بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

عباد اللّه لا تقاتلوا على الشك فتضلّوا عن سبيل اللّه ، ولكن البصيرة ثم القتال ، فإنّ اللّه يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حقّ. عباد اللّه : البصيرة » قال أبو الجارود : يابن رسول اللّه ، يبذل الرجل نفسه عن غير بصيرة؟ قال : « نعم أنّ أكثر من ترى عشقت نفوسهم الدنيا فالطمع أرداهم إلاّ القليل الذين لا تخطر الدنيا على قلوبهم ، ولا لها يسعون فأُولئك مني وأنا منهم » (١).

١٤ ـ وها نحن ننشر في المقام رسالته إلى علماء الأمّة قبيل خروجه ، فحاول فيها بكل وسيلة تشجيع الناس على رفض الظلم والمطالبة بالحرية والعدالة.

قام بتحقيقها وتصحيحها محمد يحيى سالم عزان عن أربع نسخ ، نوّه بخصوصيتها في مقدمتها ونشرها دار التراث اليمني صنعاء عام ١٤١٢ هـ.

وإليك نصها :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين حتى يرضى وصلّى اللّه وسلم وبارك وترحّم وتحنّن وسلّم على سيّدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمّد.

إلى علماء الأمّة الذين وجبت للّه عليهم الحجّة.

من « زيد بن علي » ابن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

سلام على أهل ولاية اللّه وحزبه.

ثم إنّي أُوصيكم معشر العلماء بحظّكم من اللّه في تقواه وطاعته ، وأن لا تبيعوه بالمكس (٢) من الثمن ، والحقير من البدل ، واليسير من العِوَض ، فإنّ كلّ

____________

١ ـ حميد المحلي : الحدائق الوردية : ١٤١ ، الطبعة الثانية ـ ١٤٠٥ هـ ق. وقد جئنا بخلاصة الخطبة ومن أراد الوقوف على الجميع فعليه الرجوع الى المصدر.

٢ ـ المكس : النقص والظلم.

٨١

شيء آثرتموه وعملتم له من الدنيا ليس بخَلَف ممّا زيّن اللّه به العلماء من عباده الحافظين لرعاية ما استرعاهم واستحفظهم من أمره ونهيه ، ذلك بأنّ العاقبة للمتقين ، والحسرة والندامة والويل الدائم للجائرين الفاجرين.

[ الاعتبار من الأمم السابقة ]

فتفكّروا عباد اللّه واعتبروا ، وانظروا وتدبّروا وازدجروا بما وعظ اللّه به هذه الأمّة من سوء ثنائه على الأحبار والرهبان.

إذ يقول : « لَوْلأ يَنْهَاهُمُ الرَبّانِيُّونَ والأحبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الاِثْمَ وأكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ » (١).

وإنّما عاب ذلك عليهم بأنّهم كانوا يشاهدون الظلمة الذين كانوا بين ظهرانيهم يأمرون بالمنكر ، ويعملون الفساد فلا ينهونهم عن ذلك ، ويرون حقّ اللّه مضيعاً ، ومال اللّه دُولة يوَكل بينهم ظلماً ودولة بين الأغنياء ، فلا يمنعون من ذلك رغبة فيما عندهم من العَرَض الآفل ، والمنزل الزائل ، ومداهنة (٢) منهم على أنفسهم.

وقد قال اللّه عزّ وجلّ لكم : « يَا أيُّـها الّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبَانِ لَيَأكُلُونَ أموالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَهَبَ وَالفِضَّةَ وَلايُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّـرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ » (٣) كيما تحذروا.

وإذا رأيتم العالم بهذه الحالة والمنزلة فأنزلوه منزلة من عاث في أموال الناس بالمصانعة (٤) ، والمداهنة ، والمضارعة (٥) لظلمة أهل زمانهم ، وأكابر قومهم ، فلم

__________________

١ ـ المائدة : ٦٣.

٢ ـ المداهنة : المداراة والملاينة ، وداهن على نفسه أبقى عليها.

٣ ـ التوبة : ٣٤.

٤ ـ المصانعة : الرشوة والمداراة.

٥ ـ المضارعة : التقرب والمقارنة.

٨٢

ينهوهم عن منكر فعلوه. رغبة فيما كانوا ينالون من السحت (١) بالسكوت عنهم.

وكان صدودهم عن سبيل اللّه بالاِتباع لهم ، والاغترار بإدهانهم (٢) ومقارنتهم الجائرين الظالمين المفسدين في البلاد. ذلك بأنّ أتباع العلماء يختارون لأنفسهم ما اختار علماوَهم. فحذروا علماء السوء الذين سلكوا سبيل من ذَمّ اللّه وباعوا طاعة اللّه الجائرين.

إنّ اللّه عزّ وجلّ قال في كتابه : « إِنّا أنْزَلْنَا التوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُوراً يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الّذِينَ أسْلَمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَالرّبّانِيّونَ والأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا الناسَ وَاخْشَوْنِ وَلأ تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون » (٣).

