بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

يحيى بن زيد والصحيفة السجادية :

إنّ الصحيفة السجادية نسخة من علوم أئمة أهل البيت ، وهي أدعية للاِمام السجاد تهز كل إنسان إذا قرأها بدقة وإمعان ، وقد أودع فيها الاِمام كنوزاً من المعارف ، وعلّم الاِنسان كيفية الدعاء والابتهال إلى اللّه سبحانه ، انشأها سيد الساجدين في عصر الظلم والقتل والتشريد وقد كانت نسخة منها عند زيد الثائر ، وقد أوصى بها إلى ولده يحيى ، وهو أيضاً أوصى إلى : محمد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن بن علي بن أبي طالب وذكر تفصيله عمير بن المتوكل الثقفي البلخي عن أبيه متوكل بن هارون قال :

لقيت يحيى بن زيد بن علي عليه‌السلام وهو متوجه إلى خراسان فسلّمت عليه ، فقال لي : من أين أقبلت؟ قلتُ : من الحجّ ، فسألني عن أهله وبني عمّه بالمدينة وأحفى السوَال عن جعفر بن محمد فأخبرته بخبره وخبرهم وحزنهم على أبيه زيد بن علي عليه‌السلام فقال لي : قد كان عمي محمد بن علي عليه‌السلام أشار إلى أبي بترك الخروج وعرّفه أنّه إن هو خرج وفارق المدينة ما يكون إليه مصير أمره ، فهل لقيت ابن عمي جعفر بن محمد عليه‌السلام؟ قلت : نعم ، قال : فهل سمعته يذكر شيئاً من أمري؟ قلتُ : نعم ، قال : بم ذكرني؟ قلتُ : جعلتُ فداك ما أُحبّ أن أستقبلك بما سمعته منه ، فقال : أبالموت تخوفني؟ هات ما سمعته ، فقلت سمعته يقول :

إنّك تقتل وتصلب كما قتل أبوك وصلب ، فتغير وجهه وقال : « يَمحُوا اللّهُ ما يَشَاءُ ويُثْبِتُ وعِندَه أُمُّ الكِتاب » يا متوكل إنّ اللّه عزّ وجلّ أيّد هذا الأمر بنا ، وجعل لنا العلم والسيف ، فجمعا لنا وخصّ بنو عمنا بالعلم وحده ، فقلت : جعلت فداك إنّي رأيت الناس إلى ابن عمك جعفر عليه‌السلام أميل منهم إليك وإلى أبيك ، فقال : إنّ عمي محمد بن علي وابنه جعفر عليهما‌السلام دعوا الناس إلى الحياة ونحن دعوناهم إلى الموت ، فقلت : يابن رسول اللّه أهم أعلم أم أنتم؟

٣٤١

فأطرق إلى الأرض مليّاً ثم رفع رأسه وقال : كلّنا له علم غير أنّهم يعلمون كلّ ما نعلم ولا نعلم كلّ ما يعلمون.

ثم قال لي : أكتبت من ابن عمي شيئاً؟ قلت : نعم ، قال : أرينه ، فأخرجت إليه وجوهاً من العلم وأخرجت له دعاء أملاه عليّ أبو عبد اللّه عليه‌السلام وحدثني أنّ أباه محمد بن علي عليهما‌السلام أملاه عليه ، وأخبره أنّه من دعاء أبيه علي بن الحسين عليهما‌السلام من دعاء الصحيفة الكاملة ، فنظر فيه يحيى حتى أتى على آخره وقال لي : أتأذن في نسخه فقلت : يابن رسول اللّه أتستأذن فيما هو عنكم ، فقال : أما أنّي لأخرجن إليك صحيفة من الدعاء الكامل ممّا حفظه أبي عن أبيه ، وانّ أبي أوصاني بصونها ومنعها غير أهلها ، قال عمير : قال أبي : فقمت إليه فقبلت رأسه ، وقلت له : واللّه يابن رسول اللّه إنّي لأدين اللّه بحبكم وطاعتكم وأنّي لأرجو أن يسعدني في حياتي ومماتي بولايتكم. فرمى صحيفتي التي دفعتها إليه إلى غلام كان معه وقال : أُكتب هذا الدعاء بخط بيّن وحسن وأعرضه عليّ لعلّي أحفظه ، فإنّي كنت أطلبه من جعفر حفظه اللّه فيمنعنيه قال المتوكل : فندمت على ما فعلت ولم أدر ما أصنع ولم يكن أبو عبد اللّه عليه‌السلام تقدم إليّ ألاّ أدفعه إلى أحد.

