بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٠٤

١

٢

٣

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه وآله

وعلى رواة سنته وحملة أحاديثه وحفظة كلمه

٤

الحمد للّه الّذي علا بحوله ، ودنى بطوله ، والصلاة والسلام على سيّد رُسله وخاتم أنبيائه ، الذي بعثه لإنجاز عدته ، وإتمام نبوّته ، وعلى آله الّذين هم موضع سرّه ، وملجأ أمره ، وعيبة علمه ، وموئل حكمه ، صلاة دائمة مادام الفرقدان ، وكرّ الجديدان.

أمّا بعد : فهذا هو الجزء السادس من موسوعتنا في دراسة تاريخ المذاهب الإسلامية وقد درسنا الفِرَق المشهورة ، ولم تبق إلاّ الشيعة بفرقها الثلاث المنتشرة في العالم : الإمامية ، والزيدية ، والإسماعيلية.

نسأل اللّه سبحانه أن يوقّفنا في دراسة مذهب الشيعة ، الّذين جنى عليهم كثير من المؤرخين وكتّاب المقالات والفرق ، وكتبوا عنهم أشياءً كثيرة هم برآء منها. ولم يرجعوا عند البحث عن عقائد هذه الفرقة إلى مؤلّفاتهم وكتبهم وآثارهم ، وإنّما اعتمدوا على أفواه الرجال ونقلة الأخبار ، فصاروا كحاطب ليل يجمع في حزمته كلّ رطب ويابس ، والحقّ كما يقول بعض الأساتذة : « إنّه تطوّر كلّ شيء إلاّ الكتابة عن الشيعة ، ولكلّ بداية نهاية إلاّ الافتراء على الشيعة ، ولكلّ حكم مصدره ودليله إلاّ الأحكام على الشيعة » (١).

__________________

١ ـ عبداللّه بن سبأ ١ / ٩ ( مقدمة الطبعة الثالثة بقلم الاُستاذ المغفور له محمّد جواد مغنية ).

٥

ونشكر القرّاء الكرام الذين شجّعونا برسائلهم على مواصلة بحث ودراسة هذه المواضيع الهامّة في تاريخ اُمّتنا المجيدة ، ونتقدّم بالشكر إلى العلماء الذين يقدّمون لنا النقد البنّاء ، فإنّ العصمة للّه ولمن عصمه.

قم ـ جعفر السبحاني

٢٨ شعبان المعظم ١٤١٢ هـ

٦

الشيعة لغةً واصطلاحاً

الشيعة لغة هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم ، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا ، وربّما يطلق على مطلق التابع ، قال سبحانه : ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ ) (١) وقال تعالى : ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْراهيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم ) (٢) فالشيعة هم الجماعة التابعة لرئيس لهم.

وأمّا اصطلاحاً فلها إطلاقات عديدة بملاكات مختلفة :

١ ـ الشيعة : من أحبّ عليّاً وأولاده باعتبارهم أهل بيت النبىّ الذين فرض اللّه سبحانه مودّتهم قال عزّوجلّ : ( قُلْ لا أسْئَلُكُم عَلَيْهِ أَجْرَاً إلاّ المَوَدَّةَ فِى القُربَى ) (٣) والشيعة بهذا المعنى تعمّ كلّ المسلمين إلاّ النواصب ، بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم وآله في صلواتهم وأدعيتهم ويتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً ومساءً ، وهذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله :

__________________

١ ـ القصص / ١٥.

٢ ـ الصافّات / ٨٣ ـ ٨٤.

٣ ـ الشورى / ٢٣.

٧

يا أهلَ بيتِ رسولَ اللّهَ حبُّكُم

فَرضٌ من اللّهِ في القرآن أنْزله

كَفاكُمُ من عَظيم الشّأن أنّكمُ

من لم يُصلِّ عليكم لا صلاة لَهُ (١)

وأمّا النواصب فهم الذين نصبوا لعلي وأهل بيته العداء وتلقّوه فريضة دينية وأعانهم على ذلك مرتزقة أصحاب البلاط ، وترجع جذور هذه الفكرة إلى معاوية حيث سنّ سبّ علىّ على المنابر وتبعه أولاده وعشيرته إلى أواخر الدولة الأموية ، وكتب ابن أبي سفيان إلى عمّاله في جميع الآفاق : « اُنظروا إلى من اُقيمت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه » ثمّ كتب نسخة اُخرى إلى عمّاله وشدّد الأمر فيها وقال : « من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به وأهدموا داره ».

