بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

دعاته :

إنّ لمكانة دعاة الثورة ومنزلتهم بين الناس ، تأثيراً بالغاً في اجتذاب الناس وعطفهم إليها ، فإذا كان الداعي عالماً بارعاً ، أو فقيهاً ورعاً ، يأخذ بمجامع القلوب ، ويوَثر في الشعوب وقد تعرفت على أسماء بعض دعاته عند الكلام في المبايعين لزيد من الفقهاء ونقلة الآثار نظراء :

١ ـ منصور بن المعتمر

٢ ـ يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم

٣ ـ سالم بن أبي الحديد ـ كما في مقاتل الطالبيين ـ ويحتمل كونه مصحف سالم بن أبي حفصة ، الذي عنونه الكشي مع فريق ممن بايعوا زيداً كسلمة بن كهيل ، والحكم بن عتيبة وغيرهما (١).

٤ ـ الفضيل بن الزبير الذي دعا أبا حنيفة إلى بيعة زيد

٥ ـ عبدة بن كثير الجرمي

٦ ـ الحسن بن سعد الفقيه

قال أبو الفرج كان رسول زيد إلى خراسان عبدة بن كثير الجرمي ، والحسن بن سعد الفقيه.

٧ ـ عثمان بن عمير أبو اليقظان الفقيه رسول زيد إلى الأعمش

وذكر السياغي أنّ من دعاته :

٨ ـ نصر بن معاوية بن شداد العبسي

٩ ـ معمر بن خثيم العامري.

____________

١ ـ الكشي : الرجال : ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

٣٠١

١٠ ـ معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري (١).

أنّ بث الدعاة في مختلف الأقطار ينم عن علو همة زيد ، وسعة دعوته وأنّه كان بصدد تشكيل حكومة إسلامية عادلة ، غير أنّ الظروف القاسية وتساهل المبايعين ، حالت بينه وبين أُمنيته.

تحذيره عن القيام :

قد حذره عن القيام غير واحد من أقاربه وأصدقائه ، حذروه عن الخروج معتضداً بالكوفيين وأنّهم أُناس لايوفون بمواثيقهم وعهودهم ، ويشهد بذلك ، حياتهم منذ عهد الاِمام إلى يومهم هذا نذكر كلمات بعض المحذّرين :

١ ـ روى الصدوق عن معمر بن سعيد قال : كنت جالساً عند الصادق عليه‌السلام فجاء زيد بن علي فأخذ بعضادتي الباب فقال : له الصادق عليه‌السلام : « ياعم أُعيذك باللّه أن تكون المصلوب بالكناسة ... » (٢).

٢ ـ قال محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب : أُذكّرك يازيد لما لحقت بأهلك ولا تأت أهل الكوفة فإنّهم لا يفون لك ، فلم يقبل (٣).

٣ ـ قال داود بن علي بن عبد اللّه بن عباس : يابن عم إنّ هوَلاء ليغرّونك من نفسك أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك : جدّك علي بن أبي طالب حتى قُتل ، والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه وجرحوه ، أوليس أخرجوا جدّك الحسين وحلفوا له وخذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه؟ (٤).

__________________

١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٣٠.

٢ ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٤٩ ، الباب ٢٥.

٣ ـ الجزري : الكامل : ٥ / ٢٣٢.

٤ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٤٨٨ ، الجزري : الكامل : ٥ / ٢٣٤.

٣٠٢

٤ ـ قال سلمة بن كهيل : ننشدك اللّه كم بايعك؟ قال : أربعون ألفاً ، قال : فكم بايع جدك؟ قال : ثمانون ألفاً ، قال : فكم حصل معه ، قال ثلاثمائة ، قال : نشدتك اللّه ، أنت خير أم جدك؟ قال : جدي.

قال : فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟ قال : ذلك القرن. قال : أفتطمع أن يفي لك هوَلاء ، وقد غدر هوَلاء بجدك. قال : قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم ، قال : أفتأذن لي أن أخرج من هذا البلد؟ فلا آمن أن يحدث حدث فلا أملك نفسي ، فأذن له فخرج إلى اليمامة (١).

٥ ـ كتب عبد اللّه بن الحسن بن الحسن إلى زيد : أمّا بعد فإنّ أهل الكوفة نفخ العلانية ، خوَر السريرة ، هرج في الرخاء ، جزع في اللقاء ، تقدّمهم ألسنتهم ، ولاتشايعهم قلوبهم. ولقد تواترت إليّ كتبهم بدعوتهم فصممتُ عن ندائهم ، وألبست قلبي غشاءً عن ذكرهم ، يأساً منهم واطِّراحاً لهم ، ومالهم مثل إلاّ ما قال علي بن أبي طالب : « إن أُهملتم ، خضتم ، وإن حوربتم خرتم ، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم ، وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم » (٢).

أعذاره تجاه الناصحين :

هذه النصائح لم تكن رادعة لزيد عن أُمنيته وجهاده ، لأنّه كان واقفاً على ما تنطوي عليه سرائر أهل الكوفة من التساهل في مجال العمل بالمواثيق والعهود ، ولكنه عليه‌السلام لم يصغ إلى شيء منها ، لأنّه كان موطّناً نفسه على القتل والشهادة سواء أنال بغيته الظاهرة أي الحكومة والسلطة أم لا ، وذلك لأنّ من أهدافه العالية إنهاض المسلمين إلى الثورة ولو باستشهاده وقتله في سبيل اللّه

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٤٨٩ ، الجزري : الكامل : ٥ / ٢٣٥.

