بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

وما أحسن قول أخي الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول اللّه فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب فإنّك مقتول؟ فقال :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا مانوى حقاً وجاهد مسلما

و واسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وخالف مجرما

فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلم

كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما (١)

ما عشت أراك الدهر عجبا :

لا أظنّ من قرأ صحائف حياة الملك الأموي « هشام بن عبد الملك » يشك في أنّه كان دموياً سفّاكاً ، لا يرى لدم الاِنسان أيّة قيمة إذا ظنّ ولو واحداً بالمائة ، إنّه يريد خلافه ، وقتل زيد وصلبه وإبقاء جثمانه الطاهر على الخشبة أربع أو ست سنوات ، ثم حرقه ونسفه وذروه في الرياح والمياه ، دليل واضح على أنّ الرجل بلغ في القسوة غايتها.

ومع ذلك كله ترى أنّ ابن سعد جاء في الطبقات ما يضيق به الاِنسان ذرعاً يقول : أخبرنا محمد بن عمر قال : أخبرنا سحبل بن محمد قال : ما رأيت أحداً من الخلفاء أكره إليه الدماء ولا أشدّ عليه من هشام بن عبد الملك وقد دخله من مقتل زيد بن علي ويحيى بن زيد أمر شديد وقال : وددت أنّي كنت افتديتهما.

ثم ينقل عن أبي الزناد : ما كان فيهم أحد أكره إليه الدماء من هشام بن عبد الملك ولقد ثقل عليه خروج زيد بن علي ، فما كان شيء حتى أتى برأسه ، وصلب بدنه بالكوفة. ولي ذلك يوسف بن عمر في خلافة هشام بن عبد الملك (٢).

أقول : نعم ولي ذلك يوسف بن عمر لكن بأمر منه حتى أنّ عامله في

____________

١ ـ المفيد : الاِرشاد : ٢٢٥.

٢ ـ ابن سعد : الطبقات الكبرى : ٥ / ٣٢٦.

٢٢١

الكوفة والحيرة كان غافلاً عمّا يجري فيها من وثوب الناس على زيد ومبايعتهم له ، إلى أن كشف عنه هشام ، وأمره بما أمره.

روى أبو الفرج قال : لما قتل زيد رثاه الكميت بقصيدة هجا فيها بني أُمية يقول فيها :

فيا ربّ هل إلاّ بك النصر يُبتغى

وياربّ هل إلاّ عليك المعول

وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي ، والحسين بن زيد ويمدح بني هاشم فلما قرأها هشام بن عبد الملك أكبرها وعظمت عليه واستنكرها وكتب إلى خالد يُقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده ، فلم يشعر الكميت إلاّ والخيل محدقة بداره فأُخذ وحبس في المخيّس ... (١).

يقول ابن العماد الحنبلي في حوادث سنة ١٢٥ :

وفيها مات في ربيع الآخر ، الخليفة أبو الوليد هشام بن عبد الملك الأموي ، وكانت خلافته عشرين سنة إلاّ شهراً ، وكانت داره عند الخواصين بدمشق فعمل منها السلطان نور الدين مدرسة ، وكان ذا رأي وحزم وحلم وجمع للمال. عاش أربعاً وخمسين سنة ، وكان أبيض سميناً أحول ، سديداً حسن الكلام ، شكس الأخلاق ، شديد الجمع للمال قليل البذل ، وكان حازماً متيقّـظاً لايغيب عنه شيء من أمر ملكه ، قال المسعودي : كان هشام أحول ، فظّاً ، غليظاً ، يجمع الأموال ويعمّر الأرض ، ويستجيد الخيل ، وأقام الحلبة. اجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس ولم يعرف ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس ، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من الخيل واستجاد الكساء والفرش وعدد الحرب ، ولامتها ، واصطنع الرجال ، وقوّى الثغور واتّخذ القنى ، والبرك بمكة وغير ذلك من الآبار التي أتى عليها داود بن علي في صدر الدولة العباسية ، وفي أيامه عمل الحرز فسلك الناس جميعاً في أيامه مذهبه ، ومنعوا ما في أيديهم فقلّ الاِفضال وانقطع

__________________

١ ـ الأغاني : ١٧ / ٤.

٢٢٢

الرفد ولم ير زمان أصعب من زمانه.

ودخل هشام بستاناً له ومعه ندماوَه فطافوا به وفيه من كل الثمار ، فجعلوا يأكلون ويقولون : بارك اللّه لأمير الموَمنين فقال : وكيف يبارك لي فيه وأنتم تأكلونه ثم قال : أُدع قيّمه فدُعي به فقال له : أقلع شجره واغرس فيه زيتوناً حتى لا يأكل أحد منه شيئاً ، وكان أخوه مسلمة مازحه قبل أن يلي الأمر فقال له : ياهشام أتوَمل الخلافة وأنت جبان بخيل قال : أي واللّه العليم الحليم.

