بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

ويعمر أركان الشريعة ، هادماً

مشاهد ضلّ الناس فيه عن الرشد

أعادوا بها معنى « سواع » ومثله

« يغوث » و « ودٍ » بئس ذلك من ودِّ

وقد هتفوا عند الشدائد باسمها

كما يهتف المضطر بالصمد الفردِ

وقد سرّني ما جاءني من طريقة

وكنت أرى هذه الطريقة لي وحدي

ولما أتته الأنباء عن قائد الحركة بأنّه يسفك الدماء ، وينهب الأموال ، ويكفّر الأمة المحمدية في جميع الأقطار ، تراجع عن التأييد شكلياً لا من حيث المحتوى ، وقال في قصيدة نقض فيها ، قصيدته الأولى ، مستهلها :

رجعتُ عن القول الذي قلتُ في النجدي

وقد صحّ لي عنه خلاف الذي عندي

ظننت به خيراً وقلت عسى عسى

نجد ناصحاً يهدي الأنام ويستهدي

فقد خابَ فيه الظنّ لا خاب نصحنا

وما كل ظنٍّ للحقائق لي مهدي

ثم أخذ في ردّ شكل تطبيق المبدأ ، فقال :

أبن لي أبن لي لماذا سفكتَ دماءهم

لماذا نهبت المال قصداً على عمد

وقد عصموا هذا وهذا بقول : لا

إله سوى اللّه المهيمن ذي المجد

وهذا لعمري غير ما أنت فيه من

تجاريك في قتل لمن كان في نجد

فمالك في سفك الدماء قطّ حجّة

خف اللّه واحذر ما تسرّ وما تبدي

٤٤١

لقد عزب عن ابن الأمير أنّه هو الذي أحلّ سفك دمائهم حيث شبههم في قصيدته الأولى عبّاد « سواع » و « ود » وهل يكون دم الوثني! محترماً مصوناً.

إنّ الأمير ندم حين ما لا ينفعه الندم ، وقد أظهر الندامة بعد سفك الدماء الطاهرة ، وقتل النفوس الأبرياء ، ونهب الأموال ، وتدمير البيوت والخيام ، بحجّة أنّهم يتوسلون بالنبي ، أو يزورون قبره الشريف ومن قرأ تاريخ الوهابية الأثيمة يقف على أنّه أُسس على قتل الآف من الرجال والنساء والأطفال ، الذين كانوا يقولون : لا إله إلاّ اللّه ، محمد رسول اللّه ، يصلّون ، يزكون ، ويحجّون ومانقموا منهم إلاّ أنّهم كانوا يعزّرون النبي الأكرم ، ويمجّدون نبي التوحيد ، ويتبرّكون بآثاره ، كما كانت الصحابة متبركين بها.

وعلى كل تقدير فقد تخلّى ابن الوزير عن المذهب الزيدي وتحول إلى سلفي وهابي ، وتسرع في تأييد موقف ابن عبد الوهاب ، فلو كان مذهب السلف ، الاِخافة وسلّ السيف ، وضرب الرقاب ، وتدمير آثار الرسالة ، وإنساء الأنبياء والأولياء عن الأذهان ، وإثبات جهة الفوق والاستواء على العرش الذي هو فوق السموات والأرض ، والجسمية والغضب والضحك واليد اليمنى والشمال ، والأصابع والكف للّه سبحانه بمعانيها اللغوية ، فألف سلام اللّه على الخلف مع بدعه المزعومة ، وتوسلاّته المختلقة بزعمهم.

٤٤٢

زيدي تسنّن وتوهّب

٣

محمد بن علي بن محمد بن عبد اللّه الشوكاني الصنعاني

(١١٧٢ ـ ١٢٥٠ هـ)

أحد الشخصيات البارزة في اليمن الخضراء قد ترجم لنفسه في كتابه البدر الطالع وقال :

نشأ بصنعاء فقرأ القرآن على جماعة من المعلمين ، وختمه على الفقيه حسن ابن عبد اللّه الهبل ، وجوّده على جماعة من مشايخ القرآن ، بصنعاء ثم حفظ الأزهار للاِمام المهدي ، ومختصر الفرائض للعصيفري ، والملحة للحريري ، والكافية والشافية لابن الحاجب ، والتهذيب للتفتازاني ، والتلخيص للقزويني ، والغاية لابن الاِمام ، وبعض مختصر المنتهى لابن الحاجب ، ومنظومة الجزريّ ، ومنظومة الجزاز في العروض وآداب البحث للعضدي ورسالة الوضع له أيضاً. وكان حفظه لهذه المختصرات قبل الشروع في الطلب ، وبعضها بعد ذلك ، ثم قبل شروعه في الطلب كان كثير الاشتغال بمطالعة كتب التواريخ ومجاميع الأدب من أيام كونه في المكتب فطالع كتباً عدّة ، ومجاميع كثيرة ، ثم شرع في الطلب وقرأ على والده رحمه‌الله شرح الأزهار ، إلى آخر ما ذكره من الكتب التي قرأها على مشايخه أو سمعها من أساتذته و ـ ذكر ـ أنّه سمع البخاري من أوّله إلى آخره على السيّد العلامة علي بن إبراهيم ، وسمع صحيح مسلم جميعاً وسنن الترمذي جميعاً وبعض موطأ مالك وبعض شفاء القاضي عياض على السيد العلامة عبد القادر بن أحمد ، وكذلك سمع منه بعض جامع الأصول ، وبعض سنن النسائي وبعض سنن ابن ماجة ،

