مشيئته على إرادة الأمّة ومشيئتها ، قال سبحانه : « وَما كَانَ لِمُوَمِنٍ وَلا مُوَمِنَةٍ إذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ » (الأحزاب ـ ٣٦) بل تحقيقها بالنص من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فرد من آحاد الأمّة وقد اتفقتا على أنَّ النصّ صدر منه في علي عليه‌السلام وابنيه : الحسن والحسين عليهما‌السلام ، غير أنّ الزيدية قالت باستمرارها بعد الحسين السبط عليه‌السلام بالخروج والدعوة وقد تمثلت الضابطة في بادىَ بدئها بخروج الاِمام زيد ، ثم ابنه يحيى وهكذا ، لكن الاِسماعيلية قالت باستمرار النصّ الاِلهي بعد الحسين على إمامة زين العابدين فابنه الاِمام الباقر ، فالاِمام الصادق ، وبعده ابنه إسماعيل الذي هو مهدي الأمّة عندهم وسيوافيك تفاصيل عقائدهم في الجزء الثامن المختص بفرق الشيعة الباقية.

وطبيعة الحال كانت تقتضي سيادة الوئام والالتحام بين الفرقتين والتعايش الهادىَ في البيئات التي تحتضن كلتا الفرقتين ، كاليمن الخصيب وجنوب الجزيرة كحضرموت ونجران ولكن خاب الظنُّ وخسر ، لأنّ تاريخ اليمن تاريخ دمويّ يحكي عن كون الحرب لم تزل بينهما سجالاً ـ تبيد البلاد والعباد وتهلك الحرث والنسل ـ قروناً كثيرة.

إنّ أئمة الزيدية وإن خرجوا بالسيف وأعلنوا الجهاد ، ولكن لم يكن جهادهم مع المشركين والكافرين بل كانت مع إخوانهم الاِسماعيلية (القرامطة) وهذا هو الاِمام الهادي موَسس الدولة الزيدية في اليمن في أواخر القرن الثالث ،

٥١٦

فقد قدم اليمن وقد غطتها القرامطة والباطنية فجرى له معهم نيف وثمانون وقعة (١) ثم بدت الحروب بين الطائفتين في زمن المتوكل على اللّه (المطهر بن يحيى) وبعده الاِمام يحيى بن حمزة الموَيد باللّه (٦٦٩ ـ ٧٦٩ هـ) وكان الانتصار في أغلب الوقائع مع الزيدية ، وفي النهاية لم تجد الاِسماعيلية بداً من اللجوء إلى الجبال ، والتحصن بها حفظاً لشوَونهم الدينية.

ومن جرّاء هذه الفتن والحروب المدمّرة ، صارت حياة الطائفتين في أغلب العصور ، حياة دموية تأكل الحرب أخضرهم ويابسهم وربما تشعل فتيل الحرب بين مدعيين للاِمامة من الزيدية ، باعتضاد كل بقبيلته وأُسرته ، وقد انتهت الخلافات القبلية إلى ظهور الجمهورية فأطاحت بالاِمامة على الاِطلاق وقالت : لا زيد ولا عمرو ، ولا إبراهيم ولا إسماعيل.

« وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذِينَ ظَلمُوا مِنكُمْ خاصَّة » (الأنفال ـ ٢٥).

__________________

١ ـ التحف شرح الزلف : ٦٤.

٥١٧

السادس : في الصلة بين الزيدية والمعتزلة :

كانت الصلة العلمية بين الزيدية والمعتزلة موجودة ، منذ ظهرتا على صفحة الوجود ، حيث إنّ كلتا الطائفتين يرون العدل والتوحيد من الأصول ، ويكافحون الجبر والتشبيه ، حتى أنّ الاِمام « مانكديم » المستطهر باللّه أحمد بن الحسين بن أبي هاشم المتوفّى عام ٤٢٥ هـ ، تتلمذ على القاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفى عام ٤١٥ هـ. وكتب ما أملاه الأستاد ، حول الأصول الخمسة وقد طبع بهذا الاسم ولم يخالفه إلاّ فيما يرجع إلى الاِمامة (١).

ولما قامت ملوك الغزاونة وسلاطين السلاجقة بتحريك الحنابلة والحشوية ، بإبادة المعتزلة وقتلهم وتسعير النار في مكتباتهم وآثارهم وفي عقر دارهم ، عمد بعض الزيدية ، بنقل ما أمكن من كتبهم من العراق إلى اليمن منهم القاضي عبد السلام (٥٥٠ ـ ٥٧٣ هـ) فقد نقل المغني للقاضي عبد الجبار ، والأصول الخمسة ، وغيرهما من الآثار الكلامية لهم من العراق إلى اليمن وكانت اليمن تحتضن بها إلى أن نشرتها أخيراً البعثة العلمية المصرية بعد الفحص في مكتبات اليمن ، وللزيدية فضل حفظ بعض تراث المعتزلة من الاندثار والانطماس. ولولاهم لكانت مصيرها ، مصير سائر الآثار للمعتزلة. قاتل اللّه العصبية العمياء.

