بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

المغيرة بن سعيد في روايات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام :

١ ـ روى الكشي عن جعفر بن عيسى وأبي يحيى الواسطي قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : « كان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر عليه‌السلام فأذاقه اللّه حرّ الحديد ».

٢ ـ أخرج الكشي عن عبد اللّه بن مسكان عمّن حدثه من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : سمعته يقول : لعن اللّه المغيرة بن سعيد إنّه كان يكذب على أبي ، فأذاقه اللّه حرّ الحديد. لعن اللّه من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا ، ولعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه ، الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا.

٣ ـ أخرج الكشي عن محمد بن عيسى بن عبيد : أنّ بعض أصحابنا سأل يونس بن عبد الرحمن وأنا حاضر ، فقال له : يا أبا محمد ما أشدَّك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنّة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه اللّه دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يُحدِّث بها أبي فاتقوا اللّه ولاتقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّا إذا حدّثنا قلنا قال اللّه عزّ وجلّ وقال رسول اللّه.

٤ ـ أخرج الكشي عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : « كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون في أصحاب أبي ، يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويُسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثّوها في الشيعة فكل ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك مما دسّه المغيرة في كتبهم ».

٢١

٥ ـ أخرج الكشي عن علي بن الحسان عن عمّه عبد الرحمن بن كثير قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام يوماً لأصحابه : « لعن اللّه المغيرة بن سعيد ولعن اللّه يهودية كان يختلف إليها يتعلّم منها السحر والشعبذة والمخاريق ، إنّ المغيرة كذب على أبي فسلبه اللّه الاِيمان وإنّ قوماً كذبوا عليّ ، ما لهم ، أذاقهم اللّه حرّ الحديد ، فو اللّه ما نحن إلاّ عبيد الذي خلقنا واصطفانا ، مانقدر على ضرّ ولا نفع إن رُحمنا فبرحمته وإن عُذّبنا فبذنوبنا ، واللّه مالنا على اللّه من حجّة ولامعَنا من اللّه براءة وإنّا لميتون ومقبورون ، ومنشرون ، ومبعوثون ، وموقوفون ، ومسوَولون ، ويلهم مالهم ، لعنهم اللّه آذوا اللّه وآذوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبره وأمير الموَمنين وفاطمة والحسن والحسين وعليّ بن الحسين ومحمد بن علي ، وها أنا ذا بين أظهركم ، لحم رسول اللّه وجلد رسول اللّه ، أبيت على فراشي خائفاً وجلاً مرعوباً ، يأمنون وأفزع ، وينامون على فرشهم ، وأنا خائف ساهر ، وَجِل اتقلقل بين الجبال والبراري أبرأ إلى اللّه ممّا قال فيّ الأجدع البّراد عبد بني أسد أبو الخطاب ، لعنه اللّه ، واللّه لو ابتلوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجب الاّ تقبلوه فكيف وهم يروني خائفاً وجلاً ، استعدى اللّه عليهم وأتبرّأ إلى اللّه منهم أشهدكم إنّي امروَ ولدني رسول اللّه وما معي براءة من اللّه ، إن أطعته رحمني وإن عصيته عذّبني عذاباً شديداً أو أشد عذابه ».

٦ ـ أخرج الكشي عن سلمان الكناني : قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : هل تدري ما مثل المغيرة؟ قال : قلت : لا ، قال : مثله مثل بلعم بن باعور ، قلت : ومن بلعم قال : الذي قال اللّه عزّ وجلّ : « الّذِي آتَيناهُ آياتِنَا فَانسَلَخَ مِنْها فَأتْبَعَهُ الشَّيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوين » (١).

إلى غير ذلك من الروايات التي وردت في ذمّه ونقلها الكشي في رجاله (٢).

__________________

١ ـ الأعراف : ١٧٥.

٢ ـ الكشي : الرجال : ١٩٤ ـ ١٩٨.

٢٢

أبو زينب وأتباعه في روايات أئمة أهل البيت :

قال الكشي في رجاله : محمد بن أبي زينب اسمه مقلاص بن الخطاب البرّاد الأجدع الأسدي ويكنّى أبا إسماعيل ويكنّى أيضاً أبا الضبيان :

١ ـ أخرج الكشي عن عيسى بن أبي منصور قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول وذكر أبا الخطاب فقال : اللهم العن أبا الخطاب فإنّه خوّفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي ، اللهم أذقه حرّ الحديد.

٢ ـ أخرج الكشي عن بريد العجلي عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : سألته قول اللّه عزّ وجلّ « هل أُنَبِّئَكُم على مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطين * تَنَزَّلُ علَى كُلِّ أفّاكٍ أثِيم » (١) قال : هم سبعة : المغيرة بن سعيد ، وبيان ، والصائد النهدي ، والحارس الشامي ، وعبد اللّه بن حارث ، وحمزة بن عمار البربري وأبو الخطاب (٢).