٤٤٣

وسمع جميع سنن أبي داود وتخريجها للمنذري ، وبعض المعالم للخطابي ـ إلى أن قال : ـ وكذلك بعض المنتقى لابن تيميّة على السيد القادر بن أحمد وكذلك سمع شرح بلوغ المرام (١).

لقد ترك الشوكاني آثاراً في التفسير والفقه والحديث والكلام وهنا نذكر من آثاره ما يلي :

١ ـ فتح القدير في التفسير ، وقد طبع في خمسة أجزاء جمع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير.

٢ ـ نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار في الحديث ، والمنتقى تأليف الشيخ أبو البركات شيخ الحنابلة مجد الدين عبد السلام بن عبد اللّه الحرّاني (٥٤٢ ـ ٦٢١ هـ) جد ابن تيمية.

٣ ـ القول المفيد في أدلّة الاجتهاد والتقليد.

٤ ـ إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والميعاد والنبوات ، ردّ به على موسى بن ميمون الأندلسي اليهودي.

إنّ الاِلمام بحياة الشوكاني دراسة وقراءة ، أُستاذاً وشيخاً ، تعرب عن أنّه كان سلفيّ المذهب ، متحرّراً عن التقيّد بمذهب أحد الأئمّة ، وكتابه « نيل الأوطار » يشهد على ذلك. وقد أوجد هزّة في الأوساط اليمنية ، وهو وإن أخذ من السلفية ، بهذا الجانب ، الجميل ، ولكنّه تورّط في مغبّة لوازم التجسيم والتشبيه ، وتتلخص عقائده في الأمور التالية :

أوّلاً : يرى حمل صفات اللّه تعالى الواردة في القرآن والسنّة على ظاهرها من غير تأويل ، وقد ألّف رسالة في ذلك سمّـاها : « التحف بمذهب السلف » ويذكر في تفسير قوله سبحانه : « وَسِعَ كُرسيّهُ السَّمواتِ والأرض » (البقرة ـ ٢٥٥) أنّ

__________________

١ ـ الشوكاني : البدر الطالع : ٢ / ٢١٤ ـ ٢١٧.

٤٤٤

الكرسي جسم وردت به الآثار بصفته. ثم ذكر الأقوال الأخر.

وقال : والحقّ هو الأوّل ، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلى مجرد خيالات وضلالات (١).

والمتتبع في تفسيره يجد أنّه يقوي مذهب السلف في غالب المواضع حتى روَية اللّه في الآخرة لو سلم كونها مذهب السلف.

ثانياً : لا يرى للمجتهد تقليد أئمة المذاهب الفقهية ، وهو في تلك الفكرة مصيب مشكور ، لكنّه أفرط في تطبيق الآيات الذامة للمشركين في تقليدهم الآباء ، على مقلدي أئمة المذاهب (٢).

نحن نقدر كسر قيد الالتزام بالمذاهب الفقهية للمستطيع استخراج الأحكام عن أدلتها الشرعية ، لكن المجتهد المطلق عبارة عمن استوعب الأدلّة واستقصاها ومنها الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت التي رواها شيعتهم من زيدية وإسماعيلية وإمامية ، لكن الأسف أنّ المتخرجين في حقول الفقه إمّا مقلد لأئمّة الفقه أو خارج عن هذا الاِطار ، ولكنّه ضارب عن أحاديث العترة ، مع أنّها أحد الثقلين.

ثالثاً : إنّ الرجل جمع بين القولين المتضادين ، فمن جانب يرى أنّ الشهداء أحياء حقيقة لا مجازاً.

قال في تفسير قوله تعالى : « وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أمواتاً بَل أحياءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزقُون » (آل عمران ـ ١٥٤) :

__________________

١ ـ الشوكاني : فتح القدير : ١ / ٢٧٧ ـ ٣٧٣ ، ط ، دار المعرفة بالأفست بيروت ، لبنان وكل ما ننقله فهو من هذه الطبعة.

٢ ـ لاحظ فتح القدير ، سورة الأعراف ، تفسير قوله سبحانه : ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا آباءنا عليها ... ) (الآية ٢٨).

٤٤٥

أي لاتقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه هم أموات بل هم أحياء ، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد سلب أرواحهم ، لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر بحسب ما يبلغ إليه علمكم ، الذي هو بالنسبة إلى علم اللّه كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر وليسوا كذلك في الواقع بل هم أحياء في البرزخ (١).