فعاب علماء التوراة والاِنجيل بتركهم ما استحفظهم من كتابه ، وجَعَلَهم عليه شهداء خشية الناس ، ومواتاة (٤) للظالمين ، ورضاً منهم بأعمال المفسدين. فلم يوَثروا اللّه بالخشية فسخط اللّه عليهم لمّا اشتروا بآياته ثمناً قليلاً ، ومتاعاً من الدنيا زائلاً. والقليل عند اللّه الدنيا وما فيها من غضارتها (٥) وعيشتها ونعيمها وبهجتها ، ذلك بأنّ اللّه هو علاّم الغيوب.

قد علم بأنّ ركوب معصيته ، وترك طاعته ، والمداهنة للظلمة في أمره ونهيه ، إنّما يلحق بالعلماء للرهبة والرغبة من عند غير اللّه ، لأنّهم علماء باللّه ، وبكتابه وبسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

١ ـ السحت : ما خبث من المكاسب.

٢ ـ الاِدهان والمداهنة بمعنى : المصانعة واللين ، وقيل : الاِدهان الغش.

٣ ـ المائدة : ٤٤.

٤ ـ المواتاة : حسن المطاوعة والموافقة.

٥ ـ غضارة الدنيا : النعمة والسعة والخصب.

٨٣

[ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]

ولعمري لو لم يكن نال علماء الأزمنة من ظلمتها ، وأكابرها ، ومفسديها ، شدة وغلظة وعداوة ، ما وصّاهم اللّه تعالى وحذّرهم. ذلك أنّهم ما ينالون ما عند اللّه بالهوينا ولا يخلدون في جنّته بالشهوات.

فكره اللّه تعالى للعلماء ـ المستحفظين كتبه وسنّته وأحكامه ـ ترك ما استحفظهم ، رغبة في ثواب من دونه ، ورهبة عقوبة غيره. وقد ميزكم اللّه تعالى حقّ تميز ، ووسمكم سمة (١) لا تخفى على ذي لب ، وذلك حين قال لكم : « والمُوَْمِنُونَ وَالمُوَْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلئِكَ سَيرْحَمُهُمُ اللّهُ إنَّ اللّهَ عَزيزٌ حَكِيم » (٢).

فبدأ بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عنده ، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده.

ولعمري لقد استفتح الآية في نعت الموَمنين بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا بالموعظة.

وقال تعالى في الآخرين : « المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ » (٣).

فلعمري لقد استفتح الآية في ذمّهم بأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا.

__________________

١ ـ السمة : العلامة.

٢ ـ التوبة : ٧١.

٣ ـ التوبة : ٦٧.

٨٤

واعلموا أنّ فريضة اللّه تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أُقيمت له استقامت الفرائض بأسرها هَيّنُها وشديدها.

وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو :

الدعاء إلى الاِسلام ، والاِخراج من الظلمة ، ورد الظالم ، وقسمة الفيء والغنائم على منازلها ، وأخذ الصدقات ووضعها في مواضعها ، وإقامة الحدود ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهد ، والاِحسان ، واجتناب المحارم ، كل هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يقول اللّه تعالى لكم : « وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرّ وَالتَقْوَى وَلأتَعَاوَنُوا عَلَى الاِثْمِ وَالعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ » (١) فقد ثبت فرض اللّه تعالى فاذكروا عهد اللّه الذي عاهدتموه وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم : « سَمِعْنَا وَأطَعْنَا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ » (٢).

[ دور العلماء ومكانتهم ]

عباد اللّه فإنّما تصلح الأمور على أيدي العلماء وتفسد بهم إذا باعوا أمر اللّه تعالى ونهيه بمعاونة الظالمين ، الجائرين ، فكذلك الجهّال والسفهاء إذا كانت الأمور في أيديهم ، لم يستطيعوا إلاّ بالجهل والسفه إقامتها فحينئذ تصرخ المواريث ، وتضج الأحكام ، ويفتضح المسلمون (٣).

وأنتم أيّها العلماء عصابة مشهورة ، وبالورع مذكورة ، وإلى عبادة اللّه

__________________

١ ـ المائدة : ٢.

٢ ـ المائدة : ٧.

٣ ـ يفتضح المسلمون بمعنى يفرط المسلمون. قال الزمخشري : سمعتهم يقولون : افتضحنا فيك أي فرطنا في زيارتك وتفقدك.

٨٥

منسوبة ، وبدراسة القرآن معروفة ، ولكم في أعين الناس مهابة ، وفي المدائن والأسواق مكرمة ، يهابكم الشريف ، ويكرمكم الضعيف ، ويرهبكم من لا فضل لكم عليه. يُبدَأ بكم عند الدُعوَة ، والتُحَفَة (١) ، ويشار إليكم في المجالس ، وتشفعون في الحاجات ، إذا امتنعت على الطالبين. وآثاركم متبعة ، وطرقكم تسلك.

كل ذلك لما يرجوه عندكم من هو دونكم من النجاة في عرفان حقّ اللّه تعالى. فلاتكونوا عند إيثار (٢) حقّ اللّه تعالى غافلين ، ولأمره مضيّعين ، فتكونوا كالأطباء الذين أخذوا ثمن الدواء وأعطبوا المرضى. وكرعاة استوفوا الأجر وضلّوا عن المرعى. وكحرّاس مدينة أسلموها إلى الأعداء ، هذا مثل علماء السوء.

