بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

١

ثورة أهل المدينة

وإخراج عامل يزيد

لما ولي الوليد الحجاز أقام يريد غِرّة عبد اللّه بن الزبير فلا يجده إلاّ محترزاً ممتنعاً ، وثار نجدة بن عامر النخعي باليمامة حين قتل الحسين ، وثار ابن الزبير بالحجاز ... فعزل يزيد الوليد ، وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان فبعث إلى يزيد وفداً من أهل المدينة ، فيهم : عبد اللّه بن حنظلة ، غسيل الملائكة وعبد اللّه ابن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي ، والمنذر بن الزبير ورجالاً كثيراً من أشراف أهل المدينة ، فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم ، وأعظم جوائزهم فأعطى عبد اللّه بن حنظلة ، وكان شريفاً فاضلاً عابداً سيداً ، مائة ألف درهم ، وكان معه ثمانية بنين ، فأعطى كل ولد عشرة آلاف.

فلمّا رجعوا قدموا المدينة كلهم إلاّ المنذر بن الزبير فإنّه قدم العراق على ابن زياد وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف دينار ، فلمّا قدم أُولئك النفر الوفد ، المدينة قاموا فيهم فأظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ، ويضرب بالطنابير ، ويعزف عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسمر عنده الحراب وهم اللصوص وإنّا نشهدكم إنّا قد خلعناه.

وقام عبد اللّه بن حنظلة الغسيل فقال : جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلاّ

٢٤١

بنيّ هوَلاء لجاهدته بهم ، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت منه عطاءه إلاّ لأتقوّى به فخلعه الناس ، وبايعوا عبد اللّه بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولّوه عليهم (١).

ولما دخل عام ٦٣ هـ أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد ، وحصروا بني أُمية بعد بيعتهم عبد اللّه بن حنظلة ، فاجتمع بنو أُمية ومواليهم ومن يرى رأيهم في ألف رجل حتى نزلوا دار مروان بن الحكم فكتبوا إلى يزيد يستغيثون به فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه الكتاب وأمره أن يسير إليهم فردّ وقال : لا أُحب أن أتولّى ذلك.

وبعث إلى عبيد اللّه بن زياد يأمره بالمسير إلى المدينة ومحاصرة ابن الزبير بمكة فقال : واللّه لا جمعتهما للفاسق ، قتل ابن رسول اللّه وغزو الكعبة. ثم أرسل إليه يعتذر.

فبعث إلى مسلم بن عقبة المري ، وهو الذي سمّي مسرفاً ، وهو شيخ كبير فاستجاب ، فنادى في الناس بالتجهز إلى الحجاز ، وأن يأخذوا عطاءهم ومعونة مائة دينار ، فانتدب لذلك اثنا عشر ألفاً ، وخرج يزيد يعرضهم ، فأقبل مسلم إلى المدينة ودخل من ناحية الحرّة وضرب فسطاطه بين الصفين واقتتل الصفان قتالاً شديداً وانتهى الأمر ، إلى غلبة قوات الشام على أهل المدينة بعدما قتل من الطرفين أُناس كثير ، ولم يقتصر المسرف بذلك بل أباح المدينة ثلاثاً يقتلون الناس ويأخذون المتاع والأموال ... (٢).

__________________

١ ـ ابن الأثير الجزري : الكامل : ٤ / ١٠٣.

٢ ـ المصدر نفسه : ٤ / ١١١ ـ ١١٧ ، الطبري : التاريخ : ٤ / ٣٧٢ ـ ٣٨٠ ، موَسسة الأعلمي ـ بيروت.

٢٤٢

٢

ثورة عبد اللّه بن الزبير

عبد اللّه بن الزبير بن العوام ولد بعد الهجرة بعشرين شهراً ، وكان أبوه ابن عمة علي عليه‌السلام وهو ابن خاله ، وهو ممن سلّ سيفه يوم السقيفة لصالح علي وقال : لا أغمد سيفي حتى يبايع علي ، ولكن ـ وللأسف ـ كان ولده على الطرف النقيض من ذلك فهو كما قال علي عليه‌السلام : ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى نشأ عبد اللّه فأفسده (١) وهو الذي دفع أباه إلى محاربة الاِمام في وقعة الجمل بعد ما ندم وأراد التصالح والتراجع.

ومع هذا هو ممن اتخذ ثورة الاِمام حجّة على خروجه في وجه الحاكم الأموي وروى الطبري بسنده إلى عبد الملك بن نوفل قال : حدثني أبي : قال لما قتل الحسين عليه‌السلام قام ابن الزبير في أهل مكة وعظّم مقتله ، وعاب أهل الكوفة خاصة ولام أهل العراق عامة فقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه وصلّـى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أهل العراق غدر فجر إلاّ قليلاً ، وإنّ أهل الكوفة شرار أهل العراق وأنّهم دعوا حسيناً لينصروه ويولوه عليهم ، فلمّا قدم عليهم صاروا إليه ، فقالوا له : إمّا أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية ، فيمضي فيك حكمه وإمّا أن تحارب فرأى واللّه أنّه هو مقتول ولكنّه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة فرحم اللّه

__________________

١ ـ تنقيح المقال : ٢ / ١٨٤ ، مادة « عبد اللّه بن الزبير ».