٢ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٤٨٩ ، الجزري : الكامل : ٥ / ٢٣٥.

٣٠٣

حتى يقضوا على عروش بني أُمية ، ومن حسن الحظ أنّ زيداً وصل إلى تلك الأمنية ، فقد تواترت الثورات بعد زيد هنا وهناك ضد النظام فأُزيلت عروشهم بعد استشهاده بمدّة لاتزيد على عشر سنوات ، فصارت جثث بني أُمية طعمة للكلاب والوحوش ، فاستوَصلوا من الأراضي الاِسلامية ولم يبق منهم إلا حثالات فرّوا إلى الأندلس أو كانوا فيها وما أجاب به زيد ، سلمة بن كهيل من كون بيعة الكوفيين على عنقه ولابد له من الوفاء بها فإنّما كان جواباً ظاهرياً لاقناع سلمة ، وإلاّ فللعمل بالميثاق شروط أوضحها كون الظروف هادئة والعدو غافلاً ، أو ضعيفاً والمبايعين صامدين في طريق بيعتهم ولم يكن واحد منها موجوداً.

الموَامرة على زيد من الداخل :

ولما استتب الأمر لزيد وكانت الثورة تستفحل يوماً بعد يوم ويرجع الناس إلى زيد زرافات ووحداناً.

اجتمعت إليه جماعة من المبايعين ، فقالوا : رحمك اللّه ما قولك في أبي بكر وعمر؟ فقال : رحمهما اللّه وغفر لهما ما سمعت أحداً من أهل بيتي يتبرّأ منهما ولا يقول فيهما إلاّ خيراً ، قالوا : فلم تطلب إذاً بدم أهل هذا البيت؟ إلاّ أن وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم ، فقال لهم زيد : إنّ أشد ما أقول فيما ذكرتم إنّا كنّا أحقّ بسلطان رسول اللّه من الناس أجمعين وإنّ القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً ، قد ولّوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنّة. قالوا : فلم يظلمك هوَلاء إذا كان أُولئك لم يظلموك؟ فلمَ تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين؟ فقال : إنّ هوَلاء ليسوا كأُولئك ، إنّ هوَلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم ، ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا : سبق الاِمام وكانوا يزعمون أنّ أبا جعفر محمد بن علي أخا زيد بن علي هو الاِمام وكان قد هلك يومئذ ، وكان ابنه جعفر بن محمد حياً.

٣٠٤

فقالوا : جعفر إمامنا اليوم بعد أبيه وهو أحقّ بالأمر بعد أبيه ، ولانتبع زيد بن علي فليس بإمام فسماهم زيد الرافضة ، فهم اليوم يزعمون أنّ الذي سمّاهم رافضة المغيرة حيث فارقوه (١).

ما ذكره الطبري في ذلك الموضع نقله أكثر الموَرّخين وأصحاب المقالات حتى اللغويين ، قال ابن منظور : الروافض قوم من الشيعة سمّوا بذلك لأنّهم تركوا زيد بن علي. قال الأصمعي : كانوا قد بايعوا زيد بن علي ، ثم قالوا له : إبرأ من الشيخين نقاتل معك فأبى. فقال : كانا وزيري جدي فلا أبرأ منهما فرفضوه وأرفضوا عنه فسمّوا رافضة (٢).

يقول البغدادي : وكان زيد بن علي قد بايعه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة ، وخرج بهم على والي العراق وهو يوسف بن عمر الثقفي. قالوا له : إنّا ننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر بعد أن ظلما جدك علي ابن أبي طالب ، فقال زيد بن علي : لا أقول فيهم إلاّ خيراً وما سمعت من أبي فيهم إلاّ خيراً ، وإنّما خرجت على بني أُمية الذين قتلوا جدي الحسين وأغاروا على المدينة يوم وقعة الحرة ثم رموا بيت اللّه بالمنجنيق والنار ففارقوه عند ذلك حتى قال لهم : رفضتموني ومن يومئذ سمّوا رافضة (٣).

قال البزدوي : وإنّما سمّوا روافض لأنّهم وقعوا في أبي بكر وعمر فزجرهم زيد فرفضوه فسمّوا روافض (٤).

قال نشوان في شرح رسالة الحور العين : وسميت الرافضة من الشيعة ،

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٤٩٨.

٢ ـ لسان العرب : ٧ / ٤٥٧ ، مادة رفض.

٣ ـ الفرق بين الفرق : ٣٥ ، ولاحظ الروض النضير : ١ / ١٣٠.

٤ ـ البزدوي ، أُصول الدين : ٢٤٨.

٣٠٥

رافضة لرفضهم زيد بن علي بن الحسين وتركهم الخروج معه حين سألوه البراءة من أبي بكر وعمر فلم يجيبهم إلى ذلك ... (١).