لا مالاً تبذلونه للّه تعالى ، ولانفوساً تخاطرون بها في جنب اللّه تعالى ، ولاداراً عطلتموها ، ولازوجة فارقتموها ، ولاعشيرة عاديتموها. فلاتتمنوا ما عند اللّه تعالى وقد خالفتموه.

فترون أنّكم تسعون في النور ، وتتلقاكم الملائكة بالبشارة من اللّه عزّ وجلّ؟ كيف تطمعون في السلامة يوم الطامة؟! وقد أخرجتم الأمانة ، وفارقتم العلم ، وأدهنتم في الدين. وقد رأيتم عهد اللّه منقوضاً ، ودينه مبغوضاً ، وأنتم لاتفزعون ومن اللّه لاترهبون.

فلو صبرتم على الأذى ، وتحملّتم الموَنة في جنب اللّه لكانت أُمور اللّه صادرة عنكم ، وواردة إليكم.

__________________

١ ـ التحفة : بضم المثناة وتسكين المهملة : البر واللطف.

٢ ـ الاِيثار : التقديم والتفضيل ، والمعنى هنا : فلا تكونوا غافلين عند إيثار وتقديم حقّ اللّه تعالى والدفاع عنه.

٨٦

عباد اللّه لاتمكّنوا الظالمين من قِيَادِكم (١) بالطمع فيما بأيديهم من حطام الدنيا الزائل ، وتراثها الآفل ، فتخسروا حظّكم من اللّه عزّ وجلّ.

عباد اللّه استقدموا إلى الموت بالوثيقة في الدين ، والاعتصام بالكتاب المتين ، ولاتعجبوا بالحياة الفانية فما عند اللّه هو خير لكم ، وإنّ الآخرة هي دار القرار.

عباد اللّه اندبوا الاِيمان ونوحوا على القرآن ، فو الذي نفس « زيد بن علي » بيده لن تنالوا خيراً لا يناله أهل بيت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أصبتم فضلاً إلاّ أصابوه فأصبتم فضله.

[ إلى علماء السوء ]

فيا علماء السوء أكببتم على الدنيا وإنّها لناهية لكم عنها ، ومحذرة لكم منها ، نصحت لكم الدنيا بتصرفها فاستغششتموها ، وتَفَتحت لكم الدنيا فاستحسنتموها ، وصدقتكم عن نفسها فكذبتموها.

فيا علماء السوء هذا مهادكم الذي مهدتموه للظالمين ، وهذا أمانكم الذي أتمنتموه (٢) للخائنين ، وهذه شهادتكم للمبطلين. فأنتم معهم في النار غداً خالدون. « ذلِكُم بِمَا كُنْتُم تَفْرَحُونَ فِى الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقّ وَبِمَا كُنْتُم تَمْرَحُونَ » (٣).

فلو كنتم سلّمتم إلى أهل الحقّ حقهم ، وأقررتم لأهل الفضل بفضلهم لكنتم أولياء اللّه ، ولكنتم من العلماء به حقاً ، الذين امتدحهم اللّه عزّ وجلّ في كتابه بالخشية منهم.

__________________

١ ـ القياد كالمقود : ما يقاد به ، واستعماله هنا مجاز ، والمعنى : لا تمكّنوا الظالمين من قودكم كما تقاد البهائم.

٢ ـ أتمنتموه بمعنى أمنتموه ، حكاه في اللسان عن ثعلب وقال : وهي نادرة.

٣ ـ غافر : ٧٥.

٨٧

فلا أنتم علمتم الجاهل ، ولا أنتم أرشدتم الضال ، ولا أنتم في خلاص الضعفاء تعملون ، ولابشرط اللّه عليكم تقومون ، ولا في فكاك رقابكم [ ولا السلب إلاّ سلبكم ].

يا علماء السوء اعتبروا حالكم ، وتفكّروا في أمركم ، وستذكرون ما أقول لكم.

يا علماء السوء إنّما أمنتم عند الجبارين بالاِدهان ، وفزتم بما في أيديكم بالمقاربة ، وقربتم منهم بالمصانعة (١) ، قد أبحتم الدين ، وعطّلتم القرآن ، فعاد علمكم حجّة للّه عليكم ، وستعلمون إذا حشرج الصدر ، وجاءت الطامة ، ونزلت الداهية.

يا علماء السوء أنتم أعظم الخلق مصيبة ، وأشدهم عقوبة ، إن كنتم تعقلون ، ذلك بأنّ اللّه قد احتج عليكم بما استحفظكم إذ جعل الأمور ترد إليكم ، وتصدر عنكم.

الأحكام من قبلكم تلتمس ، والسنن من جهتكم تختبر. يقول المتبعون لكم : أنتم حجّتنا بيننا وبين ربّنا. فبأي منزلة نزلتم من العباد هذه المنزلة؟

فوالذي نفس « زيد بن علي » بيده لو بيّنتم للناس ما تعلمون ودعوتموهم إلى الحقّ الذي تعرفون ، لتضعضع بنيان الجبارين ، ولتهدّم أساس الظالمين ، ولكنّكم اشتريتم بآيات اللّه ثمناً قليلاً ، وأدهنتم في دينه ، وفارقتم كتابه.