٢٤٣

حسيناً ، وأخزى قاتل حسين ـ إلى أن قال : ـ أفبعد الحسين نطمئن إلى هوَلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهداً لا ولا نراهم لذلك أهلاً. أما واللّه لقد قتلوه ، طويلاً بالليل قيامه ، كثيراً في النهار صيامه ، أحقّ بما هم فيه منهم وأولى به في الدين والفضل.

أما واللّه ما كان يبدل بالقرآن ، الغناء ، ولا بالبكاء من خشية اللّه الحداء ، ولا بالصيام شرب الحرام ، ولا بالمجالس في حلَق الذِّكر الركض في تطلاب الصيد (يعرض بذلك يزيد) فسوف يلقون غياً.

فثار إليه أصحابه فقالوا له : أيها الرجل أظهر بيعتك فإنّه لم يبق أحد (إذ هلك حسين) ينازعك هذا الأمر وقد كان يبايع الناس سراً ويظهر أنّه عائذ بالبيت (١).

لما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ونهبها شخص بمن معه نحو مكة يريد ابن الزبير ومن معه ، واستخلف على المدينة رَوْح بن زِنباع الجُذاميّ ، وقيل : استخلف عمرو بن مخرمة الأشجعي ، فلمّا انتهى إلى المشلَّل نزل به الموت ، وقيل : مات بثنيّة هَرْشَى ، فلمّا مات سار الحصين بالناس فقدم مكة لأربع بقين من المحرم سنة أربع وستين وقد بايع أهلها وأهل الحجاز عبد اللّه بن الزبير واجتمعوا عليه ، ولحق به المنهزمون من أهل المدينة فحمل أهل الشام عليهم حملةً انكشف منها أصحاب عبد اللّه ، ثم نزل فصاح بأصحابه ، وصابرهم ابن الزبير إلى الليل ثم انصرفوا عنه.

هذا في الحصر الأوّل ثم أقاموا يقاتلونه بقية المحرم وصفر كلّه حتى مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأوّل سنة أربع وستين ، ولأجل القضاء على ابن الزبير

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ : ٤ / ٣٦٤ ، ابن الأثير : الكامل : ٤ / ٩٨ ـ ٩٩.

٢٤٤

المتحصن في المسجد الحرام رموا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار ، وكانت الحرب طاحنة إذ بلغهم نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر ولم يكن أمامهم إلاّ طريق واحد وهو الرجوع إلى الشام واختار الرجوع إليها (١).

كان ابن الزبير يسوس الحجاز والعراق وفيهما عماله إلى أن استولى عبد الملك على العراق عام إحدى وسبعين من الهجرة وانحصرت إمارة ابن الزبير بالحجاز وعند ذاك وجّه عبد الملك ، الحجاج بن يوسف الثقفي في ألفين وقيل في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال عبد اللّه بن الزبير ، وقدم مكة وحصر ابن الزبير والتجأ هو وأصحابه إلى المسجد الحرام ، ونصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة إلى أن خرج أصحابه إلى الحجاج بالآمان ، وقتل ابن الزبير يوم الثلاثاء من جمادي الآخرة عام ثلاث وسبعين من الهجرة (٢).

__________________

١ ـ ابن الأثير : الكامل : ٤ / ١٢٣ ـ ١٢٤ ، الطبري : التاريخ : ٤ / ٣٨١ ـ ٣٨٤.

٢ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٢٤ ، ابن الأثير : الكامل : ٤ / ٣٤٩ ـ ٣٥٦.

٢٤٥

٣

ثورة التوابين في الكوفة

إنّ ثورة أهل المدينة على عامل يزيد وإخراجه من المدينة ، وحركة ابن الزبير واستيلاوَه على الحجاز والعراق ، لم يكن ردّ فعل مباشر لقتل الحسين عليه‌السلام وإن كانا متأثرين من ثورته وحركته ، وهذا بخلاف حركة التوابين فقد كانت ردّ فعل مباشر لقتله ، حيث أحسّوا أنّهم قصّروا في حقّ إمامهم ، إذ دعاهم فلم يجيبوا ، وذلك عار عليهم. يتبعهم عذاب أليم ، وأنّه لا يغسل العار والأثم عنهم إلاّ بالثورة على قاتليه وعلى رأسهم ، النظام الحاكم.

