مصباح الفقيه - ج ٦

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٦

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وجب عليه الغسل عقوبة» (١).

وربما يستظهر هذا القول من الصدوق ؛ لتعهّده في أوّل كتابه بالعمل بالأخبار المودعة فيه (٢).

وفيه نظر.

وحكي عن أبي الصلاح أنّه قال : إنّ الأغسال المفروضة ثمانية ، إلى أن قال : وغسل القاصد لرؤية المصلوب من المسلمين بعد ثلاثة (٣).

وعلّله ـ فيما حكي عنه ـ : بأنّه شرط في تكفير الذنب وصحّة التوبة ، فيلزم العزم عليه (٤).

وهو شاذّ ، وتعليله عليل ، والرواية مع ما فيها من الضعف لا تصلح دليلا إلّا للاستحباب ، كما ذهب إليه المشهور ، بل عن الغنية دعوى الإجماع عليه (٥).

ثمّ إنّ المتبادر من القصد إلى رؤية المصلوب في النصّ والفتوى هو السعي إليها عمدا ، كما عبّر به في المتن وغيره.

والمراد بالمتن هو أن يراه بعد السعي متعمّدا ، فلو رآه من دون سعي أو سعى إليه ولم يره أو رآه لا عن عمد فلا غسل عليه.

ثمّ إنّه قد صرّح بعضهم (٦) بأنّ مقتضى التعليل الواقع في النصّ : اختصاص الحكم بالنظر المحرّم ؛ إذ لا عقوبة في غيره ، فيخرج الكافر المصلوب ؛ إذ لا حرمة

__________________

(١) حكاه عنهما صاحب كشف اللثام فيه ١ : ١٥٤ ، وانظر : الفقيه ١ : ٤٥ / ١٧٥ ، والهداية : ٩١.

(٢) راجع : الفقيه ١ : ٣.

(٣) كما في جواهر الكلام ٥ : ٦٨ ، وانظر : الكافي في الفقه : ١٣٣ ـ ١٣٥.

(٤) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٣٠ ، وانظر : الكافي في الفقه : ١٣٥.

(٥) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٥ : ٦٩ ، وانظر : الغنية : ٦٢.

(٦) هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٣٠.

٨١

في النظر إليه ، ولذا قيّده الحلبي ـ في عبارته المتقدّمة (١) ـ بكونه من المسلمين.

وكذا النظر إلى المسلم لغرض شرعي ، كالشهادة على عينه ، كما عن كشف اللثام وغيره (٢).

وكذا النظر إلى المسلم في الثلاثة إذا كان صلبه بحقّ ؛ لأن الصلب شرّع لتفضيح المصلوب ، فلا معصية في النظر إليه في الثلاثة.

ولو كان المصلوب غير مستحقّ للصلب ، فمقتضى إطلاق الرواية : ثبوت الغسل ولو قبل الثلاثة ؛ لحرمة السعي لرؤيته ، بل يجب إنزاله عن الخشبة مع التمكّن مطلقا.

وعن الصيمري تقييده بالمصلوب حقّا (٣).

ولعلّ وجهه استظهاره من عبائر الأصحاب حيث قيّدوا الحكم بما بعد الثلاثة ، فيفهم من ذلك الاختصاص بالمصلوب حقّا ؛ إذ لا فرق في حرمة النظر إلى المصلوب ظلما بين الثلاثة وما بعدها.

وفيه : أنّ التعميم بحيث يشمل المصلوب ظلما ولو فيما بين الثلاثة أوفق بظاهر النصّ ، بل الغالب في عصر الأئمّة عليهم‌السلام لم يكن إلّا كذلك ، ولعلّه لذلك أمر بالغسل مطلقا.

بل الأظهر شموله للمصلوب الكافر أيضا ، والذنب الذي يقع الغسل عقوبة عنه لا يجب أن يكون محرّما شرعيّا كي ينتفي بالنسبة إلى الكافر الذي لا احترام له

__________________

(١) في ص ٨١.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٣٠ عنه وعن كتاب المصابيح ، وهو مخطوط. وانظر : كشف اللثام ١ : ١٥٤.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٣٠ ، وانظر : كشف الالتباس ١ : ٣٤٣.