هذا ما أخذ اللّه عليكم من العهود والمواثيق ، كي تتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الاِثم والعدوان ، فأمكنتم الظلمة من الظلم ، وزيّنتم لهم الجور ، وشددتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقارنة ، فهذا حالكم.

فيا علماء السوء فمحوتم كتاب اللّه محواً ، وضربتم وجه الدين ضرباً ، فند (٢)

__________________

١ ـ المصانعة : المداراة والمداهنة.

٢ ـ ند البعير : شرد ونفر.

٨٨

واللّه نديد البعير الشارد ، هرباً منكم.

فبسوء صنيعكم سفكت دماء القائمين بدعوة الحقّ من ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورفعت روَوسهم فوق الأسنّة ، وصُفّدُوا في الحديد ، وخلص إليهم الذل ، واستشعروا الكرب وتسربلوا الأحزان ، يتنفسون الصعداء (٢) ، ويتشاكون الجهد.

فهذا ما قدّمتم لأنفسكم ، وهذا ما حملتموه على ظهوركم ، فاللّه المستعان ، وهو الحكم بيننا وبينكم ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين.

[ دعوة إلى الجهاد ]

وقد كتبت إليكم كتاباً بالذي أُريد من القيام به فيكم. وهو : العمل بكتاب اللّه ، وإحياء سنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فبالكتاب قوام الاِيمان ، وبالسنّة يثبت الدين. وإنّما البدع أكاذيب تخترع ، وأهواء تتّبع ، يتولّـى فيها وعليها رجال رجالاً صدّوهم عن دين اللّه ، وذادوهم عن صراطه ، فإذا غيّرها الموَمن ، ونهى عنها المُوَحّد ، قال المفسدون : جاءنا هذا يدعونا إلى بدعة!!

وأيم اللّه ما البدعة إلاّ التي أحدث الجائرون ، ولا الفساد إلاّ الذي حكم به الظالمون.

وقد دعوتكم إلى الكتاب. فأجيبوا داعي اللّه ، وانصروه ، فوالذي بإذنه دعوتكم ، وبأمره نصحت لكم ، ما ألتمس أثرة على موَمن ، ولا ظلماً لمعاهد ، ولوددت أنّي قد حميتكم مراتع (٣) الهلكة ، وهديتكم من الضلالة ، ولو كنت أوقد

__________________

١ ـ في القاموس : بالضم بعده سكون ، وفي لسان العرب : بالضم بعده تحريك بالفتح : النفس بتوجع ، وفي شرح القاموس الأوّل أصح.

٢ ـ مراتع : مواضع.

٨٩

ناراً فأقذف بنفسي فيها ، لا يقربني ذلك من سخط اللّه ، زهداً في هذه الحياة الدنيا ، ورغبة منّي في نجاتكم ، وخلاصكم. فإن أجبتمونا إلى دعوتنا كنتم السعداء والموفورين حظاً ونصيباً.

عباد اللّه انصحوا داعي الحقّ وانصروه إذ قد دعاكم لما يحييكم. ذلك بأنّ الكتاب يدعو إلى اللّه ، وإلى العدل والمعروف ، ويزجر عن المنكر.

فقد نظرنا لكم وأردنا صلاحكم ، ونحن أولى الناس بكم. رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « جدّنا » ، والسابق إليه الموَمن به « أبونا » ، وبنته سيدة النسوان « أُمّنا » ، فمن نزل منكم منزلتنا. فسارعوا عباد اللّه إلى دعوة اللّه ، ولا تنكلوا عن الحق ، فبالحق يُكبَت (١) عدوّكم ، وتمنع حريمكم ، وتأمن ساحتكم.

وذلك أنّا ننزع الجائرين عن الجنود ، والخزائن ، والمدائن ، والفيء ، والغنائم ، ونثبت الأمين الموَتمن ، غير الراشي والمرتشي ، الناقض للعهد. فإن نظهر فهذا عهدنا ، وإن نستشهد فقد نصحنا لربّنا ، وأدّينا الحقّ إليه من أنفسنا ، فالجنة مثوانا ومنقلبنا ، فأي هذا يكره الموَمن ، وفي أي هذا يرهب المسلم ، وقد قال اللّه عزّ وجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وَلأ تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أنْفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لأيُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أثِيماً » (٢).

وإذا بدأت الخيانة ، وخربت الأمانة ، وعمل بالجور ، فقد افتضح الوالي. فكيف يكون إماماً على الموَمنين من هذا نعته وهذه صفته؟!

اللّهم قد طلبنا المعذرة إليك ، وقد عرّفتنا إنّك لاتصلح عمل المفسدين ، فأنت اللّهم وليّنا ، والحاكم فيما بيننا وبين قومنا بالحقّ.

هذا ما نقول ، وهذا ما ندعو إليه ، فمن أجابنا إلى الحقّ فأنت تثيبه وتجازيه ،

__________________

١ ـ يكبت : يرد العدو ويغيضه.