ومن جانب آخر يرى التوسل بالأنبياء مخالفاً للذكر الحكيم وقد أفاض الكلام في الاِنكار على التوسل عند تفسير قوله سبحانه : « قُل لا أملِكُ لِنَفسي ضَرَّاً ولا نَفعاً إلاّ ما شاءَ اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةً أجَلٌ إذا جاءَ أجَلُهُم فلا يَسْتَأخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون » (يونس ـ ٤٩) فقد ذكر في تفسير الآية نفس ما ورثه من ابن تيمية ولاعق قصعته محمد بن عبد الوهاب (٢) ولولا خوف الاِطالة لأتيت بنص كلامه ليقف القارىَ على وحدة النسج ، وبما أنّنا أفضنا في الجزء الرابع من هذه الموسوعة الكلام في التوسل ، نطوي الكلام غير أنّا نذكر هنا نكته وهي :

إنّ المتوسل لايدّعي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يملك نفعه أو ضرّه ، حتى يقال : إنّه لا يملك نفع نفسه ولا ضره ، فكيف بغيره ، وإنّما يقول : إنّ الأنبياء والصديقين والشهداء أحياء حسب ما قرره الشوكاني ، والصلة بيننا وبينه موجودة ، فنطلب منهم الدعاء كما نطلبه منهم في حال الحياة ، وربّما توسل بذواتهم ومقاماتهم ، وذلك لاستمطار رحمته سبحانه ، وجلب رضوانه ، والمخاطب الحقيقي لقضاء الحاجة هو اللّه سبحانه والركائب مناخة على أبوابه سبحانه.

رابعاً : إنّ الشوكاني وإن كسر قيد الالتزام بمذهب الزيدية ، ولكنّه لم يتخلّ عنه تماماً في بعض الموارد من تفسيره فربما يذكر بعض الروايات الدالّة على إمامة

__________________

١ ـ فتح القدير : ١ / ١٥٩.

٢ ـ فتح القدير : ٢ / ٤٤٦ ـ ٤٥٠.

٤٤٦

علي عليه الصلاة والسلام ، لكن بشكل هادىَ ، حيث ذكر في تفسير قوله سبحانه : « إنّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُوَتُونَ الزّكاةَ وَهُمْ راكعُونَ » (المائدة ـ ٥٥) قولين :

أحدهما : إنّها نزلت في حقّ عبادة بن الصامت ، وثانيهما : أنّها نزلت في حقّ علي ، وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن ابن عباس ، قال : تصدّق عليّ بخاتم وهو راكع. فقال : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسائل : « من أعطاك هذا الخاتم؟ » قال : هذا الراكع ، فأنزل اللّه فيه : « إِنّما وَلِيُّكُم اللّهُ وَرَسُولهُ » وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس ، قال : نزلت في علي بن أبي طالب إلى آخر ما ذكره (١).

ويذكر في تفسير قوله سبحانه : « إِنّما يُريدُ اللّه لِيُذهِبَ عَنْكُمْ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَّهِّرَكُم تَطهيرا » (الأحزاب ـ ٢٣) قولين :

الأوّل : أنّها نزلت في زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال : قال أبو سعيد الخدري ومجاهد ، وقتادة إنّ أهل البيت المذكورين في الآية علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة ، ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للاِناث ، وهو قوله : « عنكم ، وليطهركم » ولو كان للنساء خاصة لقال : عنكنّ ، يطهركنّ. وأجاب الأوّلون عن هذا التذكير باعتبار لفظ الأهل كما قال سبحانه : « أتعجبينَ مِنْ أمرِ اللّهِ رحمةُ اللّهِ وبركاتُهُ عَليكُمْ أهلَ البَيتِ » وكما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك؟ يريد زوجته أو زوجاته ، فيقول : هم بخير. ثم إنّه ذكر أدلّة القولين وخرج بأنّ الحقّ شموله للطائفتين (٢).

ولعلّ هذا الجمع الذي لجأ إليه ، كان مقتضى ظروفه ، وإلاّ فكيف يمكن

__________________

١ ـ فتح القدير : ٢ / ٣٥٠.

٢ ـ فتح القدير : ٤ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

٤٤٧

القول بالجمع ، وهو خرق للاِجماع المركب أوّلاً ، ومخالف للروايات المتضافرة من أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع علياً وابنيه وزوجته تحت الكساء وقال : هوَلاء أهل بيت ، ولم يجز لأمّ سلمة أن تدخل تحت الكساء.

لكنه قد قصر في بعض المواضع ، حيث لم يذكر نزول قوله سبحانه : « اليومَ أكمَلتُ لَكُمْ دينَكُمْ وأتممتُ عليكُمْ نِعمَتي ورضِيتُ لكمُ الاِسلامَ دِيناً » (المائدة ـ ٣) في حقّ علي مع تضافر الروايات. وفسر إكمال الدين بإكمال ظهوره على الأديان كلها ، وغلبته لها (١).

