بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-272-3
الصفحات: ٤٥٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

١
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٢
 &

بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين .

أما بعد فهذا هو الجزء الثامن من موسوعة « بحوث في الملل والنحل » نقدمه للقراء الكرام حول الإسماعيلية وغيرها من الفرق الشيعية وبه تنتهي سلسلة تلك البحوث نحمده سبحانه ونشكره إنّه بذلك حقيق.

تمهيد

الإسماعيلية فرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبي أو الإمام القائم مقامه ، غير انّ هناك خلافاً بين الزيدية والإمامية في عدد الأئمة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبي عند الزيدية لا يتجاوز عن الثلاثة : عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والسبطين الكريمين : الحسن والحسين عليهم‌السلام وبشهادة الأخير غلقت دائرة التنصيص ، وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة على تفصيل مرّ في الجزء السابع.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإمامية فاثنا عشر إماماً ، آخرهم غائبهم ، يُظهره الله سبحانه عندما يشاء وقد حُوِّل أمر الأُمّة ـ في زمان غيبته ـ إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن ، والواقف على مصالح المسلمين ، على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

٣
 &

وأمّا الإسماعيلية فقد افترقت إلى فرق مختلفة :

١. القرامطة : القائلة بإمامة محمد بن إسماعيل ابن الإمام الصادق وغيبته ، ثمّ دخلت الإمامة في كهف الاستتار.

٢. الدروز : وهم يسوقون الإمامة إلى الإمام الحادي عشر الحاكم بأمر الله ، ثمّ يقولون بغيبته وينتظرون ظهوره.

٣. المستعلية : وهؤلاء يسوقون الإمامة إلى الإمام الثالث عشر المستنصر بالله ، ويقولون بإمامة ابنه المستعلى بالله بعده ، وهم المعروفون بالبهرة ، وقد انقسمت المستعلية سنة ٩٩٩ هـ إلى فرقتين : داودية وسليمانية ، سيوافيك بيانها.

٤. النزارية : وهؤلاء يسوقون الإمامة إلى المستنصر بالله ، ثمّ يقولون بإمامة ابنه الآخر نزار بن معد ، وقد انقسمت النزارية إلى : مؤمنية وقاسمية المعروفة بالآغاخانية ، وسيأتي سبب الانقسام وزمانه والركب الإمامي منقطع عن السير عند الجميع إلّا القاسمية حيث يقولون باستمرار الإمامة إلى العصر الحاضر.

هذا كلّه حول اختلافهم في استمرار الإمامة ، وأمّا اختلافهم مع الزيدية والإمامية في مفهوم التنصيص ، فإنّه عند الفرقتين الأخيرتين يرجع إلى تعيين الإمام والقائم بالأمر باللفظ والاشهاد ، بخلاف الإسماعيلية فإنّها تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء ، ويكون انتقالُها عن طريق الميلاد الطبيعي ، فيكون ذلك بمثابة نص من الأب بتعيين الابن ، وإذا كان للأب عدة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الذي وقع عليه النص. فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

وعلى كلّ تقدير فهذه الفرقة ، منشقة عن الشيعة ، معتقدة بإمامة إسماعيل ابن جعفر بعد الإمام الصادق عليه‌السلام وهي متواجدة في كثير من الأقطار ، منها : الهند ، وباكستان ، واليمن ونواحيها ، وسوريا ، ولبنان وأفغانستان ، وإفريقية وإيران ونحقّق مذهبهم وفرقهم وآثارهم في ضمن فصول :

٤
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٥
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٦
 &

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراءً وعقائداً ، ستوافيك تفاصيلها في الفصول الآتية نذكرها هنا على وجه الإيجاز :

الأُولى : إنتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة

كانت الدعوة الإسماعيلية يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى : إمامة المسلمين ، وخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم ؛ غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يكتب لها البقاء إلّا باستخدام عوامل تُضمن لها البقاء ، وتستقطب أهواءَ الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل التي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة ، وكونهم من ذرية الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وكان المسلمون منذُ عهدِ الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ ، وقد كانت محبتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك انّ الثورات التي نشبتْ ضدّ الأُمويين كانت تحمل شعار حب أهل البيت عليهم‌السلام والاقتداء بهم والتفاني دونهم ، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيلية تفتخر بانتماء أئمتهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم ، اشتهروا بالفاطميين ، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجة انّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر ، وانّ تكريم ذرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكريم له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشتان ما بين بيت أُسس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه ، وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار ، فانهار به في نار جهنم.