ثم دعا بعيبة فاستخرج منها صحيفة مقفلة مختومة فنظر إلى الخاتم وقبّله وبكى ثم فضّه وفتح القفل ، ثم نشر الصحيفة ووضعها على عينيه وأمرّها على وجهه ، وقال : واللّه يامتوكل لولا ما ذكرت من قول ابن عمي إنّني أُقتل وأُصلب لما دفعتها إليك ولكنت بها ضنيناً ولكني أعلم أنّ قوله حقّ أخذه عن آبائه وأنّه سيصح ، فخفت أن يقع مثل هذا العلم إلى بني أُمية فيكتموه ويدّخروه في خزائنهم لأنفسهم ، فاقبضها واكفينها وتربص بها ، فإذا قضى اللّه من أمري وأمر هوَلاء القوم ما هو قاض ، فهي أمانة لي عندك حتى توصلها إلى ابني عمي : محمد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي عليهما‌السلام فإنّهما القائمان في

٣٤٢

هذا الأمر بعدي.

قال المتوكل : فقبضت الصحيفة ، فلما قتل يحيى بن زيد صرت إلى المدينة فلقيت أبا عبد اللّه عليه‌السلام : فحدّثته الحديث عن يحيى فبكى واشتد وجده به ، وقال : « رحم اللّه ابن عمي وألحقه بآبائه وأجداده ، واللّه يا متوكل مامنعني من دفع الدعاء إليه إلاّ الذي خافه على صحيفة أبيه ، وأين الصحيفة؟ » فقلت : ها هي ، ففتحها ، أو قال : « هذا واللّه خط عمي زيد ودعاء جدي علي بن الحسين عليهما‌السلام » ثم قال لابنه : « قم يا إسماعيل فأتني بالدعاء الذي أمرتك بحفظه وصونه » فقام إسماعيل فأخرج صحيفة كأنّها الصحيفة التي دفعها إليّ يحيى بن زيد فقبّلها أبو عبد اللّه ووضعها على عينه وقال : « هذا خط أبي وإملاء جدي عليهما‌السلام بمشهد مني » فقلت : يابن رسول اللّه إن رأيت أن أعرضها مع صحيفة زيد ويحيى ، فأذن لي ، وقال : « قد رأيتك لذلك أهلاً » فنظرتُ وإذا هما أمر واحد ولم أجد حرفاً منها يخالف ما في الصحيفة الأخرى ، ثم استأذنت أبا عبد اللّه عليه‌السلام في دفع الصحيفة إلى ابني عبد اللّه بن الحسن ، فقال : « إنّ اللّه يأمركم أن توَدوا الأمانات إلى أهلها ، نعم فأدفعها إليهما » فلما نهضت للقائهما قال لي : « مكانك » ثم وجّه إلى محمد وإبراهيم فجاءا ، فقال : هذا ميراث ابن عمكما يحيى من أبيه قد خصّكما به دون إخوته ونحن مشترطون عليكما فيه شرطاً ، فقالا : رحمك اللّه قل فقولك المقبول ، فقال : « لا تخرجا بهذه الصحيفة من المدينة » قالا : ولم ذاك؟ قال : « إنّ ابن عمكما خاف عليهما أمراً أخافه أنا عليكما » قالا : إنّما خاف عليها حين علم أنّه يقتل ، فقال : أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « وأنتما فلاتأمنا فواللّه إنّي لأعلم أنّكما ستخرجان كما خرج وستقتلان كما قتل » فقاما وهما يقولان : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.

فلمّا خرجا قال لي أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « يامتوكل كيف قال لك يحيى إنّ عمي محمد بن علي وابنه جعفراً دعوا الناس إلى الحياة ودعوناهم إلى الموت » قلت :

٣٤٣

نعم أصلحك اللّه قد قال لي ابن عمك يحيى ذلك ، فقال : « يرحم اللّه يحيى انّ أبي حدثني عن أبيه عن جده عن علي عليه‌السلام إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذته نعسة وهو على منبره ، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة ، يردّون الناس على أعقابهم القهقرى ، فاستوى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالساً والحزن يُعرف في وجهه ، فأتاه جبريل عليه‌السلام بهذه الآية : « وما جَعَلْنا الرُّوَيا الّتي أرَيْنَاكَ إلاّ فِتنَةً لِلنَّاسِ والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ ونُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغياناً كَبيراً » (١) يعني بني أُمية قال : ياجبريل أعلى عهدي يكونون وفي زمني ، قال : لا ولكن تدور رحى الاِسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشراً ، ثم تدور رحى الاِسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمساً ثم لابد من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها ثم ملك الفراعنة قال وأنزل اللّه تعالى في ذلك : « إنّا أنزلناهُ فِي ليلة القَدْرِ * وما أدراكَ ما ليلةُ القَدْرِ * ليلةُ القَدْرِ خيرٌ من ألفِ شَهْر » (٢) يملكها بنو أُمية ليس فيها ليلة القدر ، قال : فأطلع اللّه عزّ وجلّ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأمّة وملكها طول هذه المدّة فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن اللّه تعالى بزوال ملكهم ، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا ، أخبر اللّه نبيه بما يلقى أهل بيت محمد وأهل مودتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم قال وأنزل اللّه تعالى فيهم : « ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وأحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوارَ* جَهنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئسَ القَرَار » (٣) ونعمة اللّه محمد وأهل بيته ، حبهم إيمان يدخل الجنة وبغضهم كفر ونفاق يدخل النار ، فأسر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك إلى علي وأهل بيته » (٤).

