بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

١

٢

٣

٤
٥

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد ، فهذا هو الجزء الثّالث من كتابنا « بحوث في الملل والنحل » نقدّمه للقرّاء الكرام ونبحث فيه عن المدرستين المعروفتين « الماتريديّة » و « المعتزلة » ، والمدرسة الاُولى مشتقّة من منهج أهل الحديث من الحشويّة والحنابلة ، كاشتقاق المنهج الأشعريّ منه ، والفرعان يشتركان في كثير من الاُصول ويختلفان في بعضها الآخر ، وستوافيك الفوارق الموجودة بينهما.

وأمّا المدرسة الثّانية ـ أعني مدرسة الاعتزال ـ فهي منهج عقليّ لا يمتّ لمنهج أهل الحديث بصلة ، والمدرستان تتحرّكان على محورين متخالفين ، ونرجو منه سبحانه أن يوفّقنا لتحرير عقائد الطائفتين متحرّرين من كلّ نزعة ، وتعصّب ، ورأي مسبّق لا دليل عليه ، ولنقدّم تحرير منهج الطائفة « الماتريديّة » على « المعتزلة » للصّلة التامّة بينه وبين المنهج الأشعري الذي سبق عنه البحث مفصّلاً في الجزء الثّاني.

ولقد نجمت في القرنين الأوّلين مناهج كلاميّة لها صلة بالمدرستين ، فلإكمال الفائدة نبحث قبل تبيين منهج الإعتزال عن الفرق التالية :

المرجئة ، القدريّة ، الجهميّة ، الكرّاميّة والظاهريّة. فالمرجوّ منه سبحانه ، التّوفيق لبيان الحقّ والحقيقة والقضاء ، بعيداً عن التعصّب والانحياز الممقوت. إنّه وليّ التوفيق.

٦
٧

١

الماتريدية

قد تعرّفت على جذور الاختلاف في عصر الرّسالة وبعدها ، كما تعرّفت على حوافز الاختلاف ودوافعه في عصر الخلفاء ، وخرجنا بالنّتيجة التالية وهي : أنّ أهل البحث والنّقاش من المسلمين قد تفرّقوا على فرقتين مختلفتين في كثير من المبادئ والاُصول وإن اشتركتا في كثير منها أيضاً :

١ ـ فرقة أهل الحديث الّتي يعبّر عنها بالحشويّة تارة ، والحنابلة اُخرى ، والسلفيّة ثالثة وكانوا يتّسمون بسمة الاقتفاء لكتاب الله ، وسنّة رسوله ، ولا يقيمون للعقل والبرهان وزناً ، كما لا يتفحّصون عن مصادر الحديث تفحّصاً يكشف عن صحته ، بل ويقبلون كلّ حديث وصل إليهم عن كل من هبّ ودب ، ويجعلون في حزمتهم كلّ رطب ويابس ، ولأجل هذا التّساهل ظهرت فيهم آراء وعقائد تشبه آراء أهل الكتاب ، كالتشبيه ، والتجسيم ، والجبر ، وسيادة القضاء والقدر على الإنسان كإله حاكم ، لا يُغيّر ولا يُبدّل ، ولا يقدر الإنسان على تغيير مصيره إلى غير ذلك من البدع ولا يقصر عمّا ذكرناه القول بالرؤية تبعاً للعهدين ، وكون القرآن قديماً غير مخلوق ، مضاهياً لقول اليهود بقدم التّوراة ، أو النّصارى بقدم المسيح ، وقد أوضحنا الحال في هذه المباحث في الجزأين الماضيين.

٢ ـ فرقة المعتزلة التي تعتمد على العقل أكثر مما يستحقّه ، وتزعم أنّ ظواهر بعض

٨

النّصوص الواردة في الكتاب والسنّة ، مخالفة لما يوحي إليهم عقلهم وفكرتهم ، فيبادرون إلى تأويلها تأويلاً واهياً يسلب عن الكلام بلاغته ، فينحطّ من ذروته إلى الحضيض ، وهؤلاء هم المعروفون بالمعتزلة ، وفي ألسن خصومهم بالقدريّة ).