وعلى هذا المنشور قام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يَلعَنون عليّاً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ... (٢).

٢ ـ من يفضّل عليّاً على عثمان أو على الخلفاء عامّة مع اعتقاده بأنّه رابع الخلفاء وإنّما يقدّم لاستفاضة مناقبه وفضائله عن الرسول الأعظم ، والّتي دوّنها أصحاب الحديث في صحاحهم ومسانيدهم وهي تُلزم الإنسان الاعتقاد بأنّه أفضل الصحابة ، وعلى ذلك معتزلة بغداد وقليل من أهل الحديث ، وعلى ذلك الاصطلاح جرى أكثر من كتب في الرجال والتراجم والمقالات حيث يصفون قليلاً من الصحابة وكثير أمن التابعين بأنّه يتشيّع أو أنّه شيعي ، وربّما يعدّونه من أسباب الجرح وكأنّ حبّ أهل البيت عمل اجرامي أو أنّ تقدّم الخلفاء على عليّ أصل من اُصول الدين لا يجوز تجاوزه ، مع أنّ الإمامة من الفروع عند أهل السنّة فكيف درجات الخلفاء ورتبهم.

وربّما يختلط الأمر على من ليس له إلمام بالاصطلاح ، فلا يفرّق بينهما ،

__________________

١ ـ الصواعق ١٤٨ ط ١٣٨٥ الطبعة الثانية.

٢ ـ وسيوافيك مصدره وبيان عداء ابن أبي سفيان للإمام وعترته وشيعته.

٨

وأكثر من يستعمل هذا الاصطلاح هو الذهبي في « ميزان الاعتدال » و « سير أعلام النبلاء » فيصف بعض التابعين والمحدّثين بالتشيّع ملمّحاً بذلك إلى ضعفهم ، وقد رُمي أبو عبداللّه الحاكم النيسابوري بالتشيّع كمعتزلة بغداد ، والمقصود تفضيلهم عليّاً على سائر الخلفاء لا أنّه الإمام المنصوص بالخلافة.

٣ ـ الشيعة : من يشايع عليّاً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول وأئمّة الناس بعده ، نصبهم لهذا المقام بأمر من اللّه سبحانه ، وذكر أسماءهم وخصوصيّاتهم ، والشيعة بهذا المعنى هو المبحوث عنها في المقام ، وقد اشتهر بأنّ عليّاً هو الوصي حتّى صار من ألقابه ، وذكره الشعراء بهذا العنوان في قصائدهم (١) وهو يقول في بعض خطبه :

« لا يقاس بآل محمّد من هذه الاُمّة أحد ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ... » (٢).

ومجمل القول : إنّ هذا اللفظ يشمل كل من قال : انّ قيادة الاُمة لعلي بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه يقوم مقامه في كل ما يمت إليه سوى النبوة ونزول الوحي عليه. كل ذلك بتنصيص من الرسول ، وعلى ذلك فالمقوّم للتشيّع وركنه الركين هو القول بالوصاية والقيادة بجميع شؤونها للإمام عليه‌السلام فالتشيّع هو الاعتقاد بذلك ، وأمّا ما سوى ذلك فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع ولا يدور عليه اطلاق الشيعة.

__________________

١ ـ خطب الإمام أبو محمّد : الحسن السبط حين قتل أميرالمؤمنين خطبته الغرّاء فقال : أنا ابن النبي وأنا ابن الوصي أخرجه الحاكم في مستدركه ١ / ١٧٢ ، وقد ذكر ابن أبي الحديد أشعاراً وأراجيز تتضمّن توصيف الإمام بالوصاية عن الصحابة والتابعين ، لاحظ شرح النهج ١ / ١٤٣ ـ ١٥٠ باب ما ورد في وصاية عليّ من الشعر.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة الثانية.

٩

لا شك أنّ للشيعة عقائد وآراء في مجاري الاُصول والفروع وربّما يشاركون غيرهم فيها وربّما يخالفونهم ، ولكنّها ليست من سماتهم وأعرافهم وإنّما هي اُصول وأحكام دعاهم الدليل إلى تبنّيها من الكتاب والسنّة والعقل.