نظرنا في الموضوع :

إنّ هذا الموضوع نقله الموَرخون وأرسله أصحاب المقالات وكتاب العقائد والمذاهب ، إرسال المسلّم ، ولكن لنا فيه ملاحظات نشير إليها :

١ ـ إنّ تسمية الشيعة بالرافضة لا تفارق التنابز بالألقاب المحرّم بنص الذكر الحكيم (٢) ولايصدر من إمام فقيه ورع مثل زيد خصوصاً أوان الثورة الذي هو أحوج في هذا الظرف ، إلى التآلف وتوحيد الكلمة ، وأظن أنّ القصة من أوهام حشوية المشارقة ، أو من صنايع نواصب المغاربة الذين كان لهم دور في عصر تدويـن التأريخ وتأليف الحديث(أيام المنصور ١٣٨ ـ ١٥٨ هـ) وبعدها فاختلقوها لتشويه سمعة الشيعة ونسبوها إلى أحد علماء أهل البيت عليهم‌السلام ليقع موقع القبول من الناس ، حتى أنّ المسكين « نشوان الحميري » لم يقتصر على ما ذكر وأردفه بأمر آخر وهو أنّ زيداً لمّا أحسّ أنّ السائلين بصدد نقض البيعة قال حدثني أبي عن جدي أنّه قال لعلي : « إنّه سيكون قوم يدعون حبّنا لهم نبز (٣) يعرفون به فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنّهم مشركون » اذهبوا فأنتم الرافضة ، ففارقوا زيداً عليه‌السلام فسمّاهم الرافضة فجرى عليهم الاسم (٤).

يلاحظ عليه : أنّه كيف اعتمد على ذلك الحديث ويلوح عليه أثر الوضع إذ أيّ صلة بين نقض البيعة أو عدم المشاركة في جهاد زيد ونضاله ، وبين كونهم

__________________

١ ـ شرح رسالة الحور العين : ١٨٤.

٢ ـ الحجرات : الآية ١١.

٣ ـ النبز : اللقب.

٤ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٣١.

٣٠٦

مشركين. هب أنّهم يكونون بذلك فاسقين لامشركين.

٢ ـ إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن إنساناً فارغاً عن كل عملٍ حتى يتحدث عن هوَلاء الذين لم يكن لهم دور في الأوساط الاِسلامية إلاّ لمحاً وأياماً قلائل فهذا الحديث وزان سائر الأحاديث التي حشاها الحشوية في كتبهم حول الفرق والمذاهب كالقدرية والمعتزلة والمرجئة وغيرهم ، بل كسائر الأحاديث الموضوعة حول محاسن أو مساوىَ الأئمّة الأربعة الفقهية التي استدل بها الموافق والمخالف لصالح إمامه أو لضد إمام الغير ، أعاذنا اللّه وإياكم من دسائس الدجالين.

٣ ـ إنّ السوَال عن الشيخين في ذلك الوقت العصيب مع كون المبايعين بين محبّ وغير محبّ ، بين من يراهما خليفتي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يراهما غير مستحقي هذا المقام ، سوَالُ من يريد تشتيت الأمر ، وإيجاد الفرقة بين المجاهدين في ساحة الحرب خصوصاً أنّ السوَال طرح عندما رأى أصحاب زيد بن علي أنّ يوسف بن عمر قد بلغه أمر زيد وأنّه يدس إليه ويبحث في أمره (١).

فاللائق بقائد محنّك مثل زيد هو التعتيم والكف عن الاِجابة ، ولو اضطر إليها لكان له أن يأتي بجمل متشابهة لا تخدش العواطف كما فعله جده الاِمام أمير الموَمنين عليهم‌السلام في حرب صفين عند تقارع السيوف واشتباك الأسنّة ، ففوجىء بمثل هذا السوَال ، حيث قام أحد أصحابه سائلاً ـ والمجاهدون فيها بين شيعة يرى الاِمام هو الاِنسان المنصوص عليه بالخلافة ، ومن يراه الخليفة الذي بايعه الناس ـ : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال عليه‌السلام :

يا أخا بني أسد ، إنّك لقلقُ الوضين ، ترسلُ في غير سدَد ، ولك بعدُ ذمامة الصهر وحقّ المسألة ، وقد استعلمت فاعلم.

أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ، ونحن الأعلون نسباً ، والأشدّون بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٤٩٩.

٣٠٧

نوطاً ، فإنّها كانت أثَرة شُحَّت عليها نفوس قومٍ ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم للّه والمعود (١) إليه يوم القيامة.

ودع عنك نهباً صيح في حجراته

ولكن حديثاً ما حديث الرواحل

وهلمّ الخطب في ابن أبي سفيان ، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه ، ولا غرو واللّه ، فياله خطباً يستفرغ العجب ، ويكثر الأود.

حاول القوم إطفاء نور اللّه من مصباحه ، وسد فوّاره من ينبوعه ، وجدحوا بيني وبينهم شرباً وبيئاً ، فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوي ، أحملهم من الحقّ على محضه ، وإن تكن الأخرى ، « فَلأ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون » (٢) (٣).