وقد كان الجدال بين الطّائفتين قائماً على قدم وساق بغلبة الاُولى على الثّانية تارة ، وانتصار الثانية على الاُولى اُخرى ، وقد كان لأصحاب السّياسة والبلاط دور واضح في إشعال نار الإختلاف بإعلاء إحداهما ، وحطّ الاُخرى ، حسب مصالحهم الوقتية ، والغايات المنشودة لهم.

الداعيان إلى منهج أهل الحديث متعاصران

كان النزاع يعلو تارة ، وينخفض اُخرى ، إلى أن دخل القرن الرابع الهجري ، فأعلن الشيخ أبو الحسن الأشعري ، في أوائل ذلك القرن ، رجوعه عن الاعتزال الذي عاش عليه أربعين سنة ، وجنح إلى أهل الحديث ، وفي مقدّمتهم منهج إمام الحنابلة « أحمد بن حنبل » ، لكن لا بمعنى اقتفاء منهجه حرفيّاً بلا تصرّف ولا تعديل فيه ، بل قبوله لكن بتعديل فيه على وجه يجعله مقبولاً لكلّ من يريد الجمع بين النّقل والعقل ، والحديث والبرهان ، وقد أسّس في ضوء هذا منهجاً معتدلاً بين المنهجين وتصرّف في المذهب الاُم ، تصرّفاً جوهرياً وقد أسعفه حسن الحظّ ونصره رجال في الأجيال المتأخرة ، حيث نضّجوا منهجه ، حتى صار مذهباً عامّاً لأهل السنّة في الاُصول ، كما صارت المذاهب الأربعة مذاهب رسمية في الفروع.

وفي الوقت الّذي ظهر مذهب الأشعري بطابع الفرعية لمذهب أهل الحديث ، ظهر مذهب آخر بهذا اللون والشكل لغاية نصرة السنّة وأهلها ، وإقصاء المعتزلة عن السّاحة الإسلاميّة.

كلّ ذلك بالتصرف في المذهب وتعديله ، وذلك المذهب الآخر هو مذهب

٩

الماتريديّة للامام محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي السمرقندي ( المتوفّى عام ٣٣٣ هـ ) أي بعد ثلاثة أو تسعة (١) أعوام من وفاة الإمام الأشعري.

والداعيان كانا في عصر واحد ، ويعملان على صعيد واحد ، ولم تكن بينهما أيّة صلة ، فهذا يكافح الاعتزال ويناصر السنّة في العراق متقلّداً مذهب الشافعي في الفقه ، وذاك يناضل المعتزلة في شرق المحيط الإسلامي ( ما وراءالنّهر ) ، متقلّداً مذهب الإمام أبي حنيفة في الفقه ، وكانت المناظرات والتيّارات الكلامية رائجة في كلا القطرين. فكانت البصرة ـ يوم ذاك ـ بندر الأهواء والعقائد ، ومعقلها ، كما كانت أرض خراسان مأوى أهل الحديث ومهبطهم ، وكانت منبتَ الكرّامية وغيرهم أيضاً ، نعم كانت المعتزلة بعيدة عن شرق المحيط الإسلامي ، ولكن وصلت أمواج منهجهم الى تلك الديار عن طريق اختلاف العلماء بين العراق وخراسان.

ولأجل انتماء الداعيين إلى المذهبين المختلفين نرى اهتمام الشافعية بترجمة الأشعري في طبقاتهم ، واهتمام علماء الأحناف ـ أعني المتكلّمين منهم ـ بالماتريدي وإن قصروا في ترجمته في طبقاتهم ، ولم يؤدّوا حقّه في كتبهم.

نعم انتماء الماتريدي للإمام أبي حنيفة في الفقهين ( الأكبر والأصغر ) (٢) أمر واضح ، فإنّه حنفي ، كلاماً وفقهاً ، وأكثر من نصره ، بل جميعهم ، من الأحناف ، مثل فخر الاسلام أبي اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي ( المتوفّى عام ٤٩٣ هـ ) والإمام النّسفي ( المتوفّى عام ٥٧٣ هـ ) وسعد الدّين التّفتازاني ( المتوفّى عام ٧٩١ هـ ) وغيرهم كإبن الهمام والبياضي كما سيوافيك في تراجمهم ، بخلاف انتماء الأشعري للامام الشافعي فإنّه ليس بهذا الحدّ من الوضوح.