مثلا إنّ الشيعة تقول باتّحاد الصفات الذاتية للّه سبحانه معها ، وكونه سبحانه غير مرئي في الدارين ، وأنّ كلامه مخلوق له ، وأنّه لا يكلّف ما لا يطاق ، وأنّ حقيقة الأمر في أفعال العباد لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ، وأنّ الأنبياء معصومون إلى غير ذلك من الآراء ، ولكنّها آراء كلامية للشيعة لا أنّها المقوّم للتشيّع بحيث لو خالف فيها رجل منهم ، ولكنّه قال بالوصاية لعلي وبالقدوة لعترته ، لخرج عن اطار التشيّع واُصوله.

إنّ التشيّع بهذا المعنى عبارة عن الاعتقاد باستمرار القيادة الإسلامية في قالب الوصاية لعلي وعترته ، والشيعة تدّعي أنّ هذه الفكرة غرست بيد النبي في أيّام حياته ، وتبنّاها لفيف من المهاجرين في عصره ، وبقوا عليها بعد حياته واقتدى بهم لفيف من التابعين لهم بإحسان وتواصل الاعتقاد به من تلك العصور إلى زماننا الحاضر ، وهذا هو الّذي تدّعيه الشيعة وعليه بُني صرح التشيّع ونحن في غنى عن الاتيان بنصوص أعلامهم وأكابرهم في المقام التي تدل على أنّ الوصاية للإمام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالأولى طرح الموضوع على بساط البحث وعرضه على المرتكزات العقلية ، ولأجل تسليط الضوء على المسائل المهمة نبحث عن الجهات التالية وكل واحدة منها في فصل خاص بها :

١ ـ في تبيين متطلّبات الظروف في عصر النبي ، فهل كانت تقتضي أن تكون صيغة الحكم هي التنصيص أو كانت تقتضي تفويض الأمر إلى اختيار الاُمّة لتنتخب الحاكم والقائد عليها؟

٢ ـ ما هو المرتكز في الأذهان في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده في أمر القيادة؟

١٠

٣ ـ ما هو مقتضى الكتاب والسنّة في القيادة بعد الرسول؟

٤ ـ ما هو السر في مخالفة الجمهور لنصّ الرسول وتصريحه؟

٥ ـ مبدأ التشيّع وتاريخه ورواد التشيّع في عصر الرسول والصحابة والتابعين.

٦ ـ افتراضات وهميّة حول تاريخ الشيعة.

٧ ـ صيغة الحكومة الإسلامية عند أهل السنّة.

٨ ـ نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع.

٩ ـ الشيعة في عصر الدولتين الأموية والعبّاسية.

١٠ ـ عقائد الشيعة الامامية الاثنا عشرية.

١١ ـ أئمّة الشيعة الاثنا عشر ونبذة عن حياتهم.

١٢ ـ دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية وتطوير العلوم.

١٣ ـ دول الشيعة وبلدانهم عبر التاريخ.

١٤ ـ مصادر علوم الشيعة.

فالذي نعتقد أنّ تحليل هذه الجهات يكشف الواقع للمحقّق ولا يُبقي له شكاً في أصالة التشيّع وأنّه استمرار للإسلام عبر الحقب والأعوام.

١١
١٢

الفصل الأول

بيان متطلبات الظروف في عصر الرسول

في مجال القيادة الإسلامية

١٣
١٤

لاشك أنّ الدين الإسلامي دين عالمي ، وشريعة خاتمة ، وقد كانت قيادة الاُمّة من شؤون النبي الأكرم مادام على قيد الحياة ، ثمّ إنّه وقع الاختلاف بين أصحاب المقالات والفرق في صيغتها بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهل كانت متبلورة في صيغة النص أو في انتخاب الاُمّة.

الشيعة ترى أنّ القيادة منصب تنصيصي والذي ينصّ على خليفة الرسول هو اللّه سبحانه عن طريقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بينما يرى أهل السنّة غير ذلك ولكل من الاتّجاهين دلائل وبراهين ، وألمقصود هنا دراسة متطلّبات الظروف وتقييمها في عصر الرسالة ، فهل كانت المصالح تكمن في تعيين القائد أو كانت تكمن في خلافه؟ فدراستها تُسلّط الضوء على البحث الثالث وهو وجود النص من الرسول وعدمه ، وإليك بيان ذلك :

إنّ الظروف السياسية التي كانت سائدة في المنطقة كانت توجب على الرسول أن يعيّن القائد ، وكانت المصلحة الإسلامية تقتضي ذلك ، لأنّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثُلاثي ، الروم ، الفرس ، المنافقين ، وخطرهم يتمثّل بشنّ هجوم مفاجىء كاسح أو إلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

