بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

إلى الحقّ وولديه المرتضى والناصر عليهم‌السلام نصاً أو تخريجاً ، ثم توسعوا في ذلك فصاروا يذهِّبون على ما ترجح عندهم على مقتضى تلك القواعد وإن خالف نصّ الاِمام الهادي إلى الحقّ عليه‌السلام ، الذي هو إمام المذهب على التحقيق فضلاً عن غيره ، ولهذا رجّح كثير من الأئمّة الأعلام للمتابع أن يأخذ بالنص ويترك التخريج المخالف له ومنهم الاِمام المجدد للدين المنصور باللّه القاسم بن محمد فإنّه ضعف التخاريج غاية التضعيف وبسط القول في ذلك بما فيه الكفاية في كتابه الاِرشاد وكذا غيره من الأئمّة عليهم‌السلام (١).

والذي يثبت أنّ المذهب الزيدي حصيلة التفكير الحرّ في الكتاب والسنّة ولايمت إلى الاِمام زيد ، هو وجود الاجتهاد وعدم غلق بابه خلال العصور المتقدمة ، من دون أن يتخذوا آراء الاِمام الواحد حقاً غير قابل للخدش كما عليه الأحناف والشوافع والحنابلة والمالكية.

يقول الفضيل شرف الدين : العلم المميز للمذهب الزيدي على امتداد التاريخ الاِسلامي هو التجديد المستمر دون التقيد باجتهاد فرد واحد من أئمته أو علمائه أو التمحور الفكري حول ما توصلوا إليه من اجتهادات. فإنّ المطّلع المتتبع لتاريخ الفكر الزيدي يعلم بأنّه بقي منفتحاً على جميع المذاهب الاِسلامية المعتبرة يأخذ منها ماله أساس ومستند من كتاب اللّه والصحيح من سنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دونما تعصب ، أو جمود ، أو انغلاق ، بل أنّ من قواعد المذهب عدم جواز التقليد عند المتمكنين من العلماء القادرين على استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة. وبذلك بقي المذهب وعلماوَه روّاد تجديد وإصلاح يعملون لاِيجاد حلول لمختلف قضايا الحياة المتجدّدة في كل العصور إيماناً منهم بأنّ الدين الاِسلامي

____________

١ ـ تقديم السيد مجد الدين على كتاب الزيدية نظرية وتطبيق / و ـ ز.

٤٦١

جاء واسعاً رحباً ليستوعب مختلف قضايا البشرية في مختلف المجتمعات والعصور ويضع لها الحلول الاِيجابية الناجعة ، وإلاّ لما كان القرآن آخر الكتب السماوية المنزلة ، ولما كان محمد خاتم الرسل والأنبياء وآخرهم حتى قيام الساعة (١).

فإذا كان هذا هو الطابع الأوّل للمذهب الزيدي فمن المستحيل نسبه إلى الاِمام الثائر زيد الشهيد الذي لم ترث منه الزيدية إلاّ بضع أحاديث من غير تحليل.

والكلام الحقّ إنّ الزيدي عبارة عن من يقول بالعدل والتوحيد وإمامة زيد ابن علي بعد الأئمّة ، الثلاثة علي والسبطين عليهم‌السلام ووجوب الخروج على الظلمة ، واستحقاق الاِمامة بالفضل والطلب ، هذا هو العنصر المقوم في كون الرجل زيدياً ، وأما سوى ذلك مما يوجد في كتبهم فهو عطاء علمائهم المفكرين طيلة القرون.

وهناك من أعلام الزيدية من يصرّ على خلاف تلك النظرية ، فيرى أنّ إطلاق اسم الزيدية على أتباع الاِمام زيد يرجع إليه مستدلاً بقول الاِمام محمد بن عبد اللّه النفس الزكية : « أما واللّه لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين ، وأقام عموداً إذا اعوجّ ولم ننحو إلاّ أثره ولم نقتبس إلاّ من نوره » (٢).

يلاحظ عليه : أنّ النص لا يدلّ على وجود التسمية ، كما لا يدل على أنّ هناك منهجاً كلامياً أو فقهياً لزيد الثائر ، وإنّما يدلّ على اتباع أثره في أصل واحد وهو الثورة على الظالمين لاِحياء ما اندثر من السنن ، ونحن بدورنا نجلّ زيد الشهيد عن أن يفرق وحدة المسلمين وبالأخص شيعة جده أمير الموَمنين ويقسمهم إلى زيدي وغير زيدي فيوسع الصدع بدل رأبه ، قال سبحانه : « قُلْ هُوَ القَادِرُ على أن

__________________

١ ـ الفضيل شرف الدين : الزيدية نظرية وتطبيق / أ.

٢ ـ تقديم السيد مجد الدين على كتاب الزيدية نظرية وتطبيق / د.