__________________

١ ـ الاِسراء : ٦٠.

٢ ـ القدر : ١ ـ ٣.

٣ ـ إبراهيم : ٢٨.

٤ ـ الصحيفة السجادية : قسم المقدمة ، لاحظ رياض السالكين : ١ / ٦٩ ـ ١٨٧ قسم المتن.

٣٤٤

وسيوافيك خبر أخيه : عيسى بن زيد بعد أخبار محمد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن بن الحسن المثنى وذلك حفظاً للتسلسل الزمني ، فسلام اللّه عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

وقد رثى يحيى بن زيد لفيف من الشعراء منهم دعبل الخزاعي بتائيته المعروفة المشهورة التي تبلغ مائة وعشرين بيتاً رائعاً وفيها من مناقب أهل البيت ومصائبهم الجم الغفير ومطلعها قوله :

تجاوبن بالأرنان والزفرات

نوائح عجم اللفظ والنطقات

يخبرن بالأنفاس عن سر أنفس

أُسارى هوىً ماضٍ وآخر آت

إلى أن انتقل عن كل ما يوشح به أوائل القصائد إلى قوله :

فكيف ومن أنى بطالب زلفة

إلى اللّه بعد الصوم والصلوات

سوى حبّ أبناء النبي ورهطه

وبغض بني الزرقاء والعبلات

وهند وما أدّت سمية وابنها

أُولو الكفر في الاِسلام والفجرات

هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه

ثم إلى أن جدد المطلع بقوله :

ثم إلى أن جدد المطلع بقوله :

بكيت لرسم الدار من عرفات

وأجريت دمع العين بالعبرات

وبانَ عرى صبري وهاجت صبابتي

رسوم ديار قد عفت وعرات

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

لآل رسول اللّه بالخيف من منى

وبالبيت والتعريف والجمرات

٣٤٥

ثم إلى أن قال عطر اللّه مرقده وفاه :

أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً

وقد مات عطشاناً بشط فرات

إذاً للطمت الخد فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير فاندبي

نجوم سماوات بأرض فلاة

قبور بكوفان وأُخرى بطيبة

وأُخرى بفخ نالها صلواتي

وأُخرى بأرض الجوزجان محلها

وقبر بباخمرى لدى الغربات

وقبر ببغداد لنفس زكية

تضمنها الرحمن في الغرفات

قبور ببطن النهر من جنب كربلا

معرسهم منها بشط فرات

توفوا عطاشا بالفرات فليتني

توفيت فيهم قبل حين وفاتي (١)

__________________

١ ـ ذكرها غير واحد من الأدباء والموَرخين ، ومن أراد أن يقف على جميعها فليرجع إلى : روضات الجنات : ٣ / ٣٠٢ ـ ٣٠٤ والغدير : ٢ / ٣٤٩.

٣٤٦

أصحاب الانتفاضة

٢

عبد اللّه بن الحسن

ابن الحسن بن علي بن أبي طالب

(٧٠ ـ ١٤٥ هـ)

إنّ عبد اللّه بن الحسن والد محمد النفس الزكية وإبراهيم اللّذين استشهدا في عصر المنصور بطيبة والبصرة.

فلابد من الاِشارة إلى حياة الوالد قبل الولدين.

يطلق عليه عبد اللّه المحض ، لأنّ أباه هو الحسن بن الحسن السبط ، وأُمّه فاطمة بنت الحسين السبط ، فهو منسوب إلى رسول اللّه ، من كلا الطرفين وكان قوي النفس شجاعاً ، ولما قدم أبو العباس السفاح وأهله سرّاً على أبي سلمة الخلاّل الكوفة ستر أمرهم ، وعزم أن يجعل الخلافة شورى بين ولد علي والعباس حتى يختاروا من أرادوا ، فكتب إلى ثلاثة نفر منهم : جعفر بن محمد عليهما‌السلام وعمر بن علي بن الحسين ، وعبد اللّه بن الحسن ، ووجّه بالكتب مع رجل من مواليهم من ساكني الكوفة فبدأ بجعفر بن محمد عليهما‌السلام ولقيه ليلاً وأعلمه أنّه رسول أبي سلمة وأنّ معه كتاباً إليه منه ، فقال : « ما أنا وأبو سلمة وهو شيعة لغيري » فقال الرسول : تقرأ الكتاب وتجيب عليه بما رأيت ، فقال جعفر لخادمه : « قدّم مني السراج » فقدّمه فوضع عليه كتاب أبي سلمة فأحرقه فقال : ألا تجيبه؟ فقال : « قد رأيت الجواب » (١).

__________________

١ ـ ذكر الشهرستاني أنّ الاِمام الصادق عليه‌السلام : قال له : « ماأنت من رجالي ، ولا الزمان زماني » الملل والنحل : ١ / ١٥٤ ، ط ١٤٠٢.