ترى أنّ الاِمام أوجز في الجواب وعطف نظر السائل إلى خطورة الموقف ولزوم الحرب مع ابن أبي سفيان ، قال ابن أبي الحديد : ولو أخذ الاِمام يصرح له بالنص ويعرفه تفاصيل باطن الأمر ، لنفر عنه ، واتّهمه ولم يقبل قوله ولم ينجذب إلى تصديقه ، فكان أولى الأمور في حكم السياسية وتدبير الناس أن يجيب بما لا نفرة منه ولا مطعن عليه فيه (٤).

وأين هو من الجواب المبسوط الذي أتى به زيد بن علي كأنّه يريد أن يدرس العقائد في ساحة الحرب. ونحن نجل قائدنا المحنك من الكلام الخارج عن طور البلاغة.

__________________

١ ـ المعود ـ بسكون العين وفتح الواو ـ كذا ضبطت في اللسان. وفي النهاية لابن الأثير : هكذا جاء « المعود » على الأصل ، وهو « مفعل » من عاد يعود ، ومن حقّ أمثاله أن تقلب واوه ألفاً ، كالمقام والمراح ، ولكنه استعمله على الأصل.

٢ ـ فاطر : ٨.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٦٣.

٤ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة : ٩ / ٢٥١ ، الخطبة : ١٦٣.

٣٠٨

٤ ـ أنّ عليـاً وأهل بيته مقتفون أثر فاطمة بنت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ الخلفاء ولا يصح لمن ينتمي إلى ذلك البيت أن يبوح بخلاف ما عليه أُمّهم وجدهم ، هذا الأمام البخاري يذكر موقف فاطمة من الخلفاء ويقول : أبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها (فدك وميراثها من النبي) شيئاً فوجدت (١) فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يوَذن بها أبا بكر وصلّى عليها (٢).

هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، روى الاِمام البخاري عن المسور بن مخرمة أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني (٣).

أفبعد هذين الحديثين هل يصحّ أن يترنّم ولد فاطمة بما نسب إليه؟!.

على أنّ المروي عن طريقنا عن سدير ما لا يلائم ذلك ، قال : دخلت على أبي جعفر ، ومعى سلَمة بن كهيل وأبو المقدام ثابت الحدّادوسالم بن أبي حفصة وكثير النوّاء ، وجماعة معه ، وعند أبي جعفر أخوه زيد بن علي فقالوا لأبي جعفر : نتولى علياً وحسناً وحسيناً ونتبرّأ من أعدائهم؟ قال : نعم ، قالوا : نتوّلى أبا بكر وعمر ونتبرّأ من أعدائهم؟ فالتفت إليهم زيد بن علي وقال : أتتبرّأون من فاطمة بتركم اللّه؟ بترتم أمرنا ، فيومئذ سموا البترية (٤).

وقد مضت أشعاره في ذلك في الفصل الثالث الخاص بخطبه وشعره.

٥ ـ أنّ ظاهر ما نقل عن زيد في هذا الموضع أنّه هو الذي ابتكر ذلك المصطلح وأطلقه على لفيف من الشيعة الذين رفضوه وتركوه في ساحة الحرب أو

__________________

١ ـ فوجدت : غضبت.

٢ ـ البخاري : الصحيح : ٥ / ١٧٧.

٣ ـ المصدر نفسه : ٥ / ٣٦ ، باب فضائل أصحاب النبي ، باب مناقب فاطمة.

٤ ـ الكشي : الرجال : برقم ١١٠ في ترجمة مسلمة بن كهيل.

٣٠٩

أنّه مما حدّث به النبي الأكرم علياً وهو حدّث أبناءه مع أنّ التاريخ يشهد بخلاف ذلك وأنّ كلمة (الرافضة) كانت كلمة سياسية تطلق على مخالف الدولة والحكومات الحاضرة من غير فرق بين علوي أو عثماني حتى أنّ معاوية بن أبي سفيان سمّى مخالفي علي عليه‌السلام رفضة ، وقد جاءت الكلمة في كلمات أبي جعفر الباقر قبل أن تكون لزيد فكرة الثورة أو نفسها وقد أتينا بماجاء حول الكلمة في الجزء الأوّل من هذا المشروع فلا نعيدها ، فلاحظ (١).

٦ ـ أنّ المنقول مسنداً عن طرقنا أنّه لم يذكرهما بخير في ذلك الموقف الرهيب (٢).

الكوفة في مخاض الثورة :

كان يوسف بن عمر عامل هشام في العراق ، وكان يسكن بالحيرة وهي بلدة بين الكوفة والنجف ، وخليفته في الكوفة هو الحكم بن الصلت ورئيس شرطه عمرو بن عبد الرحمن ، ومع ما كان لهم عيون وجواسيس لم يطلعوا على ما كان يجري في الكوفة وما والاها من العشائر ، وهذا يدل على حنكة الثائر حيث صانها من الفشل والتسرب إلى الخارج ، وقد كان التخطيط معجباً جداً ، حيث كان الناس يبايعون زيداً ولا يعرفون مكانه ، وذلك لأنّ معمر بن خثيم وفضيل بن الزبير يُدخلان الناس عليه وعليهم براقع لا يعرفون موضع زيد ، فيأتيان بهم من مكان لايبصرون شيئاً حتى يدخلوا عليه فيبايعون (٣).