__________________

١ ـ على اختلاف في تاريخ وفاته بين كونه في ٣٣٠ أو ٣٢٤.

٢ ـ سمّى أبو حنيفة الكلام بالفقه الأكبر ، وعلم الشريعة بالفقه الأصغر ، وقد سمّى بعض رسائله بهذين الاسمين كما سيوافيك.

١٠

منهج الماتريدي موروث من أبي حنيفة

المنهج الذي اختاره الماتريدي ، وأرسى قواعده ، وأوضح براهينه ، هو المنهج الموروث من أبي حنيفة ( م ١٥٠ هـ ) في العقائد ، والكلام ، والفقه ومبادئه ، والتاريخ يحدّثنا عن كون أبي حنيفة صاحب حلقة في الكلام قبل تفرّغه لعلم الفقه ، وقبل اتّصاله بحماد بن أبي سليمان الذي أخذ عنه الفقه.

وليس الماتريدي نسيج وحده في هذا الأمر ، بل معاصره أبو جعفر الطّحاوي صاحب « العقيدة الطحاوية » ( م ٣٢١ هـ ) مقتف أثر أبي حنيفة حتّى عنون وصدّر رسالته المعروفة بالعقيدة الطّحاوية بقوله « بيان عقيدة فقهاء الملّة : أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدبن الحسن » (١).

ويذكر عبد القاهر البغدادي صاحب كتاب « الفَرْق بين الفِرَقِ » في كتابه الآخر « اُصول الدين » أنّ أبا حنيفة له كتاب في الرد على القدرية سمّاه « الفقه الأكبر » ، وله رسالة أملاها في نصرة قول أهل السنّة : أنّ الاستطاعة مع الفعل ... وعلى هذا قوم من أصحابنا (٢) ، والرسائل الموروثة من أبي حنيفة أكثر ممّا ذكره البغدادي (٣).

ولمّا كانت المسائل الكلامية في ثنايا هذه الرسائل ، غير مرتّبة قام أحد الماتريديّة في القرن الحادي عشر ، أعني به كمال الدين أحمد البياضي الحنفي ، باخراج المسائل الكلامية عن هذه الرسائل من غير تصرّف في عبارات أبي حنيفة وأسماه « إشارات المرام من عبارات الامام » ويقول فيه : « جمعتها من نصوص كتبه التي أملاها على أصحابه من الفقه الأكبر ، والرسالة ، والفقه الأبسط ، وكتاب العالم والمتعلّم ، والوصيّة ، برواية من الإمام حمّاد بن أبي حنيفة ، وأبي يوسف الأنصاري ، وأبي مطيع الحكم بن عبد الله

__________________

١ ـ شرح العقيدة الطحاوية : ص ٢٥، والشرح للشيخ عبد الغني الميداني الدمشقي ( المتوفى سنة ١٢٩٨ هـ ).

٢ ـ اُصول الدين : ص ٣٠٨.

٣ ـ وسيوافيك فهرس الرسائل الموروثة من أبي حنيفة ، وقد طبع قسم كبير منها.

١١

البلخي ، وأبي مقاتل حفص بن مسلم السمرقندي.

وروى عن هؤلاء ، إسماعيل بن حمّاد ، ومحمّد بن مقاتل الرازي ، ومحمد بن سماعة التميمي ، ونصير بن يحيى البلخي ، وشداد بن الحكيم البلخي ، وغيرهم.

ثمّ قال : إنّ الامام أبا منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي روى عن الطّبقة الثانية ، أعني نصير بن يحيى ، ومحمّد بن مقاتل الرازي ، وحقّق تلك الاُصول في كتبه بقواطع الأدلّة ، وأتقن التّفاريع بلوامع البراهين اليقينيّة » (١).

هذه جذور منهجه واُسس مدرسته الكلامية.