٣٤٧

فخرج من عنده وأتى عبد اللّه بن الحسن بن الحسن فقبّل كتابه وركب إلى جعفر بن محمد ، فقال : هذا كتاب أبي سلمة يدعوني لأمر ، ويراني أحقّ الناس به وقد جاءته شيعتنا ، من خراسان فقال له جعفر الصادق عليه‌السلام : « ومتى صاروا شيعتك؟ أنت وجهت أبا سلمة إلى خراسان؟ وأمرته بلبس السواد؟ هل تعرف أحداً منهم باسمه ونسبه؟ كيف يكونون من شيعتك وأنت لاتعرفهم إلاّ يعرفونك؟ فإن هذه الدولة ستتم إلى هوَلاء القوم ولاتتم لأحد من آل أبي طالب وقد جاءني مثل ماجاءك » فانصرف غير راض بما قاله.

وأمّا عمر بن علي بن الحسين فردّ الكتاب وقال : ما أعرف كاتبه فأُجيبه.

ومات عبد اللّه المحض في حبس أبي جعفر الدوانيقي مخنوقاً وهو ابن خمس وسبعين سنة.

وقد ذكر المسعودي كيفية القبض عليه وقال : وكان المنصور قبض على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي عليه‌السلام وكثير من أهل بيته وذلك في سنة أربع وأربعين ومائة في منصرفه من الحجّ ، فحملوا من المدينة إلى الربذة من جادة العراق وكان ممّن حمله مع عبد اللّه بن الحسن : إبراهيم بن الحسن بن الحسن ، وأبو بكر بن الحسن بن الحسن ، وعلي الخير ، وأخوه العباس ، وعبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، والحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن ، ومعهم محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان أخو عبد اللّه بن الحسن بن الحسن لأمّه فاطمة ابنة الحسين بن علي ، وجدتهما فاطمة بنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فجرد المنصور بالربذة محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان فضربه ألف سوط ، وسأله عن ابني أخيه محمد وإبراهيم فأنكر أن يعرف مكانهما ، فسألت جدته العثماني في ذلك الوقت ، وارتحل المنصور عن الربذة وهو في قبة ، وأوهن القوم بالجهد ، فحملوا على المحامل المكشوفة ، فمر بهم المنصور في قبته على الجمازة ، فصاح به عبد اللّه بن الحسن يا أبا جعفر ما هكذا فعلنا بكم يوم بدر ،

٣٤٨

فصيرهم إلى الكوفة ، وحبسوا في سرداب تحت الأرض لا يفرّقون بين ضياء النهار وسواد الليل ، وخلّـى منهم : سليمان وعبد اللّه ابني داود بن الحسن بن الحسن ، وموسى بن عبد اللّه بن الحسن ، والحسن بن جعفر ، وحبس الآخرين ممن ذكرنا حتى ماتوا وذلك على شاطىء الفرات من قنطرة الكوفة ، ومواضعهم بالكوفة تزار في هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ، وكان قد هدم عليهم الموضع ، وكانوا يتوضّوَن في مواضعهم فاشتدت عليهم الرائحة ، فاحتال بعض مواليهم حتى أدخل عليهم شيئاً من الغالية ، فكانوا يدفعون بشمها تلك الروائح المنتنة ، وكان الورم في أقدامهم ، فلا يزال يرتفع حتى يبلغ الفوَاد فيموت صاحبه.

وذكر أنّهم لمّا حبسوا في هذا الموضع أشكل عليهم أوقات الصلاة ، فجزّأوا القرآن خمسة أجزاء ، فكانوا يصلّون الصلاة على فراغ كل واحد منهم من جزئه وكان عدد من بقي منهم خمسة ، فمات اسماعيل بن الحسن فترك عندهم فجيف ، فصعق داود بن الحسن فمات ، وأتى برأس إبراهيم بن عبد اللّه فوجه به المنصور مع الربيع إليهم فوضع الرأس بين أيديهم وعبد اللّه يصلي ، فقال له إدريس أخوه : اسرع في صلاتك يا أبا محمد ، فالتفت إليه وأخذ الرأس فوضعه في حجره ، وقال له : أهلاً وسهلاً يا أبا القاسم ، واللّه لقد كنت من الذين قال اللّه عزّ وجلّ فيهم :

« الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ولا يَنقُضُونَ المِيثاقَ * والّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أن يُوصَل » إلى آخر الآية ، فقال له الربيع : كيف أبو القاسم في نفسه؟ قال : كما قال الشاعر :

فتى كان يحميه من الذلّ سيفه

ويكفيه أن يأتي الذنوب اجتنابها

ثم التفت إلى الربيع : فقال : قل لصاحبك قد مضى من بوَسنا أيّام ومن نعيمك أيّام؟ والملتقى ، القيامة. قال الربيع : فما رأيت المنصور قطّ أشدّ انكساراً

٣٤٩

منه في الوقت الذي بلغته الرسالة ... (١).