كانت الثورة تستفحل إلى أن وافت رسالة هشام إلى عامله أطلعه على الأمر

__________________

١ ـ بحوث في الملل والنحل : ١ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

٢ ـ الخزاز القمي : كفاية الأثر : ٣٠٧ ، المجلسي : البحار : ٤٦ / ٢٠١ ح ٧٥.

٣ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٣٠.

٣١٠

وشتمه وسفّهه فيها بقوله : إنّك لغافل ، وجاء فيها أنّ رجلاً من بني أُمية كتب في ما ذكر إلى هشام يذكر له أمر زيد فكتب هشام إلى يوسف يشتمه ويجّهله ويقول : انّك لغافل وزيد عاوز ذنبه بالكوفة يبايع له فألجج في طلبه (١).

فكتب يوسف إلى الحكم بن الصلت وهو خليفته على الكوفة بطلبه ، فطلبه ، فخفي عليه موضعه ، فدس يوسف مملوكاً له خراسانياً ألكن ، وأعطاه خمسة آلاف درهم ، وأمره أن يلطف لبعض الشيعة فيخبره أنّه قد قدم من خراسان حباً لأهل البيت وأنّ معه مالاً يريد أن يقويهم به ، فلم يزل المملوك يلقى الشيعة ويخبرهم عن المال الذي معه حتى أدخلوه على زيد ، فخرج ، ودلّ يوسف على موضعه (٢).

وفي رواية أُخرى أنّه انطلق سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر فأخبره خبره ، وأعلمه أنّه يختلف إلى رجل منهم يقال له عامر ، وإلى رجل من بني تميم يقال له طعمة ابن أُخت لبارق ، وهو نازل فيهم ، فبعث يوسف يطلب زيداً في منزلهما ، فلم يوجد عندهما ، وأخذ الرجلان فأُتي بهما فلما كلّمهما استبان له أمر زيد وأصحابه وتخوف زيد بن علي أن يوَخذ فتعجل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة (٣).

ظلت الحكومة تفحص عن موضع زيد فلم تحصّله ، ولكن وقف على زمان تفجر الثورة وأنّه واعد أصحابه ليلة الأربعاء أوّل ليلة من صفر سنة ١٢٢ هـ.

الحيلولة بين الناس وزيد :

لما بلغ يوسف أنّ زيداً قد أزمع على الخروج في زمان محدود ، أراد فصل

____________

١ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٥٠٤.

٢ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٥٠٥.

٣ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٤٩٨.

٣١١

الناس عن زيد ، والحيلولة بين القائد والمقود.

قال الطبري : بعث يوسف بن عمر إلى الحكم بن الصلت فأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم يحصرهم فيه ، فبعث الحكم إلى العرفاء والشرط والمناكب والمقاتلة ، فأدخلهم المسجد ، ونادى مناديه : ألا إنّ الأمير يقول : من أدركناه في رحله فقد برئت منه الذمة ادخلوا المسجد الأعظم ، فأتى الناس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم. وطلبوا زيداً في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري ، فخرج ليلاً وذلك ليلة الأربعاء في ليلة شديدة البرد من دار معاوية بن إسحاق (١).

وقف زيد على أنّ العدو قد اطّلع على سره فظل يبحث موضعه ، وأنّه لو تأخر وأمهل في الخروج ربما كشف عن مخبأه ، فاستعد للقتال ، بإلقاء خطب تحث الأفراد ، للقيام ، وقد عرفت بعضها ونورد في المقام ما لم نذكره هناك :

خطبه في حث المبايعين على القتال :

قد نقل عن الاِمام الثائر خطب بليغة عند اشتعال الحرب.

١ ـ روي أنّه لمّا خفقت الرايات على رأسه قال : الحمد للّه الذي أكمل لي ديني بعد أن كنت أستحيي من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أرد عليه ولم آمر أُمّته بمعروف ولم أنه عن منكر (٢).

٢ ـ روى صاحب كتاب : « التقية والتقى » بإسناد إلى خالد بن صفوان ، قال : سمعت زيد بن علي يقول : أيّها الناس عليكم بالجهاد ، فإنّه قوام الدين

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٤٩٩.

٢ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٠٢.

٣١٢

وعمود الاِسلام ومنار الاِيمان ، واعلموا أنّه ما ترك قوم الجهاد قطّ إلاّ حقروا وذلوا ... ثم قرأ الفاتحة إلى قوله : « الصراط المستقيم » : وقال : الصراط المستقيم هو دين اللّه وسنامه وقوامه الجهاد ، ثم ذكر ما نزل من القرآن في فضل الجهاد من أول القرآن إلى آخره (١).

٣ ـ روى الاِمام المهدي في « المنهاج » والاِمام أبو طالب في « الأمالي » والسيد أبو العباس في « المصابيح » عن سعيد بن خثيم ، قال : إنّ زيداً عليه‌السلام كتَّب كتائبه فلمّا خفقت راياته رفع يديه إلى السماء ، فقال : الحمد للّه الذي أكمل لي ديني ، واللّه مايسرّني إنّي لقيت محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم آمر في أُمّته بالمعروف ولم أنههم عن المنكر ، واللّه ما أُبالي إذا أقمت كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أُجّجت لي نار ثم قُذِفْتُ فيها ، ثم صرتُ بعد ذلك إلى رحمة اللّه تعالى ، واللّه لا ينصرني أحد إلاّ كان في الرفيق الأعلى مع محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام.