٤٦٢

يَبعَثَ عَلَيكُمْ عَذاباً مِن فَوْقِكُم أوْ مِنَ تَحتِ أرْجُلِكُمْ أو يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلّهُمْ يَفْقَهُون » (الأنعام ـ ٦٥).

وفي نهاية المطاف إنّي أُرجح قول من يقول إنّ هذه النسبة لم يطلقها الاِمام زيد على أتباعه ولا أطلقها في البداية أتباعه على أنفسهم ، ولما جاء الثائرون بعد زيد ، ناهجين منهجه ، صارت اللفظة إشارة لمن يسلك مسلكه في مجال الخروج على الظلمة وإنقاذ المسلمين من كابوس الأمويين أو العباسيين ، من دون أن يكون فيه دلالة على مذهب كلامي أو فقهي. وعلى ذلك فالزيدية شعار حرية وعزة وكرامة ، وجهاد وتضحية في سبيل اللّه وليس شعاراً لمذهب خاص سوى ما عرفت من الاِيمان بإمامة الاِمام علي وسبطيه عليهم‌السلام.

٤٦٣
٤٦٤

الفصل التاسع

في عقائد الزيدية

قد ساقنا الغور في حياة زيد الثائر الشهيد ، إلى الحكم بأنّه لم يكن صاحب منهج كلامي ، ولا فقهيّ فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ، ويكافح الجبر والتشبيه ، فلأجل أنّه ورثهما عن أبيه وجده عن علي عليهم‌السلام وإن كان يفتي في مورد أو موارد فقد كان يصدر عن الحديث الذي يرويه عن الرسول الأعظم عن طريق آبائه الطاهرين وهذا المقدار من الموَهلات لا يصيّر الاِنسان ، من أصحاب المناهج في علمي الكلام والفقه.

نعم جاء بعد زيد ، مفكرون وعاة ، وهم بين دعاة للمذهب ، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان ، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيديّ ، متفتحين في الأصول والعقائد مع المعتزلة ، وفي الفقه وكيفية الاستنباط مع الحنفية ، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأصول والفروع وما أرسوه هوَلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

أين زيد ربيب البيت العلويّ ، من القول بالأصول الخمسة التي تبناها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، ومن جاء بعدهما من أعلام المعتزلة ، حتى صارت مندسّة في مذهب الزيدية ، بلا زيادة ونقيصة إلى يومنا هذا؟

أين زيد الذي انتهل من المعين العذب العلويّ الذي رفض العمل بالقياس والاستحسان ، من القول بأنّهما من مصادر التشريع الاِسلامي كما عليه

٤٦٥

المذهب الفقهي للزيدية؟

ومن ألمّ بحياة أئمة أهل البيت ابتداءًَ بالاِمام علي عليه‌السلام وانتهاءً إلى حياة الأئمّة كالصادقين والكاظم والرضا ، يقف على أنهم عليهم‌السلام في منتأى من القول بهذا وذاك ، كيف وكان النزاع بينهم وبين مشايخ المعتزلة قائماً على قدم وساق وقد حفظت كتب الحديث والسير ، لفيفاً منها ، وكان الرفض للقياس والاستحسان والظنون التي ما أُنزل بها من سلطان ، شعار مذهبهم ، به كانوا يُعرفون وبه كانوا يمُيزون لكن ـ للأسف ـ نجد دخول هذه العناصر في مذهب الزيدية الذي ينتمي إلى أئمة أهل البيت ، عليّ عليه‌السلام ومن بعده.

اتفقت الأمّة الاِسلامية ولا سيما الاِمامية والزيدية على أنّ الرسول أوصى بالتمسك بالثقلين وأنّه لا يعدل بهما إلى غيرهما ، وشبّه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته بسفينة وقال : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ». وبالتالي أمر بركوبها في تمام الطريق ، ولايشك أحد في أنّ الباقرين والكاظمين من أئمة أهل البيت ، ومع ذلك فقد فارقت الزيدية هوَلاء في حياتهم العلمية والعملية وبالتالي اقتدوا ببعض الأئمّة دون البعض الآخر ، وركبوا السفينة في بعض الطريق لا في جميعها وصار هذا وذاك سبباً لحدوث شقة كبيرة بين المذهب الزيدي ، وماكان عليه متأخرو أئمة أهل البيت الذي وعاه عنهم شيعتهم من عصر الاِمام علي إلى آخر الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام ، واشتهر باسم المذهب الاِمامي.

ولا أُغالي إذا قلت : إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة ساقتهم إلى ذلك ، الظروف السائدة عليهم وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد ، وان لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثم التقت الزيدية في العدل والتوحيد ، مع شيعة أهل البيت جميعاً ، إذ

٤٦٦

شعارهم في جميع الظروف والأدوار ، رفض الجبر ، والتشبيه ، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الاِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

كما أنّهم التقوا في الأصول الثلاثة :

١ ـ الوعد والوعيد.

