بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

١

٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه وآله و

على رواة سنته وحملة أحاديثه وحفظة كلمه.

٤

الحمدللّه رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين ، وآله الطاهرين ، وصحبه المنتجبين.

أمّا بعد : فهذا هو الجزء الخامس من موسوعتنا في الملل والنحل ، والمقارنة بين المذاهب الاسلامية ، نقدّمه إلى القرّاء الكرام ، راجين منهم التنبيه والارشاد إلى مواضع الزلّة والخطأ ، فإنّ المؤمن مرآة المؤمن ، وأحبّ الاخوان من أهدى إلى أخيه عيوبه (١).

ويتناول هذا الجزء دراسة إحدى الفرق الإسلامية القديمة أعني فرقة الخوارج من خلال المواضيع التالية :

الف ـ نشأتهم.

ب ـ تاريخهم السياسي الذي يتضمّن المواجهات التي خاضوها مع

__________________

١ ـ اقتباس عن الكلمة المروية عن الامام الصادق عليه‌السلام حيث قال : أحبّ اخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي (لاحظ : تحف العقول ٣٦٦).

٥

مخالفيهم أوّلا ، ومحاولاتهم للاستيلاء على البلاد الإسلامية ثانياً ، وزوالهم والقضاء عليهم ثالثاً.

ج ـ طوائفهم وفرقهم.

د ـ عقائدهم وافكارهم.

هـ ـ شخصيّاتهم البارزة والآثار الأدبيّة التي خلّفوها.

والخوارج ـ كما قلنا ـ من أقدم الفرق الإسلامية بل أوّل فرقة ظهرت في المجتمع الإسلامي ، وهو أوّل اختلاف حدث بين المسلمين ، بعد اختلاف الاُمّة في مسألة الإمامة ، وقد تكوَّنت في العقد الرابع من القرن الأوّل بعدما نشبت الحرب بين الإمام عليّ عليه‌السلام ومعاوية بن أبي سفيان ، وقد تحدّث عنهم وعن نشأتهم وتاريخهم طائفتان :

١ ـ أصحاب التواريخ : فقد ذكروا عنهم شيئاً كثيراً حسب التسلسل الزمني كالطبري في تاريخه ، والمبرّد في كامله ، واليعقوبي في تاريخه ، والمسعودي في مروجه ، والجزري في كامله ، وابن كثير في كتابه ، ولكن اكتفوا بنقل الحوادث من دون تحليل عللها ونتائجها وغاياتها ومن دون استنتاج شيء يُعدّ درساً أو عبرة ، ومن دون قضاء بشيء في حقّهم ، كأنّهم قصّاصون ليس لهم شأن سوى سرد القصّة.

وبما أنّهم ذكروا حوادث تلك الفرقة في فصول مختلفة ـ كما هو مقتضى سرد الحوادث حسب السنين والقرون ـ لا يمكن للإنسان أن يقف على تاريخ تلك الفرقة دفعة واحدة في موضع واحد ، بل عليه السبر وتتّبع الحوادث وضمّ حلقة إلى حلقات اُخرى ، حتى يكون على اطّلاع على تاريخهم عن كثب.

٢ ـ مؤرّخو العقائد : أعني أصحاب علم الملل والنحل فقد اهتمّوا بذكر فرقهم ، وبيان لفيف من عقائدهم ، من دون تركيز على كيفيّة نشأتهم ، والحروب

٦

الّتي مارسوها طيلة سنين ، قرناً بعد قرن.

نعم هناك جماعة من المتأخرّين أفردوا تاريخهم بالتأليف ، وهم بين كاتب مسلم ، ومؤلّف مستشرق ، ولكل غايته المتوخّاة ، وإليك الاشارة إلى بعض ما اُلّف في ذلك المضمار :

١ ـ ملخّص تاريخ الخوارج : تأليف محمّد شريف سليم ، المطبوع في القاهرة عام ١٣٤٩ هـ ـ ق.

٢ ـ الخوارج في الاسلام : تأليف عمر أبي النصر ، المطبوع في بيروت عام ١٣٦٩ هـ ق الموافق لعام ١٩٤٩ م.