ويحكم أما ترون هذا القرآن بين أظهركم ، جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن بنوه؟ يا معاشر الفقهاء ويا أهل الحجا أنا حجّة اللّه عليكم ، هذه يدي مع أيديكم على أن نقيم حدود اللّه ونعمل بكتاب اللّه ونقسم فيئكم بينكم بالسوية ، فسلوني عن معالم دينكم فإن لم أُنبئكم عما سألتم فولّوا من شئتم ممن علمتم أنّه أعلم مني ، واللّه لقد علمت علم أبي علي بن الحسين وعلم جدي الحسين وعلم علي بن أبي طالب وصي رسول اللّه وعيبة علمه ، وإنّي لأعلم أهل بيتي ، واللّه ما كذبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي ، ولا انتهكت محرماً للّه عزّ وجلّ منذ عرفت أنّ اللّه يوَاخذني (٢).

ومضى من طرقنا ما لا يجامع بعض ما ورد في هذه الخطبة فقد كان زيد

__________________

١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٠٦.

٢ ـ المصدر نفسه : ١ / ١٢٨.

٣١٣

معترفاً بأعلمية الاِمام الصادق عليه‌السلام فانتظر.

روى الاِمام المهدي في « المنهاج » ، وصاحب « المحيط » في كتابه ، والاِمام المرشد باللّه في « أماليه » عن محمد بن فرات ، قال : وقف زيد عليه‌السلام على باب الجسر وجاء إلى أهل الشام ، فقال لأصحابه : انصروني على أهل الشام فواللّه لا ينصرني رجل عليهم إلاّ أخذت بيده أُدخله الجنّة ، ثم قال : واللّه لو عملت عملاً هو أرضى للّه من قتال أهل الشام لأفعلنّه ، وقد كنت نهيتكم أن لاتتبعوا مدبراً ، ولاتجهزوا على جريح ، أو تفتحوا باباً مغلقاً ، فإن سمعتموهم يسبّون علي بن أبي طالب فاقتلوهم من كل وجه (١).

٤ ـ روى الاِمام المهدي والسيد أبو العباس الحسني وأبو طالب في « الأمالي » بالاِسناد إلى سهل بن سليمان الرازي عن أبيه ، قال : شهدت زيد بن علي عليه‌السلام يوم خرج لمحاربة القوم بالكوفة ، فلم أر يوماً قط كان أبهى ، ولا رجالاً كانوا أكثر قرّاء ، ولا فقهاء ولا أوفر سلاحاً من أصحاب زيد بن علي ، فخرج على بغلة شهباء وعليه عمامة سوداء ، بين يدي قربوس سرجه مصحف. قال : أيها الناس أعينوني على أنباط الشام ، فواللّه لا يعينني عليهم منكم أحد إلاّ رجوت أن يأتيني يوم القيامة آمناً ، حتى يجوز على الصراط ويدخل الجنّة ، واللّه ما وقفت هذا الموقف حتى علمت التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والحلال والحرام بين الدفتين (٢).

إنّ هذه الخطب تحكي عن روح ثورية وبطولة باهرة ، وتفانٍ في سبيل الحقّ ، غير أنّ بعض المغالين في حقّه أدخل في خطبه ما لا يدّعيه زيد ، ولا يصدقه أهل بيته. ومن المكذوب المنسوب إليه ما روي عن أبي الجارود أنّ زيداً قال :

__________________

١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٢٧.

٢ ـ المصدر نفسه : ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨.

٣١٤

سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني فإنّكم لن تسألوا مثلي ، واللّه لا تسألوني عن آية من كتاب اللّه إلاّ أنبأتكم بها ، ولاتسألوني عن حرف من سنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنبأتكم به ، ولكنكم زدتم ونقصتم ، وقدّمتم وأخرّتم ، فاشتبهت عليكم الأخبار (١).

إلفات نظر :

كيف يصدق ذلك الكلام وقد روى ابن عبد البر بإسناده إلى سعيد بن المسيب ، قال : ما كان أحد من الناس يقول سلوني ، غير علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢) قال العلامة المجلسي : أجمع الناس كلّ الصحابة ولا أحد من العلماء هذا الكلام (٣).

روى الأصبغ بن نباته قال : لما جلس علي عليه‌السلام في الخلافة وبايعه الناس خرج إلى المسجد متعمماً بعمامة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابساً بردة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، متنَعِلاً نعل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، متقلداً سيف رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصعد المنبر فجلس عليه متمكناً ثم شبّك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه ثم قال : « يامعاشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مازقّني رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زقّاً زقاً ، سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين ، أما واللّه لوثنيت لي وسادة فجلست عليها ، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول : صدق عليّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ ، وأفتيت أهل الاِنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الاِنجيل فيقول : صدق عليّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ ، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول : صدق علي ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ. وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً ، فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه؟ ولولا

__________________

١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٢٨.

٢ ـ الاستيعاب : ٣ / ٣٩.

٣ ـ المجلسي : البحار : ١٠ / ١٢٨.

٣١٥

آية في كتاب اللّه عزّ وجلّ لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي هذه الآية : « يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ وعِندَهُ أُمُّ الكِتاب ».