٨٢

ولا حرمة في هتكه ، بل ينبغي أن لا يكون إلّا الكراهة ، ولا امتناع في أن يكون السعي لرؤية المصلوب من حيث هو مكروها يقتضي التكفير عنه بالغسل ، بل الالتزام بحرمة النظر من حيث هو بالنسبة إلى المسلم أيضا لا لأجل عنوان الهتك والتوهين ونحوه ممّا قد يتخلّف عنه في غاية الإشكال ، فالأشبه عدم الفرق بين كون المصلوب كافرا أو مسلما.

نعم ، ينبغي استثناء المصلوب بالحقّ في الثلاثة نظرا إلى منافاة مرجوحيّة النظر ـ المقتضية للتكفير ـ لحكمة مشروعيّة الحكم ، وإن كان فيه أيضا تأمّل ، والله العالم.

وأمّا الثاني (و) هو (غسل المولود) (١) فقال بعض فقهائنا ـ كابن حمزة على ما حكي (٢) عنه ـ بوجوبه ؛ لقوله عليه‌السلام في موثّقة سماعة في تعداد الأغسال : «وغسل المولود واجب» (٣).

(والأظهر) في هذه المسألة أيضا كسابقتها (الاستحباب) كما عن المشهور (٤) ، بل عن الغنية دعوى الإجماع عليه (٥) ، وعن ظاهر السرائر نفي الخلاف فيه (٦) ، وعن المعتبر رمي القول بالوجوب بالشذوذ (٧) ، وعن المنتهى

__________________

(١) نصّ العبارة في الشرائع هكذا : «وكذلك غسل المولود».

(٢) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٧١ ، وانظر : الوسيلة : ٥٤.

(٣) الكافي ٣ : ٤٠ / ٢ ، التهذيب ١ : ١٠٤ / ٢٧٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأغسال المسنونة ، ح ٣.

(٤) نسبه إلى المشهور صاحب الجواهر فيها ٥ : ٧١.

(٥) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٥ : ٧١ ، وانظر : الغنية : ٦٢.

(٦) كما في جواهر الكلام ٥ : ٧١ ، وانظر : السرائر ١ : ١٢٥.

(٧) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٧٢ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٥٨.

٨٣

بالمتروكيّة (١).

وكفى بذلك موهنا لظاهر الخبر في مقابلة ما دلّ على حصر الغسل الواجب في غيره ، مضافا إلى ما عرفته مرارا من عدم ظهور الموثّقة في إرادة الوجوب بالمعنى المصطلح ، كما يشهد بذلك ما فيها من توصيف جملة من الأغسال المسنونة بالوجوب.

ثمّ إنّ ظاهر الموثّقة ـ كعبائر الأصحاب ـ إنّما هو إرادة الغسل بالمعنى المعهود ، لا الغسل بالفتح ، بمعنى إزالة القذر ، فما احتمله بعض (٢) ـ من كونه تنظيفا محضا ـ ضعيف.

نعم ، لا يبعد أن يكون ذلك حكمة الحكم ، كما في غسل الجمعة ، والله العالم.

قد فرغ من تصنيف المجلّد الثاني (٣) ـ الذي هو في الأغسال ـ من طهارة الكتاب المسمّى بـ «مصباح الفقيه» أقلّ الطلبة محمّد رضا الهمداني يوم الجمعة قبيل الغروب غرّة ذي الحجّة من سنة ١٢٩٧ ، أعانه الله تعالى على إتمامه بأتمّ الوجوه وأحسنها (٤) ، وجعله ذخيرة لآخرته بمحمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين إلى يوم الدين.

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٧٢ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ١٣١.

(٢) راجع : مسالك الأفهام ٨ : ٣٩٤.

(٣) حسب تجزئة المصنّف قدس‌سره.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «أحسنه». والظاهر ما أثبتناه.

٨٤

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(الركن الثالث) من الأركان الأربعة التي يعتمد عليها كتاب الطهارة : (في الطهارة الترابيّة) أي التيمّم الذي قضت ضرورة الدين بطهوريّته لدى الضرورة في الجملة.

قال الله تبارك وتعالى في سورة النساء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (١) وقال تعالى في سورة المائدة :

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣.

٨٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١).