لمحة عن حياة الماتريدي

من المؤسف جدّاً إهمال كثير من المؤرخين ، وكتب التراجم ، ذكر الامام الماتريدي ، وتبيين خصوصيات حياته ، بل ربّما أهملوا الإشارة إليه عندما يجب ذكره أو الإشارة إليه ، فإنّ الرجل من أئمة المتكلّمين ، وأقطاب التفسير في عصره فكان الإلمام بحياته عند ذكر طبقات المتكلّمين والمفسرين لازماً ، وهذا خلاف ما نجده من العناية المؤكّدة بذكر الأشعري ، وتبيين حياته ، والإشارة إلى خصوصياتها ، حتّى رُؤاه ، وأحلامه ، وغلّة ضيعته ، ولعلّ إحدى الدوافع إلى هذا ، هي أنّ الأشعري استوطن في مركز العالم الاسلامي ( العراق ) ، وشهر سيف بيانه وقلمه على الاعتزال في مركز قدرتهم ، وموضع سلطتهم ، فصار ذلك سبباً لأن تمدّ إليه الأعين ، وتشرئب (٢) نحوه الأعناق ، فيذكره الصديق والعدو في كتبهم بمناسبات شتّى ، وأمّا عديله وقرينه فكان بعيداً عنه ، مستوطناً في نقطة يغلب فيها أهل الحديث وفكرتهم ، وكانت السلطة في مجالي العلم والعمل لهم ، فجهل قدره ، ولم تعلم قيمة نضاله مع خصومهم ، فقلّت العناية به ،

____________

١ ـ إشارات المرام من عبارات الامام للبياضي : ص ٢١ ـ ٢٢، وهذا الكتاب من المصادر الموثقة في تبيين المنهج الماتريدى بعد كتابيه « التوحيد » و « التفسير ». ومثله كتاب « أصول الدين » للامام البزدوي.

٢ ـ إشْرَأبّ إليه وله : مدّ عنقه أو ارتفع لينظر إليه.

١٢

وبعلومه ، وأفكاره ، والإشارة إليه.

ولأجل ذلك نرى ابن النديم ( م ٣٨٩ ) لم يترجمه في فهرسته ، وفي الوقت نفسه ترجم الشيخَ الأشعري ( م ٣٣ هـ ) ، والامام الطحاوي شيخ الأحناف في مصر ( م ٣٢١ هـ ) مؤلّف « عقائد الطحاوي » المسمى ببيان السنّة والجماعة الذي اعتنى به عدّة من الأعلام بالشرح والتعليق.

هذا وقد أهمله جمع من المتأخّرين ، فلم يترجمه أحمد بن محمد بن خلكان ( م ٦٨١ هـ ) في « وفيات الأعيان » مع أنّه ترجم للطحاوي ، ولا صلاح الدين الصفدي ( م ٧٦٤ هـ ) في « الوافي بالوفيات » ، ولا محمد بن شاكر الكتبي ( م ٧٦٤ هـ ) في « فوات الوفيات » ، ولا تقي الدين محمد بن رافع السّلامي ( م ٧٧٤ هـ ) في « الوفيات » ، ولم يذكره ابن خلدون ( م ٨٠٨ ) في مقدمته في الفصل الذي خصّه بعلم الكلام ، ولا جلال الدين السيوطي ( م ٩١١ هـ ) في « طبقات المفسرين » مع كونه أحد المفسرين في أوائل القرن الرابع ، إلى غير ذلك من المعنيّين بتراجم الأعيان والشخصيات ، ولم تصل أيديهم إليه ، وإلى كتبه ، ونشاطاته العلمية ، ونضالاته مع خصوم أهل السنّة.

حتى إنّ من ذكره وعنونه ، لم يذكر سوى عدة كليات في حقه ، لا تلقي ضوءاً على حياته ، ولا تبيّن شيئاً من خصوصياته ، هذا والمعلومات التي وصلت إلينا بعد الفحص عن مظانّها عبارة عن الاُمور التالية :

١ ـ ميلاده :

اتّفق المترجمون له على أنّه توفّي عام ( م ٣٣٣ هـ ) ، ولم يعيّنوا ميلاده ، ولكن نتمكّن من تعيينه على وجه التقريب من جانب مشايخه الّذين تخرّج عليهم في الحديث ، والفقه ، والكلام ، فإنّ أحد مشايخه كما سيوافيك ، هو نصير بن يحيى البلخي ( المتوفّى عام ٢٦٨ هـ ) فلو تلقّى عنه العلم وهو ابن عشرين يكون هو من مواليد عام ( ٢٤٨ هـ ) ، أو ما يقاربه ، فيكون أكبر سنّاً من الأشعري بسنين تزيد على عشر.