٢ ـ المنزلة بين المنزلتين.

٣ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأصول في مذهبهم ، وحكموا بخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة ، وحرمانه من الشفاعة لأنّها للعدول دون الفساق ، فهي إذاً بمعنى ترفيع الدرجة لا الحط من الذنوب كل ذلك أخذاً بالأصل الأوّل ، كما جعلوا الفاسق ، في منزلة بين المنزلتين فهو عندهم لا موَمن ولا كافر بل هو فاسق ، أخذاً بالأصل الثاني ، ولكنّهم تخبّطوا في الأصل الثالث وزعموا أنّه أصل مختص بالمعتزلة والزيدية ، مع أنّ الاِمامية يشاركونهم في هذه الأصول عند اجتماع الشرائط ، أي وجود دولة إسلامية يرأسها الاِمام المعصوم أو النائب عنه بإسم الفقيه العادل.

إنّ الزيدية التقت في القول بحجّية القياس والاستحسان والاِجماع بما هو هو ، دون كونه كاشفاً عن قول المعصوم ، وحجية قول الصحابي وفعله ، مع أهل السنّة ولذلك صاروا أكثر فرق الشيعة اعتدالاً ـ عند أهل السنّة ـ وميلاً إلى التفتح معهم.

ولكنّ العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة التي تميز هذا المذهب عما سواه من المذاهب ، ويسوقهم إلى التفتح مع الاِمامية والاِسماعيلية هو القول بإمامة علي والحسنين بالنص الجلي أو الخفي عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقول بأنّ تقدم غيرهم

٤٦٧

عليهم كان خطأ وباطلاً.

هذا هو واقع المذاهب ، وعموده الفقري ، فقد أخذوا من كل مذهب ضغثاً.

نعم كانت عناية مشايخ الزيدية في العصور الأوّلية ، بالنقل عن الصادقين والأخذ بقولهما أكثر من الذين جاءوا بعدهم. وهذا أحمد بن عيسى بن زيد ، موَلف الأمالي فقد أكثر فيها النقل عنهما وعن غيرهما من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ولكن أين هو من البحر الزخار لابن المرتضى (٧٦٤ ـ ٨٤٠ هـ) أو سبل السلام للأمير محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني (١٠٥٩ ـ ١١٨٢ هـ) أو الروض النضير للسباعي ، أو نيل الأوطار في شرح منتقى الأخبار للشوكاني (١١٧٣ ـ ١٢٥٠ هـ) ، فإنهم لايصدرون في عامـة المسائل إلاّ ما شذ ، إلاّ عما يصدر عنه فقهاء أهل السنة ، فالمصادر الحديثية هي الصحاح والمسانيد ، والحجج الفقهية بعد الكتاب والسنّة ، هي القياس والاستحسان ، وكأنّه لم يكن هنا باقر ولا صادق ، ولاكاظم ولا رضا عليهم‌السلام ونسوا وتناسوا مقاماتهم وعلومهم.

نحن نأتي في هذه العجالة بأُصول عقائدهم مستندين إلى ما ألفه الاِمام المرتضى في مقدمة البحر الزخار ، مقتصرين على الروَوس دون الشعب المتفرقة منها. وفي هذه القائمة لعقائدهم يتجلى مدى انتمائهم ، للمعتزلة أو للسنّة والشيعة ، والنص لابن المرتضى بتلخيص منّا.

١ ـ صفاته عين ذاته ، ويستحق بها صفاته لذاته لا لمعان (زائدة) خلافاً للأشعرية حيث يقول : « لمعان قديمة بذاته ليست إياه ولا بعضه ولا غيره ».

وقد أشار بذلك إلى المعاني الزائدة التي أثبتها الأشعري وهي ثمانية مجموعة في قول بعضهم :

حياة ، وعلم ، وقدرة ، وإرادة

كلام وإبصار وسمع مع البقاء

٢ ـ لا يُرى سبحانه ، ولا يجوز عليه الروَية وإلاّ لرأيناه الآن لارتفاع الموانع

٤٦٨

الثمانية (١). ولا اختص بجهة يتصل بها الشعاع.

٣ ـ ليس بذي ماهية : وعليه المعتزلة والزيدية وأكثر الخوارج والمرجئة.

٤ ـ حسن الأشياء وقبحها عقليان ، وأكثر الزيديـة على أنّه يقبح الشيء لوقوعه على وجه من كونه ظلماً أو كذباً أو مفسدة إذ متى علمناه كذلك ، علمنا قبحه.