ويحتمل أن يكون قوله تعالى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ) إلى آخره ، مسوقا لدفع توهّم كون التكليف بالطهارة عند كلّ صلاة حرجيّا ، مع ما في التيمّم من التذلّل والخضوع الذي ربما يشقّ على المؤمنين في بدء الإسلام تحمّل مثله تعبّدا.

ويحتمل أن يكون بيانا للحكمة المقتضية لشرع التيمّم وبدليّته من الوضوء والغسل ، فيفهم منه على هذا التقدير اختصاص الأمر بالوضوء والغسل بغير مورد الحرج الذي هو أعمّ من سائر الضرورات المسوّغة للتيمّم ، وكون المشروع في مثل الفرض هو التيمّم تسهيلا للعباد ، ورأفة بهم ، وتفضّلا عليهم كي يسهل عليهم الطهارة في جميع الأحوال.

وهذا الاحتمال أسبق إلى الذهن ، وأوفق بالاعتبار وإن كان الأوّل أنسب بالسياق.

وكيف كان فيستفاد من هذه الفقرة الواردة في مقام الامتنان بل من سياق الآيتين ـ بواسطة المناسبات المغروسة في الأذهان فضلا عن الأدلّة الخارجيّة ـ

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٨٦

اطّراد شرعيّة التيمّم في سائر مواقع الضرورة ، وعدم اختصاصها بالموارد المذكورة في الآية ، وتخصيص تلك الموارد بالذكر على الظاهر لأجل تحقّق الضرورة فيها غالبا ، وإلّا فالمناط مطلق تعذّر استعمال الماء عقلا أو شرعا ، بل تعسّره أيضا في الجملة على ما ستعرفه إن شاء الله.

كما أنّه يستفاد عرفا من تعليق الأمر بالتيمّم على عدم وجدان الماء كون التيمّم بدلا اضطراريّا من الوضوء سوّغته الضرورة بحيث لو فرض محالا تمكّنه من الوضوء لكان هو المطلوب الأصلي ، نظير ما لو قال : إذا جاءك زيد فأطعمه بالطبيخ (١) الكذائي ، وإذا لم يتهيّأ لك أسبابه فأطعمه بالخبز مثلا ، حيث يفهم من مثل ذلك عرفا أنّ رفع اليد عن الطلب الأوّل في مثل الفرض والأمر بالثاني لأجل الضرورة ، وكون المطلوب الثاني بدلا اضطراريّا من الأوّل ، لا لفقد المقتضي وانقلاب الموضوع لأجل عدم تهيّؤ الأسباب ، كالمسافر والحاضر بالنسبة إلى الصوم والصلاة ، ولذا صحّ أن يدّعى أنّه يفهم من الآية وجوب بذل الجهد في تحصيل الماء للطهارة ، وانتقال التكليف إلى التيمّم عند تعذّر تحصيل الماء بعد الغضّ عمّا قد يقال من أنّ المنساق إلى الذهن اعتبار الطلب في تحقّق مفهوم «إن لم تجدوا» فإنّ وجوب التحصيل مع الإمكان هو الذي تقتضيه البدليّة الاضطراريّة ، ولعلّ هذا هو مراد من فسّر عدم الوجدان بعدم التمكّن ، لا أنّه استعمل اللفظ فيه على سبيل التجوّز في الكلمة كي يطالب بالدليل.

(و) كيف كان فـ (النظر) في هذا المبحث يقع (في أطراف أربعة) :

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الطبخ». والصحيح ما أثبتناه.

٨٧
٨٨

(الأوّل : ما يصحّ معه التيمّم)

(وهو ضروب) يحويها العجز عن استعمال الماء عقلا أو شرعا الذي هو المناط في جواز التيمّم ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، لكن لا بدّ من التعرّض لذكر بعض أسباب العجز مفصّلا ـ كما صنعه المصنّف قدس‌سره ـ لبيان ما يتفرّع عليها من الأحكام المخصوصة لكلّ سبب ، كما ستعرفه.

(الأوّل : عدم الماء) ولا شبهة في كونه من مسوّغات التيمّم مطلقا كتابا وسنّة وإجماعا من غير فرق عندنا ـ على الظاهر ـ بين السفر والحضر.

وما أرسله بعضهم عن علم الهدى ـ من أنّه أوجب الإعادة على الحاضر (١) ـ مع عدم تحقّق النسبة ليس خلافا فيما نحن فيه.