نعم ، ذكر في تفسير قوله سبحانه : « يا أيُّها الرَّسولُ بلِّغْ ما أُنزِلَ إليكَ مِنْ ربِّكَ وإنْ لَمْ تَفعَلْ فَما بلَّغْتَ رسالَتَهُ واللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ » (المائدة ـ ٦٧) قال : أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري ، قال : نزلت هذه الآية على رسول اللّه يوم غدير خم في علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، وقال : وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود ، قال : كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه : ( ياأيـّها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك » أنّ علياً مولى الموَمنين « وإنْ لَـمْ تَفعلْ فَما بلَّغتَ رِسالَتَهُ واللّهُ يَعصِمُكَ منَ النّاس » (٢).

وعلى كل تقدير فما يذكره في حقّ أئمة أهل البيت أثر من آثار نشأته بين الزيدية ، ولكنّه في مجال العقيدة سلفيّ ، يتمسك بحرفية القرآن ويجوّز الروَية في الآخرة (٣). ويذهب في مجال الفقه إلى حجّية كل صحابي من غير فرق بين المعلوم والمجهول ، حتى ألّف كتاباً باسم « القول المقبول في ردّ خبر المجهول من غير صحابة الرسول » (٤) ويصدر عن الصحاح والمسانيد ويخالف مذهب الزيدية

__________________

١ ـ فتح القدير : ٢ / ١١.

٢ ـ فتح القدير : ٢ / ٦٠.

٣ ـ فتح القدير : ١ / ٨٦ في تفسير قوله سبحانه : (وإذ قلتم ياموسى لن نوَمن لك حتى نرى اللّه جهرة).

٤ ـ نيل الأوطار : المقدمة (و).

٤٤٨

كثيراً. وكتابه المعروف « السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار » يعد ثورة عارمة على الزيدية في المجالات الفقهية. وإليك الكلام في هذا الكتاب.

قصة « السيل الجرار المتدفق » :

ألّف أحمد بن يحيى بن المرتضى (٧٧٥ ـ ٨٤٥ هـ) كتاباً باسم « الأزهار في فقه الأئمّة الأطهار ».

ثم شرحه باسم « الغيث المدرار ». ألّفه على مذهب الاِمام الهادي الزيدي في الفروع ، يقول المقدِّم لكتاب البحر الزخار في مقدمته : « والكتاب لشموله وتحقيقه ، وبلاغة أُسلوبه ، وحسن تبويبه يعدّ من آيات الاِمام (أحمد بن يحيى بن المرتضى) التي اختصه اللّه بها ومنحه إياه لنفع الموَمنين وانتشال الجاهلين من ظلام الحيرة إلى نور المعرفة والهدى » (١).

وقد ألّفه الاِمام في السجن بين عام « ٧٩٤ ـ ٨٠١ هـ » وبما أنّ الكتاب باقة أزهار من الفقه الهادوي فيظن أنّه راجع إليه بعد الخروج من السجن إلاّ إذا كانت المصادر فيه متوفّرة وقد كان العمل عليه في المحاكم والأوساط العلمية.

ومن المعلوم أنّ فكرة التحرير من الفقه الهادوي ، الذي غرس بذرتها ابن الوزير ، وسقاها ابن الأمير ، على طرف النقيض من محتويات الكتاب واشتهاره بين العلماء ولأجل ذلك قام الشوكاني بنقده بكتاب أسماه « السيل الجرار ، المتدفق على حدائق الأزهار » فأثار بكتابه هذا ، والاسم الذي سمّـاه به حفيظة كثير من الزيديين قال في مقدمة الكتاب :

فإنّ مختصر الأزهار لما كان مدرس طلبة هذه الديار في هذه الأعصار ومعتمدهم الذي عليه في عباداتهم ومعاملاتهم المدار ، وكان قد وقع في كثير من

__________________

١ ـ مقدمة البحر الزخار : ١٨.

٤٤٩

مسائله الاختلاف بين المختلفين من علماء الدين والمحققين من المجتهدين : أحببت أن أكون حكماً بينه وبينهم ثم بينهم أنفسهم عند اختلافهم في ذات بينهم ، فمن كان أهلاً للترجيح ومتأهلاً للتقسيم والتصحيح فهو إن شاء اللّه سيعرف لهذا التعليق قدره ويجعله لنفسه مرجعاً ولما ينوبه ذخراً ، وأمّا من لم يكن بهذا المكان ولا بلغ مبالغ أهل هذا الشأن ولا جرى مع فرسان هذا الميدان فهو حقيق بأن يقال له : « ماذا يغشّك ياحمامة فادرجي » وقد طبع الكتاب في مجلدات أربعة قام بطبعه المجلس الأعلى للشوَون الاِسلامية بعد قيام الجمهورية العربية في اليمن. وذلك أيضاً في طريق أهدافه من هدم آثار الاِمامة في اليمن ولو بيد علمائها.