٣ ـ أخرج الكشي عن بشير الدهان عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : كتب أبو عبد اللّه عليه‌السلام إلى أبي الخطاب بلغني أنّك تزعم أنّ الزنا رجل ، وأنّ الخمر رجل ، وأنّ الصراط رجل ، وأنّ الصيام رجل ، والفواحش رجل ، وليس هو كما تقول ، أنا أصل الحقّ ، وفروع الحقّ طاعة اللّه ، وعدوّنا أصل الشر وفروعهم الفواحش ، وكيف يطاع من لا يعرف وكيف يعرف من لا يطاع »؟

٤ ـ أخرج الكشي عن الحمادي رفعه إلى أبي عبد اللّه أنّه قيل له : روي عنكم أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال؟ فقال : « ما كان اللّه عزّ وجلّ ليخاطب خلقه بما لا يعلمون ».

__________________

١ ـ الشعراء : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٢ ـ جرى الاِمام عليه‌السلام في تفسير الآية بهوَلاء السبعة ، مجرى الجري وتطبيق الكلّـي على مصاديقه الكثيرة.

٢٣

٥ ـ أخرج الكشي عن سدير عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : كنت جالساً عند أبي عبد اللّه وميسر عنده ونحن في سنة ثمان وثلاثين ومائة فقال ميسر بياع الزطي : جعلت فداك عجبت لقوم كانوا يأتون معنا إلى هذا الموضع فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم ، قال : « ومن هم؟ » قلت : أبو الخطاب وأصحابه ، فكان متكئاً فجلس فرفع اصبعه إلى السماء ثم قال : « على أبي الخطاب لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين فاشهدوا باللّه أنّه كافر ، فاسق مشرك وأنّه يحشر مع فرعون في أشد العذاب غدواً وعشياً ، ثم قال : أما واللّه إنّي لانفس (١) على أجساد أُصيبت معه النار ».

٦ ـ أخرج الكشي عن المفضل بن يزيد قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام وذكر أصحاب أبي الخطاب والغلاة فقال لي : « يامفضل لاتقاعدوهم ولاتواكلوهم ولاتشاربوهم ولاتصافحوهم ولاتوارثوهم ».

٧ ـ أخرج الكشي عن مرازم قال : قال أبو عبد اللّه : « قل للغالية توبوا إلى اللّه فإنّكم فسّاق كفّار مشركون ».

٨ ـ أخرج الكشي عن أبي بصير قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « يا أبا محمد ابرأ ممن يزعم أنّا أرباب » قلت : برىَ اللّه منه ، فقال : « ابرأ ممن زعم أنّا أنبياء » قلت : برىَ اللّه منه.

٩ ـ أخرج الكشي عن قاسم الصيرفي قال : سمعت أبا عبد اللّه يقول : « قوم يزعمون أنّي لهم إمام واللّه ما أنا لهم بإمام ، مالهم لعنهم اللّه كلما سترتُ ستراً هتكوه ، هتك اللّه ستورهم ».

١٠ ـ أخرج الكشي عن الحسن الوشاء عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « من قال بأنّنا أنبياء فعليه لعنة اللّه ومن شك في ذلك فعليه لعنة اللّه ».

__________________

١ ـ نَفسَ به وعليه : ضنَّ به.

٢٤

١١ ـ أخرج الكشي عن زرارة عن أبي جعفر قال : سمعته يقول : « لعن اللّه « بيان التبّان » وأنّ « بياناً » لعنه اللّه يكذب على أبي أشهد أنّ أبي علي بن الحسين كان عبداً صالحاً ».

١٢ ـ أخرج الكشي عن أبي يحيى الواسطي قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : « كان بيان يكذب على علي بن الحسين عليه‌السلام فأذاقه اللّه حر الحديد ، وكان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر عليه‌السلام فأذاقه اللّه حرّ الحديد.

وكان محمد بن بشير يكذب على أبي الحسن موسى فأذاقه اللّه حرّ الحديد.

وكان أبو الخطاب يكذب على أبي عبد اللّه فأذاقه اللّه حرّ الحديد والذي يكذب عليّ ، محمد بن فرات » قال أبو يحيى : وكان محمد بن فرات من الكتاب فقتله إبراهيم بن شكلة.

١٣ ـ أخرج الكشي عن عبد اللّه بن سنان قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ، كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصدق البرية لهجة وكان مسيلمة يكذب عليه ، وكان أمير الموَمنين عليه‌السلام أصدق من برأ اللّه ، من بعد رسول اللّه وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه بما يفتري عليه من الكذب عبد اللّه ابن سبأ لعنه اللّه ».

ذكر أبو عبد اللّه عليه‌السلام الحارث الشامي وبيان فقال : كانا يكذبان على علي بن الحسين عليه‌السلام ، ثم ذكر المغيرة بن سعيد وبزيعاً والسريّ وأبا الخطاب ومعمراً وبشار الأشعري وحمزة البريري وصائد النهدي فقال : « لعنهم اللّه إنّا لا نخلو من كذاب يكذب علينا أو عاجز الرأي ، كفانا اللّه موَنة كل كذّاب ، وأذاقهم اللّه حر الحديد ».

٢٥

١٤ ـ أخرج الكشي عن ابن أبي يعفور قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه‌السلام فاستأذن عليه رجل حسن الهيئة ، فقال : اتق السفلة فما تقارّت في الأرض حتى خرجت فسألت عنه فوجدته غالياً.

إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها الكشي في رجاله (١) وقد اكتفينا بهذا المقدار وإلاّ فالروايات التي تذم هوَلاء الغلاة الكفّار كثيرة. وقد أشار الاِمام في ثنايا كلامه أنّهم كانوا بصدد تشويه سمعة الأئمّة بالكذب عليهم حيث قال : فيسقط صدقنا بكذبهم علينا عند الناس.

__________________

١ ـ الكشي : الرجال : ٢٩٠ ـ ٣٠٨. ، ولقد قابلنا الأحاديث مع الطبعة التي حقّقها العلاّمة المصطفويّ ، ومع ذلك لا تخلو أيضاً من هفوات.

٢٦

الكيسانية والاِبهامات المحدقة بها

قد علمت أنّ الغلاة ليسوا من المسلمين ولا من الشيعة ولا يصح عدّهم من الفرق الاِسلامية ، وإنّ هذا الخطأ صدر من النوبختي والأشعري وجاء الباقون فساروا على سيرتهما. نعم يظهر من كتب الفرق أنّ فرقاً للشيعة برزت إلى حيّز الوجود قبل ثورة زيد بن علي. وفرقاً أُخرى ظهرت بعد ثورته. ولعل القسم الأوّل منحصر في الكيسانية التي يدعي أصحاب المقالات أنّها ظهرت بعد ثورة الحسين عليه‌السلام أيام إمامة ولده زين العابدين عليه‌السلام ، وبدورنا نذكر بعـض نصوصهم حول الكيسانية. ثم نرجع إلى تحرير المتحصل منها ، ولأجل ذكر النصوص في بدء البحث نستغني عن الاِرجاع إلى المصادر عند التحليل فنقول :

١ ـ قال الأشعري : الكيسانية وهي إحدى عشرة فرقة ، وإنّما سمّوا كيسانية لأنّ المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي ودعا إلى محمد ابن الحنفية كان يقال له كيسان ، ويقال إنّه مولى لعلي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ.

الفرقة الأولى من الكيسانية يزعمون أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام نصّ على إمامة ابنه محمد ابن الحنفية ، لأنّه دفع إليه الراية بالبصرة.

والفرقة الثانية : منهم يزعمون أنّ علي بن أبي طالب نصّ على إمامة ابنه الحسن بن علي وأنّ الحسن بن علي نصّ على إمامة أخيه الحسين بن علي وأنّ الحسين بن علي نصّ على إمامة أخيه محمد بن علي وهو محمد ابن الحنفية.

والفرقة الثالثة : من الكيسانية هي الكربية أصحاب أبي كرب الضرير

٢٧

يزعمون أنّ محمد ابن الحنفية حيّ بجبال رضوى ، أسد عن يمينه ونمر عن شماله يحفظانه ، يأتيه رزقه غدوة وعشية إلى وقت خروجه. ومن القائلين بهذا القول كُثَيِّـر الشاعر وفي ذلك يقول :

ألاّ إنّ الأئمّة من قريش

ولاة الحقّ أربعة سواء

علي والثلاثة من بنيه

هم الأسباط ليس بهم خفاء

فسبط ، سبطُ إيمانٍ وبرّ

وسبطٌ غيّبته كربلاء

وسبط لا يذوق الموت حتى

يقود الخيل يَقْدُمها اللواء

تغيّب لا يُرى فيهم زمان

برضوى عنده عسل وماء

الفرقة الرابعة : يزعمون أنّ محمد ابن الحنفية إنّما جعل بجبال رضوى عقوبة لركونه إلى عبد الملك بن مروان وبيعته إيّاه.

والفرقة الخامسة : يزعمون أنّ محمد ابن الحنفية مات وأنّ الاِمام بعده ابنه أبو هاشم : عبد اللّه بن محمد الحنفية (١).

والفرقة السابعة : قالت إنّ الاِمامة بعد موت أبي هاشم لابن أخيه الحسن بن علي بن محمد ابن الحنفية.

والفرقة الثامنة : قالت إنّ أبا هاشم أوصى إلى أخيه علي بن محمد ، وعليّ أوصى إلى ابنه الحسن ، فالاِمامة عندهم في بني الحنفية لاتخرج إلى غيرهم (٢).

والفرقة التاسعة : يزعمون أنّ الاِمام بعد أبي هاشم محمد بن علي بن عبد اللّه

__________________

١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١٨ ـ ٢٠ ، وقد سقط من الطبع الفرقة السادسة من الكيسانية ولذلك ابتدأنا بالسابعة ، ولما كانت نسخة مقالات الاِسلاميين مشوشة في بيان الفرقة السابعة والثامنة أخذناهما من كتاب الملل والنحل للشهرستاني.

٢ ـ هاتان الفرقتان نقلناهما من الملل والنحل للشهرستاني ثم نتابع النقل من مقالات الاِسلاميين.