ومن نوادره ما روي أنّه تمادى في الصيد فوقع على غلام فأمر ببعض الأمر!!فأبى الغلام وأغلظ له في القول وقال له : لا قرب اللّه دارك ولا حيّا مزارك ـ في قصة طويلة فيها ـ أنّه أمر بقتله وقرب له نطع الدم فأنشأ الغلام يقول :

نبئت أنّ الباز علّق مرّة

عصفور برّ ساقه المقدور

فتكلّم العصفور في أظفاره

والباز منهمك عليه يطير

ما فيّ ما يغني لبطنك شبعة

ولئن أكلت فإنّني لحقير

فتعجّب الباز المدل بنفسه

عجباً وأفلت ذلك العصفور

فضحك هشام وقال : يا غلام أحش فاه دراً وجواهر (١).

أقول : إذا كان هذا أكره الخلفاء للدماء وأشدهم عليه فمن هو أحرصهم عليها وعلى إراقتها ، وكأنّي بشاعر المعرة يخاطب ابن سعد صاحب الطبقات ومن لفّ لفّه ويقول :

إذا وصف الطائي بالبخل مادر

وعيّر قساً بالفهاهة باقل

وقال السهى للشمس أنت خفية

وقال الدجى للصبح لونك حائل

وطاولت الأرض ، السماء ترفعاً

وفاخرت الشهب الحصى والجنادل

فياموتُ زُر إنّ الحياة ذميمة

ويانفس جدي ، إنّ دهرك هازلا

__________________

١ ـ عماد الدين الحنبلي : شذرات الذهب : ١٦٢ ـ ١٦٤.

٢٢٣
٢٢٤

الفصل الثالث عشر

الثورات الناجمة عن ثورة

الاِمام الحسين عليه‌السلام

١ ـ ثورة أهل المدينة ومأساة الحرة.

٢ ـ ثورة عبد اللّه بن الزبير في مكة المكرّمة أيام خلافة يزيد وبعدها.

٣ ـ ثورة التوابين المستميتين في الكوفة.

٤ ـ ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي.

٥ ـ ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أيام عبد الملك.

٢٢٥

أُباة الضيم وأخبارهم

قال ابن أبي الحديد :

سيد أهل الاِباء الذي علّم الناس الحميّة والموت تحت ظلال السيوف ، اختياراً له على الدنيّة ، أبو عبد اللّه الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام عُرِض عليه الأمان ، فأنِفَ من الذلّ ، وخاف من ابن زياد أن ينالَه بنوعٍ من الهوان ؛ إن لم يقتُله ، فاختار الموت على ذلك (١).

الثورات الناجمة عن ثورة الاِمام الحسين عليه‌السلام :

أرى أنّ اللازم قبل كل شيء تبيين جذور ثورة الاِمام زيد ، وما دفعه إلى الخروج وهل كان هناك حافز نفساني دفعه إلى القيام واكتساح الأشواك عن طريق الخلافة التي كان يتبنّاها ، أو كان هناك دافع خارجي يحضّه ويشوّقه إلى قبض الخلافة والزعامة ، أو لا هذا ولا ذاك بل كان مستلهماً من ثورة جده الاِمام الحسين عليه‌السلام وكانت ثورته استمراراً لثورته ، تلك الثورة التي أنارة الدرب لكل من يطلب الحقّ ويضحي في سبيله.

إنّ ثورة الحسين عليه‌السلام منذ تفجرها صارت أُسوة وقدوة للمضطهدين على وجه البسيطة ، والمعذبين تحت نير الطغاة ، وعلى المعانين من حكومات الجور والتعسف في الأوساط الاِسلامية وانحراف الدول والحكومات عن خط العدل والاقتصاد.

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٢٤٩.

٢٢٦

وقد لمس الثائرون أنّ ثورة الحسين عليه‌السلام كانت ثورة مبدئية إلهية ، لأجل صيانة الدين عن التحريف والمجتمع عن الانحراف والاعتساف ، فلأجل إيقاف القارىَ على مبادىَ ثورته وغاياتها نذكر الحافز أو الحوافز التي دفعت الاِمام الحسين عليه‌السلام إلى الثورة والتضحية بشيخه ، وكهله ، وطفله الرضيع ، حتى يتبين عمق الثورة وملامحها وآثارها. سلام اللّه عليه وعلى الثائرين المتأثرين التابعين لخطه.