(ويجب عنده الطلب) والفحص إجماعا ، كما عن جماعة (٢) نقله.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ما عرفته من الإجماعات المستفيضة ، وإمكان استفادته من الكتاب ، وما ستعرفه من خبر السكوني وغيره ـ قاعدة الاشتغال ، القاضية بوجوب تحصيل القطع بالخروج من عهدة التكليف بالصلاة مع الطهور ، المتوقّف على إحراز العجز عن الطهارة المائيّة ، الذي هو شرط في طهوريّة

__________________

(١) حكاه عنه نقلا عن شرح الرسالة له المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٦٥.

(٢) الحاكي عنهم هو العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥١٨.

٨٩

الترابيّة.

لا يقال : إنّ القدرة على الطهارة المائيّة شرط في تعلّق التكليف بها ، فما لم يحرز القدرة ينفى وجوبها بأصل البراءة ، فتتعيّن الترابيّة.

لأنّا نقول : أوّلا : أنّ أصل البراءة عن التكليف لا يجدي في إحراز العجز عن المائيّة ، الذي هو شرط في صحّة الترابيّة.

وثانيا : أنّ القدرة على امتثال التكاليف من الشرائط العقليّة التي لا يرجع عند الشكّ فيها إلى البراءة ، كما تقدّم تحقيقه غير مرّة ، بل لا بدّ في مقام الشكّ من السعي في مقدّمات الامتثال حتّى يتبيّن العجز أو يتحقّق الامتثال.

فما عن المحقّق الأردبيلي ـ من استحباب الطلب (١) ـ ضعيف.

والاستدلال بالأخبار الآتية النافية لوجوب الطلب والفحص ستعرف ما فيه. ولا يجديه إطلاقات طهوريّة التراب وبدليّته من الماء بعد وضوح كونه بدلا اضطراريّا لا تتحقّق شرعيّته إلّا عند تحقّق الضرورة.

ثمّ إنّ مقتضى ما عرفت إنّما هو وجوب الطلب والفحص مع الرجاء مطلقا ما لم يبلغ مرتبة الحرج والمشقّة الرافعة للتكليف أو يتحقّق مانع آخر من وجوب الفحص ، كضيق الوقت ، أو خوف طريق الطلب ، أو التخلّف عن الرفقة ؛ أو غير ذلك من الأعذار المانعة من التكليف ، كما يظهر اختياره من المدارك (٢) ، ومحكيّ المعتبر (٣).

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٥ : ٧٧ ، وانظر مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢١٨.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ١٧٩.

(٣) الحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ١٧٩ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

٩٠

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ حسنة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت ، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم وليصلّ في آخر الوقت ، فإذا وجد الماء فلا قضاء عليه وليتوضّأ لما يستقبل» (١).

لكن في حاشية المحقّق البهبهاني على المدارك : هذه الرواية وردت بإسناد آخر «فليمسك» بدل «فليطلب» (٢) انتهى ، فعلى هذا يكون دليلا لعدم جواز البدار لأولي الأعذار ، لا لما نحن فيه.

وكيف كان فالأظهر أو سعيّة الأمر من ذلك ، وعدم وجوب انتهاء الطلب إلى هذا الحدّ على الإطلاق ، بل الواجب على المسافر الفاقد للماء في الفلوات ، المتمكّن من الفحص ـ الذي لا يعذر في تركه لضيق الوقت أو خوف الطريق ونحوه ـ هو السعي فيما حوله في الجملة على وجه يحصل له الوثوق بتعذّر تحصيل الماء فيما يقرب منه من نواحيه (فيضرب) في الأرض (غلوة سهمين في كلّ جهة من جهاته الأربع إن كانت الأرض سهلة ، وغلوة سهم إن كانت حزنة) بسكون الزاي : ما غلظ من الأرض بالأحجار والأشجار ونحوها (٣) ، كما قيل (٤).

ثمّ إنّ التحديد المذكور هو المشهور بين الأصحاب على ما صرّح به غير

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٣ / ٢ ، التهذيب ١ : ١٩٢ ـ ١٩٣ / ٥٥٥ ، و ٢٠٣ / ٥٨٩ ، الاستبصار ١ : ١٥٩ / ٥٤٨ ، و ١٦٥ ـ ١٦٦ / ٥٧٤ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٢) الحاشية على مدارك الأحكام ٢ : ٩٠.