٢٨

ابن العباس قالوا : وذلك أنّ أبا هاشم مات بأرض الشراة (١) منصرفة من الشام فأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس وأوصى محمد بن علي إلى ابنه إبراهيم بن محمد ، ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى أبي العباس ، ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض ، ثم رجع بعض هوَلاء عن هذا القول وزعموا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على العباس بن عبد المطلب ونصبه إماماً ، ثمّ نصّ العباس على إمامة ابنه عبد اللّه ونصّ عبد اللّه على إمامة ابنه علي بن عبد اللّه ، ثم ساقوا الاِمامة إلى أن انتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور.

الفرقة العاشرة : يزعمون أنّ أبا هاشم أوصى إلى بيان بن سمعان التميمي وانّه لم يكن له أن يوصي بها إلى عقبه.

الفرقة الحادية عشرة : يزعمون أنَّ الاِمام بعد أبي هاشم عبد اللّه بن محمد ابن الحنفية وعليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب (٢).

وقال النوبختي : وفرقة قالت بإمامة محمد ابن الحنفية ، لأنّه كان صاحب راية أبيه يوم البصرة دون أخويه فسمّوا الكيسانية ، وإنّما سمّوا بذلك لأنّ المختار ابن أبي عبيدة الثقفي كان رئيسهم وكان يلقب « كيسان » وهو الذي طلب بدم الحسين بن علي صلوات اللّه عليهم وثأره حتى قتل من قتلته وغيرهم من قَـتَل ، وادّعى (المختار) أنّ محمد ابن الحنفية أمره بذلك وأنّه الاِمام بعد أبيه ، وإنّما لقّب المختار كيسان لأنّ صاحب شرطته المكنّى بأبي عمرة كان اسمه كيسان ، وكان أفرط في القول والفعل والقتل من المختار جداً ، وكان يقول : إنّ محمد ابن الحنفية وصيّ علي بن أبي طالب ، وأنّه الاِمام وأنّ المختار قيّمه وعامله ويُكفر من تقدّم

__________________

١ ـ كذا في النسخة المطبوعة والصحيح « السراة » وهي موضع بالشام.

(٢)٢ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٢٠ ـ ٢١.

٢٩

علياً ويُكَّفِر أهل صفين والجمل ، وكان يزعم أنّ جبرئيل عليه‌السلام يأتي المختار بالوحي من عند اللّه عزّ وجلّ فيخبره ولا يراه. وروى بعضهم أنّه سمِّي بكيسان مولى علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو الذي حمله على الطلب بدم الحسين بن علي عليهما‌السلام ودلّه على قتلته ، وكان صاحب سرّه وموَامرته والغالب على أمره (١).

وقالت فرقة من الكيسانية إنّ محمد بن الحنفية ـ رحمه اللّه تعالى ـ هو المهدي ، وهو وصيّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام ليس لأحد من أهل بيته أن يخالفه ولا يخرج عن إمامته ولايُشهّر سيفه إلاّ بإذنه ، وإنّما خرج الحسن بن علي عليهما‌السلام إلى معاوية محارباً له بإذن « محمّد » وأودعه وصالحه بإذنه ، وأنّ الحسين إنّما خرج لقتال يزيد بإذنه ، ولو خرجا بغير إذنه هلكا وضلاّ وأنّ من خالف محمد ابن الحنفية كافر مشرك وأنّ محمد استعمل المختار بن أبي عبيدة على العراقيين بعد قتل الحسين وأمره بالطلب بدم الحسين عليه‌السلام وثأره وقتل قاتليه وطلبهم حيث كانوا ، وسمّاه كيسان لكيسه ولما عرف من قيامه ومذهبه فيهم فهم يسمّون (المختارية) ويدعون (الكيسانية) (٢).

معتقدهم :

إنّ الكيسانية على كثرة فرقهم يجمعهم شيئان :

أحدهما : القول بإمامة محمد ابن الحنفية.

والثانية : القول بالبداء على اللّه عزّ وجلّ ، وقالت طائفة منهم بأنّه المهدي المنتظر في الرضوى (٣).

__________________

١ ـ النوبختي : فرق الشيعة : ٢٢ ـ ٢٤.

٢ ـ النوبختي : فرق الشيعة : ٢٦.

٣ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٥٢.

٣٠

الاِبهامات حول هذه الفرقة :

قد عرفت كلمات أصحاب المقالات وكتاب العقائد والظاهر منهم ومن غيرهم افتراض فرقة إسلامية شيعية نجمت بعد وقعة الطف (٦١ ـ ٦٧ هـ) والتفّت عدّة من الشيعة حول محمد ابن الحنفية واتّخذوه قائداً (في حياة الاِمام زين العابدين عليه‌السلام ) وقد لبّى هو وولده أبو هاشم ووصيه ، ولم يكن هناك أي اعتراض واستنكار من رجالات البيت الهاشمي فاستتب الأمر لابن الحنفية وابنه ومن بعده واستفحل أمرهم إلى عصر أبي جعفر المنصور العباسي ، وقد كان العباسيون يستمدون شرعية دولتهم وخلافتهم من انتمائهم إلى تلك الفرقة وكانت لهم أُصول عقائد يتميزون بها عن سائر الفرق.