الخصومة بين الحسين عليه‌السلام والحاكم الأموي كانت مبدئية :

كانت الخصومة بين الهاشميين والأمويين قائمة على قدم وساق منذ عصور قبل الاِسلام ، وكانت الخصومة عند ذاك تتسم بالقبلية وإن كان العداء السائد يتغذى من أُمور تمت إلى المعنوية والمثالية بصلة ، حيث إنّ الهاشمي كان عنوان الفضل والفضيلة ومثالاً للتقى على عكس ما كان أُمية وبنوه عليه ، فكانوا منغمرين في الانهيار الخلقي ، والانكباب على المادة والماديات وقد ألّف الموَرخ الشهير المقريزي كتاباً خاصاً أسماه بـ « النزاع والتخاصم بين بني أُمية وبني هاشم » نقتطف شيئاً قليلاً منه ، حتى يتبيّن أنّ التخاصم في ذلك العصر وإن كان متسماً بالنزاع القبلي ولكنه كان مبنياً على تمتع بني هاشم بنفسيات كريمة وروحيات طيبة حيث كانوا رافلين في حلل الفضائل والفواضل على جانب الخلاف مما كانت عليه بنو أُمية.

مناشدة هاشم وأُمية :

نافر أُمية هاشماً على خمسين ناقة سود الحدق ، تنحر بمكة وعلى جلاء عشر سنين وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي جد عمرو بن الحمق وكان منزله بعسفان وخرج مع أُمية أبو همهمة حبيب بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر

٢٢٧

ابن مالك الفهري ، فقال الكاهن : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ، وما بالجو من طائر وما اهتدى بعَلَم مسافر ، من منجد وغائر ، لقد سبق هاشم أُمية إلى المآثر أوّل منه وآخر ، وأبو همهمة بذلك خابر ».

فأخذ هاشم الاِبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر ، وخرج أُمية إلى الشام فأقام به عشر سنين فكان هذا أوّل عداوة وقعت بين بني هاشم وبني أُمية ، ولم يكـن أُمية في نفسه هناك وإنّما يرفعه أبوه وبنوه وكان مضعوفاً وكان صاحب عهار ، ويدلّ على ذلك قول نفيل بن عبد العزى جد عمر بن الخطاب حين تنافر إليه حرب بن أُمية وعبد المطلب بن هاشم فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدامه عليه وقال :

أبوك معاهر وأبوه عفّ

وذاد الفيل عن بلد حـرام

وذلك أنّ أُمية كان يعرض لامرأة من بني زهرة ، فضربه رجل منهم ، ضربة بالسيف وأراد بنو أُمية ومن تابعهم إخراج زهرة من مكة فقام دونهم قيس بن العدي السهمي وكانوا أخواله ... (١).

جاء نبي الاِسلام بدين سمح قد شطب على جميع ما كان في الجاهلية من أحقاد وضغائن ، وقال في خطبة حجّة الوداع : ألا كلّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع » (٢).

وبعد حروب ومعارك دامية قتلت فيها أبطال قريش وصناديدهم ، كما استشهد لفيف من المهاجرين والأنصار ، دخل بنو أُمية في حظيرة الاِسلام متظاهرين به ولكن مبطنين الكفر والنفاق شأن كل حزب منهزم أمام تيّار جارف ، فكانوا ينتهزون الفرص ليقضوا على الاِسلام باسم الاِسلام ، وعلى العدل والتقى

__________________

١ ـ النزاع والتخاصم بين بني أُمية وبني هاشم : ٢٠ ـ ٢١.

٢ ـ الصدوق : الخصال : ٤٨٧.

٢٢٨

باسم الخلافة عن رسول اللّه وقد ظهرت بوادر ذلك في مجلس الخليفة عثمان بن عفان عندما بويع من جانب شورى سداسية أشبه بمسرحية سياسية حيث دخل عثمان بيته ومعه بنو أُمية ، جالسين حوله ، يتبجحون بإناخة جمل الخلافة على بابهم ، وقد تلقاها رئيس القبيلة أبو سفيان إنّها إمرة سياسية أو سلطة بشرية وصلت إليهم ، وإنّه كان كذلك في عصر الخليفتين السابقين وحتى الرسول الأكرم وأنّه لم تكن هناك أية إمرة إلهية وخلافة دينية وليس هناك جنّة ولانار.

يقول أبو بكر الجوهري : إنّ أبا سفيان ، قال لما بويع عثمان : كان هذا الأمر في تيم ، وأنّى لتيم هذا الأمر. ثم صار إلى عدي فأبعد وأبعد ، ثم رجعت إلى منازلها ، واستقر الأمر قراره ، فتلقفوها تلقف الكرة.