وفي الختام نذكر تأليفه المفيد وهو « البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع » ، ألّفه لغاية خاصة وهو أنّ الخلف ليس بأقل من السلف ، ولامسوغ للتقليد لأئمّة الفقه بل يجب التحرر عن الالتزام بفقه إمام خاص ، قال في مقدمته : فإنّه لما شاع على ألسن جماعة من الرعاع ، اختصاص سلف هذه الأمّة بإحراز فضيلة السبق في العلوم دون خلفها. حتى اشتهر عن جماعة من أهل المذاهب الأربعة تعذّر وجود مجتهد بعد المائة السادسة كما نقل عن البعض ، أو بعد المائة السابعة كما زعمه آخرون. وكانت هذه المقالة بمكان من الجهالة لا يخفى على من له أدنى حظّ من علم ، وأنزر نصيب من عرفان ، وأحقر حصة من فهم ، لأنّها قصر للتفضّل الاِلهي ، والفيض الرباني على بعض العباد دون البعض ، وعلى أهل عصر دون عصر ، وأبناء دهر دون دهر بدون برهان ولا قرآن على أنّ هذه المقالة المخذولة والحكاية المرذولة تستلزم خلو هذه الأعصار المتأخرة عن قائم بحجج اللّه ، ومترجم عن كتابه وسنّة رسوله ، ومبيّن لما شرعه لعباده ، وذلك هو ضياع الشريعة بلا مرية ، وذهاب الدين بلا شك وهو تعالى قد تكفّل بحفظ دينه

٤٥٠

وليس المراد حفظه في بطون الصحف والدفاتر ، بل إيجاد من يبيّنه للناس في كل وقت وعند كل حاجة.

حداني ذلك إلى وضع كتاب يشتمل على تراجم أكابر العلماء من أهل القرن الثامن ومن بعدهم مما بلغني خبره إلى عصرنا هذا ، ليعلم صاحب تلك المقالة أنّ اللّه وله المنّة قد تفضل على الخلف كما تفضل على السلف ، بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية على اختلاف أنواعها ، من يقلّ نظيره من أهل العصور المتقدمة كما سيقف على ذلك من أمعن النظر في هذا الكتاب وحلّ عن عنقه ، عرى التقليد وقد ضممت إلى العلماء من بلغني خبره من العباد والخلفاء والملوك والروَساء والأدباء ولم أذكر منهم إلاّ من له جلالة قدر ونبالة ذكر وفخامة شأن دون من لم يكن كذلك (١).

وطبع الكتاب في جزئين يشتمل الجزء الأوّل على ٣٥٤ ترجمة للشخصيات العلمية والسياسية ، وقد وقع الخطأ في أرقام تراجم الجزء الثاني فالظاهر منه أنّ الجزئين يحتوي على ترجمة ٥٩٦ شخصية وقد فرغ من تأليف الكتاب عام ١٢١٣ هـ.

ثم إنّ النسابة المعروف اليمني محمد بن محمد بن يحيى بن زبارة ، ذيّله بملحق ، أتى فيه بترجمة ٤٤٠ شخصية من مشاهير اليمن لكن على وجه الاختصار ، وقد ترجم من عثر عليه من تراجم من بعد القرن السابع إلى أثناء القرن الثاني عشر من رجال اليمن الميمون ، ولم يسجّل فيه تراجم الرجال الذين ذكروا في كتاب « نيل الأوطار من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث » ألّفه في القاهرة عام ١٣٤٨ هـ شكر اللّه مساعيه.

__________________

١ ـ الشوكاني : البدر الطالع : ١ / ٢.

٤٥١
٤٥٢

الفصل الثامن

فرق الزيدية في كتب تاريخ العقائد

قد ذكر موَرخو العقائد ، للزيدية فرقاً بين مقتصر على الثلاثة ، وإلى مفيض إلى ستة ، وثمانية ، وإليك نصوصهم حسب التسلسل الزمني في التأليف :

١ ـ قال الأشعري : « والزيدية » ست فرق :

فمنهم : الجارودية : أصحاب « أبي الجارود » وإنّما سمّوا « جارودية » لأنّهم قالوا بقول : « أبي الجارود » يزعمون أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على علي بن أبي طالب بالوصف لا بالتسمية ، فكان هو الاِمام من بعده وأنّ الناس ضلّوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم « الحسن » من بعد علي هو الاِمام ثم « الحسين » هو الاِمام من بعد الحسن.

وافترقت الجارودية فرقتين : فرقة زعمت أنّ علياً نصّ على إمامة « الحسن » وأنّ الحسن نص على إمامة « الحسين » ثم هي شورى في ولد الحسن وولد الحسين فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربّه وكان عالماً فاضلاً فهو الاِمام ، وفرقة زعمت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص على « الحسن » بعد علي وعلى « الحسين » بعد الحسن ليقوم واحد بعد واحد.

وافترقت الجارودية في نوع آخر ثلاث فرق : فزعمت فرقة أنّ « محمد بن عبد اللّه بن الحسن » لم يمت وأنّه يخرج ويغلب ، وفرقة أُخرى زعمت أنّ « محمد بن

٤٥٣

القاسم » صاحب الطالقان حي لم يمت وأنّه يخرج ويغلب ، وفرقة قالت مثل ذلك « يحيى بن عمر » صاحب الكوفة.

والفرقة الثانية من الزيدية ، « السليمانية » : أصحاب « سليمان بن جرير الزيدي » يزعمون أنّ الاِمامة شورى وانّها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين ، وانّها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ، ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر.