٣ ـ أدب الخوارج : تأليف الكاتبة سهير القلماوي ، والكتاب رسالتها الاُولى لنيل درجة الماجستير وقد نشرتها عام ١٣٦٥ هـ ـ ق وتناولت الرسالة البحث عن شعراء الخوارج وقد ذكرت منهم عمران بن حطان وقطري بن الفجاءة ، والطرماح بن حكيم وهو غير طرماح بن عدي الذي كان موالياً لعلي عليه‌السلام.

٤ ـ وقعة النهروان : تأليف الخطيب الهاشمي الحائري ، المطبوع في طهران عام ١٣٧٢ هـ ـ ق.

٥ ـ الخوارج في العصر الأموي : تأليف الدكتور نايف معروف ، وقد طبع في بيروت مرّتين أخيرتها في عام ١٤٠١ هـ.

٦ ـ الخوارج والشيعة : تأليف يوليوس فلهوزن ، وقد نقله إلى العربية عبدالرحمن بدوي ، طبع في الكويت للمرّة الثالثة عام ١٩٧٨ م. ومن جنايات المؤلّف على تاريخ الشيعة في الكتاب قوله : « انّ الشيعة والخوارج تكوّنا في وقت واحد » (١) والمسكين جاهل بتاريخ الشيعة ـ فانّها تكوّنت في العصر الذي تكوّن فيه الاسلام ، والشيعة عبارة عن لفيف من المسلمين الاُول من المهاجرين

__________________

١ ـ يوليوس فلهوزن : الخوارج والشيعة ١١٢ ، ترجمة عبدالرحمن بدوي ، من الألمانية الى العربية.

٧

والأنصار ، الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاتّبعوا سنّته ولم يعدلوا عنها قيد شعرة ، فأخذوا في مسألة الخلافة بالنص ، وتركوا الاجتهاد في مقابله.

وأمّا الخوارج فقد نشأت في أعقاب حرب « صفّين » كما سيوافيك بيانه ، فعدّهما عدلين وفي صفّ واحد جهل بتاريخ الشيعة وتاريخ الاسلام ، أو تجاهل ، وليس ذلك ببعيد عن المستشرقين المجتمعين على موائد الاستعمار.

هذا بعض ما اُلّف حول تاريخ الخوارج والكل كماترى ألّف بيد خصمائهم ولا يمكن الاحتجاج بهذه الكتب عليهم إلاّ إذا تضافر النقل وحصل الاطمئنان بصدقها ، ولأجل رفع تلك النقيصة والتزاماً منّا بالموضوعية التي يجب أن يتّصف بها البحث والباحث ، بذلنا الجهد للحصول على آثار تلك الفرقة في التاريخ والعقائد والفقه والتفسير وتقف على أسمائها في « قائمة المصادر » للكتاب. فإنّ الخوارج انقرضت بعامّة فرقها ولم يبق منهم مايعبأ به إلاّ فرقة الاباضية وهي الفرقة المعتدلة منهم ، وهي المذهب الرسمي في عمّان ، وقد قامت وزارة التراث القومي والثقافة لسلطنة عمان ، بنشر آثار الاباضية في مجالات مختلفة ، فلابّد للباحث من الرجوع إليها.

نسأل اللّه سبحانه أن يوفّقنا في تبيين نشأة تلك الفرقة وتاريخها وعقائدها لما هو الحق والصدق ، مجانبين عن كل فكرة ونظرية مسبقة في حقّهم.

قم ـ مؤسسة الامام الصادق عليه‌السلام

جعفرالسبحاني

٢٠ / ١٢ / ١٤١١

٨

الفصل الأوّل

بداية الاختلاف بعد رحلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٩
١٠

ارتحل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملبّياً دعوة ربّه في العام الحادي عشر من هجرته ، بعد ما بذل كل جهده لتوحيد الاُمّة ورصّ صفوفها ، منادياً فيهم بقول سبحانه : ( إنَّ هذه اُمَّتُكُمْ اُمَّه واحِدَةً وانَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (١) وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما دعا إلى كلمة التوحيد دعا إلى توحيد الكلمة بأمر منه سبحانه في الذكر الحكيم حيث قال : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (٢) وقال سبحانه : ( إنَّمَا الْمُؤمِنُونَ إخْوَة ... ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُحذِّر المجتمع الاسلامي من التفرّق والتشرذم ، وقد وصف التحزّب والتعصّب لقوم دون قوم « دعوى منتنة » (٤).