٢ ـ النساء : ١٠٧.

٩٠

ومن أبى إلاّ عتوّاً وعناداً فأنت تعاقبه على عتوّه وعناده.

فاللّه اللّه عباد اللّه أجيبوا إلى كتاب اللّه ، وسارعوا إليه ، واتخذوه حكماً فيما شجر بينكم ، وعدلاً فيما فيه اختلفنا ، وإماماً فيما فيه تنازعنا ، فإنّا به راضون ، وإليه منتهون ، ولما فيه مسلمون ، لنا وعلينا. لانريد بذلك سلطاناً في الدنيا ، إلاّ سلطانك ، ولانلتمس بذلك أثرة على موَمن ، ولا موَمنة ، ولاحر ، ولا عبد.

عباد اللّه فأجيبونا إجابة حسنة تكن لكم البشرى.

يقول اللّه عزّ وجلّ في كتابه : « فَبَشِّـرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ » (١).

ويقول : « وَمَنْ أحْسَنُ قَوْلاً مِـمَّن دَعَا إِلى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقالَ إِنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ » (٢).

[ مكانة أهل البيت عليهم‌السلام ]

عباد اللّه فاسرعوا بالاِنابة وأبذلوا النصيحة ، فنحن أعلم الأمّة باللّه ، وأوعى الخلق للحكمة ، وعلينا نزل « القرآن » ، وفينا كان يهبط « جبريل » عليه‌السلام ، ومن عندنا اقتبس الخير. فمن علم خيراً فمنّا اقتبسه ، ومن قال خيراً فنحن أصله ، ونحن أهل المعروف ، ونحن الناهون عن المنكر ، ونحن الحافظون لحدود اللّه.

عباد اللّه فأعينونا على من استعبد أُمّتنا ، وأخرب أمانتنا ، وعطّل كتابنا ، وتشرف بفضل شرفنا. وقد وثقنا من نفوسنا بالمضي على أُمورنا ، والجهاد في سبيل خالقنا ، وشريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صابرين على الحق ، لا نجزع من نائبة من ظلمنا ، ولا نرهب الموت إذا سلم لنا ديننا.

____________

١ ـ الزمر : ١٧ ـ ١٨.

٢ ـ فصلت : ٣٣.

٩١

فتعاونوا ، وانصروا ، يقول اللّه عزّ وجلّ في كتابه : « يَا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُـرُوا اللّهَ يَنْصُـرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أقدامَكُمْ » (١).

ويقول اللّه عزّ وجلّ : « وَليَنْصُرَنَّ اللّه مَنْ يَنْصُـرُهُ إنَّ اللّه لَقَويٌّ عَزيزٌ * الّذِينَ إنْ مَكّنَّاهُمْ فِي الأرضِ أقامُوا الصّّلاةَ وآتَوُا الزّكاةَ وَأمَرُوا بِالمعَرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وللّهِ عاقِبَةُ الأمورِ » (٢).

عباد اللّه فالتمكين قد ثبت بإثبات الشريعة ، وبإكمال الدين يقول اللّه عزّ وجلّ : « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أنْتَ بِمَلُوم » (٣).

وقال اللّه عزّ وجلّ فيما احتج به عليكم : « اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسلامَ دِيناً » (٤).

عباد اللّه فقد أكمل اللّه تعالى الدين ، وأتم النعمة ، فلا تنقصوا دين اللّه من كماله ، ولا تبدّلوا نعمة اللّه كفراً فيحل بكم بأسه وعقابه.

عباد اللّه إنّ الظالمين قد استحلّوا دماءنا ، وأخافونا في ديارنا ، وقد اتّخذوا خذلانكم حجة علينا فيما كرهوه من دعوتنا ، وفيما سفهوه من حقّنا ، وفيما أنكروه من فضلنا عناداً للّه ، فأنتم شركاوَهم في دمائنا ، وأعوانهم في ظلمنا ، فكل مال للّه أنفقوه ، وكل جمع جمعوه ، وكل سيف شحذوه (٥) ، وكل عدل تركوه ، وكل جور ركبوه ، وكل ذمة للّه تعالى أخفروها (٦) وكل مسلم أذلّوه ، وكل كتاب نبذوه ، وكل

__________________

١ ـ محمد : ٧.

٢ ـ الحج : ٤٠ ـ ٤١.

٣ ـ الذاريات : ٥٤.

٤ ـ المائدة : ٣.

٥ ـ شحذوه : أحدّوه.

٦ ـ أخفره : نقض عهده.

٩٢

حكم للّه تعالى عطّلوه ، وكل عهد للّه تعالى نقضوه ، فأنتم المعينون لهم على ذلك بالسكوت عن نهيهم عن السوء.

عباد اللّه إنّ الأحبار والرهبان من كل أُمّة مسوَولون عما استحفظوا عليه ، فأعدّوا جواباً للّه عزّ وجلّ على سوَاله.

اللهم إنّي أسألك بنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تثبّتاً منك على الحقّ الذي ندعو إليه وأنت الشهيد فيما بيننا ، الفاصل بالحقّ فيما فيه اختلفنا ، ولاتستوي الحسنة ولا السيئة.