٧
 &

الثانية : تأويل الظواهر

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيلية ، وهي إحدى الدعائم الأساسية بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر ، لم تتميز عن سائر الفرق الشيعية إلّا بصَرف الإمامة عن الإمام الكاظم عليه‌السلام إلى أخيه إسماعيل بن جعفر ، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة ، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف ، سيوافيك بيانه.

ولم يكن تأويل الظواهر أمراً مبتدعاً ، بل سبقهم ثلة من المندسّين في أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام الذين طردهم الإمام ولعنهم وحذّر شيعته من الاختلاط بهم ، لصيانتهم عن التأثر بآرائهم والانجراف في متاهاتهم كأبي منصور ، وأبي الخطاب ، والمغيرة بن سعيد ، وغيرهم من ملاحدة عصره وزنادقة زمانه.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطور مع تطور الزمان ، ويتكيّف بمكيفاته ، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشرع أو الضرورة الدينية.

الثالثة : تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفية

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد ، كانت من أهمّ ميزات العصر العباسي حيث كانوا يرفضون كل بحثٍ عقلي خارج عن هذا الإطار خاصّة في عهد المنصور والرشيد ، فقد طردوا حماة البحث الحرّ والانفتاح الفكري وضيّقوا عليهم.

إنّ هذه الظاهرة على خلاف الشريعة ، التي تدعو إلى التفكّر والتعقّل. وكان

٨
 &

الإمام علي عليه‌السلام أوّل من فتحَ باب الأبحاث العقلية على مصراعيه وبيّن الخطوط العريضة لكثير من العقائد على ضوء البرهان والدليل.

إنّ ظاهرة الجمود في أوساط العباسيين ولّدت ردّ فعلٍ عند أئمة الإسماعيليّة ، فانجرفوا في تيارات المسائل الفلسفية وجعلوها من صميم الدين وجذوره ، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن ، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلامية عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر : إنّ كلمة « إسماعيلية » كانت في بادئ الأمر تدل على أنّها من إحدى الفرق الشيعية المعتدلة ، لكنّها صارت مع تطور الزمن حركة عقلية تدلّ على أصحاب مذاهب دينية مختلفة ، وأحزاب سياسية واجتماعية متعدّدة ، وآراء فلسفية وعلمية متنوعة. (١)

الرابعة : تنظيم الدعوة

ظهرت الدعوة الإسماعيلية في ظروف ساد فيها سلطانُ العباسيين شرقَ الأرض وغربها ، ونشروا في كلّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار ـ خاصة أخبار مخالفيهم ومناوئيهم ـ إلى مركز الخلافة الإسلامية ، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضد السلطة إلّا إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارَها ، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم ، وبلغوا فيه الذروة بحيث لو قورنت مع أحدث التنظيمات الحزبية العصرية ، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار ، وقد ابتكروا أساليب

______________________

١. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ١٤ ، والمؤلف سوري إسماعيلي وفي طليعة كُتّابهم.

٩
 &

دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم ، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

يقول المؤرخ الإسماعيلي المعاصر : وبالحقيقة لم توجه أية دولة من الدول ، أو فرقة من الفرق ، اهتماماً خاصاً بالدعاية وتنظيمها ، كما اهتمّت بها الإسماعيلية ، فجعلت منها الوسيلة الرئيسية لتحقيق نجاح الحركة في دور الستر والتخفّي ، ودور الظهور والبناء معاً. ولقد أحدث التخطيط الدعاوي المنظم تنظيماً عجيباً لم يسبقهم إليه أحد في العالم ، وابتكرت الأساليب المبنية على أُسس مكينة مستوحاة من عقيدتها الصميمة.