وحكى « زرقان » عن سليمان بن جرير أنّه كان يزعم أنّ بيعة أبي بكر وعمر خطأ لا يستحقان عليها اسم الفسق من قبل التأويل ، وانّ الأمّة قد تركت الأصلح في بيعتهم أياهما ، وكان سليمان بن جرير يقدم على عثمان ويكفره عند الأحداث التي نقمت عليه ، ويزعم أنّه قد ثبت عنده أنّ علي بن أبي طالب لايضل ولاتقوم عليه شهادة عادلة بضلالة ، ولايوجب علم هذه النكتة على العامة إذ كان إنّما تجب هذه النكتة من طريق الروايات الصحيحة عنده.

والفرقة الثالثة : من الزيدية : « البترية » : أصحاب « الحسن بن صالح بن حي » وأصحاب « كثير النواء » وإنّما سمّوا « بترية » لأنّ « كثيراً » كان يلقب بالأبتر ، يزعمون أنّ علياً أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولاهم بالاِمامة ، وأنّ بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ ، لأنّ علياً ترك ذلك لهما ، ويقفون في عثمان وفي قتلته ولايقدمون عليه بإكفار ، وينكرون رجعة الأموات إلى الدنيا ، ولايرون لعلي إمامة إلاّ حين بويع ، وقد حكي أنّ « الحسن بن صالح بن حي » كان يتبرّأ من عثمان رضوان اللّه عليه بعد الأحداث التي نقمت عليه.

والفرقة الرابعة من الزيدية : « النعيمية » : أصحاب « نعيم بن اليمان » يزعمون أنّ علياً كان مستحقاً للاِمامة وأنّه أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ الأمّة ليست بمخطئة خطأ أثم في أن ولّت أبا بكر وعمر رضوان اللّه تعالى عليهما ، ولكنها

٤٥٤

مخطئة خطأ بيّناً في ترك الأفضل وتبرّأوا من عثمان ومن محارب علي وشهدوا عليه بالكفر.

والفرقة الخامسة من الزيدية : يتبرّأون من أبي بكر وعمر ولا ينكرون رجعة الأموات قبل يوم القيامة.

والفرقة السادسة من الزيدية : يتولّون أبا بكر وعمر ، ولايتبرّأون ممن برىء منهما ، وينكرون رجعة الأموات ويتبرّأون ممن دان بها وهم « اليعقوبية » أصحاب رجل يدعى « يعقوب » (١).

٢ ـ قال المسعودي : إنّ الزيدية كانت في عصرهم ثمانية فرق : أوّلها الفرقة المعروفة بـ « الجارودية » وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي ، وذهبوا إلى أنّ الاِمامة مقصورة في ولد الحسن والحسين دون غيرهما ، ثم الفرقة الثانية المعروفة بـ « المرئية » ، ثم الفرقة الثالثة المعروفة بـ « الأبرقية » ، ثم الفرقة الرابعة المعروفة بـ « اليعقوبية » وهم أصحاب يعقوب بن علي الكوفي. ثم الفرقة الخامسة المعروفة بـ « العقبية » ثم الفرقة السادسة المعروفة بـ « الأبترية » وهم أصحاب كثير الأبتر والحسن بن صالح بن حي. ثم الفرقة السابعة المعروفة بـ « الجريرية » وهم أصحاب سليمان بن جرير. ثم الفرقة الثامنة المعروفة بـ « اليمانية » وهم أصحاب محمد بن يمان الكوفي ، وقد زاد هوَلاء في المذاهب وفرّعوا مذاهب على ما سلف من أُصولهم (٢).

٣ ـ قال نشوان الحميري : افترقت الزيدية ثلاث فرق : بترية وجريرية

__________________

١ ـ الأشعري : مذاهب الاِسلاميين : ٦٦ ـ ٦٩.

٢ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٢ / ١٨٣.

٤٥٥

وجارودية. فقالت البترية : إنّ علياً عليه‌السلام كان أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولاهم بالاِمامة ، وأنّ بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ ، لأنّ علياً عليه‌السلام سلم لهما ذلك ، بمنزلة رجل كان له حقّ على رجل فتركه له ، ووقفت في أمر عثمان ، وشهدت بالكفر على من حارب علياً ، وسمّوا البترية ، لأنّهم نسبوا إلى كثير النواء ، وكان المغيرة بن سعيد يلقب كثيراً بـ « الأبتر ».

وقالت الجريرية : إنّ علياً كان الاِمام بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ بيعة أبي بكر وعمر كانت خطأ لا يستحق عليه اسم الكفر ، ولا اسم الفسوق ، وأنّ الأمّة قد تركت الأصلح ، وبرئت من عثمان سبب أحداثه ، وشهدت عليه وعلى من حارب علياً بالكفر.