لكن الاِبهامات التي تحدق بهذه الفرقة من جوانب شتى يدفع الاِنسان إلى التأكد الكثير من وجود هذه الفرقة الاِسلامية في الساحة وبروزهم إليها باسم الدين وإليك بيانها:

١ ـ الاختلاف في المسمّى بكيسان :

إنّ الكيسانية منسوبة إلى « كيسان » وقد اختلفوا في المسمّى به إلى أقوال فمن قائل : إنّه اسم محمد ابن الحنفية ، إلى آخر : إنّه اسم مولى لعلي ، إلى ثالث : إنّه اسم نفس المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، إلى رابع : إنّه اسم صاحب شرطته المكنى بـ « أبي عمرة » وكان اسمه كيسان (١).

٢ ـ الاختلاف فيمن نصب محمداً الحنفية للاِمامة :

إنّ القائد الذي تنتهي إليه تلك الفرقة هو محمد الحنفية ، فقد

____________

١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١٨ ، والبغدادي : الفرق بين الفرق : ٣ و ٣٨ ، والنوبختي : فرق الشيعة : ٢٢.

٣١

اختلفوا في مرشحه للاِمامة إلى قولين : فمن قائل بأنّ المعيِّن ، هو الاِمام علي ، إلى آخر أنّه الاِمام الحسين وهو الذي نصبه للخلافة.

٣ ـ الاختلاف في مبدأ قيادته :

كما اختلفوا في الموصي والمعيّن ، اختلفوا في مبدأ قيادته ، فمن قائل بأنّه الاِمام المنصوب من جانب الاِمام علي وهو الاِمام بعد رحيل والده دون أخويه ، إلى آخر بأنّه الاِمام بعد استشهاد الحسين عليه‌السلام.

٤ ـ الاختلاف في كونه حياً أو ميتاً :

اختلفوا في كونه حياً أو ميتاً ، فقد نسب إلى جماعة أنّهم قالوا بكونه المهدي المنتظر وأنّه حي بجبال رضوى ، يصونه الأسد والنمر ، معه العسل والماء ، وفي مقابلهم من قال بموته ، وأنّ الاِمامة انتقلت إلى فرد آخر.

٥ ـ اختلافهم في كونه حيّاً كرامة أو عقوبة :

اختلف القائلون بكونه حياً ، فهل هو حي كرامة ، بشهادة أنّه يصان بالأسد والنمر عن اليمين والشمال ويأتيه رزقه غدواً وعشياً إلى وقت خروجه كما قال به كثير الشاعر ، أو أنّه حي عقوبة لركونه إلى عبد الملك بن مروان وبيعته إيّاه.

٦ ـ الاختلاف في الاِمام بعد أبي هاشم :

توفي محمد الحنفية عام ثمانين أو واحد وثمانين وتوفي ابنه أبو هاشم « عبد اللّه ابن محمد الحنفية » سنة ثمان أو تسع وتسعين وعرفه ابن شهر آشوب بأنّه كان ثقة جليلاً من علماء التابعين روى عنه الزهري وأثنى عليه وعمرو بن دينار وغيرهما (١).

وقد اختلفت الأقوال في وصيه إلى قائل بأنّه أوصى إلى الحسن بن علي بن

__________________

١ ـ المامقاني : تنقيح المقال : ٢ / ٢١٢ برقم ٧٠٤٢.

٣٢

محمد الحنفية ، إلى آخر بأنّه أوصى إلى أخيه ، علي بن محمد الحنفية ، وأنّه أوصى إلى ابنه الحسن ، إلى ثالث أنّه أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس ، إلى رابع بأنّه أوصى إلى بيان بن سمعان ، إلى خامس أنّه أوصى إلى عبد اللّه بن عمرو بن حرب.

٧ ـ الاختلاف في المعتقد :

إنّ الكيسانية على كثرة فرقهم يجمعهم شيئان : أحدهما : القول بإمامة محمد ابن الحنفية والثانية : القول بأنّه المهدي المنتظر مضافاً إلى القول بالبداء (١).

أقول : إنّ القول بالبداء ليس من عقائد هذه الطائفة وإنّما هو عقيدة إسلامية جاء بها القرآن الكريم ونصت به السنّة النبوية (٢) ولو فسرت على وجه صحيح لعلم أنّ المسلمين بأجمعهم متفقون على القول بها.

وإنّما نشأ النزاع من تفسيره على وجه باطل ، أعني : الظهور بعد الخفاء على اللّه تعالى ، ولا يقول به أحد من المسلمين ، وتفسيره الصحيح قائم بكلمتين : إحداهما يرجع إلى مقام الثبوت ، والأخرى إلى مقام الاِثبات ، أمّا الأولى ، فالبداء عبارة عن تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة ، كما كان الحال كذلك في قوم يونس ، وأمّا الثانية فهي الاِظهار بعد الاِخفاء ، وأمّا علمه سبحانه فلا يتغير ولايتبدل وأوضحنا حقيقتها في الجزء السادس من هذه الموسوعة (٣).

قد نقل في كتب الملل والنحل أنّهم استدلوا على كون محمد ابن الحنفية إماماً بقول علي عليه‌السلام له يوم البصرة وقد أقدم بالراية : « أنت ابني حقاً »!