٥ ـ مريد بإرادة حادثة : هو سبحانه مريد بإرادة حادثة. خلافاً للكلابية والأشعرية حيث قالوا بإرادة قديمة ، وقالت النجارية بإرادة نفس ذاته ، قلنا : إذاً للزم إيجاده جميع المرادات ، إذ لا اختصاص لذاته ببعضها.

٦ ـ متكلم بكلام : وكلام اللّه تعالى فعله الحروف والأصوات.

٧ ـ فعل العبد غير مخلوق فيه : وخالفت الجهمية وجعلت نسبته إلى العبد مجازاً كطال وقصر.

وقالت النجارية والكلابية وضرار ، وحفص : خلق للّه وكسب للعبد ، لنا وقوعه بحسب دواعيه وانتفاوَه بحسب كراهيته مستمراً بذلك يعلم تأثير الموَثر (العبد) سلمنا لزوم سقوط حسن المدح والذم ، وسبّه لنفسه ، تعالى اللّه عن ذلك.

٨ ـ تكليف ما لا يطاق قبيح : وكانت المجبرة لا تلتزمه حتى صرح الأشعري بجوازه ، لنا تكليف الضرير بنقط المصحف ومن لا جناح له بالطيران ، معلوم قبحه ضرورة وقوله تعالى : « إلاّ وسعها ».

٩ ـ المعاصي ليس بقضاء اللّه.

١٠ ـ لا يطلق على اللّه أنّه يضل الخلق.

١١ ـ الوعد والوعيد : وهو أصل في كلام المعتزلة والزيدية وقد عقد ابن المرتضى باباً وفرع عليه فروعاً والغاية المتوخاة منها ، الحكم بخلود المسلم الفاسق في النار ، وإن شئت قلت : خلود مرتكب الكبيرة الذي مات بلا توبة فيها ولم أعثر

__________________

١ ـ أشار في التعليقة إلى الموانع الثمانية فلاحظ.

٤٦٩

على نصّ في كلام ابن المرتضى ، ولكن صرّح به غير واحد من علمائهم ونأتي بنص العالم المعاصر الزيدي في كتابه « الزيدية نظرية وتطبيق » قال :

أمّا الزيدية وسائر العدلية فقالوا : من مات موَمناً فهو من أصحاب الجنّة خالداً فيها أبداً ، ومن مات كافراً أو عاصياً لم يتب فهو من أصحاب السعير خالداً فيها أبداً لقوله تعالى : « ومَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيها أبَداً » (الجن ـ ٢٣) وقوله : « وإنّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَومَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ » (الانفطار ـ ١٦) وقوله تعالى : « بَلى مَنْ كسَبَ سَيِّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئتُهُ فَأُوْلئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدونَ » (البقرة ـ ٨١) (١).

١٣ ـ مرتكب الكبيرة لا موَمن ولا كافر : بل فاسق وفي منزلة بين المنزلتين وهذا أحد أُصول المعتزلة لكن الزيدية أدخلوه في الأصل السابق الوعد والوعيد ، قال ابن المرتضى :

والفاسق (مرتكب الكبيرة) ليس بكافر ، خلافاً للخوارج ، ولا موَمن خلافاً للمرجئة إذ هو مدح والفسق ذم فلا يجتمعان (٢).

١٤ ـ الاِمامة تجب شرعاً لا عقلاً وعليه إجماع الصحابة.

١٥ ـ النص على إمامة عليّ والحسنين : الأشعرية : لم ينص صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمام بعده ، وقالت الزيدية : بل نصّ على عليّ والحسنين (٣) وقالت البكرية على أبي بكر.

١٦ ـ عقد الاِمامة : وتعقد الاِمامة بالدعوة مع الكمال ولا تنعقد بالغلبة

__________________

١ ـ علي بن عبد الكريم : الزيدية نظرية وتطبيق : ٧٦ وقد أوضحنا عدم دلالة الآيات على مايرونه في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن هذا الأصل عند المعتزلة فلاحظ.

٢ ـ عزب عن المرتضى إنّما لا يجوز الجمع بين المدح والذم إذا كان المبدأ واحداً أي إذا ذمّ ومدح لأجل ملاك واحد. دونما إذا كان المبدأ مختلفاً والحيثيات ، متعددة فهو من حيث إيمانه في القلب ممدوح ومن حيث اقترافه المعصية مذموم.

٣ ـ وقال محقق الكتاب : ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما » رواه الأمير الحسين في كتاب الشفا ورواه الأمير الحسن بن بدر الدين في العقد الثمين.

٤٧٠

خلاف الحشوية.

وأوضحه المحقّق في هامش الكتاب وقال مع عدم المنازع فيفوز بذلك أو بأن تحصل له البيعة من الأكثرية مع وجود المنازع ، وكل ذلك بعد سبق ترشيحه من ذوي الحل والعقد لمعرفة حصوله على الشروط الموَهلة له.