ثم قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لوسألتموني عن أيّة آية في ليل أُنزلت أو في نهار أُنزلت ، مكيّها ومدنيّها ، سفريّها وحضريّها ، ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم » (١).

* * *

ونزيد بياناً : كيف يصحّ لزيد ومن هو في درجته ومنزلته ، أن يدّعي أنّ عنده علم الكتاب والسنّة ، ولايشذّ عنه جواب سوَالٍ ، مع أنّه لم يدرس إلاّ عند أبيه الاِمام زين العابدين عليه‌السلام وكان له من العمر عندما توفي والده (٩٤ أو ٩٥ هـ) ما لا يتجاوز العشرين ، ولو أكمل دراسته عند أخيه الاِمام الباقر عليه‌السلام فليس هو بأرفع من أُستاذه الكبير الذي أطبق العلماء على أنّه كان يبقر العلم بقراً.

إنّ هذه الكلمة إنّما هي لمن كانت له تربية إلهية ، وتوعية غيبية ، تربى في أحضان الوحي ، فصار موضع سرّ النبي ، وعيبة علمه إلى أن بلغ شأواً يرى ما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسمع ما سمعه وليس هو إلاّ الاِمام أمير الموَمنين وسيد الوصيين علي ابن أبي طالب ، وهو يصف نفسه بقوله : « يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ، ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاِسلام غير رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة.

ولقد سمعت رنّة الشيطان ، حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يارسول اللّه ما

__________________

١ ـ المجلسي : البحار : ١٠ / ١١٧ ح ١ ، والآية ٣٩ من سورة الرعد.

٣١٦

هذه الرنّة؟ فقال : هذا الشيطان قد آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى إلاّ أنّك لست نبي ولكنك وزير وإنّك لعلى خير » (١).

ولم يكن زيد ، إلاّ محدِّثاً واعياً ، وفقيهاً بارعاً وله من العلم والفضل ، ما للطبقة العليا من تلاميذ أبيه وأخيه غير أنّ الذي رفعه ، وأخلد ذكره ، إنّما هو جهاده ونضاله ، وتفانيه في سبيل اللّه : « فضَّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجراً عَظِيماً » (٢) ، ولا صلة له بعلمه وفضله ، ولو قيس الحديث والفقه ، إلى ما روى عن الصادقين من العلوم والمعارف لعلم أنّ الأولى أن ينسب ذلك الكلام إلى الاِمامين لا إلى زيد ، ولكنّهما لم يبوحا بذلك أبداً.

تكتيب الكتائب والهجوم على الكوفة والحيرة :

غادر زيد ليلة الأربعاء ، دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري ، واستقر خارج الكوفة فأمر برفع الهرادي (٣) فيها فكلما أكل النار هردياً ، رفعوا آخر فما زالو كذلك حتى طلع الفجر فلما أصبح ، أمر بعض أصحابه النداء وبالشعار لغاية تقاطر المبايعين إلى النقطة التي استقر فيها لاِرسال الكتائب منها إلى الكوفة والحيرة ولفتح البلدين ، ومحاربة المانعين من أبناء البيت الأموي وأنصارهم ، فكان التخطيط تخطيطاً عسكرياً بارعاً لولا أن القضاء سبق التدبير ، وتسرب أسرار الثورة إلى الخارج ، وحالت العامل وخليفته ، بينه وبين وثوب الناس واجتماعهم لديه.

أصبح زيد وتعجب من قلة الحاضرين (٤) وقال : أين الناس ، فقيل له : هم

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة : برقم ١٩٢.

٢ ـ النساء : ٩٥.

٣ ـ القصب.

٤ ـ الحاضرون : حسب ما نقله الطبري كانوا مائتين وثمانية عشر رجلاً : التاريخ : ٥ / ٥٠٠.

٣١٧

في المسجد الأعظم محصورون ، فقال : لا واللّه ما هذا لمن بايعنا بعذر ، ولم يجد بداً من القتال بمن معه ، موطناً نفسه على الاستشهاد وقد ذكر الموَرخون كيفية قتاله وقتال أصحابه الموفين بعهدهم وبيعتهم ، وهم بين موجز في القول ومسهب في النقل ، ونحن نكتفي بنصوص ثلاثة :

١ ـ قال المسعودي : « مضى زيد إلى الكوفة وخرج عنها ومعه القرّاء والأشراف ، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي فلما قامت الحرب ، انهزم أصحاب زيد ، وبقي في جماعة يسيرة ، فقاتلهم أشد قتال وهو يقول متمثلاً :

أذل الحياة وعزّ الممات

وكلاً أراه طعاماً وبيلا

فإن كان لابد من واحد

فسيري إلى الموت سيراً جميلا

وحال المساء بين الفريقين فراح زيد مثخناً بالجراح وقد أصابه سهم في جبهته فطلبوا من ينزع النصل ، فأتى بحجام من بعض القرى فاستكتموه أمره فاستخرج النصل فمات من ساعته ، فدفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش ، وأُجري الماء على ذلك ، وحضر الحجام مواراته ، فعرف الموضع فلما أصبح مضى إلى يوسف متنصحاً ، فدلّه على موضع قبره ، فاستخرجه يوسف ، وبعث برأسه إلى هشام ، فكتب إليه هشام : أن أصلبه عرياناً ، فصلبه يوسف كذلك ، ففي ذلك يقول بعض شعراء بني أُمية يخاطب آل أبي طالب وشيعتهم من أبيات :

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة

ولم أر مهدياً على الجذع يصلب

وبنى تحت خشبته عموداً ، ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وذروه في الرياح (١).