__________________

١ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٥٢.

٢ ـ الاِمام البخاري : الصحيح : ٤ / ٢٠٨ ، كتاب الأنبياء ، باب ٥١ حديث أبرص وأعمى وأقرع.

٣ ـ بحوث في الملل والنحل : ٦ / ٣٠٤ ـ ٣٢٧.

٣٣

وأنت خبير بأنّ أحقّية البنوّة هو كونه شبيه والده في الشجاعة لا أنّه إمام بعده أو بعد السبطين.

كما نقل أنّهم استدلوا على كونه مهدياً غائباً بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ».

ولكن الاستدلال في غاية الضعف لأنّ اسم والد محمد هو علي لا عبد اللّه. نعم كان علي صلوات اللّه عليه عبداً للّه وصفيّاً لا علَمياً.

على أنّه لو صحّ الاستدلال فالنفس الزكية ، أعني : محمد بن الحسن بن عبد اللّه بن الحسن المثنى ، أولى منه.

واستدلوا أيضاً على أنّ خروج المختار كان بإذنه.

يلاحظ عليه : أنّ الاِذن بالخروج لايدلّ على أنّه ادّعى الاِمامة ودعا الناس إليها ، وقد روى الشيخ المفيد أنّه سئل محمد ابن الحنفية عن ظهور المختار وادّعائه أنّ خروجه بأمره فأجاب :

واللّه ما أمرته بذلك لكن لا أُبالي أن يأخذ بثأرنا كل أحد ، وما يسوءني أن يكون المختار هو الذي يطلب بدمائنا.

فاعتمد السائلون على ذلك وكانوا كثيرين. وقد رحلوا إليه بهذا المعنى بعينه ، فنصروا المختار على الطلب بدم الحسين عليه‌السلام.

وأخيراً نقول إنّ الاِمامة إمّا بالنصّ أو بالبيعة ، فإن كان الأوّل فأين النصّ؟ وإن كانت بالبيعة فأين بايعه أهل الحل والعقد؟

وتوضيح المقال بذكر أمرين :

الأوّل : أنّ محمد الحنفية وليد البيت العلوي وربيبه الذي وصفه أمير الموَمنين ، بقوله : « إنّ المحامدة تأبى أن يعصى اللّه عزّ وجلّ » قال الراوي ، قلت :

٣٤

ومن المحامدة؟ قال عليه‌السلام : « محمد بن جعفر ، ومحمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أمير الموَمنين ابن الحنفية » (١) وكان أعرف الناس بعظم مقام الاِمامة وخطورتها وأنّها لا تصلح إلاّ لمن ثبت في حقّه النص ، من صاحب الرسالة أو من بايعه الناس ، أو خصوص أهل الحل والعقد ومع ذلك كيف يلبّي دعوة نفر أو نفرين للقيام بأعباء الاِمامة ولم يكن هناك تنصيص ولا بيعة من وجوه المسلمين ولم يكن الرجل من الانتهازيين أو من أبناء البيت الساقط الذين كانوا يدوسون كل الأصول الاِسلامية ، للحصول على الغايات ويستهويهم النهمة والشره لاختلاس الأموال أو حيازة جاه.

ونحن نُجلُّ محمد ابن الحنفية عن الرغبة إلى حيازة المقام الذي لا يصلح إلاّ لمن اجتمع لديه الشرط من التنصيص أوّلاً ، أو البيعة ثانياً.

والذي يوَيد ذلك أنّه لم تشاهد منه دعوة إلى نفسه ، بإلقاء الخطابة والمحاضرة ، أو بعث الرسل إلى الأطراف والأكناف ، أو تصدي أمر ، يعد من شوَون الحكومة ، ولو كان كذلك لكان له أنصار وأعوان ، ولما ألقى عليه القبض ، ابن الزبير لغاية أخذ البيعة والتهديد بالاِحراق عند رفضها. كما أنّه كان يتعاطف مع عبد الملك بن مروان ـ عملاً بواجبه ـ حتى أدركته المنية عام ثمانين أو واحد وثمانين.

الثاني : لو أغمضنا عن ذلك فهل كان هناك جماعة ، موَمنون بإمامته وقيادته؟ وأنّ الفراغ الذي حصل ، لدى الشيعة بشهادة السبط ، مُلىَ ببيعة أهل العراق ولفيف من أهل المدينة ومكة له ، أو لا؟.

والحقّ هو الثاني وأنّ كثير من الشيعة كانوا حيارى في أمر الاِمامة لأجل الضغط من جانب الحكومة الأموية إلاّ الأخصّاء ولكن كانت الشيعة بأجمعهم

__________________

١ ـ المامقاني : تنقيح المقال : ٢ / ٥٧ برقم ١٠٢٣٠ ، نقلاً عن رجال الكشي.

٣٥

يتعاطفون مع أهل البيت وعلى مقدمتهم الشخصيتان البارزتان : محمد ابن الحنفية ، وعلي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام من دون أن يتخذ ابن الحنفية إماماً وقدوة للشيعة.