يقول الطبري : « لما قتل الحسين بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة فدخل الكوفة ، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم ، ورأت أنّها قد أخطأت خطأ كبيراً ، بدعائهم الحسين إلى النصرة ، وتركهم إجابته ومقتله إلى جانبهم ، لم ينصروه ، ورأوا أنّه لا يُغسل عارهم والاِثم عنهم في مقتله إلاّ بقتل من قتله أو القتل فيه ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من روَوس الشيعة :

١ ـ سليمان بن صرد الخزاعي ، وكانت له صحبة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢ ـ المسيب بن نَجَبة الفزاري ، وكان من أصحاب علي عليه‌السلام وخيارهم.

٣ ـ عبد اللّه بن سعد بن نفيل الأزدي.

٤ ـ عبد اللّه بن وال التيميّ.

٥ ـ رفاعة بن شدّاد البجلي.

إنّ هوَلاء النفر الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد وكانوا من خيار

٢٤٦

أصحاب علي ومعهم أُناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم قال : فلمّا اجتمعوا إلى منزل سليمان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة القوم بالكلام وقال :

١ ـ قـد ابتلينا بطول العمر والتعرض لأنواع الفتن ، فنرغب إلى ربّنا ألاّ يجعلنا ممن يقول له غداً : « أوَلَم نُعَمِّركُم ما يَتَذَكَّرُ فِيه مَن تَذَكَّر وجاءَكُمُ النَّذِير » (١).

فإنّ أمير الموَمنين عليه‌السلام قال :

العمر الذي أعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستون سنة ، وليس فينا رجل إلاّ وقد بلغه وقد كنّا مغرمين بتزكية أنفسنا ، وتفريط شيعتنا حتى بلا اللّه أخيارنا فوجدنا كاذبين ، في موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه وقدمت علينا رسله ، وأعذر إلينا ، يسألنا نصره عوداً وبدءاً ، وعلانية وسرّاً فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قُتِل إلى جانبنا ، لا نحن نصرناه بأيدينا ، ولا جادلنا عنه بألستنا ولا قوّيناه بأموالنا ، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا ، فما عذرنا إلى ربّنا وعند لقاء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قُتِلَ فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله ، لا واللّه لا عذر دون أن تقتلوا قاتله ، والموالين عليه ، أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربّنا أن يرضى عنّا ذلك ، وما أنا بعد لقائه ، لعقوبته بآمن.

أيّها القوم ولّوا عليكم رجلاً منكم فإنّه لابد لكم من أمير تفزعون إليه ، وراية تحفون بها أقول قولي وأستغفر اللّه لي ولكم.

٢ ـ وتكلّم رفاعة بن شداد وقال : إنّ اللّه قد هداك لأصوب القول ودعوت إلى أرشد الأمور ، ودعوت إلى جهاد الفاسقين ، وإلى التوبة من الذنب العظيم ، فمسموع منك ، مستجاب لك ، مقبول قولك قلت : ولّوا أمركم رجلاً منكم ، تفزعون إليه ، وتحفون برايته وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت ، فإن تكن أنت

__________________

١ ـ فاطر : ٣٧.

٢٤٧

ذلك الرجل تكن عندنا مرضياً ، وفينا متنصّحاً وفي جماعتنا محباً ، وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولّينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذا السابقة والقدم ، سليمان بن صرد المحمود في بأسه ودينه ، الموثوق بحزمه.

ثم تكلّم كل من عبد اللّه بن وال ، وعبد اللّه بن سعد وتكلّما بنحو من كلام رفاعة بن شداد فذكرا المسيب بن نجبة بفضله ، وذكرا سليمان بن صرد بسابقته ورضاهما بتوليته.

٣ ـ تكلّم سليمان بن صرد وقال : فإنّي واللّه لخائف ألاّ يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة ، وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أُولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير ، إنّا كنّا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا ، ونمنِّيهم النصر ونحثهم على القدوم ، فلما قدموا ونَينا وعجزنا ، وأدهنّا وتربصنا وانتظرنا ما يكون ، حتى قتل فينا ، ولدينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه ، إذ جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يُعطاه ، إتخذه الفاسقون غرضاً للنبل ، ودريئة للرماح حتى أقصدوه ، وعدوا عليه فسلبوه. ألا انهضوا فقد سخط عليكم ربّكم ، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى اللّه ، واللّه ما أظنه راضياً دون أن تناجزوا مَنْ قتله أو تبيروا ، ألا لا تهابوا الموت فواللّه ما هابه امروَ قطّ إلاّ ذلّ ، كونوا كالاولى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم « إنَّكُمْ ظَلَمتُمْ أنْفُسَكُمْ باتّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فَاقتُلوا أنْفُسَكُمْ ذلكُمْ خَيرٌ لَكُمْ عِندَ بارِئِكُمْ » فما فعل القوم جثوا على الركب واللّه ومدّوا الأعناق ورضوا بالقضاء حتى حين علموا أنّه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلاّ الصبر على القتل ، فكيف بكم لو قد دعيتم إلى مثل ما دعي القوم إليه ، أشحذوا السيوف وركّبوا الأسنة وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل حتى تدعوا حين تدعوا وتستنفروا :