١٣

٢ ـ موطنه :

قد اشتهر الامام ، بالماتريدي ( بضم التاء ) و « ماتريد » قرية من قرى سمرقند في بلاد ما وراء النّهر ( جيحون ) (١).

ويوصف بالماتريدي تارة ، والسمرقندي اُخرى ، ويلقب ب ـ « علم الهدى » لكونه في خطّ الدفاع عن السنّة.

٣ ـ نسبه

ينتهي نسبه إلى أبي أيّوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، مضيف النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار الهجرة ، وقد وصفه بذلك البياضي في « إشارات المرام » (٢).

٤ ـ مشايخه وأساتذته :

قد أخذ العلم عن عدّة من المشايخ هم :

١ ـ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني.

٢ ـ أبو نصر أحمد بن العياضي.

٣ ـ نصير بن يحيى ، تلميذ حفص بن سالم ( أبي مقاتل ).

٤ ـ محمد بن مقاتل الرازي (٣).

قال الزبيدي : تخرّج الماتريدي على الإمام أبي نصر العياضي .. ومن شيوخه الامام أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الجوزجاني صاحب الفرق ، والتمييز.. ومن مشايخه محمّد ابن مقاتل الرازي قاضي الريّ.

__________________

١ ـ أحد الأنهار الكبيرة المعروفة كالنيل ودجلة والفرات.

٢ ـ اشارات المرام : ص ٢٣.

٣ ـ المصدر نفسه.

١٤

والأوّلان من تلاميذ أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني ، وهو من تلاميذ أبي يوسف ، ومحمّد بن الحسن الشيباني.

وأمّا شيخه الرابع أعني محمّد بن مقاتل ، فقد تخرّج على تلميذ أبي حنيفة مباشرة ، وعلى ذلك فالماتريدي يتّصل بإمامه تارة بثلاث وسائط ، واُخرى بواسطتين. فعن طريق الأوّلين بوسائط ثلاث ، وعن طريق الثالث ( بن مقاتل ) بواسطتين (١).

٥ ـ ثقافته :

إنّ ثقافته وآراءه في الفقهين ، الأكبر والأصغر ، ينتهي إلى إمام مذهبه « أبي حنيفة ». فإنّ مشايخه الّذين أخذ عنهم العلم ، عكفوا على رواية الكتب المنسوبة إليه ودراستها ، وقد نقل الشيخ الكوثري أسانيد الكتب المرويّة عن أبي حنيفة عن النسخ الخطّيّة الموجودة في دار الكتب المصرية وغيرها ، وفيها مشايخ الماتريدي. قال :

« ومن الكتب المتوارثة عن أبي حنيفة ، كتاب الفقه الأكبر رواية عليّ بن أحمد الفارسي ، عن نصير بن يحيى ، عن أبي مقاتل ( حفص بن سالم ) ، وعن عصام بن يوسف ، عن حمّاد بن أبي حنيفة ، عن أبيه ، وتمام السند في النسخة المحفوظة ضمن المجموعة الرقم (٢٢٦) بمكتبة شيخ الاسلام بالمدينة المنوّرة.

ونصير بن يحيى أحد مشايخ الماتريدي كما عرفت.

ومن هذه الكتب « الفقه الأبسط » رواية أبي زكريا يحيى بن مطرف بطريق « نصير بن يحيى » عن أبي مطيع ، عن أبي حنيفة ، وتمام السند في المجموعتين ( ٢٤ و ٢١٥ م ) بدار الكتب المصريّة.

ومن هذه الكتب « العالم والمتعلّم » رواية أبي الفضل أحمد بن علي البيكندي الحافظ، عن حاتم بن عقيل ، عن الفتح بن أبي علوان ، ومحمّد بن يزيد ، عن الحسن بن

__________________

١ ـ لاحظ : اتحاف السادة المتقين ، ج ٢ ص ٥.