__________________

١ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ٢٠٧.

٣١٨

هذا ما يذكره المسعودي الذي يذكر الأحداث على وجه الاِيجاز.

٢ ـ أنّ الطبري يذكر القصة ببسط وتفصيل ويذكر لزيد بطولات باهرة وأنّه دامت الحرب يومين (الأربعاء والخميس) وأنّه وصل بأصحابه إلى باب الفيل ، فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الأبواب ويقولون : يا أهل المسجد اخرجوا ، وجعل نصر بن خزيمة يناديهم ، ويقول : يا أهل الكوفة اخرجوا من الذل إلى العز ، اخرجوا إلى الدين والدنيا فإنّكم لستم في دين ولا دنيا ، فأشرف عليهم أهل الشام فجعلوا يرمونهم بالحجارة من فوق المسجد ... (١).

ولو صحّ ما ذكره الطبري وتبعه الجزري لزم أن يكون المتواجدون في معسكره أزيد مما ذكره.

٣ ـ وممّن لخّص الحادثة ولم تفته الاِشارة إلى دقائقها : الاِمام المنصور باللّه عبد اللّه بن حمزة في « الشافي » قال : « وكان ديوانه قد انطوى على خمسة عشر ألف مقاتل خارجاً عمن بايع من جميع أهل الأمصار وسائر البلدان ، ثم قال : ولمّا خرج عليه‌السلام خرج معه القرّاء والفقهاء وأهل البصائر قدر خمسة آلاف رجل في زيّ لم ير الناس مثله ، وتخلّف باقي الناس عنه ، فقال : أين الناس؟ قال : أُحتبسوا في المسجد ، فقال : لا يسعنا عند اللّه خذلانهم ، فسار حتى وصل إليهم وأمرهم بالخروج فلم يفعلوا. فقال نصر بن خزيمة :

يا أهل الكوفة اخرجوا من الذل إلى العز إلى خير الدنيا والآخرة ، وأدخلوا عليهم الرايات من طاقات المسجد فلم ينجح ذلك فيهم شيئاً.

وأقبلت جنود الشام من تلقاء الحيرة ، فحمل عليهم عليه‌السلام كأنّه الليث المغضب ، فقتل منهم أكثر من ألفي قتيل بين الحيرة والكوفة وأقام بين الحيرة

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٥٠١.

٣١٩

والكوفة ، ودخلت جيوش الشام الكوفة ففرق أصحابه فرقتين ، فرقة بأزاء أهل الكوفة وفرقة بأزاء أهل الحيرة ، ولم يزل أهل الكوفة يخرج الواحد منهم إلى أخيه والمرأة إلى زوجها ، والبنت إلى أبيها والصديق إلى صديقه ، فيبكي عليه حتى يرده فأمسى عليه‌السلام وقد رقّ عسكره وخذله كثير ممن كان معه ، وأهل الشام في اثني عشر ألفاً وحاربهم عليه‌السلام يوم الأربعاء ويوم الخميس وحمل عليهم عشية الخميس ، فقتل من فرسانهم زيادة على مائتي فارس ، وأُصيب عليه‌السلام آخر يوم الجمعة بنشابة في جبينه ، فحمل إلى دور « أرحب » و « شاكر » وجيء بطبيب نزع النصل ، بعد أن عهد إلى ولده يحيى بجهاد الظالمين ، ثم مات من ساعته ودفن في مجرى ماء وأُجري عليه الماء ، فأبصرهم غلام سنديّ ، فلما ظهر قتله وصاح صائح يوسف بن عمر بطلبه دلّ عليه ، فصلبوه في الكناسة وحرقوه بعد ذلك ، وخبطوه بالشماريخ والعثاكيل حتى صار رماداً ، وسفّوه في البر والبحر وذروه في الرياح ، فحرق اللّه هشاماً في الدنيا وله في الآخرة عذاب النار (١).

وقد بسط أبو الفرج الكلام في قتاله ونضاله وقال في آخر كلامه :

قال : وجعلت خيل أهل الشام لاتثبت لخيل زيد بن علي. فبعث العباس ابن سعد إلى يوسف بن عمر يعلمه ما يلقى من الزيدية وسأله أن يبعث إليه الناشبة فبعث إليه سليمان بن كيسان في القيقانية وهم نجارية وكانوا رماة فجعلوا يرمون أصحاب زيد. وقاتل معاوية بن إسحاق الأنصاري يومئذ قتالاً شديداً فقتل بين يدي زيد. وثبت زيد في أصحابه حتى إذا كان عند جنح الليل رُمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى فنزل السهم في الدماغ ، فرجع ورجع أصحابه ولايظن أهل الشام أنّهم رجعوا إلاّ للمساء والليل.

قال أبو مخنف : فحدثني سلمة بن ثابت وكان من أصحاب زيد وكان آخر

__________________

١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٣٣.

٣٢٠