وكان يتولى صدقات أمير الموَمنين علي عليه‌السلام بعد أبيه الحسن ، ونازعه في ذلك زيد بن علي بن الحسين ، وأعقب عبد اللّه المحض من ستة رجال :

١ ـ محمد ذي النفس الزكية ، المقتول بقرب المدينة.

٢ ـ إبراهيم قتيل باخمرى ، قريب الكوفة.

٣ ـ موسى الجون.

٤ ـ يحيى بن عبد اللّه صاحب الديلم.

٥ ـ سليمان بن عبد اللّه.

٦ ـ إدريس بن عبد اللّه (٢).

__________________

١ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ٢٩٨. والآيتان ٢٠ و ٢١ من سورة الرعد.

٢ ـ النسابة ابن عنبة : عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : ١٠١ ـ ١٠٣.

٣٥٠

أصحاب الانتفاضة

٣

محمد بن عبد اللّه بن الحسن

ابن الحسن بن علي بن أبي طالب

النفس الزكية

(١٠٠ ـ ١٤٥ هـ)

محمد بن عبد اللّه المعروف بالنفس الزكية المقتول عام ١٤٥ هـ في أيّام أبي جعفر المنصور ، هو الثائر الثاني ، وقد ذكر الشهرستاني أنّ يحيى بن زيد أوصى إليه ، ولذلك يعد إماماً ثانياً بعده.

وتقدّم أنّ أباه عبد اللّه من أكابر بني هاشم وكان الجميع يكِّن له الاحترام ، وكان أكبر سناً من الاِمام الصادق عليه‌السلام كما تقدم ـ ومع ذلك كان يدعو الناس لبيعة ولده محمد ، وهذا وما سبق من قبول دعوة أبي سلمة الخلال يكشفان عن روح ثوريّة أوّلاً ، وسذاجة في الأمور السياسية ثانياً.

ولما قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك إثر خلاعته ومجانته عام ١٢٦ هـ تهيّأت الظروف المناسبة للدعوة إلى بني هاشم ، ففي هذا الظرف الهادىء جمع عبد اللّه بن الحسن ، بني هاشم وألقى فيهم خطبة نقلها أبو الفرج الأصفهاني في كتابه وقال : إنّكم أهل البيت قد فضّلكم اللّه بالرسالة واختاركم لها وأكثركم بركة ياذرية محمد بن عبد اللّه بنو عمه وعترته ، وأولى الناس بالفزع في أمر اللّه ، من وضعه اللّه

٣٥١

موضعكم من نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ترون كتاب اللّه معطلاً ، وسنّة نبيه متروكة ، والباطل حياً ، والحقّ ميتاً ، قاتلوا للّه في الطلب لرضاه بما هو أهله قبل أن ينزع منكم اسمكم وتهونوا عليه كما هانت بنو إسرائيل وكانوا أحب خلقه إليه ، وقد علمتهم أنّا لم نزل نسمع أنّ هوَلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الأمر من أيديهم ، فقد قتلوا صاحبهم ـ يعني الوليد بن يزيد ـ ، فهلم نبايع محمداً ، فقد علمتم أنّه المهدي.

فقالوا : لم يجتمع أصحابنا بعد ، ولو اجتمعوا فعلنا ، ولسنا نرى أبا عبد اللّه جعفر بن محمد.

وبعد محاولات حضر الاِمام الصادق عليه‌السلام مجلس القوم فاطلع على أمر القوم وأنّهم يريدون بيعة محمد بن إبراهيم ، فقالوا : قد علمت ماصنعوا بنا بنو أُمية وقد رأينا أنّ نبايع لهذا الفتى.

فقال : لاتفعلوا فإنّ الأمر لم يأت بعد ، فغضب عبد اللّه وقال : لقد علمت خلاف ما تقول ، ولكنه يحملك على ذلك الحسد لابني ، فقال : لا واللّه ، ما ذاك يحملني ، ولكن هذا وإخوته وأبناوَهم دونكم وضرب يده على ظهر أبي العباس (السفاح) ثم نهض واتبعه عبد الصمد وأبو جعفر المنصور فقالا : يا أبا عبد اللّه أتقول ذلك؟ قال : « نعم واللّه أقوله وأعلمه ».

وفي رواية قال لعبد اللّه بن الحسن : « إنّها واللّه ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهوَلاء وإنّ ابنيك لمقتولان » فتفرق أهل المجلس ولم يجتمعوا بعدها.

وقال عبد اللّه بن جعفر بن المسوّر ، فخرج جعفر بن محمد يتوكأ على يدي فقال لي : « أرأيت صاحب الرداء الأصفر؟ » يعني أبا جعفر المنصور ، قلت : نعم ، قال : « فإنّا واللّه نجده يقتل محمداً » ، قلت : أو يقتل محمداً؟! قال : « نعم » فقلت في نفسي : حسده وربّ الكعبة. ثم ما خرجت واللّه من الدنيا حتى رأيته قتله (١).

__________________

١ ـ أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل الطالبيين : ١٧١ ـ ١٧٢.