١٧ ـ معدن الاِمامة البطنان : الزيدية : على أنّ معدن الاِمامة البطنان ، للاِجماع على صحتهما ولا دليل على غيرهما ، وقالت الاِمامية : بل أولاد الحسين وقالت الأشعرية بل قريش.

١٨ ـ الاِمامان في زمان واحد : أكثر الزيدية لا يصلح إمامان في زمان فقالت الكرامية والزيدية : يصح ، لنا إجماع الصحابة بعد قول الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير وإذا عقد لاِثنين في وقت واحد بطلا ويستأنف كنكاح وليّين.

١٩ ـ ومن اعتبر العقد : كفى بيعه واحد برضا أربعة من أهل الحل والعقد وقال أبو القاسم البلخي : يكفي واحد وإن لم يرض غيره ، لنا لم يعقد عمر وابو عبيدة لأبي بكر إلاّ برضا سالم وبشير وأُسيد وبايع عبد الرحمن عثمان ، برضا الباقين (١).

٢٠ ـ الاِمام بعد الرسول عليّ ، ثم الحسن ثم الحسين عليهم‌السلام للأخبار المشهورة.

٢١ ـ القضاء في فدك صحيح خلافاً للاِمامية وبعض الزيدية. لنا : لو كان باطلاً لنقضه علي ولو كان ظلماً لأنكره بنو هاشم والمسلمون. (٢).

٢٢ ـ خطأ المتقدمـين على علـيّ في الخلافة قطعي ، لمخالفتهم ، ولا يقطع

____________

١ ـ أُنظر كيف يستدل بفعل من ترك وصية الرسول حسب اعترافه على مسألة أُصولية.

٢ ـ ولعله لم يبلغه قول علي عليه‌السلام في فدك : « نعم قد كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء ، فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عليها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم اللّه » كما تبلغه خطبة الصديقة الطاهرة حول فدك التي كان بنو هاشم يحفظونها ويعلّمونها أولادهم.

٤٧١

لفسقهم إذ لم يفعلوه تمرداً بل لشبهة فلا تمنع الترضية عليهم لتقدم القطع بإيمانهم فلا يبطل بالشك فيه.

٢٣ ـ خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعي لبغيهم على إمام الحقّ.

٢٤ ـ توبة الناكثين : الأكثر أنّه قد صحت توبتهم ، وقالت الاِمامية وبعض الزيدية : لا.

٢٥ ـ الأكثر أنّ معاوية فاسق لبغيه ، لم تثبت توبته فيجب التبرّي منه.

٢٦ ـ يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : بالقول والسيف مع اجتماع الشروط قالت الحشوية : لا وقالت الاِمامية : بشرط وجود الاِمام لنا : « وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّة » (آل عمران ـ ١٠٤) « فَقاتِلُوا الَّتي تَبْغِي » (الحجرات ـ ١٠).

هذه روَوس عقائد الزيدية استخرجناها من كتاب القلائد في تصحيح الاعتقاد ، المطبوع في مقدمة البحر الزخار ص ٥٢ ـ ٩٦ والموَلف ممن يشار إليه بين علماء الزيدية ، وهو موَلف البحر الزخار ، ومن أحد أئمة الفقه والاجتهاد في القرن التاسع.

النص بالجلي أو الخفي على إمامة علي عليه‌السلام :

إنّ كتب تاريخ العقائد طفحت بهذا العنوان ، فمثلاً نقلوا بأنّ الجارودية ذهبت إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على إمامة عليّ بالوصف دون النص (١) ومعنى هذا أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بيّن الملامح العامة للاِمام ، وكان علي عليه‌السلام هو المصداق الوحيد لهذه الملامح.

__________________

١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٦٧ ، البغدادي : الفرق بين الفرق : ٣٠.

٤٧٢

وقال النوبختي عن الجارودية : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على عليّ عليه‌السلام بالوصف دون التسمية ، والناس مقصرون إذا لم يتعرفوا الوصف ولم يطلبوا الموصوف (١).

وربما يعبرون بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّّ على ولاية الاِمام نصاً خفياً غير جلي.

هذه الكلمات ونظائرها توجد ، في التعبير عن المذهب الجارودي في مقام الاِمامة.

وأمّا السليمانية أو الجريرية فأظهروا المرونة أكثر من الجارودية ، فقد قالوا : إنّ الاِمامة شورى وأنّها تنعقد بعقد رجلين من خيار الأمّة ، وأجازوا إجازة المفضول وأثبتوا إمامة أبي بكر وعمر ، وزعموا أنّ الأمّة تركت الأصل في البيعة لها ، لأنّ علياً كان أولى بالاِمامة منهما ، إلاّ أنّ الخطأ في بيعتهما لم يوجب كفراً ولافسقاً (٢).