وقد خاطب معشر الأنصار بقوله : « الله الله أبدعوى الجاهلية وانا بين

__________________

١ ـ الأنبياء : ٩٢.

٢ ـ آل عمران : ١٠٣.

٣ ـ الحجرات : ١٠.

٤ ـ ابن هشام : السيرة النبوية ٣ / ٣٠٣.

١١

اظهركم بعد أن هداكم الله بالاسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم » (١).

ومع كل هذه الأوامر العديدة والتحذيرات الشديدة نرى ـ ياللاسف ـ أنّ المسلمين اختلفوا بعد وفاته ـ وجثمانه بَعدُ لم يُوار ـ إلى فرقتين يجمعهما الاتّفاق في سائر الاُصول ويفرّقهما الخلاف في مسألة الخلافة والولاية وهاتان الفرقتان هما :

١ ـ فرقة تبنّت مبدأ التنصيص على الشخص المعيّن وقالت إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على خلافة علي وولايته في مواضع عديده ومناسبات كثيرة ، أعظمها واشهرها يوم الغدير في منصرفه عن حجّة الوداع في العام العاشر ، فقال في محتشّد عظيم : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » وقد بلغ الحديث في كل عصر حدّ التواتر بل تجاوز حدّه ، ومن المتبنّين لهذه الفكرة ، أكابر بني هاشم وشخصيّاتهم البارزة كعباس بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب وغيرهما ولفيف من الأصحاب ، كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وأبي التيهان ، وأبي أيّوب الأنصاري وغيرهم من المهاجرين والأنصار ، الذين شايعوا علياً ، ونفّذوا ما أوصى به النبي الأكرم في حقّ وصيّه ، وهؤلاء همّ نواة الشيعة وهم جزء من المسلمين الاُول ، فقد بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول.

٢ ـ فرقة تبنّت فكرة الشورى ، وانّ لها اختيار القائد ، وانتهت تلك الفكرة بعد مشاجرات ومشاغبات بين متبنّيها إلى خلافة أبي بكر بن أبي قحافة ، وتمّت البيعة له في سقيفة بني ساعدة ، ببيعة عدّة من المهاجرين ، كعمر بن الخطاب

__________________

١ ـ ابن هشام : السيرة النبوية ٢ / ٢٥٠.

١٢

وأبي عبيدة الجراح ، وبيعة الأوسيين من الأنصار ، وهؤلاء قد نسوا أوتناسوا النصّ النبوي يوم الغدير فقدَّموا الاجتهاد على النص ، ورجّحوا المصلحة المزعومة على التعيين الإلهي ، والعجب انّ أصحاب هذه الفكرة من بين المهاجرين والأنصار كانوا يستدلّون على مبدئهم في سقيفة بني ساعدة بأدلّة ومقاييس كانت سائدة في الجاهلية ، والتي لاصلة لها بالكتاب والسنّة :

مثلا : إنّ الأنصار رأوا أنّهم أولى من غيرهم بالخلافة ، لأّنهم آووا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصروه في حروبه في زمان أخرجه قومه فيه من موطنه وخذلوه ، وقال خطيبهم الحبّاب بن المنذر بقوله : يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم فأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم ، فانّه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين.

هذا منطق الأنصار ، وهلم معي نستمع منطق المهاجرين فقال أبوبكر ناطقاً عنهم : إنّ المهاجرين أقرباء النبي وعترته ، ودعمه عمر فقال ردّاً لمنطق الأنصار : والله لاترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم ولاتمنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم ، من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته؟

ترى أنّه ليس في منطق كل من المرشّحين أيّ استناد إلى الكتاب والسنّة فهذه تستدل بايوائهم رسول الله ونصرتهم إيّاه ، وتلك تستند إلى قرابته منه ، مع أنّه كان من اللازم عليهم الفحص عن قائد لائق عارف بالكتاب والسنّة ، مدير ومدبّر يملك كافّة المؤهّلات اللازمة في القيادة سواء أكان من المهاجرين أم من الأنصار أو من طائفة اُخرى

كل ذلك يعرب عن أنّ الفكرة كانت غير ناضجة أوّلا ، وانّ الانتخاب والاختيار لم يكن صادراً عن مبدأ الاسلامي ثانياً.