٤ ـ فقام خالد بن سعد بن نفيل فقال : أمّا أنا فواللّه لو أعلم أنّ قتلي نفسي

٢٤٨

يخرجني من ذنبي ويرضي عنّي ربّي لقتلتها ، ولكن هذا أُمر به قوم كانوا قبلنا ، ونُهينا عنه فأُشهد اللّه ومن حضر من المسلمين أنّ كلّ ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أُقاتل به عدوّي ، صدقة على المسلمين أُقوّيهم به على قتال القاسطين.

٥ ـ وقام أبو المعتمر حنش بن ربيعة الكناني فقال : وأنا أُشهدكم على مثل ذلك ، فقال سليمان بن صرد : حسبكم من أراد من هذا شيئاً ، فليأت بماله عبد اللّه ابن وال التيمي تيم بكر بن وائل ، فإذا اجتمع عنده كلّ ما تريدون إخراجه من أموالكم ، جهزنا به ذوي الخُلَّة والمسكنة من أشياعكم (١).

٦ ـ ثم أخذ سليمان بن صرد يكاتب وجوه الشيعة في الأطراف وكتب سليمان بن صرد : إلى سعد بن حذيفة اليمان (٢) يعلمه بما عزموا عليه ، ويدعوه إلى مساعدتهم ، ومن معه من الشيعة بالمدائن ، فقرأ سعد بن حذيفة الكتاب على من بالمدائن من الشيعة فأجابوا إلى ذلك فكتبوا إلى سليمان بن صرد يعلمونه أنّهم على الحركة إليه والمساعدة له.

وكتب سليمان أيضاً كتاباً إلى المثنّى بن مخربة العبدي بالبصرة مثل ما كتب إلى سعد بن حذيفة فأجابه المثنى : إننّا معشر الشيعة حمدنا اللّه على ما عزمتم عليه ، ونحن موافوك إن شاء اللّه للأجل الذي ضربت وكتب في أسفله أبياتاً (٣).

لم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس ـ في السر ـ إلى الطلب بدم الحسين فكان يجيبهم القوم بعد القوم ، والنفر بعد النفر ولم يزالوا على ذلك إلى أن هلك يزيد بن معاوية سنة أربع وستين.

فلمّـا مات يزيد جاء إلى سليمان أصحابه فقالوا : قد هلك هذا الطاغية ،

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ : ٤ / ٤٢٦ ـ ٤٢٨.

٢ ـ لاحظ نصّ الكتاب : تاريخ الطبري : ٤ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

٣ ـ ابن الأثير : الكامل : ٤ / ١٥٨ ـ ١٦٢ ، الطبري : التاريخ : ٤٣١.

٢٤٩

والأمر ضعيف فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث ، وكان خليفة ابن زياد على الكوفة ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبّعنا قتلته ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم ، المدفوعين عن حقهم.

فقال سليمان بن صرد : لاتعجلوا ، إنّي قد نظرت فيما ذكرتم فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه ، ومتى علموا ما تريدون كانوا أشدّ الناس عليكم ، ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ، ولم يشفوا نفوسهم ، وكانوا جَزَرَاً لعدوهم ولكن بثّوا دعاتكم وادعوا إلى أمركم هذا ، شيعتكم وغير شيعتكم فإنّي أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابة منهم قبل هلاكه ، ففعلوا واستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد ، وهم يريدون قتال أهل الشام الذين أقاموا دعائم عرش يزيد ، وعدم التعرض بمن في الكوفة من قتلة الحسين عليه‌السلام على جانب الخلاف من ثورة المختار.

مسير التوابين :

لما أراد سليمان بن صرد الخزاعي الشخوص سنة خمس وستين بعث إلى روَوس أصحابه فأتوه ، فلمّا أهلّ ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه وكانوا تواعدوا للخروج في تلك الليلة ، فلمّا أتى النخيلة دار في الناس فلم يعجبه عددهم فأرسل حكيم بن منقذ الكندي ، والوليد بن عصير الكناني في الكوفة فناديا : يالثارات الحسين فكانا أوّل (١) خلق اللّه دعوا يالثارات الحسين.

فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره ، ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفاً ممن بايعه فقال : سبحان اللّه ما وافانا من ستة عشر ألفاً إلاّ أربعة

__________________

١ ـ لقد سبق أنّه أوّل من دعا به ، هو امرأة من بني بكر بن وائل يوم عاشورا عند إضرام النار في الخيام.