والذي أظن ـ وظنّ الألمعي صـواب ـ أنّ النظرتين قد صدرتا تقية وصيانة لوجودهم بين أهل السنّة. ومع أنّ الزيدية يرفضون التقية كما سيوافيك ، ولكنّهم عملوا بها حيث لا يشاوَون ، فإنّهم قد عاشروا أهل السنّة في بيئة واحدة ومجتمع واحد تربطهم أحكام واحدة ، حيث رأوا أنّ التعبير عن واقع المذهب أي وجود النصّ على الاسم وإن شئت قلت : وجود النصّ الصريح يستلزم تفسيق الصحابة ، وهذا لا يتلائم وطبيعة حياتهم ، فلذلك جعلوا من هذا التعبير واجهة لعقيدتهم الواقعية فجمعوا ـ حسب زعمهم ـ بين العقيدة والهدف في الحياة. كيف وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام عن بكرة أبيهم يرون النصّ على خلافة علي عليه‌السلام وهذا المميز لشيعة أئمة أهل البيت عن غيرهم. والذي يميز الشيعة عن غيرهم من الفرق هو هذا العنصر فقط ، وما سوى ذلك عقائد كلامية مستخرجة من الكتاب

__________________

١ ـ النوبختي : فرق الشيعة : ٧٤.

٢ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٦٨ ، البغدادي : الفرق بين الفرق : ٣٢.

٤٧٣

والسنّة.

فإن كان ما ذكرناه مقبولاً لدى القارىَ وإلاّ فإنّ هذا النوع من التفكير تطرّق إلى المذهب الزيدي في العصور السابقة عن طريق معاشرتهم مع معتزلة بغداد ، الذين قالوا بأفضلية الاِمام علي عليه‌السلام وجواز تقديم المفضول على الفاضل. وقد مرّ تحقيق القول في ترجمة حمزة بن عبد اللّه فلاحظ.

٤٧٤

العقد الثمين في معرفة ربّ العالمين

تأليف الأمير الحسين بن بدر الدين محمد

(٥٨٢ ـ ٦٦٢)

بعد أن أخرجت عقائد الزيدية من كتاب البحر الزخار ، وقفت على رسالة مختصرة باسم العقد الثمين في معرفة ربّ العالمين لموَلّفه العلامة الأمير الحسين بن بدر الدين محمد المطبوع باليمن ، نشرته دار التراث اليمني صنعاء ، ومكتبة التراث الاِسلامي بصعده وهي من أوائل الكتب الدراسية في حقل أُصول الدين والموَلّف من أجلّ علماء الزيدية ، وأكثرهم تأليفاً وتعد كتبه من أهم الأصول التي يعتمد عليها علماء الزيدية ويدرسونها كمناهج (١) وإليك نصها :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه المختصّ بصفات الاِلهية والقدم ، المتعالي عن الحدوث والعدم ، الذي لم يسبقه وقت ولا زمان ، ولاتحويه جهة ولا مكان ، جلّ سبحانه. دلّ على ذاته بما ابتدعه من غرائب مصنوعاته ، وعجائب مخلوقاته ، حتى نطق صامتها بالاِقرار بربوبيته بغير مَذْوَد ، وبرز مجادلاً لكل من عطّل وألحد.

وصلواته وسلامه على سيدنا محمد الذي هو بالمعجزات موَيد ، وفي المرسلين مرَجّب ومسوّد ، وعلى آله الغرّ الهداة ، والولاة على جميع الولاة ، وعلى

__________________

١ ـ إقرأ ترجمته في : تاريخ اليمن الفكري : ٣ / ٢٨٩ و ٣٠٨ ، والاعلام : ٢ / ٢٥٥ ، التحف شرح الرلف : ١٧٨.

٤٧٥

صحابته المكرّمين الموَيدين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد :

التوحيد

[ الدلالة على أن اللّه تعالى خالق العالم ]

أيّها الطالب للرشاد ، والهارب بنفسه عن هُوّة الاِلحاد.

فإذا قيل لك : من ربك؟

فقل : ربي اللّه.

فإن قيل لك : بم عرفت ذلك؟

فقل : لأنّه خلقني ، ومن خلق شيئاً فهو ربّه.