ولقد برعوا براعة لا توصف في تنظيم أجهزة الدعاية ـ على قِلّة الوسائل في ذلك العصر ـ واستطاعوا أن يشرفوا بسرعة فائقة على أقاصي بقاع البلدان الإسلامية ، ويتنسمون أخبار أتباعهم في الأبعاد المتناهية. وذلك بما نظموا من أساليب وأحدثوا من وسائل. وقد كان للحمام الزاجل ـ الذي برع في استخدامه دعاة الإسماعيلية ـ أثره الفعّال في تنظيم نقل الأخبار والمراسلات السرية الهامّة. (١)

الخامسة : إضفاء طابع القداسة على أئمّتهم ودعاتهم

شعرت الدعوة الإسماعيلية أيام نشوئها بأنّه لا بقاء لها إلّا إذا أضفتْ طابع القداسة على أئمّتهم ودعاتهم بحيث توجب مخالفتهم مروقاً عن الدين وخروجاً عن طاعة الإمام « والجدير بالاهتمام انّ الإمام الإسماعيلي ـ والذي يعتبر رئيساً للدعوة ـ جعل الدعاة من ( حدود الدين ) إمعاناً منه في إسباغ الفضائل عليهم ليتمكّنوا من نشر الدعوة وتوجيه الأتباع والمريدين دونما أيّة معارضة أو مخالفة ،

______________________

١. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ٣٧.

١٠
 &

لأنّ مخالفتهم ومعارضتهم تعتبر بالنسبة للإسماعيلية مروقاً عن الدين ، وخروجاً عن طاعة الإمام نفسه ، لأنّهم من صلب العقيدة وحدودها ». (١)

إنّ الإمامة تحتل عند الإسماعيلية مركزاً مرموقاً ولها درجات ومقامات مختلفة ـ سيوافيك تفصيلها في مظانها ـ حتى أضحت من أبرز سمات المذهب الإسماعيلي فهم يعتقدون بالنطقاء الستة ، وانّ كلّ ناطق رسول يتلوه أئمة سبعة :

١. فآدم رسول ناطق تلته أئمة سبعة بعده.

٢. فنوح رسول ناطق تلته أئمة سبعة.

٣. فإبراهيم رسول ناطق جاءت بعده أئمة سبعة.

٤. فموسى رسول ناطق تلته أئمة سبعة.

٥. فعيسىٰ رسول ناطق تلته أئمة سبعة.

٦. فمحمّد رسول ناطق تلته أئمة سبعة ، وهم :

علي بن أبي طالب ، الحسن بن علي ، الحسين بن علي ، علي بن الحسين ، محمد ابن علي الباقر ، جعفر بن محمد الصادق ، إسماعيل بن جعفر.

وبذلك يتم دور الأئمة السبعة ويكون التالي رسولاً ناطقاً سابعاً وناسخاً للشريعة السابقة وهو محمد بن إسماعيل وهذا ممّا يصادم عقائد جمهور المسلمين من أنّ نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، وشريعته خاتمة الشرائع ، وكتابه خاتم الكتب.

فعند ذلك وقعت الإسماعيلية في مأزق كبير سيوافيك تفصيله في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى.

______________________

١. المصدر السابق : ٣٧.

١١
 &

السادسة : تربية الفدائيين للدفاع عن المذهب

إنّ الأقلية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيين مضحِّين بأنفسهم في سبيل الدعوة لصيانة أئمّتهم ودعاتهم من تعرض الأعداء ، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام ، والشجاعة النادرة ، والجرأة الخارقة ، ويكلَّفون بالتضحيات الجسدية ، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه ، وإليك أحد النماذج المذكورة في التاريخ :

في سنة ٥٠٠ هجرية فكر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر ، أن يثأر لأبيه وهاجم قلاع الإسماعيلية ، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائييه فقتله بطعنة خنجر ، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيين.