١٥

صالح ، عن أبي مقاتل حفص بن سالم السمرقندي ، عن أبي حنيفة ، ويرويه أبو منصور الماتريدي عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني عن محمد بن مقاتل الرازي ، عن أبي مقاتل ، عنه ، وتمام الأسانيد في مناقب الموفّق والتّأنيب ( ٧٣ و٨٥ ).

ومن تلك الرسائل رسالة أبي حنيفة إلى البتّي ، رواية نصير بن يحيى ، عن محمّد بن مقاتل الرازي ، عن أبي مقاتل ، عنه ، وتمام الأسانيد في مناقب الموفق والتّأنيب ( ٧٣ و٨٥ ).

ومن تلك الرسائل رسالة أبي حنيفة إلى البتّي رواية نصير بن يحيى ، عن محمّد بن سماعة ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، وبهذا السند رواية الوصيّة أيضاً ، وتمام الأسانيد في نسخ دار الكتب المصرية ـ إلى أن قال : فبنور تلك الرسائل سعى أصحاب أبي حنيفة وأصحاب أصحابه في إبانة الحقّ في المعتقد .. إلى أن جاء إمام السنّة في ماوراء النهر ، أبو منصور محمّد بن محمّد الماتريدي المعروف ب ـ ( امام الهدى ) فتفرّغ لتحقيق مسائلها ، وتدقيق دلائلها ، فأرضى بمؤلّفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد » ، ثمّ ذكر مؤلفاته(١).

ترى أنّ أسناد هذه الكتب والرسائل تنتهي إلى أحد مشايخ الماتريدي وقد طبع منها : « الفقه الأكبر ، الرسالة ، العالم والمتعلّم ، والوصيّة » في مطبعة حيدرآباد عام ( ١٣٢١ هـ ).

وهذه المؤلّفات لا تتجاوز عن كونها بياناً للعقيدة وما يصحّ الإعتقاد به ، من دون أن تقترن بالدليل والبرهان ، ولكنّها تحوّلت من عقيدة إلى علم ، على يد ( الماتريدي ) فهو قد حقّق الاُصول في كتبه ، فكان هو متكلّم مدرسة أبي حنيفة ورئيس أهل السنّة في بلاد ماوراء النّهر ، ولذلك سمّيت المدرسة باسمه ، وأصبح المتكلّمون على مذهب الإمام أبي حنيفة في بلاد ماوراء النّهر ، يسمّون بالماتريديّين ، واقتصر إطلاق اسم أبي حنيفة على

__________________

١ ـ مقدمة اشارات المرام : ص ٥ ـ ٦.

١٦

الأحناف المتخصّصين في مذهبه الفقهي (١).

وفي ( مفتاح السعادة ) : « إنّ رئيس أهل السنّة والجماعة في علم الكلام رجلان : أحدهما حنفي ، والآخر شافعي ، أمّا الحنفي : فهو أبو منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي ، وأمّا الآخر الشافعي : فهو شيخ السنّة أبوالحسن الأشعري البصري » (٢).

وفي حاشية الكستلي (٣) على شرح العقائد النسفية (٤) للتفتازاني : « المشهور من أهل السنّة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار ، هم الأشاعرة ، وفي ديار ماوراءالنهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي ، تلميذ أبي بكر الجرجاني ، تلميذ محمّد بن الحسن الشيباني من أصحاب الإمام أبي حنيفة » (٥).

ويقول الزبيدي : « إذا اُطلق أهل السنّة والجماعة ، فالمراد هم الأشاعرة والماتريدية » (٦).

٦ ـ المتخرّجون عليه :

تخرّج عليه عدّة من العلماء منهم :

أ ـ أبو القاسم إسحاق بن محمّد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي ( ت ٣٤٠ هـ )

__________________

١ ـ مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي : ص ٥ بقلم الدكتور فتح اللّه خليفة ـ ط ١٣٩٢ هـ ـ، وهو المراد من « التوحيد » كلما اطلق في هذا الفصل.