والسلام على من أجاب الحقّ ، وكان عوناً من أعوانه الدالّين عليه.

تمّ ذلك بحمد اللّه ومنّه.

* * *

مناظراته :

إنّ لزيد الشهيد مناظرات جرت بينه وبين هشام وأُناس أُخر وفيها دلالة واضحة على قوة منطقه ، ونضاجة فكره وبالأخص على حضور بديهته نقتطف ما يلي :

١ ـ روى موفق الدين عن معمر بن خيثم : قال لي زيد بن علي : كنت أُباري هشام بن عبد الملك وأُكايده في الكلام ، فدخلت عليه يوماً فذكر بني أُمية ، فقال : واللّه هم أشدّ قريش أركاناً ، وأشدّ قريش مكاناً ، وأشدّ قريش سلطاناً ، وأكثر قريش أعواناً ، كانوا روَوس قريش في جاهليّتها ، وملوكهم في إسلامها فقلت له : على من تفخر؟ أعلى بني هاشم ، أوّل من أطعم الطعامَ وضرب الهامَ وخضعت لها قريش بإرغام ، أم على بني المطلب سيد مُضر جميعاً ، وإن قلت معد كلّها صدَقت ، إذا ركب مشوا ، وإذا انتعل احتفوا ، وإذا تكلّم سكتوا ، وكان يطعم الوحوش في

٩٣

روَوس الجبال والطير ، والسباع والاِنس في السهل ، حافر زمزم ، وساقي الحجيج ، أم على بنيه أشرف رجال ، أم على نبي اللّه ورسوله حمله اللّه على البراق ، وجعل الجنة عن يمينه ، والنار عن شماله فمن تبعه دخل الجنة ، ومن تأخّر عنه دخل النار ، أم على أمير الموَمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أخي رسول اللّه وابن عمه المفرِّج الكرب عنه وأوّل من قال لا إله إلاّ اللّه بعد رسول اللّه لم يبارزه فارس قط إلاّ قتله ، وقال فيه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مالم يقله في أحد من أصحابه ولا لأحد من أهل بيته ، قال : فاحمر وجهه (١).

٢ ـ دخل زيد على هشام بن عبد الملك ، وقد جمع له هشام أهل الشام وأمر أن يتضايقوا في المجلس حتى لا يتمكن من الوصول إلى قربه ، فقال له زيد : إنّه ليس من عباد اللّه أحد فوق أن يوصى بتقوى اللّه ، ولا من عباد اللّه أحد دون أن يوصى بتقوى اللّه ، وأنا أُوصيك بتقوى اللّه يا أمير الموَمنين فاتقه ، فقال له هشام : أنت الموَهل نفسك للخلافة ، الراجي لها؟ وما أنت وذاك لا أُمّ لك وإنّما أنت ابن أمة ، فقال له زيد : إنّي لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند اللّه من نبيّ بعثه وهو ابن أمة ، فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية ، لم يبعث ، وهو إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام فالنبوة أعظم منزلة عند اللّه أم الخلافة يا هشام؟ وبعد فما يقصر برجل أبوه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن علي بن أبي طالب ، فوثب هشام عن مجلسه (وزيد في عمدة الطالب ووثب الشاميون) ودعا قهرمانه فقال : لا يبيتن هذا في عسكري (الليلة) فخرج زيد وهو يقول : إنّه لم يكره قط أحد حد السيوف إلاّ ذلّوا (٢).

٣ ـ قد وشي بزيد إلى هشام ، فسأله عن ذلك فقال : أحلف لك. قال هشام : فإذا حلفت أفأُصدقك؟! قال : إتق اللّه. قال هشام : أومثلك يا زيد يأمر مثلي

__________________

١ ـ موفق الدين الخوارزمي : مقتل الحسين : ٢ / ١١٧.

٢ ـ المفيد : الاِرشاد : ٢٦٨ ، طبعة النجف الأشرف.

٩٤

بتقوى اللّه ، قال : لا أحد فوق أن يوصى بتقوى اللّه ، ولا أحد دون أن يوصى بتقوى اللّه. قال هشام : بلغني أنّك تريد الخلافة وأنت لا تصلح لها لأنّك ابن أمة قال : قد كان إسماعيل بن إبراهيم ابن أمة وإسحق ابن حرة ، فأخرج اللّه من صلب إسماعيل النبيّ الكريم ، فعندها قال له هشام : قم ، قال : إذاً لا تراني إلاّ حيث تكره (١).