وفي سنة ٥٠١ هـ حوصرت قلعة « آلموت » من قبل السلطان السلجوقي واشتد الحصار عليها ، فأرسل السلطان رسولاً إلى الحسن بن الصباح يطلب منه الاستسلام ، ويدعوه لطاعته ، فنادى الحسن أحد فدائييه وقال له : ألقي بنفسك من هذا البرج ففعل ، وقال للثاني : اطعن نفسك بهذا الخنجر ففعل ، فقال للرسول : اذهب وقل لمولاك إنّه لدي سبعونَ ألفاً من الرجال الأُمناء المخلَصين أمثال هؤلاء الذين يبذلون دماءهم في سبيل عقيدتهم المثلى. (١)

وقد تفشّت هذه الظاهرة بين أوساطهم ، وآل أمر الأتباع إلى طاعة عمياء لأئمتهم ودعاتهم في كلّ حكم يصدر عن القيادة العامة ، أو الدعاة الخاصين دون الإفصاح عن أسبابه ، وبلغ بهم الأمر إطاعتهم لأئمّتهم في رفع بعض الأحكام الإسلامية عن الجيل الإسماعيلي بحجة انّ العصر يضاده ، ويشهد على ذلك ما كتبه المؤرّخ الإسماعيلي إذ يقول عن إمام عصره آغا خان الثالث إنّه قال : « إنّ الحجاب يتعارض والعقائد الإسماعيلية ، وإنّي أُهيب بكل إسماعيلية أن تنزع

______________________

١. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ٢٦٣.

١٢
 &

نقابَها ، وتنزل إلى معترك الحياة لتساهم مساهمة فعالة في بناء الهيكل الاجتماعي والديني للطائفة الإسماعيلية خاصّة وللعالم الإسلامي عامة ، وأن تعمل جنباً إلى جنب مع الرجل في مختلف نواحي الحياة إسوة بجميع النساء الإسماعيليات في العالم ، وآمل في زيارتي القادمة أن لا أرى أثراً للحجاب بين النساء الإسماعيليات ، وآمرك أن تبلغ ما سمعت لعموم الإسماعيليات بدون إبطاء ». (١)

السابعة : كتمان الوثائق

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنية السرية وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها التي تنير الدرب لاستجلاء كنهها ، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها ، ولكن للأسف الشديد انّ الإسماعيلية كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلفاتهم وكلّ شيء يعود لهم ولم يبذلوها لأحد سواهم ، فصار البحث عن الإسماعيلية بطوائفها أمراً مستعصياً ، إلّا أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم ، ومن المعلوم انّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم ، خارج عن أدب البحث النزيه.

وهذا ليس شيئاً عجيباً إنّما العجب انّ المؤرّخين المعاصرين من الإسماعيلية واجهوا نفس هذه المشكلة منذ زمن طويل ، يقول مصطفى غالب وهو من طليعة كتّاب الإسماعيلية : « من المشاكل المستعصية التي يصعب على المؤرّخ والباحث حلّها وسبر أغوارها ، وهو يستعرض تاريخ الدعوات الباطنية السرية ، وتنظيماتها ، حرص تلك الدعوات الشديد على كتمان وثائقهم ومصادرهم ـ إلى أن يقول : ـ والمعلومات التي نقدّمها للمهتمّين بالدراسات الإسلامية مستقاة من الوثائق والمصادر الإسماعيلية السرية ». (٢)

______________________

١. المصدر السابق : ٢٦٥ ، الخطاب لمن رفع السؤال إليه وهو الكاتب مصطفى غالب السوريّ.

٢. المصدر نفسه : ٣٥.