فإن قيل لك : بمَ عرفت أنّه خلقك؟

قل : لأنّي لم أكن شيئاً ثم صرتُ شيئاً ، ولم أكن قادراً ثم صرت قادراً ، و [ كنت ] صغيراً ثم صرت كبيراً ، ولم أكن عاقلاً ثم صرت عاقلاً ، وشاهدت الأشياء تحدث بعد أن لم تكن ؛ فرأيت الولد يخرج ولا يعلم شيئاً ، ثم يصير رضيعاً ، ثم طفلاً ، ثم غُلاماً ، ثم بالغاً ، ثم شاباً ، ثم كهلاً ، ثم شيخاً. ثم رأيت نحو ذلك من هبوب الرياح بعد أن لم تكن ، وسكونها بعد هبوبها ، وطلوع الكواكب بعد أُفولها ، وأفولها بعد طلوعها ، وظهور السحاب وزواله ، وكذلك المطر والنبات والثمار المختلفات. وكل ذلك دلائل الحدوث.

وإذا كانت محدَثة فلا بد لها من محدِث ، لأنّها قد اشتركت في الجسميّة ، ثم افترقت هيئاتها وصورها ؛ فننظر سماءً ، وأرضاً ، وثماراً ، وأشجاراً ، وآباراً ، وبحوراً ، وأنهاراً ، وإناثاً ، وذكوراً ، وأحياءً ، وأمواتاً ، وجمعاً ، وأشتاتاً.

٤٧٦

وكذلك ننظر إلى الأعراض الضروريات المعلومات ، فإنّها اشتركت في كونها أعراضاً ، ثم افترقت وانقسمت بين شهوةٍ ونفرةٍ ، وحياةٍ وقدرةٍ ، ويبوسةٍ ورطوبة ، وطُعومٍ مكروهة ومحبوبة ، وروائح شتى ، وحرّ وبرد ، ووجاء وفناء ، وألوان متضادّة على المحل ، وموت يقطع الرزق والأمل.

فنعرف أنّه لابد من مخالف خالف بينها ، وأحدث ماشاهدنا حدوثه منها ، وأنّه غيرٌ لها ، لأنّها لاتُحدِث نفسها ، إذ الشيء لايُحدثُ نفسه ، لأنّه يُوَدّي إلى أن يكون قَبلَ نفسه ، وغيراً لها ، وكذلك لاتصوّر أنفسها ، ولاتخالف بين هيئتها ، ولايقع ذلك بشيء مما يقوله الجاهلون ، من طبع أو مادّة ، أو فلك ، أو نجم ، أو علّة ، أو عقل ، أو روح ، أو نفس ، أو غير ذلك مما يقولونه ؛ لأنّ ذلك إن كان من قبيل الموجبات لم تخلُ : أن تكون موجودة ، أو معدومة. والموجودة لا تخل : أن تكون قديمة ، أو محدثة. ولايجوز ثبوت ذلك لعلّة قديمة ولامعدومة ، لأنّه لو كان كما زعموا لكان يلزم وجود العالم بما فيه في الأزل ، واستغناوَه عن تلك العلل.

ولا يجوز أن يكون ثبوت ذلك لعلّة محدثة ، لأنّها لاتخلو : إمّا أن تكون مماثلة لما تقدم [ منها ] ، أو مخالفة [ له ] ، إن كانت مماثلة وجب أن يكون معلولها متماثلاً ، وفي علمنا باختلاف ذلك العالم دلالة على بطلان القول بأنّه عن علة مماثلة أو علل متماثلات.

ولا يجوز أن يكون لعلة مخالفة ، ولا علل مخالفة ، لأنّها حينئذ تكون قد شاركت العالم في الاختلاف ؛ الذي لأجله احتاج إليها ، فيدور الكلام إلى ما لا يعقل ولا ينحصر من العلل.

فيجب الاقتصار على المحقّق المعلوم ، والقضاء بأنّ الذي أحدثها وصوّرها ، وخالف بينها هو الفاعل المختار ، وهو الحيّ القيوم.

٤٧٧

فصل [ في أنّ اللّه تعالى قادر ]

فإن قيل : ربّك قادر ، أم غير قادر؟

فقل : بل هو قادر ؛ لأنّه أوجد هذه الأفعال التي هي العالم ، والفعل لا يصح إلاّ من قادر.

أوجده تعالى لا بمماسّة ، ولا بآلة : « إنَّما أمْرُهُ إِذَا أرادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون » [ يس : ٨٢ ].

فصل [ في أنّ اللّه تعالى عالم ]

فإنّ قيل : أربك عالم ، أم غير عالم؟

فقل : بل هو عالم ، وبرهان ذلك ما نشاهده فيما خلقه من بدائع الحكمة ، وغرائب الصنعة ؛ فإنّ فيها من الاِحكام والترتيب ، ما يعجز عن وصفه اللبيب ، [ وكل ذلك لا يصح إلاّ من عالم ، كما أنّ الكتابة المحكمة لا تصح إلاّ من عالم بها ، وهو تعالى لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فيجب أن يعلم جميع المعلومات ، على كل الوجوه التي يصح أن تعلم عليها.