١٣

هذا وانّ طائفة من الأنصار أعنى الأوس بايعوا أبابكر بحجّة أنّهم إن لم يبايعوه ليكوننّ للخزرج عليهم فضيلة (١).

وهكذا ظهرت فرقتان بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمبدأ الذي اختلفتا فيه هو : مسألة الخلافة وقيادة الاُمّة ، وكان المترقّب بعد هذا الشقاق والاختلاف ، طروء حروب دامية بين الطرفين ، ولولا القيادة الحكيمة للامام علي عليه‌السلام ومساهمته مع الخلفاء في مهامّ الاُمور ، والتنازل عن حقّه لَاْنجّر الأمر في حياة الخلفاء إلى الهلاك والدمار ، خصوصاً انّ المنافقين كانوا يترصّدون تلك الفرصة ويؤلّبون احدى الطائفتين على الاُخرى ليصطادوا في الماء العكر ، وفي التاريخ شواهد تؤيّيد ذلك وانّ القيادة الحكيمة لصاحب النص أعني الامام علياً أفشلت تلك الخطط الشيطانية نكتفي منها بما يلي :

روى الطبري : لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبوسفيان وهو يقول : « والله إنّي لأرى عجاجة لايدفها إلاّ دمّ ، يا آل عبد مناف فيما أبوبكر من اُموركم؟ أين المستضعفان أين الاذلاّن علي والعبّاس؟ وقال : « أبا حسن أبسط يدك حتى اُبايعك » فأبى علي عليه‌السلام فجعل أبوسفيان يتمثّل بشعر المتلمّس :

ولن يقيم على خسف يراد به

إلاّ الأذلاّن غير العير والوتد

هذا على الخسف معكوس برمّته

وذا يشجّ فلايبكي له أحدى (٢)

قال : فزجره علي عليه‌السلام وقال : « إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة وإنّك والله طالما بغيت للاسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك ».

كان الامام معتقداً بشرعية امارته وخلافته ، ويرى نفسه خليفة

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٢ / ٤٤٦. ابن قتيبة : الامامة والسياسة ١ / ٩.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٢ / ٤٤٩. ابن الاثير : الكامل في التاريخ ٢ / ٢٢٠.

١٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سبقت البيعة له في يوم الغدير وغيره ، وكان يحتجّ به وبغيره من النصوص على استحقاقه لها ويعترف نفسه واهل بيته بقوله : « ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصّية والوراثة » (١).

ومع ذلك رأى أنّ في مواجهة هذا الانحراف في تلك الظروف العصيبة مفسدة أعظم من فوت الولاية فتنازل عن الأمر فسدل دونه ثوباً ، وطوى عنه كشحاً ، وهو يصف الحال في بعض خطبه ويقول : « ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل بيته ، ولا انّهم منحّوه عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منهما ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمئن الدين وتنهنه » (٢).

قام أبوبكر بأعباء الخلافة ، وحارب أصحاب الردّة ، إلى أن مضى لسبيله ، فأقام مكانه عمر بن الخطاب وهو أيضاً سار بسيرة من قبله ، وكان المسلمون يجتازون البلاد ، ويفتحون القلاع ، ويسيطرون على العالم بفضل الدين والايمان ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة من قريش وزعم أنّ رسول الله مات وهو عنهم راض وهؤلاء هم : عليّ ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبدالرحمن بن عوف ، وقال : رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ، ثم نظر إلى كل واحد من هذه الستة إلى أن نظر إلى

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٥.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة الكتاب ٦٢.

١٥

عثمان وقال : كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك فحملت بني اُميّة وبني أبي معيط على رقاب الناس ، آثرتهم بالفيء فثارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً ، والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال : فاذا كان ذلك فاذكر قولي فإنّه كائن (١).