١٣
 &

نعم كانت الدعوة الإسماعيلية محفوفة بالغموض والأسرار إلى أن جاء دور بعض المستشرقين فوقفوا على بعض تلك الوثائق ونشروها ، وأوّل من طرق هذا الباب المستشرق الروسي الكبير البروفسور « ايفانوف » عضو جمعية الدراسات الإسلامية في « بومبايي » وبعده البروفسور « لويس ماسينيون » المستشرق الفرنسي الشهير ، ثمّ الدكتور « شتروطمان » الألماني عميد معهد الدراسات الشرقية بجامعة هامبورغ ، و « مسيو هانري كوربن » أُستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة طهران ، والمستشرق الانكليزي « برنارد لويس ».

يقول المؤرخ المعاصر : حتى سنة ١٩٢٢ ميلادية كانت المكتبات في جميع أنحاء العالم فقيرة بالكتب الإسماعيلية إلى أن قام المستشرق الألماني « ادوارد برون » بإنشاء مكتبة إسماعيلية ضخمة غايتها إظهار الآثار العلمية لطائفة كانت في مقدمة الطوائف الإسلامية في الناحية الفكرية والفلسفية والعلمية ، ولم يقتصر نشاط أُولئك المستشرقين عند حدود التأليف والنشر ، بل تعدّاه إلى الدعاية المنتظمة سواء في المجلّات العلمية الكبرى ، كمجلة المتحف الآسيوية التي كانت تصدرها أكاديمية العلوم الروسية في مدينة « بطروسبورغ » ويشرف على تحريرها « ايفانوف » وبعض المستشرقين الروس أمثال « سامينوف » وغيره ممن دبّجوا المقالات الطوال عن العقيدة الإسماعيلية.

ففي سنة ١٩١٨ كتب المستشرق « سامينوف » مقاله الأوّل عن الدعوة الإسماعيلية وقد جمعه بنفسه ونشره في مجلته كما نقل إلى اللغة الإنكليزية عدداً ضخماً من الكتب الإسماعيلية المؤلفة باللغتين « الكجراتية » و « الأُوردية » ـ إلى أن قال : ـ لقد أحدثت تلك الدراسات الهامة ثورة فكرية وانقلاباً عكسياً في العالم الإسلامي ، حيث قام عدد من الأساتذة المصريين بنشر الآثار الإسماعيلية في العهود الفاطمية ، فأخرجوا إلى حيّز الوجود عدداً لا بأس به من الكتب القيّمة

١٤
 &

وأظهروا للعالم أجمع آثار هذه الفرقة. (١)

وبالرغم ممّا ذكره المؤرخ المعاصر من أنّ المصريين أظهروا للعالم أجمع آثار هذه الفرقة ، لكنّا نرى أنّه يعتمد في كتابه على وثائق خطية موجودة في مكتبته الخاصة ، أو مكتبة دعاة مذهبه في سورية ، ويكشف هذا عن وجود لفيف من المصادر مخبوءة لم تر النور لحد الآن.

الثامنة : الأئمّة المستورون

إنّ الإسماعيلية أعطت للإمامة مركزاً شامخاً ، وصنّفوا الإمامة إلى رتب ودرجات ، وزوّدوها بصلاحيات واختصاصات واسعة ، وسيوافيك بيان تلك الدرجات والرتب ، غير أنّ المهم هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور ، دخل كهف الاستتار ؛ وظاهر ، يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع.

فالأئمّة المستورون هم الأئمّة الأربعة الأوائل الذين جاءوا بعد إسماعيل ، ونشروا الدعوة سراً وكتماناً ، وهم :

١. محمد بن إسماعيل الملقّب بـ « الحبيب » : ولد سنة ١٣٢ هـ في المدينة المنورة ، وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء ، ولقّب بالإمام المكتوم ، لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية ، وتوفي عام ١٩٣ هـ.