٤ ـ روى خالد بن صفوان اليمامي ، قال : أتينا زيـد بن علي وهو يومئذ بالرصافة ، رصافة هشام بن عبد الملك ، فدخلنا عليه في نفر من أهل الشام وعلمائهم وجاءُوا معهم برجل انقاد له أهل الشام في البلاغة ، والبصر بالحجج ، وكلّمنا زيد بن علي في الجماعة وقلنا : إنّ اللّه مع الجماعة وأنّ أهل الجماعة حجّة اللّه على خلقه ، وأنّ أهل القلّة هم أهل البدعة والضلالة ، قال : فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّـى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم تكلّم بكلام ما سمعت قرشيّاً ولا عربيّاً أبلغ موعظة ، ولا أظهر حجّة ولا أفصح لهجة منه ، قال : ثم أخرج إلينا كتاباً قاله في الجماعة والقلة ، ذكر من كتاب اللّه فلم يذكر كثيراً إلاّ ذمّه ولم يذكر قليلاً إلاّ مدحه ، والقليل في الطاعة هم أهل الجماعة ، والكثير في المعصية هم أهل البدع. قال خالد بن صفوان : فيئس الشامي فما أحلى ولا أمر (كذا) وسكت الشاميون فما يجيبون بقليل ولا كثير ، ثم قاموا من عنده فخرجوا وقالوا لصاحبهم : فعل اللّه بك وفعل ، غررتنا وفعلت ، زعمت أنّك لا تدع له حجّة إلاّ كسرتها فخرست ، فلم تنطق ، فقال لهم : ويلكم كيف أكلّم رجلاً إنّما حاجّني بكتاب اللّه أفأستطيع أن أرد كلام اللّه؟! فكان خالد بن صفوان يقول بعد ذلك : ما رأيت في الدنيا رجلاً قرشياً ولا عربياً يزيد في العقل والحجج غير زيد بن علي عليهما‌السلام (٢).

__________________

١ ـ مختار البيان والتبيين كما في زيد الشهيد للأمين : ٤٨ ـ ٤٩.

٢ ـ حميد المحلي : الحدائق الوردية : ١٤٢ ـ ١٤٣ ؛ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٠٠.

٩٥

أشعاره :

هذه نتف من مناظراته وفيها غنى وكفاية ، فلنعطف عنان البحث إلى ما جادت به قريحته في مواقف مختلفة ويبدو أنّه لا ينظم الشعر إلاّ في مجالات قليلة ، يصبّ ما في نفسه من جوى وشكوى ، وحماس في قالب النظم وإليك بعض ما وقفنا عليه :

١ ـ روى أبو الفرج عن زكريا قال : أردت الخروج إلى الحجّ فمررت بالمدينة ، فقلت : لو دخلت على زيد بن علي ، فدخلت فسلمت عليه فسمعته يتمثّل :

ومن يطلب المال الممنّع بالقنا

يعش ماجداً أو تخترمه المخارم

متى تجمع القلب الذكي وصارماً

وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم

وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم

فهل أنا في ذا يالهمدان ظالم

يقول : فخرجت من عنده وظننت أنّ في نفسه شيئاً وكان من أمره ما كان (١).

٢ ـ روى الخزاز عن ابن بكير أنّه قال لزيد : يابن رسول اللّه هل عهد إليكم رسول اللّه متى يقوم قائمكم؟ قال : يا بن بكير ، إنّك لن تلحقه ، وإن هذا الأمر يليه ستة أوصياء بعد هذا ، ثم يجعل اللّه خروج قائمنا فيملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، قلت يا بن رسول اللّه ألست صاحب هذا الأمر؟ فقال : أنا من العترة ، فعدت فعاد إليّ ، فقلت : يا بن رسول اللّه هذا الذي قلته عنك أو عن رسول اللّه؟ فقال : لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ، لا ولكن عهد ، عهِدَه إلينا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أنشأ يقول :

__________________

١ ـ أبوالفرج : مقاتل الطالبيين : ٨٩.

٩٦

نحن سادات قريش

وقوام الحقّ فينا

نحن الأنوار التي من

قبل كون الخلق كنّا

نحن منّا المصطفى ال

مختار والمهدي منّا

فبنا قد عرف اللّه

وبالحق أقمنا

سوف يصلاه سعيراً

من تولى اليوم عنّا (١)

٣ ـ روى ابن شهر آشوب في المناقب أنّه رثى الاِمام الباقر عليه‌السلام بأبيات وقال :

ثوى باقر العلم في ملحد

إمام الورى طيب المولد

فمن لي سوى جعفر بعده

إمام الورى الأوحد الأمجد

أبا جعفر الخير أنت الاِمام

وأنت المرجى لبلوى غد (٢)

٤ ـ اجتمع مع هشام فأهانه ، فخرج عن مجلسه وهو يقول : « من أحب الحياة ذل » ثم أنشأ يقول :

مهلاً بني عمنا عن نحت أثلتنا

سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا

لاتطمعوا أن تهينونا ونكرمكم

وان نكفّ الأذى عنكم وتوَذونا

واللّه يعلم أنّا لا نحبّكم

ولانلومكم أن لا تحبّونا

كلّ امرىءٍ مولعٌ في بغض صاحبه

فنحمد اللّه نقلوكم وتقلونا (٣)

__________________

١ ـ الخزاز القمي : كفاية الأثر : ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

٢ ـ ابن شهر آشوب : المناقب : ٤ / ١٩٧ ، طبعة دار الأضواء ، بيروت.

٣ ـ ابن منظور : مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ١٥٦.