ففي هذه الظروف نهض إنسان غيور ، وشجاع مقدام ، وسيف بتّار ، لأخذ ثار الاِمام الحسين ألا وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي كان يحب أهل البيت عليهم‌السلام منذ نعومة أظفاره إلى أن ألقى حمامه في طريق أخذ ثارهم ، ونال أُمنيته باجتثاث جذور أعدائهم ، وسفك دمائهم ، فأشفى صدور قلوب الموَمنين وعلى رأسهم أئمة أهل البيت والهاشميون والهاشميات بأجمعهم.

لقد كان الاتصال الوثيق مع أكابر أهل البيت يوم ذاك رصيداً كبيراً للثائر لغاية التفاف شيعة العراق حول المختار ولولا ذلك لما تمكن من إنهاضهم إلى ميادين القتال. وبما أنّ محمد ابن الحنفية ـ رض ـ كان كبير العلويين في السن لم يكن له بد من التعاطف معه وكان له مثل ذلك سيد الساجدين ، ولأجل المواصلة والمكاتبة مع العظيمين جلب اهتمام الشيعة لنفسه ، وأقام نهضة كبيرة أخذ بها ثأر الحسين عليه‌السلام لا بل كانت ناراً أحرقت أُمنيات بني أُمية وأبادت آثارهم واجتثت جذورهم.

ولما كانت ثورته ثقيلة على مناوئي أهل البيت عليهم‌السلام أرادوا إسقاطه من أعين الناس فتحاملوا عليه من جانب العقيدة فرموه باختراع المذهب حتى رموه بادّعاء النبوة ونزول الوحي حتى صاغوا له جملاً مضاهية لجمل الكهنة ، ونسبوها إليه (١). ولم يكن لهم غاية إلاّ القضاء على نهضته وثورته.

يقول البغدادي : « فلمّا تمت للمختار ولاية الكوفة والجزيرة والعراقين ،

__________________

١ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٤٦.

٣٦

تكهّن بعد ذلك وسجع كإسجاع الكهنة ، وحكي أيضاً أنّه ادّعى نزول الوحي عليه » (١).

لم يكن المترقّب من البيت الأموي وحماته الذين شربوا كأس المنون بيد الثائر المتفاني في حب أهل البيت ، إلاّ رميه بادّعاء النبوة ونزول الوحي ، ولنفترض أنّ الثائر الثقفي لم يكن رجلاً دينياً ، ولم ينهض بدافع إلهي ، وإنّما ثارت ثورته ، بدافع نفسي مادي ، ولكنه كان رجلاً عملاقاً وسياسياً عبقرياً ، قاد أعظم الثورات التي شاهدها التاريخ في ذلك العصر وامتدت سلطته إلى أرمينيا ، وهل مثله ـ وهو يحكم باسم الاِسلام والدين ، وبتأييد من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ـ يدّعي النبوة ونزول الوحي ويتكلم بكلام الكهنة مع أنّ التاريخ ضبط خطبه وكلامه حتى نقلها البغدادي (٢) كلا ، ولا ، وما جاء به البغدادي ، ليس إلاّ نسبة مفتعلة.

« من يتحقّق في سيرة المختار وحربه للأمويين ودكه لجيش قائدهم عبيد اللّه ابن زياد ، وفي عدائه للزبيريين ابتداء من انتزاع الحكم منهم في أوّل ثورته حتى قتاله لمصعب الذي سيطر على الحكم بعد المختار ، ـ من يتحقّق في هذا ـ يستطع تحليل اتّـهام المختار بالكذب والانحراف واستغلال الاِسلام وقتل الاِمام الحسين عليه‌السلام من أجل مصالحه الشخصية ، وأن تنسب له أقاويل مضادة للاِسلام. وكيف لايتهم بالأمور السالفة وأضرابها وقد أطبقت على عدائه دولتان ، دولة ابن الزبير ودولة الأمويين؟ » (٣).

وهناك بعض التساوَلات على صعيد البحث نشير إليها :

الأوّل : روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام مناشدة محمد ابن الحنفية لعلي بن الحسين في مسألة الوصاية والاِمامة حتى اتفقا على

__________________

١ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٤٥ و ٤٦.

٢ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٤٥ و ٤٦.

٣ ـ محمود البغدادي : النظرية السياسية : ٢٨٤.

٣٧

تحكيم الحجر الأسود وطلب الشهادة منه على أحدهما ، فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود ، فقال علي بن الحسين لمحمد ابن الحنفية : « إبدأ أنت فابتهل إلى اللّه عزّ وجلّ وسله أن ينطق لك الحجر ثم سل » فابتهل محمد في الدعاء وسأل اللّه ثم دعا الحجر فلم يجبه ، فعند ذلك تقدم علي بن الحسين وقال : « أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق الناس أجمعين لما أخبرتنا مَن الوصي والاِمام بعد الحسين بن علي عليهما‌السلام؟ » فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه ثم أنطقه اللّه عزّ وجلّ بلسان عربي مبين فقال : اللّهم إنّ الوصي والاِمام بعد الحسين بن علي عليهما‌السلام هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال فانصرف محمد بن علي وهو يتولّى علي بن الحسين عليهما‌السلام (١).