٢. عبد الله بن محمد بن إسماعيل الملقّب بـ « الوفي » : ولد عام ١٧٩ هـ في مدينة محمود آباد ، وتولّى الإمامة عام ١٩٣ هـ بعد وفاة أبيه ، وسكن السلْمية عام ١٩٤ هـ مصطحباً بعدد من أتباعه ، وهو الذي نظم الدعوة تنظيماً دقيقاً ، توفي عام ٢١٢ هـ.

٣. أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل الملقب بـ « التقي » : ولد عام

______________________

١. مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الإسماعيلية : ٢٢ ـ ٢٣.

١٥
 &

١٩٨ ، وتولّى الإمامة عام ٢١٢ هـ ، سكن السلمية سراً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة ، توفي فيها عام ٢٦٥ هـ.

٤. الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل المقلب بـ « الرضي » : ولد عام ٢١٢ هـ ، وقيل ٢٢٨ هـ ؛ وتولّى الإمامة عام ٢٦٥ هـ ، ويقال انّه اتخذ عبد الله بن ميمون القداح حجة له وحجاباً عليه ، توفي عام ٢٨٩ هـ.

والمعروف بين الإسماعيلية انّ عبيد الله المهدي ـ الذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطمية ـ كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار .

التاسعة : انّهم عُرِّفوا بالإسماعيلية تارة ، والباطنية أُخرى ، والملاحدة ثالثاً ، وبالسبعية رابعاً.

قال المحقّق الطوسي : إنّما سُمُّوا بالإسماعيلية لانتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق.

والباطنية لقولهم : كلّ ظاهر فله باطن ، يكون ذلك الباطن مصدراً وذلك الظاهر مظهراً له ، ولا يكون ظاهر لا باطن له إلّا ما هو مثل السراب ، ولا باطن لا ظاهر له إلّا خيال لا أصل له.

ولقّبوا بالملاحدة لعدولهم من ظواهر الشريعة إلى بواطنها في بعض الأحوال. (١)

وأمّا تسميتهم بالسبعية ، لأنّهم قالوا : إنّما الأئمّة تدور على سبعة سبعة ، كأيام الأُسبوع ، والسماوات السبع ، والكواكب السبع. (٢) فدور الإمامة عندهم لا يتجاوز عن سبعة ، ثمّ يأتي دور آخر على هذا الشكل.

______________________

١. كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد : ٣٠١.

٢. الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ٢٠٠.

١٦
 &

ويقول أيضاً : قالوا الإمام في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان علياً عليه‌السلام ، وبعده كان ابنه الحسن إماماً مستودعاً ، وبعده الحسين إماماً مستقراً ولذلك لم تذهب الإمامة في ذرية الحسن عليه‌السلام ، ثمّ نزلت الإمامة في ذرية الحسين ، وانتهت بعده إلى علي ابنه ، ثمّ إلى محمد ابنه ، ثمّ إلى جعفر ابنه ، ثمّ إلى إسماعيل ابنه وهو السابع. (١)

ومعنى ذلك انّ الدور تمّ بإسماعيل ، وهو متم الدور ، وانّ ابنه بادئ للدور الآخر كالتالي :

١. محمد بن إسماعيل.

٢. عبد الله بن محمد بن إسماعيل الملقب بالرضي.

٣. أحمد بن عبد الله الملقب بالوفي.

٤. الحسين بن أحمد الملقب بالتقي.

٥. عبيد الله المهدي بن الحسين.

٦. القائم.

٧. المنصور ، وبه يتم الدور ويبتدأ دور آخر بالإمام المعز لدين الله.

ولو قلنا بخروج الحسن عليه‌السلام لكونه إماماً مستودعاً لا مستقراً يتم الدور بمحمد بن إسماعيل. ويأتي الدور الجديد ، وسيوافيك تفصيله في بيان أدوار الإمامة.

وعلى كلّ تقدير فالسبعة عندهم لها مكانة خاصة ، فلا يتجاوز دور الأئمّة في تمام مراحلها عن السبعة.