وقال أيضاً : إنّ أبا سفيان قال لعثمان : بأبي أنت. أنفق ولا تكن كأبي حجر ، وتُداولوها يابني أُمية تداول الولدان الكرة ، فواللّه ما من جنةولا نار ، وكان الزبير حاضراً ، فقال عثمان لأبي سفيان : أُغرب ، فقال : يابني أهاهنا أحدٌ؟ قال الزبير : نعم واللّه لا كتمتها عليك (١).

أسّس عثمان حكومة أموية بحتة عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة فولاها الوليد بن عقبة وكان أخاً لعثمان من أُمّه ، كما أنّه عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر عام ٢٧ هـ ، واستعمل عليه عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح وكان أخاه من الرضاعة ، وهو ابن خال عثمان ، وأبقى معاوية على ولايته على الشام ولما كثرت الشكوى على عامله بالكوفة : الوليد بن عقبة ، عزله فولى مكانه سعيد بن العاص ، حتى قيل إنّ سبعاً وخمسين من ولاته وعماله الكبار كانوا من بني أُمية (٢).

إنّ هذه الحوادث المريرة وأضعافها التي حفظها التاريخ وجئنا بقليل منها

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح النهج : ٢ / ٤٥ نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري.

٢ ـ لاحظ : الدينوري : الأخبار الطوال : ١٣٩ ، ابن الأثير : الكامل : ٣ / ٨٨ ـ ٨٩ ، الطبري : التاريخ : ٣ / ٣٣٩ و ٤٤٥ وغيرها.

٢٢٩

في الجزء الخامس من هذه الموسوعة أغضبت جمهور المسلمين وأثارتهم ضد الخليفة حتى انتهت إلى قتله في داره ، والمهاجرون والأنصار ، بين مجهز عليه ، أو موَلّب ضده ، أو مستبشر بمقتله أو صامت رهين بيته محايد عن الطرفين (١).

قُتل عثمان بسيف مروان بن الحكم الذي سلّه عليه بأعماله المأساوية في بلاطه ، وجاء بعده الاِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام بإلحاح من الجماهير وبايعوه على أن يرد الاِسلام إلى عصر الرسول ، وقد امتنع في بدء الأمر عن قبول الخلافة وتزهد فيها كما تزهد في عصر الخلفاء ، غير أنّه لمّا تمت الحجّة عليه ورأى أنّ في التقاعس عن قبولها ضرراً على الاِسلام والمسلمين أخذ بزمام الخلافة بيد من حديد وقد خضعت له الأوساط الاِسلامية بعمالها وأُمرائها قاطبة إلاّ معاوية بن أبي سفيان ، فقد استمر على العناد ، واقفاً على أنّه لو بايع الاِمام للحقه العزل عن العمل ، ومصادرة الأموال الطائلة. فبقي على المخالفة وألّب بعض المهاجرين والأنصار على الاِمام حتى بايعهم خفاء إلى أن يبايعهم جلياً بعد سحب الاِمام عن ساحة الخلافة ، إلى أن آل الأمر إلى تأجيج نار حروب ثلاثة (الجمل وصفين والنهروان) قد عرفت تفاصيلها في الجزء الخامس ، فلو قتل في الجمل قرابة أربعة عشر ألف مقاتل من الطرفين ، أو قتل في صفين سبعين ألف مقاتل من العراقيين والشاميين ، أو نشبت حروب دامية بين أنصار علي والخارجين على بيعته ، طوال سنين ، فكلّها من جرائم وآثام ذلك الخلاف والعناد والخروج على الاِمام.

التحق الاِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام إلى الرفيق الأعلى وقتل بيد أشقى الأوّلين والآخرين عبد الرحمن بن ملجم عام أربعين ، ومعاوية بعدُ قابع على كرسيه ، وقد صفا له الجوّ برحيل علي عليه‌السلام فلم ير في الساحة إنساناً منافساً ولا مخالفاً سوى ، الحسن بن علي عليه‌السلام لأنّ الجماهير من المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع علي في العراق بايعوه بالخلافة والاِمامة ولكن معاوية خالفه ولم يبايعه كما

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ : ٣ / ٣٩٩.

٢٣٠

خالف أباه ولم يبايعه بل حاربه.

نشب الخلاف بين معاوية والحسن بن علي وانجر الأمر إلى تجنيد الجنود ونفرهم إلى ميادين الحرب وبعد حوادث مريرة رأى الاِمام الحسن عليه‌السلام أنّ الأصلح هو التنازل والتصالح تحت شروط ومبادىَ خاصة حفظها التاريخ ، ومن أهم الشروط التي وقَّع عليها كل من معاوية والحسن بن علي ، هو أنّه ليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً (١) ولكن معاوية لم يكن ممن يعتمد على قوله وعهده ولا على حلفه ويمينه.