فلمّا دفن عمر ، اجتمع أصحاب الشورى في بيت فتكلّموا فتنازعوا ، غير أنّ تركيب الأعضاء منذ عيّنها الخليفة كان يعرب عن حرمان علي ونجاح غيره ولأجل ذلك تمّ الأمر لصالح عثمان ، فقام بالأفعال التي تنبّأ بها عمر بن الخطاب ، وأحدث اُمراً نقم بها عليه ، وأوجدت ضجّة بين المسلمين ومن أبرز معالمها انحرافه عن الحق وإليك صورة من أعماله التي ثارت لأجلها ثورة الأنصار والمهاجرين :

١ ـ تعطيل الحدود الالهية :

شرب الوليد بن عقبة الخمر فسكر فصلّى بالنّاس الغداة ركعتين أو أربع ركعات ، فانْتُزعَ خاتمه من يده وهو لايشعر من سكر ، وقد قدم رجل المدينة وأخبر عثمان ما شهده من الوليد فضربه عثمان ، فكثرت الشكوى على عامله بالكوفة ولم ير بُداً من عزله ولم يجرِ الحد على الوليد ، فقال الناس : عطّلت الحدود وضربت الشهود (٢).

٢ ـ عطياته الهائلة لبني اُميّة من بيت المال :

بين ليلة وضحاها صارت جماعة من بني اُميّة بفضل خلافة عثمان ،

____________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ١ / ١٨٦.

٢ ـ السيوطي : تاريخ الخلفاء ١٠٤. أبوالفرج الاصبهاني : الاغاني ٤ / ١٨٨.

١٦

أصحاب الضياع العامرة والثروات الطائلة منهم : مروان بن الحكم ، وعبدالله بن أبي سرح ، ويعلى بن اُميّة ، والحكم بن العاص ، والوليد بن عقبة وأبى سفيان ، وقد حفظ التاريخ صورة عطيات الخليفة لهم ولغيرهم ، ومن أراد التفصيل فليرجع الى مظانه (١).

ويكفيك أنّه أعطى مروان بن الحكم ـ ابن عمّه وصهره ـ خمس غنائم أفريقيا ، وكانت تقدّر بمليونين ونصف مليون دينار ، وفي ذلك يقول الشاعر :

واعطيت مروان خمس العبا

دِ ظلماً لهم وحميت الحمى (٢)

٣ ـ تأسيس حكومة أموية :

كان الخليفة يبذل غاية جهده في تأسيس حكومة أموية في العواصم الاسلامية فنرى أنّه عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة وولاّها الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أخا عثمان لاُمّه.

وفي سنة ٢٧ من الهجرة عزل عمروبن العاص عن خراج مصر واستعمل عليه عبدالله بن أبي سرح وكان أخاه من الرضاعة.

وعزل أباموسى الأشعري فولّى مكانه على البصرة عبدالله بن عامر وهو ابن خال عثمان (٣).

وأبقى معاوية على ولايته على الشام ، ولمّا كثرت الشكوى على عامله

__________________

١ ـ الأميني : الغدير ٩ / ٢٣٦ ـ ٢٩٠.

٢ ـ ابن قتيبة : المعارف ١١٣ ط دار الكتب العلمية. ابن كثير : التاريخ ٤ / ١٥٧.

٣ ـ الدينوري : الأخبار الطوال ١٣٩. ابن الاثير : الكامل ٣ / ٨٨ ـ ٩٩.

١٧

بالكوفة ، الوليد بن عقبة ، عزله وولّى مكانه سعيد بن العاص (١) حتى قيل إنّ خمساً وسبعين من ولاته كانوا من بني اُميّة (٢).

٤ ـ مواقفه العدائية تجاه الصحابة :

كان للخليفة مواقف غير مرضية مع أصحاب رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد سيّر أباذر إلى الربذة وهي أرض قاحلة ليس فيها ماء ولا كلاء ، فهناك لفظ آخر أنفاسه غريباً فريداً (٣) وأمر بضرب عبدالله بن مسعود فكسر ضلع من أضلاعه (٤) كماأنّه ضرب عمّار بن ياسر حتى غشي عليه بحجّة أنّه انتقد عمل الخليفة في بيت المال (٥).

٥ ـ ايواؤه طريد رسول الله :

طرد رسول الله الحكم بن عاص مع ابنه مروان إلى الطائف ، فردّهما إلى المدينة أيّام خلافته.

يقول الشهرستاني : ردّ الحكم بن اُميّة إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يسمّى طريد رسول الله وبعد أن تشفّع إلى أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) أيّام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك ، نفاه عمر من

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٣٢٥.

٢ ـ الندوي : المرتضى : ولا حظ للوقوف على أسماء عمال عثمان في السنة التي قتل فيها ، تاريخ الطبري ٣ / ٤٤٥.