العاشرة : انّ المذهب الإسماعيلي لم يظهر على مسرح الحياة بصورة مذهب مدوّن متكامل ، وإنّما أخذ بالتكامل عبر العصور ، وفي ظل احتكاك الدعاة بأصحاب الحركات الباطنية أوّلاً ، وأصحاب الفلسفات ثانياً. وقد ظهر في أوّل يوم

______________________

١ . كشف الفوائد : ٣٠٣ ، المتن.

١٧
 &

نشوئه بصورة عقيدة بسيطة ، وهو أنّ الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه إسماعيل ، وانّه لم يمت بل غاب ويظهر حتى يملك الأرض وهو القائم ، وهذه هي الإسماعيلية المحضة ، ولم يخالط هذه العقيدة شيء آخر.

نعم لما كان قبولها محفوفاً بغموض ، فرجع بعضهم عن حياة إسماعيل ، وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل لظنّهم انّ الإمامة كانت في أبيه ، وانّ الابن أحقّ بمقام الإمامة من الأخ.

والظاهر من الشيخ المفيد أنّ الفرقة الأُولى انقرضت ولم يبق منهم من يومأ إليه والفرقة الباقية إلى اليوم هي الإسماعيلية غير الخالصة. (١) ثمّ صار المذهب الواحد مذاهب متشتتة ومختلفة. وقد كان للدعاة تأثير في نضوج العقيدة الإسماعيلية وتكاملها مع اختلاف بينهم في بعض الأُصول فمثلاً الداعي النسفي ( ... ـ٣٣١ هـ ) وضع كتابه « المحصول » في فلسفة المذهب.

ثمّ جاء بعده أبو حاتم الرازي ( ٢٦٠ ـ ٣٢٢ هـ ) فوضع كتابه « الإصلاح » وخالف فيه أقوال من سبقه.

ثمّ جاء بعده أبو يعقوب السجستاني الذي كان حيّاً سنة ( ٣٦٠ هـ ) وكان أُستاذاً للكرماني فانتصر للنسفي وخالف أبا حاتم.

ثمّ جاء الكرماني ( ٣٥٢ ـ ٤١١ هـ ) فألّف كتاب « راحة العقل » ، واستطاع أن يوفق بين آراء شيخه « السجستاني » وبين آراء « أبي حاتم الرازي ».

أضف إلى ذلك أنّ تأويل الظواهر لا يعتمد على ضابطة فكل يؤوّلها على ذوقه وسليقته ، فتجد بينهم خلافاً شديداً في المسائل التأويلية.

الحادية عشرة : الذي ظهر لي من التتبّع في كتب الإسماعيلية انّ الفرقة المستعلية القاطنين في اليمن والهند أقرب إلى الحقّ وعقائد جمهور المسلمين من

______________________

١ . المفيد : الإرشاد : ٢٨٥.

١٨
 &

النزارية ، فالطبقة الأُولى متعبّدون بالظواهر وتطبيق العمل على الشريعة بخلاف أغلب النزارية خصوصاً الدعاة المتأخرين منهم ، فإنّهم يواجهون الأحداث الطارئة والمستجدة بالتدخل في الشريعة (١) ، ويظهر ذلك من أبحاثنا الآتية.

وأخيراً فالمذهب الإسماعيلي اكتنفه غموض وأحاطه إبهام ، فإصابة الحقّ في جميع المراحل أمر مشكل ، نستعينه سبحانه أن يوفقنا لبيان الحقّ ويحفظنا عن العثرة انّه هو المجيب.

والذي يهم الباحث هو تبيين جذور المذهب وانه كيف نشأ ؟ وهل كان هناك اتصال بين الإسماعيلية ، والحركات الباطنية التي نشأت في عصر الصادق عليه‌السلام أو لا ؟ وهذا هو الذي نطرحه على طاولة البحث في الفصل القادم بعد المرور على كلمات أصحاب المعاجم في حقّهم.

______________________

١ . أعيان الشيعة : ١٠ / ٢٠٢ ـ ٢٤.

١٩
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٢٠