(٣) في «ض ٣ ، ٤» : «نحوهما».

(٤) القائل هو الشهيد الثاني في روض الجنان : ١١٩.

٩١

واحد ، بل عن الغنية وإرشاد الجعفريّة الإجماع عليه (١) ، وعن التذكرة نسبته إلى علمائنا (٢).

ويدلّ عليه خبر السكوني عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن علي عليهم‌السلام ، قال : «يطلب الماء في السفر إن كانت حزونة فغلوة ، وإن كانت سهلة فغلوتين لا يطلب أكثر من ذلك» (٣).

والخدشة في مثل هذه الرواية المشهورة ـ التي عمل بها الأصحاب ، وعبّروا بمتنها في فتاويهم ـ بضعف السند ممّا لا يلتفت إليها.

ثمّ إنّه وإن لم يقع التصريح في الرواية بالضرب في الجهات الأربع لكن يفهم منها ذلك بالنسبة إلى الفرض الذي ينزّل عليه إطلاق المتن ونحوه ، وهو ما لو احتمل وجود الماء في جميع الجهات ؛ إذ ليس المقصود بالرواية الأمر بطلب الماء في مثل الفرض في جهة معيّنة ولا مطلق جهة أيّ جهة تكون ؛ ضرورة عدم كون الحكم تعبّديّا محضا كي يتطرّق فيه مثل هذه الاحتمالات ، بل المقصود بيان لزوم السعي في تحصيل الماء بالمقدار المنصوص عليه في مواقع احتماله لا أزيد ، فإن لم يحتمل وجود الماء إلّا في جهة أو جهتين مثلا ، يقتصر على الطلب في الجهة أو الجهتين ، وإن احتمل في جميع الجهات ، فليطلب في الجميع ، ولا يستلزم ذلك ارتكاب التجوّز والإضمار في الرواية ؛ فإنّها مسوقة لتحديد مقدار

__________________

(١) حكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥١٩ ، وانظر : الغنية : ٦٤ ، وكتاب الإرشاد في شرح الجعفريّة مخطوط.

(٢) حكاها عنها العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥١٩ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ٢ : ١٥٠ ، المسألة ٢٨٣.

(٣) التهذيب ١ : ٢٠٢ / ٥٨٦ ، الإستبصار ١ : ١٦٥ / ٥٧١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

٩٢

الطلب في المورد الذي من شأنه أن يطلب الماء فيه ، وهذا يختلف باختلاف الموارد.

وإن شئت قلت : إنّ الرواية تدلّ على وجوب الطلب في مسافة الغلوة أو الغلوتين ، فمهما احتمل وجود الماء فيما لا يزيد عن الغلوة والغلوتين وجب الفحص عنه.

وتوهّم أنّ المراد هو الطلب بمقدار الغلوة أو الغلوتين مطلقا في جميع الموارد بمعنى أنّ الشارع أوجب ذلك على المسافر من دون فرق بين الموارد ، فإن لم يحتمل الماء إلّا في جهة ، فليطلب مقدار الغلوة أو الغلوتين في تلك الجهة ، وإن احتمل في جهتين أو ما زاد ، فليطلب بهذا المقدار في مجموع الجهات المحتملة بحيث يكون طلبه في كلّ جهة بعض ذلك المقدار ، مدفوع : بمخالفته للظاهر من وجوه ، وعلى تقدير مكافئته للاحتمال الأوّل لا يصلح دليلا لرفع اليد عمّا تقتضيه قاعدة الاشتغال.

وكيف كان فالرواية صريحة في عدم وجوب الفحص زائدا على ما عرفت ، فهي واردة على القاعدة القاضية بوجوب الفحص مع الإمكان ما لم يحصل اليأس أو يتحقّق عذر آخر.

ولا يعارضها قوله عليه‌السلام في حسنة زرارة ، المتقدّمة (١) : «إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت» الحديث ؛ لقصورها عن المكافئة بعد إعراض الأصحاب عن ظاهرها وعملهم بالرواية السابقة.

وقد يقال في توجيه الحسنة بأنّها مسوقة لبيان وجوب الطلب في سعة

__________________

(١) في ص ٩١.