٢٥٠

آلاف. فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث إلى من تخلف عنه فخرج إليه نحو من ألف رجل. ثم قام سليمان في أصحابه فقال : أيّها الناس من كان خرج ، يريد بخروجه وجه اللّه والآخرة فذلك منّا ، ونحن منه ، ومن كان يريد الدنيا فواللّه ما نأتي فيئاً نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان اللّه. فتنادى أصحابه من كل جانب : إنّا لا نطلب الدّنيا وإنّما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول اللّه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فسار سليمان عشية يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين فوصل دار الأهواز ، ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين فلمّا دخلوا صاحوا صيحة واحدة فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه ، وترك القتال معه ، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه ، وكان قولهم عند ضريحه : « اللّهمّ إرحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد المهدي ابن المهدي ، الصديق ابن الصديق ، اللّهمّ إنّا نشهدك إنّا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم ، وأولياء محبيهم. اللّهمّ إنّا خذلنا ابن بنت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاغفر لنا ما مضى ، منّا وتب علينا وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين وإنّا نشهدك أنّا على دينهم ، وعلى ماقتلوا عليه. وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين. وزادهم النظر إليه حنقاً.

ثم ساروا بعد أن كان الرجل يعود إلى ضريحه كالمودع له ، فازدحم الناس عليه أكثر من ازدحامهم على الحجر الأسود ، ثم أخذوا على الأنبار وكتب إليهم عبد اللّه بن يزيد كتاباً يثبطّهم عن السير إلى الشام وقتال العدو ولما وصل الكتاب إلى سليمان قرأه على أصحابه ، فكتب إليه جواباً ـ بعد أن شكره وأثنى عليه ـ : أنّ القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربّهم ، وأنّهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى اللّه وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى اللّه عليهم.

٢٥١

ثم ساروا حتى انتهوا إلى « قرقيسيا » على تعبئة وبها زفر بن الحارث الكلابي وقد فتح باب حصنه بعد ما عرف أن فيهم المسيّب بن نجبة فأخرج لهم سوقاً وأمر للمسيب بألف درهم وفرس ، فردّ المال وأخذ الفرس وقال : لعلّي أحتاج إليه إن عرج فرسي ، وبعث « زفر » إليهم ، بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق.

ثم ارتحلوا من الغد ، وخرج « زفر » يشيّعهم وقال لسليمان أنّه قد سار خمسة أُمراء من الرقة هم : الحصين بن نمير ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز ، وجبلة بن عبد اللّه الخثعمي ، وعبيد اللّه بن زياد ، في عدد كثير مثل الشوك والشجر ، ثم اقترح عليهم أن ينزلوا بديرهم حتى يكونوا يد واحدة على العدو الشاميين ، فإذا جاءنا هذا العدو ، قاتلناهم جميعاً. فلم يقبل سليمان وقال : قد طلب أهل مصر ذلك منّا فأبينا عليهم. ثم ساروا مجدّين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيّها وأقاموا خمساً فاستراحوا وأراحوا.

وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة ، فقام سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال : أمّا بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار ، فإذا لقيتموهم فأصدقوهم القتال واصبروا إنّ اللّه مع الصابرين ثم قال : إن أنا قتلت فأمير الناس مسيب بن نجبة ، فإن قتل ، فالأمير عبد اللّه بن سعد بن نفيل ، فإن قتل ، فالأمير عبد اللّه بن وال ، فإن قتل ، فالأمير رفاعة بن شداد ، رحم اللّه امرئاً صدق ما عاهد اللّه عليه.

كان أدنى عسكر من عساكر الشام هو عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع ، وكان على رأس ميل فسار المسيّب ومن معه مسرعين فأشرفوا عليهم وهم غارّون ، فحملوا في جانب عسكرهم فانهزم العسكر وأصحاب المسيب منهم رجالاً فأكثروا فيهم الجراح وأخذوا الدواب وخلّـى الشاميون عسكرهم وانهزموا ، فغنم منه

٢٥٢

أصحاب المسيّب ما أرادوا ثم انصرفوا إلى سليمان موفورين.

وبلغ الخبر ابن زياد فسرّح الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشر ألفاً ، فخرج أصحاب سليمان إليه لأربع بقين من جمادي الأولى ، وعلى ميمنتهم عبد اللّه بن سعد ، وعلى ميسرتهم المسيّب بن نجبة وسليمان في القلب ، وجعل الحصين على ميمنته جملة بن عبد اللّه (١) وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي فلمّا دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان ، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبد الملك وتسليم عبيد اللّه بن زياد إليهم وأنّهم يخرجون من بالعراق من أصحاب ابن الزبير ثم يرد الأمر إلى أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأبى كل منهم ، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين ، والميسرة أيضاً على الميمنة ، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم ، فانهزم أهل الشام إلى عسكرهم ، وما زال الظفر لأصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل.