٣٥٢

حكى ابن عنبة أنّ محمد بن عبد اللّه بن الحسن ولد سنة ١٠٠ هـ بلا خلاف ، وقيل مات سنة ١٤٥ هـ في رمضان ، وقيل في الخامس والعشرين من رجب ، وقال البخاري : وهو ابن خمس وأربعين سنة وأشهراً ، وكان المنصور قد بايع له ولأخيه إبراهيم مع جماعة من بني هاشم ، فلمّا بويع لبني العباس اختفى محمد وإبراهيم مدّة خلافة السفاح فلما ملك المنصـور ( ١٣٦ هـ ) وعلـم أنّهما على عزم الخروج جدّ في طلبهما وقبض على أبيهما وجماعة من أهلهما فيحكى أنّهما أتيا أباهما وهو في السجن وقالا له : يقتل رجلان من آل محمد خير من أن يقتل ثمانية ، فقال لهما : إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين.

ولما عزم « محمد » على الخروج واعد أخاه إبراهيم على الظهور في يوم واحد ، وذهب محمد إلى المدينة وإبراهيم إلى البصرة ، فاتفق أنّ إبراهيم مرض فخرج أخوه بالمدينة وهو مريض بالبصرة ، ولما خلص من مرضه وظهر أتاه خبر أخيه أنّه قتل وهو على المنبر يخطب.

ومن عجيب ما يروى عن محمد بن عبد اللّه أنّه لما أحس بالخذلان دخل داره وأمر بالتنور فسجّر ثم عمد إلى الدفتر الذي أثبت فيه أسماء الذين بايعوه فألقاه في التنور فاحترق ، ثم خرج فقاتل حتى قتل بأحجار الزيت ، قريباً من المدينة.

وكان مالك بن أنس الفقيه قد أفتى بالخروج مع محمد وبايعه ولذلك تغير المنصور عليه فقال : إنّه خلع أكتافه (١).

وقد ذكر الموَرخون دعوته وشهادته بين موجز في القول ومعتدل في البيان ومفصل في القصة وبما أنّ في كلامهم ما يلقي الضوء على حياة القائد ، نذكر بعض نصوصهم.

__________________

١ ـ النسابة ابن عنبة : عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : ١٠٤ ـ ١٠٥.

٣٥٣

وممّن أوجز فيه الكلام أبو حنيفة الدينوري (ت ٢٨٢ هـ) في « الأخبار الطوال » قال : وفي ذلك العام (١٤٥ هـ) خرج على المنصور ، محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام الملقب بالنفس الزكية فوجّه إليه أبو جعفر ـ المنصور ـ عيسى بن موسى بن علي في خيل فقتل رحمه‌الله ، وخرج أخوه إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن فقتل رضوان اللّه عليه (١).

وقال اليعقوبي : « وظهر محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بالمدينة مستهل رجب سنة ١٤٥ هـ ، فاجتمع معه خلق عظيم وأتته كتب أهل البلدان ووفودهم ، فأخذ رياح بن عثمان بن حيّان المري عامل أبي جعفر ، فأوثقه بالحديد وحبسه ، وتوجه (أخوه) إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن إلى البصرة وقد اجتمع جماعة فأقام مستتراً ، وهو يكاتب الناس ويدعوهم إلى طاعته ، فلما بلغ أبا جعفر أراد الخروج إلى المدينة ثم خاف أن يدع العراق مع ما بلغه من أمر إبراهيم ، فوجّه عيسى بن موسى الهاشمي ، ومعه حميد بن قحطبة الطائي في جيش عظيم فصار إلى المدينة ، وخرج محمد إليه في أصحابه فقاتلهم في شهر رمضان ومضى أصحابه إلى الحبس فقتل رياح بن عثمان وكانت أسماء ابنة عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العباس بالمدينة وكانت معادية لمحمد بن عبد اللّه ، فوجهت بخمار أسود قد جعلته مع مولى لها حتى نصبه على مأذنة المسجد ، ووجّهت بمولى لها يقال له : مجيب العامري إلى عسكر محمد ، صاح : الهزيمة الهزيمة قد دخل المسوّدة المدينة ، فلمّا رأى الناس العلم الأسود انهزموا وأقام محمد يقاتل حتى قتل ، فلمّا قتل محمد بن عبد اللّه بن الحسن ، وجه عيسى بن موسى ، كثير بن الحصين العبدي إلى المدينة فدخلها ، فتتبع أصحاب محمد فقتلهم وانصرف إلى العراق (٢).

__________________

١ ـ الدينوري الأخبار الطوال : ٣٨٥ ، طبع مصر ، الحلبي ، وممّن أوجز الكلام فيه النسابة العلوي العمري صاحب المجدي : ٣٧.

٢ ـ ابن واضح الاِخباري : تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٧٦.