٢ ـ مفتاح السعادة ومصباح السيادة : ج ٢ ص ٢٢ ـ ٢٣ طبعة حيدر آباد على ما في مقدمة محقق كتاب التوحيد للماتريدي.

٣ ـ هو مصلح الدين مصطفى القسطلاني ( م ٩٠٢ ).

٤ ـ وهذا الكتاب محور الدراسة في الأزهر وغيره ، وما زال كذلك إلى يومنا هذا ، وهو بمنزلة « شرح الباب الحادي عشر » عند الامامية ، يعرض عقائد أهل السنة على مذهب الامام « الماتريدي » بشكل واضح.

٥ ـ بهامش شرح العقائد النسفية : ص ١٧.

٦ ـ اتحاف السادة المتقين بشرح أسرار احياء علوم الدين : تأليف محمد بن محمد بن الحسيني ، طبع القاهرة ج ٢ ص ٨.

١٧

ب ـ الإمام أبواللّيث البخاري.

ج ـ الامام أبومحمّد عبد الكريم بن موسى البزدوي ، جدّ محمّد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي مؤلّف ( اُصول الدين ).

يقول حفيده : « ووجدت للشيخ الامام الزاهد « أبي منصور الماتريدي السمرقندي » كتاباً في علم التوحيد على مذهب أهل السنّة ، وكان من رؤساء أهل السنّة. حكى لي الشيخ الامام والدي رحمه‌الله عن جده الشيخ الامام الزاهد « عبد الكريم بن موسى » رحمه‌الله كراماته. فإنّ جدّنا كان أخذ معاني كتب أصحابنا ، وكتاب التوحيد ، وكتاب التأويلات من خلق (١) عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه‌الله إلا أنّ في كتاب التوحيد الذي صنّفه الشيخ أبو منصور قليل انغلاق وتطويل ، وفي ترتيبه نوع تعسير لولا ذلك لاكتفينا به (٢).

٧ ـ أنصار مذهبه في الأجيال اللاحقة :

إنّ للمنهج الكلاميّ الموروث من أبي منصور الماتريدي ، أنصاراً وأعواناً قاموا بإنضاج المذهب ونصرته ، ونشره وإشاعته ، وإن لم يصل إلى ما وصل إليه مذهب الأشعري من الانتشار وكثرة الإقتفاء ، وإليك ذكر بعض أنصاره :

١ ـ القاضي الإمام أبو اليسر محمّد بن محمّد بن الحسين عبد الكريم البزدوي ( المولود عام ٤٢١ هـ ، والمتوفّى في « بخارى » عام ٤٧٨ هـ ) وقد عرفت كلامه في حقّ الماتريدي ، وسيوافيك بعض كلامه عند البحث عن فوارق المنهجين ، وقد ألّف كتاب اُصول الدين على غرار هذا المنهج ، وسيوافيك الإيعاز إليه.

٢ ـ أبوالمعين النسفي ( م ٥٠٢ هـ ) وهو من أعاظم أنصار ذلك المذهب فهو

__________________

١ ـ ( كذا في النسخة ).

٢ ـ اُصول الدين للبزدوي : ص ٣ و١٥٥ ـ ١٥٨.

١٨

عند الماتريديّة كالباقلاّني بين الأشاعرة ، مؤلّف كتاب « تبصرة الأدلّة » الذي مازال مخطوطاً حتّى الآن ، ويعدّ الينبوع الثاني بعد كتاب « التوحيد » للماتريدية الّذين جاءوا بعده (١).

٣ ـ الشيخ نجم الدّين أبو حفص عمر بن محمّد ( م ٥٣٧ هـ ) مؤلف « عقائد النّسفي » ويقال إنّه بمنزلة الفهرس لكتاب « تبصرة الأدلّة » ومع ذلك ما زال هذا الكتاب محور الدّراسة في الأزهر ، وغيره ، إلى يومنا هذا ، كما تقدّم.

٤ ـ الشيخ مسعود بن عمر التفتازاني أحد المتضلّعين في العلوم العربيّة ، والمنطق ، والكلام ، وهو شارح « عقائد النسفي » الّذي أُلّف على منهاج الإمام الماتريدي ، ولكن لم يتحقّق لي كونه ماتريديّاً ، بل الظاهر من شرح مقاصده كونه أشعريّاً. خصوصاً في مسألة خلق الأعمال ، وكونه سبحانه خالقاً ، والعبد كاسباً.