وقالت الجارودية : إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على علي عليه‌السلام بالاِشارة والوصف دون التسمية والتعيين ، وإنّه أشار إليه ووصفه بالصفات التي لم توجد إلاّ فيه ، وإنّ الأمّة ضلت وكفرت بصرفها الأمر إلى غيره ، وإنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على الحسن والحسين عليهما‌السلام بمثل نصّه على علي ، ثم إنّ الاِمام بعد هوَلاء الثلاثة ليس بمنصوص عليه ، ولكن الاِمامة شورى بين الأفاضل من ولد الحسن والحسين ، فمن شهر منهم سيفه ودعا إلى سبيل ربّه وباين الظالمين ، وكان صحيح النسب من هذين البطنين ، وكان عالماً زاهداً شجاعاً ، فهو الاِمام.

وافترقت الجارودية في نوع آخر ثلاث فرق :

أ ـ فرقة زعمت أنّ محمد بن عبد اللّه النفس الزكية بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب لم يمت ولا يموت ، حتى يملأ الأرض عدلاً ، وأنّه القائم المهدي المنتظر عندهم ، وكان محمد بن عبد اللّه خرج على المنصور فقتل بالمدينة.

ب ـ وفرقة زعمت أنّ محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين

٤٥٦

ابن علي بن أبي طالب ، حي لم يمت ولا يموت ، حتى يملأ الأرض عدلاً ، وأنّه المهدي المنتظر عندهم ، وكان محمد بن القاسم هذا خرج على المعتصم بالطالقان فأسره المعتصم ، فلم يدر بعد ذلك كيف خبره.

وفرقة زعمت أنّ يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حي لم يمت ، وأنّه القائم المنتظر عندهم ، ولايموت حتى يملأ الأرض عدلاً ، وكان يحيى بن عمر هذا خرج على المستعين ، فقتل بالكوفة. هذه رواية أبي القاسم البلخي عن الزيدية ، وليس باليمن من فرق الزيدية غير الجارودية ، وهم بصنعاء وصعدة وما يليهما (١).

دراسة حول فرق الزيدية :

قد تعرفت على كلمات الموَرّخين في فرق الزيدية ، فهي بين ما يحصرهم في ثلاث ، إلى آخر يعدهم ست فرق ، إلى ثالث يحسبهم ثماني فرق ، وهذا الاختلاف يكشف عن وجود غيوم تُلبّد سماء الواقع ، ولكن الذي يهمنا هنا ، مسألة أُخرى ، أنّ هذه الفرق ، كلها قد بادت وذهبت أدراج الرياح مع بقاء الزيدية في اليمن ، والذي يميز الزيدية عن سائر الفرق الاِسلامية ليس شيء مما ورد في عقائد هذه الفرق وإنّما هو عبارة عن القول بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ووجوب الخروج ـ الثورة ـ على الظلمة ، واستحقاق الاِمامة بالفضل والطلب لا بالوراثة مع القول بتفضيل علي كرم اللّه وجهه وأولويته بالاِمامة وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين (٢).

__________________

١ ـ نشوان الحميري : الحور العين : ١٥٥.

٢ ـ علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين : الزيدية نظرية وتطبيق : ١١ المطبوع عام ١٤٠٥ هـ ط. عمان.

٤٥٧

ولايوجد اليوم في اليمن بين الزيدية من المفاهيم الكلامية المنسوبة إلى الفرق كالجارودية ، أو السليمانية ، أو البترية أو الصالحية ، إلاّ مفهوم واحد ، وهو المفهوم العام الذي تعرفت عليه وهو القول بإمامة زيد والخروج على وجه الظلمة واستمرار الاِمامة في بطن الحسنين ، وأنـّها بالطلب والفضل وأمّا أسماء تلك الفرق والعقائد المنسوب إليهم فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والموَلّفات في الفرق الاِسلامية كالملل والنحل ونحوها.

فإذا كانت الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين فالبحث عن هذه الفرق من ناحية إيجابياتها وسلبياتها ليس مهماً بعد ما أبادهم الدهر ، وإنّما اللازم دراسة المفهوم الجامع بين فرقهم ، نعم هناك أمرين هامين يجب التنبيه عليهما :

١ ـ في تسميتهم بالزيدية :

إنّ موَرخي العقائد يسمّونهم بالزيدية شأنهم شأن سائر الفرق التابعة لاِمامها من غير فرق بين كونه إماماً في الأصول والعقائد كالشيخ الأشعري ، أو إماماً في الفقه والأحكام كالحنفي والشافعي ، فتصور لنا هذه التسمية (الزيدية) أنّ هذه الفرق تلقّت أُصولها وفروعها من إمامهم زيد الشهيد ، كما أخذت الأشاعرة أُصولها من الشيخ الأشعري ، والحنفية من إمامها أبي حنيفة.

ولكن هذه التسمية بهذا المفاد خاطئة جداً ، لأنّه لم تكن لزيد عقيدة خاصة في المسائل الكلامية حتى يكون أتباعه عيالاً له في هذا المجال ، كما أنّه لم يكن له كتاب فقهي استدلالي حتى يرجع المقلِّدون ، إليه في الفروع.