٣٥٤

وقال المسعودي : وفي سنة خمس وأربعين ومائة كان ظهور محمد بن عبد اللّه ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم بالمدينة ، وكان قد بُويع له من كثير من الأنصار وكان يدعى بالنفس الزكية لزهده ونسكه ، وكان مستخفياً من المنصور ولم يظهر حتى قبض المنصور على أبيه عبد اللّه بن الحسن وعمومته ، وكثير من أهله وعدتهم ، ولما ظهر محمد بن عبد اللّه بالمدينة ، استشار إسحاق بن مسلم العقيلي وكان شيخاً ذا رأي وتجربة فأشار إلى ما لم يستحسنه أبو جعفر وبينما كان يتفكر في كيفية المقابلة مع محمد بن إبراهيم بلغه أنّ إبراهيم أخا محمد خرج بالبصرة يدعو إلى أخيه ، فبعث عيسى بن موسى في أربعة آلاف فارس وألفي راجل وأتبعه محمد بن قحطبة في جيش كثيف فقاتلوا محمداً بالمدينة حتى قتل وهو ابن خمس وأربعين سنة ولما اتصل بإبراهيم قتل أخيه ، محمد بن عبد اللّه وهو بالبصرة صعد المنبر فنعاه وتمثّل :

أبالمنازل ياخير الفوارس من

يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

اللّه يعلم أنّي لو خشيتُهم

وأوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أسلم أخيَّ لهم

حتى نموت جميعاً أو نعيش معا

تفرّق إخوة محمد في البلاد :

وقد كان تفرّق أخوة محمد وولده في البلدان يدعون إلى إمامته فكان فيمن توجه ابنه ، علي بن محمد إلى مصر فقتل بها ، وسار ابنه عبد اللّه إلى خراسان فهرب لما طُلب ، إلى السند فقتل هناك ، وسار ابنه الحسن إلى اليمن فحبس فمات في الحبس ، وسار أخوه موسى إلى الجزيرة ، ومضى أخوه يحيى إلى الري ، ثم إلى طبرستان ، ومضى أخوه إدريس بن عبد اللّه إلى المغرب فأجابه خلق من الناس

٣٥٥

فبعث المنصور من اغتاله بالسم وقام ولده إدريس بن إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن مقامه (١).

هوَلاء من الموَرخين قد أوجزوا الكلام في دعوته وشهادته ، وقد فصّل أبو الفرج الأصفهاني (٢) في المقامين وابن الاثير في الكامل وقد ذكر كتاب المنصور إلى محمد بن إبراهيم ، كما ذكر جوابه إليه (٣).

* * *

__________________

١ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ٢٩٤ ـ ٢٩٦ ، وسيوافيك ذيل هذا النص في البحث عن تأسيس دولة زيدية في المغرب باسم الأدارسة.

٢ ـ راجع : مقاتل الطالبيين : ١٧٦ ـ ٢٠٠.

٣ ـ ابن الأثير : الكامل : ٥ / ٥٢٢ ـ ٥٥٤ ، وفيه لما قتل محمد صادر عيسى أموال بني الحسن وحتى أموال الاِمام الصادق ، لاحظ ص ٥٥٣.

٣٥٦

أصحاب الانتفاضة

٤

إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن

(١٠٣ ـ ١٤٥ هـ)

إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن أخو محمد ذو النفس الزكية الثائر الثالث بعد يحيى بن زيد والنفس الزكية ، وقد تقدم اتفاق الأخوين على الثورة في يوم واحد في قطرين مختلفين ، وقد عرفت تأخّر إبراهيم عن أخيه في الخروج.

قال المسعودي : مضى إبراهيم أخوه إلى البصرة وظهر بها ، فأجابه أهل فارس والأهواز وغيرهما من الأمصار وسار من البصرة في عساكر كثيرة من الزيدية وجماعة ممن يذهب إلى قول البغداديين من المعتزلة وغيرهم ، ومعه عيسى بن زيد بن علي ابن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسيّر إليه المنصور عيسى بن موسى وسعيد بن سلم في العساكر ، فحارب حتى قتل في الموضع المعروف بـ « باخمرى » وذلك على ستة عشر فرسخاً من الكوفة من أرض الطف ، وهو الموضع الذي ذكرته الشعراء ممن رثى إبراهيم. فممّن ذكر ذلك :

دعبل بن علي الخزاعي ، في قصيدته الرائعة التائية التي نقل قسم منها عند ذكر شهادة أخيه محمد النفس الزكية وفيها قوله :

قبور بكوفان وأُخرى بطيبة

وأُخرى بفخّ نالها صلوات

وأُخرى بأرض الجوزجان محلها

وقبر بباخمرى لدى الغربات

٣٥٧

وقتل معه من الزيدية من شيعته أربعمائة رجل ، وقيل : خمسمائة رجل (١).

وقال صاحب المجدي : وكان إبراهيم يكنى أبا الحسن ، قتل بأرض « باخمرى » وهي قرية تقارب الكوفة وظَهَر ليلة الاِثنين غرة شهر رمضان سنة ١٤٥ هـ وذلك بالبصرة وكان مقتله بعد مقتل أخيه محمد (رضي اللّه عنهما) في ذي الحجّة من السنة المذكورة.