إنّ معاوية من الفئة الذين يقولون ولا يفعلون وقد أظهر نواياه بعدما تم التصالح فقال : إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا انّكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وإنّي كنت منّيت الحسن أشياء وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي هاتين لا أفي بشيء منها له. (٢).

رجع الحسن بن علي إلى مدينة جده ، ومعه أخوه الحسين وبنو هاشم وكان يتجرع الغصص من آل أُمية طيلة حياته إلى أن سمّه معاوية بتغرير زوجته فوافاه الأجل عام خمسين من الهجرة النبوية ، وكان يضرب به المثل في الصبر والحلم. قال أبو الفرج : لما مات الحسن بن علي عليهما‌السلام وأخرجوا جنازته حمل مروان سريره ، فقال له الحسين عليه‌السلام : أتحمل سريره أما واللّه كنت تجرعه الغيظ ، فقال : مروان إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (٣).

لم يكن معاوية يجترىَ على نقض ما وقع من عدم العهد إلى أحد ما دام الحسن في قيد الحياة ، وكان يتحين الفرص لنقض العهد واليمين وقد نقض أكثر

____________

١ ـ ابن صباغ المالكي : الفصول المهمة : ١٦٣.

٢ ـ المفيد : الاِرشاد : ١٩١.

٣ ـ أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل ا ، لطالبيين : ٤٩ ، طبعة النجف الأشرف.

٢٣١

ما عهد ولم يبق إلاّ شيء واحد وهو أن لا يعهد إلى أحد وكان ولده يزيد أُمنيته وقرة عينه ، ولما مات الحسن رأى الجو صافياً ، فمهد الطريق لتنصيبه والياً من بعده ، وقد بذل في طريق أُمنيته أموالاً طائلة لأصحاب الدنيا من الصحابة والتابعين حتى أرضى طائفة بترغيبه ونقوده ، وطائفة أُخرى بتخويفه وترهيبه. نعم بقى هناك لفيف قليل اشتروا سخط المخلوق برضا الخالق فلم يبايعوه بل ثاروا عليه ووبخوا معاوية على نقض عهده ، منهم : أبو الشهداء الحسين بن علي فقد جاهر وطرد بيعته وذلك عندما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد فقام وحمد اللّه وصلى على الرسول ، فقال بعد كلام : « وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص. وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به ومن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السبق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصراً ، ودع عنك لما تحاول فما أغناك أن تلقى اللّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه » (١).

تسنم معاوية منصة الحكومة فكان يحكم كالقياصرة والأكاسرة إلى ان أدركته المنية عام ستين وجلس مكانه وليده وربيبه ، ونظيره في الخَلق والخُلق ، واهتز العالم الاِسلامي حينذاك حيث أحسّوا أنّ إنساناً خمِّيراً وسكّيراً لاعباً بالكلاب والقردة ، تصدى للاِمارة وفي الحقيقة للقضاء على الاِسلام والمسلمين باسم الخلافة عن النبي الأكرم ، فعند ذاك تمت الحجّة على الحسين بن علي عليه‌السلام فجاهر بالخلاف والصمود أمامه حيث تجسد في الزمان قول جده رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلاّ فعليه لعنة اللّه » (٢).

__________________

١ ـ ابن قتيبة : الاِمام والسياسية : ١ / ١٦٩.

٢ ـ الكليني : الكافي : ١ / ٥٤ ، ط الغفاري.

٢٣٢

وكان يزيد يحس بذلك عن كثب فكتب إلى عامله بالمدينة الوليد بن عقبة أن يأخذ الحسين بالبيعة له ، فلما اجتمع مع عامله فعرض عليه البيعة فرفض بعد جدال عنيف بحضور مروان بن الحكم ، وأصبح الحسين من غده يستمع الأخبار فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه ونصحه بالبيعة ليزيد فعندئذ ارتجّ الحسين وثارت ثورته وقال : « إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، وعلى الاِسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد » ، ثم قال : « يا مروان أترشدني لبيعة يزيد ، يزيد رجل فاسق لقد قلت شططاً من القول وزللاً ولا ألومك ، فإنّك اللعين الذي لعنك رسول اللّه وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص ، ومن لعنه رسول اللّه ، فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد ، إليك عني ياعدو اللّه فإنّا أهل بيت رسول اللّه ، الحقّ فينا ينطق على ألسنتنا وقد سمعت جدي رسول اللّه يقول : الخلافة محرمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول اللّه فلم يفعلوا به ما أُمروا فابتلاهم بابنه يزيد » (١).