فلمّا كان الغد صبّح الحصين جيش مع ابن ذي الكلاع ثمانية الآف ، أمدهم بهم عبيد اللّه بن زياد ، وخرج أصحاب سليمان فقاتلوهم قتالاً لم يكن أشد منه جميع النهار ، لم يحجز بينهم إلاّ الصلاة ، فلمّا أمسوا تحاجزوا وقد كثرت الجراح في الفريقين ، وطاف القصّاص على أصحاب سليمان يحرضونهم.

فلمّا أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف من ابن زياد ، فاقتتلوا يوم الجمعة قتالاً شديداً إلى ارتفاع الضحى ، ثم إنّ أهل الشام كثروهم وتعطفوا عليهم من كل جانب ، ورأى سليمان ما لقي أصحابه ، فنزل ونادى : عباد اللّه من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه فإلي. ثم كسر جفنة سيفه ونزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه ، فقاتلوهم ، فقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلمّـا رأى الحُصين صبرهم

__________________

١ ـ كذا في النسخة.

٢٥٣

وبأسهم ، بعث الرجّالة ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال ، فقتل سليمان ، رحمه‌الله ، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع.

فلمّا قُتل سلمان أخذ الراية المسيب بن نجبة وترحّم على سليمان ثم تقدّم فقاتل بها ساعة ثم رجع ثم حمل. فعل ذلك مراراً ، ثم قتل ، رحمه‌الله ، بعد أن قتل رجالاً.

فلمّا قتل أخذ الراية عبد اللّه بن سعد بن نفيل وترحّم عليهما ، ثم قرأ : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومنهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ وَما بَدَّلُوا تَبدِيلا ) وحفّ به من كان معه من الأزد. فبينما هم في القتال أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة ، يخبرون بمسيرهم في سبعين ومائة من أهل المدائن ، ويخبرون أيضاً بمسير أهل البصرة مع المثنى بن مخربة العبدي في ثلاثمائة ، فسرّ الناس فقال عبد اللّه بن سعد : ذلك لو جاءُونا ونحن أحياء.

فلمّا نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم ، وقتل عبد اللّه بن سعد بن نفيل ، قتله ابن أخي ربيعة بن مخارق ، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه فطعنه بالسيف ، واعتنقه الآخر فحمل أصحابه عليه فخلّصوه بكثرتهم وقتلوا خالداً ، وبقيت الراية ليس عندها أحد ، فنادوا عبد اللّه بن وال فإذا هو قد اصطلى الحرب في عصابة معه ، فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه ، فأتى فأخذ الراية وقاتل ملياً ثم قال لأصحابه : من أراد الحياة التي ليس بعدها موت ، والراحة التي ليس بعدها نصب ، والسرور الذي ليس بعده حزن ، فليتقرب إلى اللّه بقتال هوَلاء المحلّين ، والرواح إلى الجنّة ، وذلك عند العصر فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالاً وكشفوهم.

ثم إنّ أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه ، وكان مكانهم لا يوَتى إلاّ من وجه واحد ، فلما كان المساء تولى

٢٥٤

قتالهم أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله ، فوصل ابن محرز إلى ابن وال وهو يتلو : « ولا تَحْسَبَنَّ الّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أمْواتاً » الآية ، فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه ، فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال : إنّي أظنك وددت أنّك عند أهلك. قال ابن وال : بئس ما ظننت ، واللّه ما أحبّ أنّ يدك مكانها إلاّ أن يكون لي من الأجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري. فغاظه ذلك أيضاً ، فحمل عليه وطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول. وكان ابن وال من الفقهاء العبّاد.

فلمّا قتل أتوا رفاعة بن شداد البجليّ وقالوا : لتأخذ الراية. فقال : إرجعوا بنا لعلّ اللّه يجمعنا ليوم شرهم. فقال له عبد اللّه بن عوف بن الأحمر : هلكنا واللّه ، لئن انصرفت ليركبنّ أكتافنا فلا نبلغ فرسخاً حتى نهلك عن آخرنا ، وإن نجا منّا ناج أخذته العرب يتقرّبون به إليهم فقتل صبراً ، هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا ، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل ، ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه. فقال رفاعة : نعم ما رأيت ، وأخذ الراية وقاتلهم قتالاً شديداً ، ورام أهل الشام إهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدّة قتالهم ، وتقدّم عبد اللّه بن عزير الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير ، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلّم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة ، فعرضوا عليه الأمان ، فأبى ثم قاتلهم حتى قتل.

وتقدّم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال ، فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الأمان ، قال : قد كنّا آمنين في الدنيا وإنّما خرجنا نطلب أمان الآخرة ، فقاتلوهم حتى قتلوا وتقدّم صخر ابن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا.

فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم ، ونظر رفاعة إلى كل رجل قد

٢٥٥

عُقِربه فرسُه وجُرِح فدفعه إلى قومه ثم سار بالناس ليلته ، وأصبح الحصين ليلتقيهم فلم يرهم ، فلم يبعث في آثارهم ، وساروا حتى أتوا قرقيسيا فعرض عليهم زفر الاِقامة ، فأقاموا ثلاثاً ، فأضافهم ثم زودهم وساروا إلى الكوفة.

ثم أقبل سعد بن حذيفة بن اليمان في أهل المدائن فبلغ « هيت » فأتاه الخبر ، فرجع فلقي المثنى بن مخرَّبة العبدي في أهل البصرة بصندوداء ، فأخبره ، فأقاموا حتى أتاهم رفاعة فاستقبلوه ، وبكى بعضهم إلى بعض وأقاموا يوماً وليلة ثم تفرقوا ، فسار كل طائفة إلى بلدهم.

ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار محبوساً ، فأرسل إليه : أمّا بعدّ فمرحباً بالعصبة الذين عظّم اللّه لهم الأجر ، حين انصرفوا ورضي فعلهم حين قُتِلوا ، أما وربّ البيت ما خطا خاط منكم خطوة ، ولا ربا ربوة ، إلاّ كان ثواب اللّه له أعظم من الدنيا. إنّ سليمان قد قضى ما عليه ، وتوفّاه اللّه ، وجعل وجهه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون ، إنّي أنا الأمير المأمور ، والأمين المأمون ، وقاتل الجبارين ، والمنتقم من أعداء الدين ، المقيّد من الأوتار ، فأعدوا واستعدوا وأبشروا ، أدعوكم إلى كتاب اللّه ، وسنّة نبيه ، والطلب بدم أهل البيت ، والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين ، والسلام » (١).

هذه هي ثورة التوابين ، المشرقة ، وهممهم العالية ، وتفاديهم في سبيل الهدى ، وقد بُذل لهم الأمان فلم يقبلوا فقد : ( صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه ) (٢) فقد قاموا بواجبهم فما رجع منهم إلاّ قليل بعد اليأس من الغلبة على العدو فرجعوا إلى أوطانهم ولحقوا بعشائرهم وبذلك ابتغوا أنّ الوظيفة بعد باقية ، على عاتقهم.

وهناك كلمة قيمة للمحقّق شمس الدين نأت بها : « لقد اعتبر التوابون أنّ

__________________

١ ـ الجزري : الكامل : ٤ / ١٧٥ ـ ١٨٦.

٢ ـ الأحزاب : ٢٣.

٢٥٦

المسوَول الأوّل والأهم عن قتل الحسين عليه‌السلام هو النظام ، وليس الأشخاص وكانوا مصيبين في هذا الاعتقاد ولذا نراهم توجّهوا إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى من في الكوفة من قتلة الحسين عليه‌السلام (١).

إنّ هذه الثورة قد انبعثت عن شعور بالاِثم والندم ، وعن رغبة في التكفير فمن يقرأ أقوالهم وكتبهم وخطبهم ، يلمس فيها الشعور العميق بالاِثم والندم ، والرغبة الحارة عن التكفير ، وكونها صادرة عن هذه البواعث ، جعلها ثورة انتحارية فالثائرون يريدون الانتقام والتكفير ـ ومع ذلك ـ إنّها أثّرت في مجتمع الكوفة تأثيراً عميقاً فقد عبّأت خطبُ قادات هذه الثورة وشعاراتهم ، الجماهير في الكوفة للثورة على الحكم الأموي.

__________________

١ ـ محمد مهدي شمس الدين : ثورة الحسين : ٢٦٤.

٢٥٧

٤

ثورة المختار

المختار هو ابن أبي عبيدة بن مسعود بن عمرو بن عوف بن عبدة بن عوف ابن ثقيف الثقفي ، ولد عام الهجرة وقد جاء أبوه به إلى علي عليه‌السلام وهو صغير وأجلسه على فخذه وقال له وهو يمسح على رأسه : « ياكيّس! ياكيّس! » ولذا لُقّبَ بالكيسان (١).

إنّ ثورة المختار الثقفي من الثورات الانتقامية التي أثلجت قلوب بني هاشم إذ ما امتشطت هاشمية ولا اختضبت ، حتى أخذ المختار ثأر الحسين من قتلته ، ولما وقف الاِمام علي بن الحسين عليهما‌السلام على ما جرى على أعداء أبيه بيد المختار خرّ ساجداً وقال : الحمد للّه الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى المختار خيرا (٢).

وهناك سوَال يطرح نفسه وهو أنّ المختار كان من أهل الولاء لأهل البيت عليهم‌السلام فلماذا لم يُشارك في جيش الاِمام عليه‌السلام ولم يقاتل أمامه ولكن التاريخ يجيبك عن هذا السوَال ، وهو أنّ الرجل جاء لنصرة الاِمام لكن قبض عليه وحيل بينه وبين أُمنتيه.