فمصالح الاُمّة كانت توجب توحيد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر

١٥

الخارجي والداخلي ، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده ، وبذلك يسد الطريق على نفوذ العدو في جسم الاُمّة الإسلامية والسيطرة عليها ، وعلى مصيرها ، وبذلك يخسر الذين كانوا يتآمرون على ضرب الإسلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أمّا العدوّ الأوّل فقد كان الامبراطورية الرومانية التي كانت تشكّل إحدى أضلاع الخطر المثلّث الذي كان يحيط بالكيان الإسلامي ويهدّده من الخارج.

وكانت هذه القوّة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الدوام ، حتّى انّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتّى لحظة الوفاة ، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أوّل مواجهة عسكرية بين المسلمين والجيش المسيحي الرومي في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين ، وقد أدّت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم « جعفر الطيار » و « زيد بن حارثة » و « عبداللّه بن رواحة ».

ولقد أدّى انسحاب الجيش الإسلامي بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي ، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة التاسعة للهجرة ( غزوة تبوك ) على رأس جيش كبير جدّاً إلى حدود الشام ليقود بنفسه المواجهة العسكرية ، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد للاُمّة الإسلامية هيبتها من جديد.

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يُقنع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعدّ قبيل ارتحاله جيشاً كبيراً من المسلمين. وأمّر عليهم « اُسامة بن زيد » وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام والحضور في تلك الجبهة.

١٦

أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدّد الكيان الإسلامي ، فكان الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعاداتها لدعوته ، أن أقدم امبراطور إيران ، « خسرو پرويز » على تمزيق رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتوجيه الاهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه ، والكتابة إلى واليه وعميله في اليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يقتله إن امتنع.

و« خسرو » هذا وأن قتل زمن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنّ استقلال اليمن ـ التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحاً طويلا من الزمن ـ لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك ، وكان غرور اُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوّة الجديدة ( القوّة الإسلامية ) لهم.

والخطر الثالث وهو الأعظم ( لأنّ القلعة الحصينة لا تهزم إلاّ من داخلها ) كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس ، على تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل ، إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخَطِر يقول في نفسه : إنّ الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورحيله ، وبذلك يستريح الجميع (١).

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الاُمّة الإسلامية من الداخل ، وذلك عندما أتى عليّاً عليه‌السلام وعرض عليه أن يبايعه ضدّ عُيِّن في السقيفة ، ليستطيع بذلك

__________________

١ ـ الطور / ٣٠.

١٧

شطر الاُمّة الإسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين ، فيتمكّن حينها من الصيد في الماء العكر.

ولكنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام أدرك بذكائه المفرط نوايا أبي سفيان الخبيثة فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة :

« واللّه ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شرّاً. لاحاجه لنا في نصيحتك » ومع أنّ الإمام ردّه خائباً لكنّه استمرّ في فتنته لشقّ عصا الاُمّة فأخذ يتردّد في أزقّة المدينة منادياً :

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرّة أو عدي

فما الأمر إلاّ فيكم وإليكم

وليس لها إلاّ أبو حسن علي (١)

ولقد بلغ دور المنافقين الهدّام في الشدة بحيث تعرّض القرآن الكريم لذكرهم في سور عديدة هي : سورة آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والأحزاب ، ومحمّد ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والمنافقون ، والحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالإسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه ، يصحّ أن يترك رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُمّته الحديثة العهد بالإسلام ، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسياً؟

إنّ المعطيات الاجتماعية توحي بأنّه كان من الواجب أن يدفع رسول الإسلام ـ بتعيين قائد للاُمّة ـ ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده ، ويضمّن بذلك استمرار وبقاء الاُمّة الإسلامية وإيجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حولها.

__________________

١ ـ الكامل ٢ / ٣٢٥ ، العقد الفريد ٢ / ٢٤٩.

١٨

إنّ تحصين الاُمّة وصيانتها من الحوادث المشؤومة والحيلولة دون مطالبة كل فريق الزعامة لنفسه دون غيره وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة ، لم يكن متحقّقاً إلاّ بتعيين قائد للاُمّة وعدم ترك الاُمور للأقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحّة نظرية « التنصيص على القائد بعد الرسول » ولعلّ لهذه الجهة ولجهات اُخرى طرح الرسول مسألة الخلافة في بدء الدعوة واستمر بذلك إلى آخر ساعة من عمره الشريف كما ستوافيك نصوصها.