دوافعه نحو الثورة :

هذه الكلمة المباركة من الحسين بن علي عليهما‌السلام في أعتاب تفجير الثورة تعرب عن أنّ خلافه مع يزيد لم يكن خلافاً قبلياً ولا استمراراً له ، وإنّما كان يثور عليه لأجل أنّ الحاكم يتّسم بمبادىَ هدامة للدين ، ولو أُتيحت له الفرصة لقضى على الاِسلام والمسلمين ، فلأجل ذلك قام عن مجلس الوليد ولم يبايعه وترك مدينة جده والتجأ إلى مكة المكرمة ، وليست هذه الكلمة كلمة وحيدة معربة عن نواياه وحوافزه التي دفعته إلى الثورة فكم لها من نظير في حياته.

وإليك كلمته الثانية عندما نزل منطقة البيضة من العراق واعترضه الجيش الأموي بقيادة الحر بن يزيد التميمي اليربوعي ، فقال واقفاً بعد أن حمد اللّه وأثنى

__________________

١ ـ الخوارزمي : مقتل الحسين : ١ / ١٨٤ ـ ١٨٥.

٢٣٣

عليه : « أيها الناس أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباد اللّه بالاِثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله » (١).

ترى أنّ الاِمام يعلل ثورته على يزيد في البيان الأوّل بأنّه رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة معلن للفسق ، وإن هذه الصفات لا تتفق مع شروط الخلافة كما أنّه يعلل ثورته في البيان الثاني بأنّه سلطان جائر ، مستحل لحرام اللّه ناكث لعهده ، مخالف لسنّة رسوله عامل في عباده بالاِثم والعدوان. كل ذلك يعرب عن أنّ ثورته لم تكن ثورة قبلية ولا عنصرية ، بل مبدئية بحتة.

وهناك للاِمام بيان ثالث ورابع وخامس و ... يعرّف موقفه من الحاكم الأموي ، يعرف دافعه إلى النضال والكفاح نأتي بثالثة :

كتب الاِمام إلى روَساء الأخماس والأشراف بالبصرة كتاباً جاء فيه : « وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه ، فإنّ السنّة قد أُميتت ، وإنّ البدعة قد أُحييت وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحقّ ، فاللّه أولى بالحقّ ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين » (٢).

وفي هذه المقتطفات من خطب ورسائل الاِمام أدلّة واضحة على أنّ الثورة لم تكن ثورة قبلية ولا عنصرية بل كانت ثورة دينية عقائدية بحتة ، وكان الدافع المهم للتضحية ترسيم خط الشهادة والفداء لكل من يطلب رضى الحقّ ، وبالتالي قطع

__________________

١ ـ ابن الأثير : الكامل : ٣ / ٢٨٠ ، الطبري : التاريخ : ٤ / ٣٠٠.

٢ ـ الخوارزمي : المقتل : ١ / ٨٨ ، الفصل ٩.

٢٣٤

جذور الشر وتحطيم قوى الكفر والمنكر ، وإن طال سنين ، وقد نجح الاِمام في ثورته هذه إلى أن انتهى الأمر إلى اجتثاث جذور بني أُمية عن أديم الأرض وغلق ملفهم بقتل حمارهم مروان عام ١٣٢ هـ. ق.

نجاح الاِمام الحسين عليه‌السلام في ثورته :

لقد درسنا الحافز أو الحوافز التي دفعت الاِمام إلى الثورة غير أنّه بقي هنا أن نتحدث عن نتائجها وعن عطائها ، إذ بالوقوف عليها يعلم أنّه كان في ثورته ناجحاً أو فاشلاً ، إنّ هناك من ينظر إلى ثورة الحسين من منظار سياسي ضيق أو مادي بحت أضيق ، فيظن أنّ ثورته كانت فاشلة حيث إنّ الاِمام استشهد ولم ينل الخلافة ، والمسلمون بقوا بعد الثورة على ما كانوا عليه قبلها ، فكان الاِرهاب والتشريد حليفهم ، وكانت الحكومة الأموية هي الحاكمة في البلاد الاِسلامية قرابة سبعين سنة.