٩٣

الوقت لا مع الضيق ، وأمّا مقدار الطلب فغير مقصود بها ، فلا تنافي خبر السكوني.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّها كادت تكون صريحة في إرادة أنّه يطلب الماء إلى أن يتضيّق عليه الوقت ويخاف فوت الصلاة ، فحينئذ يصلّي مع التيمّم.

والأولى أن يقال : إنّه لا تنافي بين الروايتين إلّا في الجملة ، فيمكن الجمع بينهما بحمل الحسنة على ما لا ينافي خبر السكوني ، فإنّ وجوب الفحص عن الماء في الجهات الأربع ـ كما يقتضيه خبر السكوني وفتاوى الأصحاب على الظاهر ـ مشروط بإرادة المسافر المتمكّن من الفحص ـ الذي لم يتضيّق عليه الوقت ـ الصلاة في مكان مخصوص ، كما لو نزل بعد الظهر ـ مثلا ـ منزلا وأراد أن يصلّي فيه ، وإلّا فله الضرب في الأرض في جهة من الجهات ولو في الجهة الموصلة إلى المقصد برجاء تحصيل الماء في أثناء الطريق إلى أن يتضيّق عليه الوقت ، ضرورة أنّ العود إلى المكان الأوّل ليس واجبا تعبّديّا ، فحيثما طلب الماء في جهة ولو في الجهة المؤدّية إلى المقصود بمقدار رمية سهم أو سهمين ، فله أن يصلّي في المكان الذي انتهى إليه طلبه ، وأن لا يعود إلى المكان الذي ابتدأ منه ، لكن يجب عليه الفحص عن الماء فيما حوله بالنسبة إلى المكان الذي انتهى إليه السير ، فله في هذا المكان أيضا ـ كالمكان الأوّل ـ أن يختار أوّلا الضرب إلى مقصده ـ مثلا ـ في الجهة التي يقربه وهكذا إلى أن يتضيّق عليه الوقت ، وتتعيّن عليه الصلاة مع التيمّم ، فثمرة العود إلى المكان الأوّل إنّما هو جواز الصلاة مع التيمّم بعد الفحص عن الماء في سائر الجهات بالمقدار المعتبر شرعا وإن لم يتضيّق عليه الوقت ، فيقيّد حسنة زرارة بما عدا هذه الصورة.

فتلخّص لك : أنّ الواجب على المسافر أحد أمرين : إمّا الفحص عن الماء و

٩٤

لو في طريق سفره من دون أن ينحرف عن الطريق إلى أن يتضيّق عليه الوقت ، كما يدلّ عليه الحسنة الموافقة لقاعدة الاشتغال ، وإمّا تحصيل الوثوق بفقد الماء فيما حوله بمقدار غلوة سهم أو سهمين ، كما يدلّ عليه خبر السكوني ، الذي لا يفهم منه أزيد من الوجوب التخييري الذي عبّرنا عنه بالوجوب المشروط ، فيتحصّل من مجموع الروايتين بعد الجمع أنّه يجب على المسافر أن يطلب الماء ما دام الوقت باقيا ، إلّا أن يحصل له الوثوق بفقد الماء فيما حوله بمقدار الغلوة أو الغلوتين.

وما في بعض الأخبار من عدم وجوب الطلب ـ مثل : رواية داود الرقّي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أكون في السفر فتحضر الصلاة وليس معي ماء ، ويقال : إنّ الماء قريب منّا ، فأطلب الماء ـ وأنا في وقت ـ يمينا وشمالا؟ قال : «لا تطلب ولكن تيمّم فإنّي أخاف عليك التخلّف عن أصحابك فتضلّ ويأكلك السبع» (١) وخبر يعقوب بن سالم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحو ذلك ، قال : «لا آمره أن يغرّر بنفسه فيعرض له لصّ أو سبع» (٢) ورواية عليّ بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : أتيمّم ، إلى أن قال : فقال له داود الرقّي : فأطلب الماء يمينا وشمالا؟ فقال : «لا تطلب يمينا ولا شمالا ولا في بئر ، إن وجدته على الطريق فتوضّأ منه ، وإن لم تجده فامض» (٣) ـ فمحمول على صورة الخوف ، كما يدلّ عليه التعليل الوارد

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٤ / ٦ ، التهذيب ١ : ١٨٥ ـ ١٨٦ / ٥٣٦ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب التيمّم ، ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٦٥ / ٨ ، التهذيب ١ : ١٨٤ / ٥٢٨ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٣) التهذيب ١ : ٢٠٢ / ٥٨٧ ، الإستبصار ١ : ١٦٥ / ٥٧٢ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

٩٥

في الروايتين الأوليين ، وفرض العلم بوجود الماء في الرواية الثانية.