__________________

١ ـ الكشي : الرجال : ١١٦.

٢ ـ المصدر نفسه.

٢٥٨

يذكر الموَرخون أنّ مسلم بن عقيل عليه‌السلام خرج قبل الأجل الذي كان بينه وبين أصحابه منهم المختار بن أبي عبيدة ، وكان في قرية تدعى « لقفا » فبلغه ما جرى على مسلم فجاء بمواليه إلى الكوفة يحمل راية خضراء ومعه عبد اللّه بن الحارث رافعاً لواء أحمر ، فانتهى إلى باب الفيل ووضح لديهما قتل مسلم وهانىَ وأُشير عليهما بالدخول تحت راية عمرو بن حريث ليسلما على دمهما ، ففعلا وحفظ دمهما ابن حريث بشهادته عند ابن زياد باجتنابهما مسلم بن عقيل ، فقبل منه بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر (١) عينه ، ثم أمر بهما فسجنا وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين عليه‌السلام فكتب المختار إلى عبد اللّه بن عمر ابن الخطاب وكان زوج أُخته (صفية) أن يشفع له عند يزيد بن معاوية ففعل وشفعه يزيد وأمر ابن زياد بإطلاقه من السجن بعد أن أجّله بالكوفة ثلاثاً ليخرج إلى الحجاز وإلاّ أعاده إلى السجن (٢).

خرج المختار إلى الحجاز وأقام هناك خمسة أشهر واجتمع مع ابن الزبير لخروجه على يزيد وكفاحه ضد الأمويين وهذه هي النقطة التي كان المختار وعبد اللّه بن الزبير وكثير من المعارضين يشتركون فيها حتى الخوارج. مكث عنده شهوراً وأياماً ولكن لم يجد بغيته فيه ، ومع ذلك كلّه قاتل الشاميين جنود الطاغية تحت راية عبد اللّه بن الزبير ، وهذا يدلّ على خلوصه في مكافحته الأمويين وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من بطولته وقتاله ضد الشاميين نقتطف منه ما يلي :

مكث المختار مع عبد اللّه بن الزبير حتى شاهد الحصار الأوّل حين قدم الحُصين بن النمير السكوني مكة فقاتل في ذلك اليوم ، فكان من أحسن الناس يومئذ بلاء وأعظمهم عناء ، ولما قتل المنذر بن الزبير والمسور بن مخرمة ومصعب بن

__________________

١ ـ شتر : قلب جفنه.

٢ ـ اليعقوبي : التاريخ : ٢ / ٢٥٨ ، ط دار صادر ـ بيروت ، الطبري : التاريخ : ٤ / ٤٤١ ـ ٤٤٢.

٢٥٩

عبد الرحمن بن عوف الزهري ، نادى المختار : يا أهل الاِسلام! إليّ إليّ أنا ابن أبي عبيد بن مسعود ، وأنا ابن الكرار لا الفرار ، أنا ابن المقدمين غير المحجمين. إليّ يا أهل الحفاظ وحماة الأوتار ، فحمى الناس يومئذ وأبلى وقاتل قتالاً حسناً ثم أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم أُحرق البيت ، فإنّه أُحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأوّل سنة ٦٤ هـ فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحواً من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد من الناس إن كان ليقاتل حتى يتبلّد ثم يجلس ويحيط به أصحابه ، فإذا استراح نهض فقاتل ، فما كان يتوجه نحو طائفة من أهل الشام إلاّ ضاربهم حتى يكشفهم (١).

وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من هذه البطولات أيّام إقامته في مكة مع ابن الزبير قبل مهلك يزيد وبعده.

مغادرته مكة إلى الكوفة :

ولما بلغ نعي يزيد إليه غادر مكة إلى الكوفة للطلب بدم شهيد الطف وإنّما اختار الكوفة لأنّ هناك مجتمع أنصاره وأعدائه ، ولما نزل الكوفة اجتمع حوله كثير من الشيعة ، يقول المسعودي : نزل ناحية من الكوفة وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم ، ويظهر الحنين والجزع لهم ويحثُّ على أخذ الثار فمالت إليه الشيعة وانضافوا إلى جملته (٢) ولما بلغ إلى ابن الزبير التفاف الشيعة حول المختار وأنّه بصدد الخروج أحسّ خطراً وأنّه سوف يخرج العراق من يده ، وقد كان العراق تحت قدرته ، فرأى أنّ التفاف الناس حول المختار يرجع إلى عدم كفاءة عامله ، فحاول إبداله بعامل آخر لم يكن في اللباقة أحسن منه فاستعمل عبد اللّه بن مطيع بالكوفة ، وكان قدومه في رمضان لخمس بقين منه ، ولما قدم صعد المنبر وخطبهم

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ : ٤ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

٢ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ٧٣ ـ ٧٤.

٢٦٠