هذا ما يتصوره بعض الكتاب في ثورة الحسين ، وكأنّ نجاح الثورة في منطقهم ، هو نجاحها في يومها أو بعد أيام ، وهذا الزعم من هوَلاء ناش من الجهل بالحقّ أو التجاهل به ، فلأجل قلع هذا التعتيم نركّز من عطاء الثورة في المقام على أمرين مهمين ونترك الباقي لأقلام الكاتبين في ثورة الحسين :

١ ـ إنّ الاِمام بتضحية نفسه ونفيسه ، أعلم الأمّة فظاظة الأمويين وقسوة سياستهم ، وابتعادهم عن الناموس البشري فضلاً عن الناموس الديني وتوغلهم في الغلظة الجاهلية ، وعادات الكفر الدفين.

ثار في وجه الحكم السائد ليُعلم الملأ الديني أنّهم لم يوقروا كبيراً ولم يرحموا صغيراً ، ولم يرقبوا على رضيع ولم يعطفوا على امرأة فقدّم إلى ساحات المفاداة ، أغصان الرسالة وأوراد النبوة ، وأنوار الخلافة ، ولم تبق جوهرة من هاتيك الجواهر

٢٣٥

الفريدة ، فلم يعتم هو ولا هوَلاء إلاّ وهم ضحايا في سبيل تلك الطلبة الكريمة.

سل كربلا كم من حشاً لمحمّدٍ

نهبت بها وكم استجذت من يد

أقمار تمٍّ غالها خسف الردى

وانثالها بصروفها الزمن الردي (١)

٢ ـ لم يكن الحسين عليه‌السلام يطلب ملكاً عضوضاً ولا سلطة بشرية وإنّما يطلب إيقاظ الأمّة بواجبه الحتمي ، وما هو إلاّ إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكأنّ الأمّة نسيت ذينك العمادين وذلك لعوامل خلفت رفض ذينك الأمرين المهمين.

كانت الأمّة تعيش بين الترغيب والترهيب فصارت محايدة عن كل عمل إيجابي يغير الوضع الحاضر وهم بين راضٍ بما يجري ، وبين مبغض صامت ، يترك الأمر إلى اللّه تبارك وتعالى ، فكانت القلوب مشفقة والأيدي مغلولة وعلى الألسن أُوكية.

وكيف يصح لمسلم واع ، التساهل أمام عربدة يزيد بالكفر الصريح في شعره ونثره ، وإنكار الوحي والرسالة وهذا هو التاريخ يحكي لنا : أنّه لما ورد على يزيد نساء الحسين وأطفاله ، والروَوس على الرماح وقد أشرفوا ثنيّة جيرون نعب الغراب فأنشأ يزيد يقول :

لما بدت تلك الحمول وأشرقت

تلك الشموس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت صح أو لاتصح

فلقد قضيت من الغريم ديوني (٢)

يعني أنّه قتل بمن قتل رسول اللّه يوم بدر كجده عتبة وخاله وليد بن عتبة ، وغيرهما وهذا كفر صريح لا يلهج به إلاّ المنكر للرسالات والنبوات ورسالة سيد الرسل.

__________________

١ ـ الأميني : الغدير : ٣ / ٢٦٤.

٢ ـ ابن الجوزي : تذكرة الخواص : ٢٣٥.

٢٣٦

ولم يقتصر بذلك بل أخذ ينشد شعر ابن الزبعرى حين حضر رأس الحسين بين يديه وقال :

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا قتل بدر فاعتدل

فأهلوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا يايزيد لاتشل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحيٌ نزل (١)

وليس ذلك ببعيد عن ابن معاوية فإنّ أباه كان يشمئز من سماع الشهادة الثانية على رسالة محمد فكان يقول : للّه أبوك يا ابن عبد اللّه لقد كنت عالي الهمة ما رضيت لنفسك إلاّ أن تقرن اسمك مع اسم ربّ العالمين (٢).

ولما قال له المغيرة بن شعبة : لقد كبرت فلو أظهرت عدلاً لاِخوانك من بني هاشم فإنّه لم يكن عندهم شيء تخافه قال : هيهات مَلِكَ أخو تيم ، وفعل ما فعل ، فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي ، فاجتهد وشمر فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان ، فعمل ما عمل فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عثمان.

وانّ أخا هاشم يصرخ باسمه في كل يوم خمس مرات : أشهد أن محمداً رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأي عمل يبقى مع هذا لا أُم لك واللّه إلاّ دفنا دفنا.

__________________

١ ـ البيتان الأوّلان لابن الزبعرى ، والثلاثة الأخيرة ليزيد ، لاحظ تذكرة الخواص : ٢٣٥.

٢ ـ شرح النهج الحديدي : ٢ / ٥٣٧.

٢٣٧

ولمّا سمع المأمون بهذا الحديث كتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر فأعظم الناس ذلك وأكبروه واضطربت العامة فأُشير عليه بالترك فأعرض عما كان عليه (١).