نعم إنّ الثابت عن زيد الشهيد ، أنّه كان يقول بالتوحيد والعدل شأن كل علوي يقتفي أثر الاِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام. فليس القول بهذين الأصلين دليلاً على أنّهم اقتفوا زيداً في هذين الأصلين.

٤٥٨

كما أنّ الثابت عنه في مجال الفقه يعود إلى المسند الذي تعرفت عليه ، وهو لا يتجاوز عن نقل أحاديث فقهية ، ولا يعلم منه مدى فقاهته واستطاعته في استخراج الفروع من الأصول ، وعلى فرض التسليم بذلك فالفقهاء المعروفون بالزيدية ابتداء من الاِمام أحمد بن عيسى ، إلى الاِمام القاسم الرسّـي ، إلى الاِمام يحيى الهادي ، إلى الناصر الأطروش ، حتى تصل النوبة إلى الاِمام المجتهد يحيى بن حمزة والاِمام المهدي بن المرتضى موَلّف « البحر الزخار » إلى غيرهم من فقهاء كبار ، فهوَلاء لم يعلم من أحوالهم أنّهم اعتمدوا في فتاواهم على فتوى إمام مذهبهم زيد ، بل المعلوم خلافه ، فإنّ الفقه المعروف بالفقه الزيدي إنّما وصل إلى ما وصل من السعة نتيجة جهد هوَلاء الفقهاء الكبار ، فهذا الفقه عطاء بحوثهم الشخصية التي ليس لها صلة بزيد.

ويوَيد ذلك : إنّ المذهب الزيدي يحرم التقليد على كل متمكن من أخذ الحكم من كتاب اللّه وسنة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو غيرهما من الأدلّة الشرعية ، ولايبيحه في الفروع إلاّ لغير المتمكن من الاجتهاد ، لقوله تعالى : « فَاسألُوا أهلَ الذِّكْرِ إنْ كُنتُمْ لأ تَعْلَمُون » (النحل ـ ٤٣) (١).

فإذا كان الأمر كذلك فالعطاء الموجود في الفقه الزيدي وأُصوله يرجع إلى رجال المذهب الزيدي على اختلاف طبقاتهم ، وهم بين إمام في المذهب كالاِمام القاسم بن إبراهيم المتوفى عام ٢٤٢ هـ وحفيده الاِمام الهادي يحيى بن الحسين المتوفى عام ٢٩٨ هـ والاِمام الناصر الأطروش الحسن بن علي المتوفى عام ٣٠٤ هـ.

إلى مخرّج للمذهب وهم الذين استخرجوا من كلام الأئمّة أو احتجاجاتهم أحكاماً لاتتعارض مع الكتاب والسنة ومن رجال هذه الطبقة :

١ ـ العلاّمة محمد بن منصور المردي المتوفى حوالي عام ٢٩٠ هـ.

__________________

١ ـ علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين : الزيدية نظرية وتطبيق : ١١.

٤٥٩

٢ ـ العلاّمة أبو العباس أحمد بن إبراهيم المتوفى سنة ٣٥٣ هـ.

٣ ـ العلاّمة أحمد بن الحسين بن هارون الحسني المتوفى عام ٤١٦ هـ.

٤ ـ العلامـة أبو طالـب يحيى بـن الحسين بن هرون الحسني المتوفى سنة ٤٢٤ هـ.

إلى محصّل ، وهم الذين اهتموا بتحصيل أقوال الأئمّة وما استخرج منها ، ونقلوها إلى تلامذتهم بطريق الرواية أو المناولة لموَلفاتهم ، منهم :

العلاّمة القاضي زيد بن محمد الكلاوي الجيلي الملقب بحافظ أقوال العترة.

وسيأتي تفصيل طبقات رجال المذهب الزيدي في خاتمة المطاف ضمن الأمر الثامن (١).

فإذا كان المذهب الزيدي قد نضج في هذه الأعصار وتبلور في ظل جهود هوَلاء الفطاحل الأعلام ، فهو عطاء علمائهم ومفكّريهم في الكتاب والسنّة وسائر القواعد الاجتهادية ، ولا يمت إلى إمامهم زيد بصلة.

فعلى ذلك ، فإنّ هوَلاء في فقههم قبل كونهم زيديين ، رسّيون ، انتساباً إلى الاِمام الأوّل القاسم بن إبراهيم ، وهادويون انتساباً إلى الاِمام الثاني يحيى بن الحسين ، أو ناصريّون انتساباً إلى الاِمام الناصر الأطروش الحسن بن علي.

وممن يدعم تلك الفكرة عالم اليمن الحالي السيد مجد الدين الموَيدي في تقديمه على كتاب « الزيدية نظرية وتطبيق » يقول : فأمّا المذهب الفقهي المعروف المتداول بين أهل الفقه في اليمن فليس المراد به المذهب الزيدي كما يتوهم ولا مذهب جملة أهل البيت ، بل المراد به في الأصل كما نص عليه الأعلام المحقّقون قواعد وأُصول أخذوها من أقوال الاِمام القاسم بن إبراهيم وأولاده وحفيده الهادي

__________________

١ ـ لاحظ ص ٥٢٤.

٤٦٠