ثمّ إنّي بعد ما حرّرت ذلك في سالف الأيّام وأوردته في بعض محاضراتي الكلامية (١) وقفت على تقرير للمحقّق الشهيد السيد الصدر المغفور له فقد بيّن متطلّبات الظروف في تقديمه على كتاب تاريخ الشيعة للدكتور عبداللّه فياض بنحو آخر وهو تقرير رصين نقتطف منه ما يلي :

كان النبي الأكرم يدرك منذ فترة أنّ أجله قد دنى وأعلن ذلك بوضوح في حجّة الوداع ولم يفاجئه الموت مفاجأة ، وهذا يعني أنّه كان يملك فرصة كافية للتفكير في مستقبل الدعوة ، وفي هذا الضوء يمكننا أن نلاحظ أنّه كانت أمام النبي ثلاثة طرق بالإمكان انتهاجها تجاه مستقبل الدعوة.

الطريق الأوّل : أن يقف من مستقبل الدعوة موقفاً سلبياً ويكتفي بممارسة دوره في قيادة الاُمّة وتوجيهها فترة حياته ويترك مستقبلها للظروف والصدف ، وهذه السلبية لا يمكن افتراضها في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّها انّما تنشأ من أحد أمرين كلاهما لا ينطبقان عليه.

__________________

١ ـ الإلهيات ٢ / ٥٥٤ ـ ٥٨٤ ، لولدنا الفاضل الروحاني الشيخ حسن مكّي العاملي ـ حفظه اللّه ـ.

١٩

١ ـ « الاعتقاد بأنّ هذه السلبية والاهمال لا تؤثّر على مستقبل الدعوة ، وأنّ الاُمّة قادرة على التصرّف بالشكل الذي يحمي الدعوة ، ويضمن عدم الانحراف ».

وهذا الاعتقاد لا مبرّر له من الواقع اطلاقاً ، لأنّ الدعوة الإسلامية بما أنّها كانت تغييراً انقلابياً في بدايته ، تستهدف بناء اُمّة ، واستئصال كل جذور الجاهلية منها ، تتعرّض لأكبر الأخطار إذا خلت الساحة من قائدها ، وتركها دون أي تخطيط. فهناك الأخطار تنبع عن طبيعة مواجهة الفراغ دون أي تخطيط سابق ، فإنّ الرسول إذا ترك الساحة دون تخطيط لمصير الدعوة ، فسوف تواجه الاُمّة لأوّل مرّة ، مسؤولية التصرّف بدون قائدها ، تجاه مشاكل الدعوة وهي لا تملك أي مفهوم مسبق بهذا الصدد. وسوف يتطلّب منها الموقف تصرّفاً سريعاً آنيّاً بالرغم من خطورة المشكلة ، لأنّ الفراغ لا يمكن أن يستمر.

فلم تكن إذن خطورة الموقف بعد وفاة النبي شيئاً يمكن أن يخفى على أي قائد مُمارس للعمل العقائدي فضلا عن خاتم الأنبياء.

٢ ـ الذي يمكن أن يفسّر سلبية القائد تجاه مستقبل الدعوة ومسيرها بعد وفاته ، أنّه بالرغم من شعوره بخطر هذه السلبية لا يحاول تحصين الدعوة ضدّ ذلك الخطر ، لأنّه ينظر إلى الدعوة نظرة مصلحيّة فلا يهمّه إلاّ أن يحافظ عليها مادام حيّاً ليستفيد منها ويستمتع بمكاسبها ولا يعني بحماية مستقبلها بعد وفاته.

وهذا التفسير لا يمكن أن يصدق على النبي حتّى لولم نلاحظه بوصفه نبيّاً ومرتبطاً باللّه سبحانه وتعالى في كل ما يرتبط بالرسالة ، وافترضناه قائداً رسالياَ كقادة الرسالات الاخرى ، لأنّ تاريخ القادة الرساليين لا يملك نظيراَ للقائد الرسول ، في اخلاصه لدعوته ، وتفانيه فيها ، وتضحيته من أجلها إلى آخر لحظة من حياته ، وكل تاريخه يبرهن على ذلك.

الطريق الثاني : أن يخطّط الرسول القائد لمستقبل الدعوة بعد وفاته ويتّخذ

٢٠