٣ ـ البلاذري : الانساب ٥ / ٥٤. الطبري : التاريخ ٣ / ٣٣٥.

٤ ـ البلاذري : الانساب ٥ / ٣٦.

٥ ـ البلاذري : الانساب ٥ / ٤٨.

١٨

مقامه باليمن أربعين فرسخاً (١).

إلى غير ذلك من الاُمور التي أغضبت جمهور المسلمين وأثارتهم ، حتى اجتمع المسلمون من المصريين والكوفيين والبصريين ، وجمهور المهاجرين والأنصار للاحتجاج عليه بتبيين سوء مواقفه وأعماله وجنايات عمّاله في البلاد ، ولكن كان ردّ فعله تجاه هاتيك الاحتجاجات ، سلبياً فلم يستجب لطلباتهم ، بل غضب على كل من احتجّ عليه بسوء فعله أو فعل ولاته ، ولكن كثرة السخط والنقد على الخليفة ، شحنت النفوس نقمة وغضباً ، فانفجرت ثورة عارمة لم تجمد إلاّ بقتله في عقرداره.

قتل الخليفة عثمان :

والمهاجرون والأنصار ومن تبعهم باحسان بين مجهز عليه ، أو مؤلَّب ضدّه ، أو مستبشر بمقتله ، أو صامت رهين بيته ، محايد عن الطرفين (٢).

إنّ هذه الأحداث الكبيرة لو اتّفقت في أيّ عصر من العصور التي يسود فيها الحكم الاسلامي لأثّرت نفسَ الأثر الذي خلَّفْته في عهد عثمان ولقلبت الاُمور رأساً على عقب.

ومع ذلك ترى أنّ بعض المؤرخين يريدون تبرير عمل الخليفة وانّ الثورة ضدّ الخليفة لم تكن ثورة شعبية دينية نابعة من أوساط المهاجرين والأنصار ومن تبعهم باحسان في مصر والعراق ، ويزعمون انّ عبدالله بن سبأ هو الذي جهّز المصريين وكدّر الصفو على الخليفة ، وانّه وأتباعه كانوا وراء قتل الخليفة

__________________

١ ـ الشهرستاني : الملل والنحل ١ / ٢٦.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٣٩٩.

١٩

ولكن هذا من مختلقات بعض المؤرّخين (١) الذين جرّهم حبّهم واخلاصهم للخلافة والخليفة الى اسناد هذه الثورة الى رجل مزعوم (عبدالله بن سبأ) لم يثبت وجوده أوّلا ، وعلى فرض وجوده لم تثبت له تلك المقدرة الهائلة التي تثير الحواضر الاسلامية وعقلية المهاجرين والأنصار على الخليفة المفترض طاعته (٢).

فلو كان لعبدالله بن سبأ تلك المقدرة وانّه كان يجول في البلاد لتحريض الناس على الخليفة فلماذا لم يتمكّن الخليفة ولا عمّاله من القبض عليه ليسجنوه أو يطردوه من الحواضر الاسلامية الى نقطة لا ماء فيها ولا كلاء كما طردوا أباذر إلى الربذة ، وسيّروا صلحاء الكوفة إلى أمكنة اُخرى.

قال الأميني : لوكان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن ، وشقّ عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه اُمراء الاُمّة وساستها في البلاد ، وانتهى أمره الى خليفة الوقت ، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ ولم يُلْقَ القبض عليه ، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة ، والتأديب بالضرب والاهانة ، والزجّ الى أعماق السجون؟ ولا آل أمره الى الاعدام ، المريح للأمّة من شرّه وفساده ، كما وقع ذلك كله على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وهتاف القرآن الكريم يرنّ في مسامع الملأ الديني : ( إنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبونَ الله وَرَسُولَهُ ويسْعَوْنَ في الأرْضِ فَساداً أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِم وارْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌّ في الدُّنْيا ولهُمْ في الآخِرَة عَذابٌ عَظيمٌ ) (المائدة : ٣٣) (٣).

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٣٧٨.

٢ ـ لا حظ عبدالله بن سبأ لمرتضى العسكري فقد اغرق نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعا.

٣ ـ الأميني : الغدير ٩ / ٢١٩.

٢٠