وهو سبحانه يعلم ما أجنّه الليل ، وأضاء عليه النهار ، ويعلم عدد قطر الأمطار ، ومثاقيل البحار ، ويعلم السرّ ـ وهو ما بين اثنين ـ وما هو أخفى ـ وهو ما لم يخرج من بين شفتين ـ « مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلأ خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أكْثَرَ إلاّ هُوَ مَعَهُمْ » [ المجادلة : ٧ ] بعلمه لايلاصقهم ، وهو شاخص عنهم ولايفارقهم ].

٤٧٨

فصل [ في أنّ اللّه تعالى حي ]

فإن قيل : أربك حيّ ، أم لا؟

فقل : بل حيٌّ ، لأنّه تعالى لو لم يكن حيّاً لم يكن قادراً ، ولا عالماً ، لأن الميّت والجماد لا يفعلان فعلاً ، ولايحدثان صنعاً.

فصل [ في أنّ اللّه تعالى قديم ]

فإن قيل : أربّك قديم ، أم غير قديم؟

فقل : هو موجود لا أوّل لِوجوده ؛ لأنّه لو كان لوجوده أوّلٌ لكان محدَثاً ، ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدِث ، إلى ما لا يتناهى ، وذلك محالٌ ، فهو قديم ، قادر ، حيٌّ ، عليم ، لم يزل ولا يزال ، ولايخرج عن ذلك في حال من الأحوال ، لأنّه لو لم يكن كذلك لم يكن له بدٌّ من فاعل فعله ، وجاعلٍ ـ على صفات الكمال ـ جعله ، أو يكون لعلّة ، وقد ثبت أنّه تعالى قديم ؛ فلايصح القول بشيء من ذلك.

فصل [ في أنّ اللّه تعالى سميع بصير ]

فإن قيل : أربك سميع بصير؟

فقل : أجل لأنّه حيٌّ كما تقدم ، ولايعتريه شيء من الآفات ، لأنّ الآفات لاتجوز إلاّ على الأجسام ، وهو تعالى ليس بجسم ، لأنّ الأجسام محدَثة كما تقدم ، وهو تعالى قديم أيضاً.

٤٧٩

فصل [ في أنّ اللّه تعالى لايشبه الأشياء ]

فإن قيل : أربّك مشبه الأشياء؟

فقل : ربّي لايشبه الأشياء ؛ لأنّ الأشياء سواه : جوهرٌ ، وعرَضٌ ، وجسم. ولايجوز أن يكون جوهراً ، ولا عرضاً ؛ لأنّهما غير حيّين ولاقادرين ، وهو تعالى حيّ قادر ، ولأنّهما محدَثان وهو قديم ولا يجوز أن يكون جسماً ، لأنّا قد بيّنا أنّه خالق الأجسام ، والشيء لايخلق مثله ، ولأنّ الجسم موَلّف مصنوع ، يفترق ويجتمع ، ويسكن ويتحرّك ، ويكون في الجهات ، وتسبقه الأوقات ، وكل ذلك شواهد الحدوث ، وقد ثبت أنّه تعالى قديم ، فلا يجوز أن يكون محدَثاً بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وإذا لم يكن جوهراً ولاجسماً ولاعرضاً لم يوصف بالكيف ، ولا الأين ، ولا الحيث ، ولا البين ، ولا الوجه ، ولا الجنب ، ولا اليدين ، لم يقطعه بعد ، ولم يسبقه قبل ، ولم يجزّئه بعضٌ ، ولا جمعه كلٌّ ، ليس في الأرض ولا في السماء ، ولا حلّ في متحيّز أصلاً ، ولا حدّه فوقٌ ولاتحت ، ولايمين ، ولا شمال ، ولا خلفٌ ، ولا أمام ، ولا يجوز عليه المجيء ولا الذهاب ، ولا الهبوط ولا الصعود.

كان قبل خلق العالم ولا مكان ، ويكون بعد فناء العالم ولا مكان ، وهو خالق المكان مستغن عن المكان ، وخالق الزمان فلم يتقدمه زمان ، ليس بنور ولا ظلام ، لأنّ جميع ما ذكر فان في القدم.

ولأجل ذلك نقول : إنّه لا يجوز أن يقال : هو طويل ، ولا قصير ، ولا عريض ولا عميق ، ولا شويه ولامليح ، ولا أن يقال : هو يسترّ أو يغتمّ ، أو يظنّ أو يهتمّ ، أو يعزمُ ، أو يوَلّم ، أو يلتذّ أو يشتهي ، أو ينفرُ ، لأنّ ذلك كلّه شواهد الوجود بعد العدم ، ومنافٍ لما هو عليه من صفات الكمال والعظمة والجلال.

٤٨٠