٥ ـ الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام ( المتوفّى عام ٨٦١ هـ ) صاحب كتاب « المسايرة » في علم الكلام. نشره وشرحه محمّد محيي الدين عبد الحميد وطبع بالقاهرة.

٦ ـ العلامة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي مؤلف كتاب « إشارات المرام من عبارات الإمام » أحد العلماء في القرن الحادي عشر وكتابه هذا أحد المصادر للماتريديّة.

٧ ـ وأخيراً الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري المصري وكيل المشيخة الإسلاميّة في الخلافة العثمانيّة ، أحد الخبراء في الحديث ، والتاريخ، والملل ، والنحل. له خدمات صادقة في نشر الثقافة الإسلاميّة ومكافحة الحشوية والوهابيّة ، ولكنّ الحنابلة يبغضونه وما هذا إلاّ لأنّ عقليّته لا تخضع لقبول كلّ ما ينقل باسم الحديث ولا سيّما فيما يرجع إلى الصفات الخبرية لله سبحانه الذي لا يفترق عن القول بالتشبيه والتجسيم قدر شعرة.

__________________

١ ـ مقدمة التوحيد : ص ٥.

١٩

٨ ـ مؤلّفاته وآثاره العلميّة :

سجّل المترجمون للماتريدي كتباً له تعرب عن ولعه بالكتابة والتدوين والامعان والتّحقيق ، غير أنّ الحوادث لعبت بها ، ولم يبق منها إلاّ ثلاثة ، وقد طبع منها اثنان :

١ ـ « كتاب التوحيد » وهو المصدر الأوّل لطلاّب المدرسة الماتريدية وشيوخها الّذين جاءوا بعد الماتريدي ، واعتنقوا مذهبه ، وهو يستمدّ في دعم آرائه من الكتاب ، والسنّة ، والعقل ، ويعطي للعقل سلطاناً أكبر من النقل ، وقد قام بتحقيق نصوصه ونشره الدكتور فتح اللّه خليف ( عام ١٩٧٠ م ، ١٣٩٠ هـ ) وطبع الكتاب في مطابع بيروت مع فهارسه في (٤١٢) صفحة وقد عرفت من البزدوي مؤلف « اُصول الدين » أنّ الكتاب لا يخلو من انغلاق في التّعبير ، وهو لائح منه لمن سبره.

٢ ـ « تأويلات أهل السنّة » في تفسير القرآن الكريم ، وهو تفسير في نطاق العقيدة السنيّة ، وقد مزجه بآرائه الفقهية والاُصولية وآراء اُستاذه الإمام أبي حنيفة ، فصار بذلك تفسيراً عقيدياً فقهيّاً ، وهو تفسير عامّ لجميع السور ، والجزء الأخير منه يفسّر سورة المنافقين ، إلى آخر القرآن ، وقد وقفنا من المطبوع منه على الجزء الأوّل وينتهي إلى تفسير الآية (١١٤) من سورة البقرة. حقّقه الدكتور إبراهيم عوضين والسيد عوضين ، وطبع في القاهرة عام ( ٣٩٠ هـ ) ، والمقارنة بين الكتابين تعرب عن وحدتهما في المنبع ، والتعبير ، والتركيب ، فمثلاً ما ذكره في تفسير قوله : ( رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) من الاستدلال على جواز الرؤية ، هو نفس ما ذكره في كتاب التوحيد ، إلى غير ذلك من المواضيع المشتركة بين الكتابين ، ولكنّ التفسير أسهل تناولاً ، وأوضح تعبيراً.

وأمّا كتبه الاُخر فإليك بيانها :

٣ ـ المقالات : حكى محقّق كتاب ( التوحيد ) وجود نسخة مخطوطة منه في المكتبات الغربيّة.

٤ ـ مأخذ الشرايع ، ٥ ـ الجدل في اُصول الفقه ، ٦ ـ بيان وهم المعتزلة ، ٧ ـ ردّ كتاب

٢٠