__________________

١ ـ راجع مقدمـة الأصـول الخمسـة بقلم محقّقها ص ٢٩ وقد ضبط وفاة « مانكديم » سنة ٤٢٥ هـ. والتحف شرح الزلف : ٨٨.

٥١٨

السابع : عصارة من رسالة أحد المعاصرين الزيديين :

إنّ السيد العلامة بدر الدين الحوثي الحسني اليماني ، ـ الذي زار قم وزارنا في موَسستنا ، وهو الشخصية العلمية الفريدة للزيدية حالياً بعد السيد العلامة مجد الدين الموَيّدي موَلف التحف في شرح الزلف ، نشر كتيباً باسم « الزيدية في اليمن » بيّن فيه ملامح مذهب الزيدية وعقائدهم ومصادرهم الكبرى في مختلف العلوم ، وقدم لها الأستاذ علي أحمد الرازحي وقد أهدى نسخة إلينا نقتبس منها ما يلي :

الزيدية عنوان لطائفة عظيمة من طوائف المسلمين كان لها حضورها الملموس في ميداني الفكر والبسالة تحت ظلال قائدها العظيم الاِمام زيد بن علي شهيد الحقّ والعدل والكرامة.

ولئن كان لكل طائفة معالم بارزة تتميز بها وتعرف من خلالها ، فانّ للزيدية معالم بارزة يراها لها الموالف والمخالف الذي لم يُعم التعصب عين بصيرته :

أحدها : وهو أولاها : المنزلة المنيفة التي يتبوّأها العقل عندها حيث تجعله الحاكم الذي لا يتعقبه أي حاكم غيره ، والحجّة التي بها استحق الاِنسان الخطاب من ربّ العالمين ، ومن خلاله استوحت أُصول عقيدتها حين أقصاه الآخرون وصغروا عظيم منزلته.

ثانيهما : احترام آراء الآخرين من المخالفين لها في الأصول والفروع وعرضها عرضاً رفيقاً بعيداً عن أي تجريح أو تبديع أو تضليل حتى لكأنّ كتبها رياض غنّاء مما يخوِّلها أن تكون تراثاً لكل الطوائف.

الثالث : صيحتها في وجه الظلم والاستبداد ، والقهر ، وسحق الكرامات حين

٥١٩

تحوّلت الخلافة إلى ملك عضوض ، وحين تغيرت وشوهت بعض مفاهيم الاِسلام الناصعة على يدي حكام متسلطين لا يمتلكون أي شرعية (١).

يقول السيد بدر الدين : إنّ الحركات العلمية ظهرت في اليمن بفضل الاِمامين الهادي وجده القاسم ، وبما أنّ الزيدية لا يلتزمون التقليد للهادي بل كلَّ من تمكن من الاجتهاد ، عمل بالدليل ، ظهر بعض الخلافات بينهم ، كما ظهر من بعضهم الميل إلى المعتزلة في غير مسألة الاِمامة وحصل من بعضهم إنكار ذلك لكن العقائد الأصلية الهامّة لا يظهر بينهم فيه خلاف.

ثم إنّ الموَلف أتى بأُصول عقائد الزيدية التي منها التوحيد ، والعدل والنبوات وصيانة القرآن من التحريف ، والاِيمان بالآخرة والبعث بعد الموت والشفاعة التي هي زيادة خير إلى خير ، لا إنقاذ أحد من النار والاِمامة التنصيصية إلى السبط الشهيد ، ثم جاء دور الدعوة والخروج وتحقق بزيد الثائر ومن سار على دربه ...

وقد قام الموَلف بتعريف الكتب والمصادر وقال :

وأهم كتبهم : كتب الهادي والقاسم.

منها : كتاب الأحكام ، والمنتخب والمجموعة الفاخرة التي تجمع عدّة رسائل للهادي ، ومن محاسن الكتب وأنفعها كتب القاسم بن إبراهيم وهي كتب صغار بعضها في مجموع القاسم.

ومن مراجع الزيدية (في الفقه) شرح التجريد للاِمام الموَيد باللّه أحمد بن الحسين الهاروني المدفون بلنجا (٢) ومن مراجعهم في علم الكلام ، حقائق المعرفة

__________________

١ ـ الزيدية في اليمن ، قسم المقدمة ٣ ـ ٥.

٢ ـ المعروف اليوم بلنگرود وقبره موجود هناك.

٥٢٠