فلما قام الحسين في وجه الحكومة بأولاده وأصحابه القليلين ، فقد نفث في جسم الأمّة روح الكفاح والنضال وحطمت كل حاجز نفسي واجتماعي كان يوقفهم عن القيام ، وأثبت أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الظروف الحرجة ليس رهن العِدّة والعُدّة بل إذا حاق الخطر بالأمّة من ملوكها وأمرائها وزعمائها وأصبحوا يسوقون الناس بأفعالهم وأعمالهم ، والمجتمع إلى العيش الجاهلي ، وجب على الموَمن الاستنكار بقلبه ولسانه ويده فكان في قيامه تحطيم السدود المزعومة الممانعة عن القيام بالفريضة ، ولأجل ذلك استتبعت ثورته ، ثورات عديدة تترى من غير فرق بين من ثار وهو على خط الاِمام وبين من ثار في وجه الطغمة الأموية ولم يكن على خطه وفكره ولكن الكل كانوا مستلهمين من تلك الثورة العارمة ، ولولا حركة الحسين عليه‌السلام لما كان لهذه الحركات أيّ أثر في المجتمع الاِسلامي ، وإن كنت في ريب من ذلك فعليك بدراسة الثورات المتتابعة بعد قيامه ونهضته.

قضى الاِمام نحبه في اليوم العاشر من محرم الحرام عام ٦١ هـ والرضاء بقضاء اللّه وقدره بين شفتيه (٢) وهو ظمآن لم يشرب الماء منذ ثلاثة أيام ، والفرات يموج بمياهه وحيتانه « سبيل على الرواد منهله العذب » دون الحسين وأولاده وأصحابه حتى يموتوا عطشى. ولم يقتصر عدوّه الغاشم بقتله حتى همّ

__________________

١ ـ مروج الذهب : ٢ / ٣٤٣. آخر أخبار المأمون.

٢ ـ قال عليه‌السلام وهو طريح مصرعه : « رضاءً بقضائك ، وتسليماً لأمرك ، لا معبود سواك ، ياغياث المستغيثين ».

٢٣٨

برضِّ صدره وظهره بالخيل ، ليقضي بذلك على جسم الاِمام كلّه. لكنّه فاته أنّ شهداء طريق الحقّ ، أحياء عند ربّهم يرزقون ، أحياء بين الشعوب الحية ، وأنّه سوف ينقلب الأمر لصالح الاِمام وضد العدو حتى في اليوم الذي قضى عليه وأنّه عليه‌السلام سيجعل من أعدائه الذين وجهوا إليه سيوفهم ورماحهم ، أنصاراً صامدين ، وثواراً مناضلين.

روى الموَرخون : لما قتل الحسين وتسابق العسكر إلى نهب خيام آل الرسول ونهبوا ما فيها أولاً ، وأضرموا النار ثانياً وبنات الزهراء حواسر مسلبات ، باكيات فنظرت امرأة من آل بكر بن وائل ، كانت مع زوجها ، إلى بنات رسول اللّه بهذا الحال فصاحت : يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول اللّه لا حكم إلاّ للّه ، يالثارات رسول اللّه فردها زوجها إلى رحله (١).

كان ذلك الهتاف من ذلك الوقت ، نواة للثورة على العدو ، وإن لم يشعر به العدو ، واكتفى بجرها إلى رحله.

كان الحسين فاتحاً في نهضته ، إذ لم يكن يتبنّى شيئاً سوى إيقاظ شعور الأمّة بلزوم القضاء على دعاة الضلال ، وكسح أشواك الباطل ، عن طريق الشريعة ، وتعريف الملاء بالذين هم الأحق بالخلافة والقيادة.

إنّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام غذّوا الأمّة بتحريضهم على عقد المحافل والمجالس لذكر حادثة الطف ، وما جرى على الحسين من مصائب تدك الجبال الرواسي ، وتذيب القلوب القاسية وقد اتخذوا أساليب مختلفة في إحياء حديث الطف بتشكيل أندية العزاء في بيوتهم تارة ، ودعوة الناس إليها ثانياً ، فقال الاِمام الباقر عليه‌السلام « رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا » (٢) فكان لتلك

__________________

١ ـ ابن نما : مثير الأحزان : ٤ ، ابن طاووس : اللهوف : ٧٤.

٢ ـ المجلسي : البحار : ٧٤ / ٣٥٤ ح ٣١.

٢٣٩

الذكريات أثراً باهراً في تخليد الثورة في نفوس الأمّة حتى اتخذه الأحرار مقياساً للسير في ضوئه مصباحاً وإليك نزراً يسيراً من الثورات التالية لثورة الاِمام عليه‌السلام.

٢٤٠