لكن الاِجابة عن هذا السوَال واضحة ، فإنّا لو افترضنا صحة المضمون ، واكتفينا في مثل هذه الواقعة الخطيرة بالخبر الواحد ، لنا أن نقول بأنّ المناشدة كانت لأجل إفهام الآخرين بإمامة علي بن الحسين حتى يوجه نظر الجماهير إلى الاِمام الحقيقي.

إنّ محمد ابن الحنفية أجل من أن لا يعرف شروط الاِمامة وإنّها لم تكن متوفرة في حقّه. إذ لو كانت بالنص فلم يكن هناك نصّ عليه ، ولو كانت بالمبايعة والتصفيق بالأيدي فلم تكن هناك مبايعة. ومع ذلك فهل يحتمل أن يشهد له الحجر بالاِمامة.

الثاني : إذا لم تكن هناك دعوة باسم الكيسانية وإنّما خلقها أعداء المختار لاِسقاطه من أعين الناس فبماذا يفسر ما أنشأه الشاعر كُثَيِّـر عزّة.

__________________

١ ـ الكليني : الكافي : ١ / ٣٤٨ ح ٥ ، كتاب الحجّة.

٣٨

ألا إنّ الأئمّة من قريش

ولاة حقّ أربعة سواء

علي والثلاثة من بنيه

هم الأسباط ليس بهم خفاء (١)

أو ما أنشأه السيد الحميري :

ياشعب رضوى ما لمن بك لا يرى

وبنا إليه من الصبابة أولق

حتى متى؟ وإلى متى؟ وكم المدى

يابن الرسول وأنت حيٌّ ترزق (٢)

والأجابة عن هذا السوَال واضحة لأنّا أيضاً نرافق القارىَ في حكاية هذه الأشعار عن ظهور عقيدة خاصة في حقّ محمد ابن الحنفية ، ولكنها لم تكن تتجاوز عن حدوث فتنة دينية أثارت شكوكاً تارة وأوهاماً أُخرى على بعض الناس ولم يمض شيء حتى ذهبت أدراج الرياح ، ولاتعد مثل ذلك فرقة إسلامية لها دور على بعض الناس على أنّ شعر السيد لا يثبت هذا المطلب لأنّه يقول : يا ابن الرسول ولم يكن محمد ابن الحنفية ابناً للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالث : روي أنّ السيد الحميري كان كيسانياً وله شعر في هذا المذهب ولكنه رجع إلى الحقّ بفضل الاِمام جعفر الصادق عليه‌السلام وقال :

تجعفرتُ باسم اللّه واللّه أكبر

وأيقنتُ أنّ اللّه يعفو ويغفر

ودنتُ بدينٍ غير ما كنتُ دايناً

به ونهاني سيد الناس جعفر

فقلت هب أنّي قد تهوّدتُ برهة

وإلاّ فديني دين من يتنصر

فلست بغال ما حييتُ وراجع

إلى ما عليه كنت أخفي وأُضمر

ولا قائل قولاً لكيسان بعدها

وإن عاب جهال مقالي وأكثروا

ولكنه من قد مضى لسبيله

على أحسن الحالات يقضي ويوَثر (٣)

__________________

١ و ٢ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٧٨ ـ ٧٩ ، طبعة دار الاندلس.

٣ ـ السيد المرتضى : الفصول المختارة : ٥٩٨.

٣٩

إنّ شعره هذا يحكي عن وقوع شبهة لبعض أولياء أهل البيت عليهم‌السلام فتصوروا المجاز حقيقة ، ولكنهم رجعوا إلى شرعة الحقيقة وشربوا من مائها العذب المعين.

وقد اتضح بهذا البحث الضافي على أنّ المذهب الكيساني تحدقه إبهامات وغموض في موَسسه وأتباعه وأهدافه تكاد تدفع الاِنسان إلى أنّه مذهب مختلق من جانب الأعداء ، ملصق بشيعة أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لغاية تشويش أذهان الشيعة أوّلاً وتحطيم سمعة السيف البّتار المختار بن أبي عبيدة ثانياً.

وهناك كلمة تدعم ما ذكرنا بأحسن وجه وهي أنّ الباعث الوحيد لترويج هذا المسلك هو العباسيون في بداية أمرهم لأنّهم كانوا يستمدون شرعية خلافتهم من هذا الطريق إذ يدعون أنّ أبا هاشم أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.

قال الأشعري : قالوا إنّ أبا هاشم مات بأرض السراة منصرفاً من الشام فأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس ، وأوصى محمد بن علي ، إلى ابنه إبراهيم بن محمد ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى أبي العباس ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض (١).

فالعباسيون لأجل إضفاء الشرعية على خلافتهم كانوا يدعمون هذا المذهب ويصوّرونه أمراً واقعياً وصل إليهم من أئمة أهل البيت فمن الحسين عليه‌السلام إلى أخيه محمد ابن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس إلى أن وصل إلى المنصور ذلك الحاكم الطاغي قاتل العلويين.

قال ابن خلدون في مقدمته : وآخرون يزعمون أنّ أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام ، أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس ، وأوصى

__________________

١ ـ الاشعري : مقالات الاسلاميين : ٢١ ، وفي النسخة « الشراة ».

٤٠