٩٧

٥ ـ روى ابن الأثير لما أهانه هشام ، وقال : أُخرج ، قال : أخرج ثم لا أكون إلاّ حيث تكره ، فقال له سالم : يا أبا الحسين لا يظهرن هذا منك ، فخرج من عنده وسار إلى الكوفة ولمّا خرج من مجلس هشام أنشد :

شرّده الخـوف وأزرى به

كذاك من يكره حرّ الجلاد

منخرق النعلين يشكو الوجى

تنكثه أطراف مرو حداد

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

إن يحدث اللّه له دولة

تترك آثار العدا كالرماد (١)

٦ ـ روى السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة نقلاً عن الخوارزمي في مقتله : إنّ أبا الحسين لما رأى الأرض قد طوقت جوراً ورأى قلة الأعوان ، وتخاذل الناس ، كانت الشهادة أحب الميتات إليه فخرج وهو يتمثل بهذين البيتين :

إن المحكم ما لم يرتقب حسداً

لو لم يرهب السيف أو وخز القنا صفا

من عاذ بالسيف لاقى فرجة عجباً

موتاً على عجل أو عاش فانتصفا (٢)

٧ ـ روى ابن الأثير ، قال محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب لزيد : أذكرك اللّه يا زيد ، لما لحقت بأهلك ولا تأتي أهل الكوفة ، فإنّهم لا يفون لك ، فلم يقبل ، فقال له : خُرِجَ بنا أُسراء على غير ذنب من الحجاز ، إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق ، إلى قيس ثقيف يلعب بنا ثم قال :

__________________

١ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ٢٠٦.

٢ ـ الأمين : أعيان الشيعة : ٧ / ١١٦.

٩٨

بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني

أصبحت عن عرض الحياة بمعزل

فأجبتها إنّ المنية منهل

لا بد أن أُسقى بكأس المنهل

إنّ المنية لو تُمثَّل مُثّلتْ

مثلي (كذا) إذا نزلوا بضيق المنزل

فاقني حياءك لا أبا لُكِ وأعلمي

إنّي امروَ سأموت إن لم أُقتل (١)

٨ ـ وى المرتضى في الفصول المختارة عن الحسين بن زيد ، قال : حدثني مولاي قال : كنت مع زيد بن علي عليه‌السلام بواسط فذكر قوم الشيخين وعلياً فقدّموهما عليه ، فلمّا قاموا قال لي زيد : قد سمعت كلام هوَلاء وقد قلت أبياتاً فادفعها إليهم وهي:

من شرّف الأقوام يوماً برأيه

فإنّ علياً شرّفته المناقبُ

وقول رسول اللّه والحقّ قوله

وإن رغمت منهم أُنوف كواذب

بأنّك منّي ياعلي معالنا

كهارون من موسى أخ لي وصاحب

دعاه ببدر فاستجاب لأمره

وما زال في ذات الاِله يضارب

فما زال يعلوهم به وكأنّه

شهاب تلقاه القوابس ثاقب (٢)

٩ ـ قال السيد الأمين : وممّا نسب إليه قوله :

لو يعلم الناس ما في العرف من شرف

لشرفوا العرف في الدنيا على الشرف

وبادروا بالذي تحوي أكفهم

من الخطير ولو أشفوا على التلف (٣)

__________________

١ ـ ابن الأثير : الكامل : ٥ / ٢٣٣ ، طبعة دار صادر.

٢ ـ المرتضى ، الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ٢٥.

٣ ـ تاريخ ابن عساكر : ٦ / ٢٠.

٩٩

١٠ ـ روى عن نسمة السحر أنّ هذين البيتين له :

يقولون زيداً لا يزكى بما له

وكيف يزكي المال من هو باذله

إذا حال حول لم يكن في أكفنا

من المال إلاّ رسمه وفواضله (١)

١١ ـ روى الديلمي : أنّه لما جرى بينه وبين هشام كلام خرج عليه‌السلام وهو يقول:

حكم الكتاب وطاعة الرحمن

فرضا جهاد الجائر الخوان

كيف النجاة لأمّة قد بدلت

ما جاء في الفرقان والقرآن

فالمسرعون إلى فرائض ربّهم

برئوا من الآثام والعدوان

والكافرون بحكمه وبفرضه

كالساجدين لصورة الأوثان (٢)

لكل أُناس مقبر بفنائهم

فهم ينقصون والقبور تزيد

فما إن تزال دار حيٍّ قد أُخربت

وقبرٌ بأفناء البيوت جديد

هم جيرة الأحياء أمّا مزارهم

فدانٍ وأمّا الملتقى فبعيد (٣)

١٢ ـ تمثل زيد بالأبيات التالية وقد تمثل بها علي بن أبي طالب عليه‌السلام يوم صفين والحسين بن علي عليهما‌السلام يوم قتل وهي لضرار بن الخطاب الفهري:

__________________

١ ـ الأمين العاملي : زيد الشهيد : ٩٤ ، نقلاً عن نسمة السحر فيمن تشيع وشعر.

٢ ـ السياغي ، الروض النضير : ١ / ١٠٧.

٣ ـ ابن عبد ربّه : العقد الفريد : ٣ / ٢٣٦.

١٠٠