وبايع إبراهيم وجوه المسلمين منهم بشير الرحال ، وأبو حنيفة الفقيه ، والأعمش ، وعباد بن المنصور القاضي صاحب مسجد عباد بالبصرة ، والمفضل بن محمد وشعبة الحافظ إلى نظائرهم (٢).

وقال النسابة ابن عنبة : كان إبرهيم من كبار العلماء في فنون كثيرة ، يقال إنّه كان أيام اختفائه في البصرة قد اختفى عند المفضل بن محمد الضبي ، فطلب منه دواوين العرب ليطالعها فأتاه بما قدر عليه فأعلم إبراهيم على ثمانين قصيدة. فلمّا قتل إبراهيم استخرجها المفضل وسماها بـ (المفضليات) وقرئت بعده على الأصمعي فزاد بها ، وظهر إبراهيم ليلة الاِثنين غرة شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة بالبصرة وبايعه وجوه الناس ـ إلى أن قال : ـ ويقال : إنّ أبا حنيفة الفقيه بايعه أيضاً وكان قد أفتى الناس بالخروج معه ، فيحكى أنّ امرأة أتته فقالت : إنّك أفتيت ابني بالخروج مع إبراهيم فخرج فقتل. فقال لها : ليتني كنتُ مكانَ ابنك. وكتب إليه أبو حنيفة : أما بعد : فإنّي قد جهزت إليك أربعة آلاف درهم ولم يكن عندي غيرها ، ولولا أمانات الناس عندي للحقت بك ، فإذا لقيت القوم وظفرت بهم فافعل كما فعل أبوك في أهل صفين ، أُقتل مدبرهم وأجهز على جريحهم ، ولا تفعل كما فعل أبوك في أهل الجمل فإنّ القوم لهم فئة. ويقال : إنّ هذا الكتاب وقع

__________________

١ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

٢ ـ النسابة العلوي العمري : المجدي في أنساب الطالبيين : ٤٢.

٣٥٨

إلى الدوانيقي وكان سبب تغيّره على أبي حنيفة ـ إلى أن قال : ـ وجيء برأس إبراهيم فوضعه في طشت بين يديه والحسن بن زيد بن الحسن بن علي واقف على رأسه عليه السواد فخنقته العبرة والتفت إليه المنصور وقال : أتعرف رأس من هذا؟ فقال : نعم :

فتى كان تحميه من الضيم نفسه

وينجيه من دار الهـوان اجتنابها

فقال المنصور : صدقت ولكن أراد رأسي فكان رأسه أهون عليَّ ولوددت أنّه فاء إلى طاعتي ، ويقول أيضاً : وحمل ابن أبي الكلام الجعفري رأسه إلى مصر (١).

__________________

١ ـ ابن المهنا : عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : ١٠٩ ـ ١١٠ ، ولعله دفنه في المحل المعروف برأس الحسين عليه‌السلام.

٣٥٩

أصحاب الانتفاضة

٥

عيسى بن زيد الثائر

( ... ـ ١٦٨ هـ)

أحد أولاد زيد الثائر المعروف بـ « موتم الأشبال » ، وكان وصي إبراهيم ـ قتيل باخمرى ـ بن عبد اللّه المحض وحامل رايته ، فلمّا قتل إبراهيم اختفى عيسى إلى أن مات ، وكان أبو جعفر المنصور قد بذل له الأمان وأكده وكان شديد الخوف منه لم يأمن وثوبه عليه ، فقيل لعيسى في ذلك فقال : واللّه لئن يبيتنَّ ليلة واحدة خائفاً منّي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. وإنّما يسمّى موتم الأشبال لأنّه قتل أسداً له أشبال فسمّي موتم الأشبال. فخرج عيسى مع محمد بن عبد اللّه النفس الزكية ثم مع أخيه إبراهيم ، وكان إبراهيم قد جعل له الأمر بعده وكان حامل رايته فلمّا قتل إبراهيم استتر ولم يتم له الخروج فبقي مستتراً أيام المنصور وأيّام المهدي وأيام الهادي وصلّى عليه الحسن بن صالح سراً ودفنه.

وقد ذكر النسابة ابن عنبة من حياته شيئاً كثيراً يوَجّج الفوَاد ومما ذكره أنّه كان في أيّام اختفائه يستقي الماء على جمل ، وقال : حكى لي الشيخ النقيب تاج الدين بإسناده عن محمد بن زيد الشهيد : قال محمد بن محمد : قلت لأبي محمد بن زيد : أُريد أن أرى عمي عيسى ، فقال : اذهب إلى الكوفة فإذا وصلتها اذهب إلى الشارع الفلاني واجلس هناك فإنّه سيمر عليك رجل آدم طويل ، له سجادة بين عينيه ، يسوق جملاً عليه مزادتان ، كلّما خطا خطوة كبّر اللّه سبحانه ، وسبّحه وهلّله

٣٦٠