وأمّا الثالثة وإن كانت بظاهرها مطلقة لكنّها أيضا منزّلة عليه بقرينة ما عرفت ، خصوصا مع غلبة الظنّ بكونها هي الرواية المعلّلة التي رواها داود بنفسه عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

مع أنّ الأمر بالمضيّ لا ينافي وجوب الطلب ما دام في الوقت ؛ لما عرفت من أنّ له اختيار المضيّ في طريقه عند احتمال مصادفة الماء في أثناء الطريق ، فيمكن تنزيل الرواية عليه.

هذا ، مع ما في هذه الروايات من ضعف الإسناد ، وعدم صلاحيّتها لمعارضة ما عرفت.

ثمّ إنّا قد أشرنا إلى أنّ وجوب الطلب ليس نفسيّا تعبّديّا ، بل هو مقدّمة لتحصيل الماء ، فلا يجب إلّا عند احتماله احتمالا يعتدّ به لدى العقلاء ، فإذا حصل له الوثوق بفقد الماء من إخبار أهل الخبرة أو المجتهدين في الطلب ، أو من فحصه السابق ولو قبل تنجّز التكليف بالطهارة والصلاة ، لم يجب عليه الفحص.

نعم ، لو لم يحصل له الاطمئنان من خبرهم ، واحتمل مصادفة الماء لو باشر بنفسه الطلب ، وجب عليه ذلك من غير فرق بين كون المخبر نائبا عنه في الفحص وعدمه ؛ فإنّ المدار على كونه مطمئنّا ـ حين إرادة التيمّم والصلاة ـ بكونه عاجزا عن الطهارة المائيّة.

وفي كفاية شهادة العدلين فضلا عن العدل الواحد ما لم يحصل الوثوق من قولهما بفقد الماء خصوصا فيما إذا كان عدم الوثوق مسبّبا عن احتمالات غير منافية للعدالة إشكال وإن كان الأظهر حجّيّة قولهما فيما إذا كان مرجعه إلى

٩٦

الإخبار عن أمر حسّيّ غير قابل للاشتباه عادة ، كما لو أخبرا بعدم الماء في المكان الفلاني ونحوه.

وكذا الإشكال في الاكتفاء بفحصه السابق عند احتمال تجدّد الماء.

وقد يقوى في النظر عدم وجوب الفحص في الفرض اعتمادا على أصالة عدم التجدّد واستصحاب العجز وعدم الماء ، الذي هو شرط في جواز التيمّم من غير فرق بين كون فحصه السابق قبل تنجّز التكليف أم بعده.

وتوهّم أنّ شرط التيمّم هو عدم وجدان الماء ، وهو صفة اعتباريّة وجوديّة ، فلا يحرز بالأصول المتقدّمة ، مدفوع : بما أشرنا إليه من أنّ المناط في الحقيقة هو العجز عن الطهارة المائيّة ، وعدم الوجدان من أسبابه ، كما سيأتي مزيد توضيح لذلك.

هذا ، مع أنّ ظاهر بعض النصوص ـ كفتاوى الأصحاب ـ أنّ عدم الماء من أسباب التيمّم ، وهو ممّا يمكن إحرازه بالاستصحاب.

ولا ينافي ذلك ما تقدّم آنفا من أنّ القدرة على امتثال التكاليف من الشرائط العقليّة التي لا بدّ من إحراز عدمها في رفع اليد عن التكاليف الثابتة بالعمومات ، فإنّ الأصول الموضوعيّة ـ كالأمارات الشرعيّة ـ حاكمة على هذا الأصل.

هذا ، مع أنّ عدم التمكّن ، الذي اعتبره الشارع شرطا لصحّة التيمّم أعمّ من عدم القدرة [الذي] (١) استقلّ العقل بمانعيّته من التكليف ، فليتأمّل.

ودعوى أنّ المتبادر من إطلاق معاقد الإجماعات المحكيّة وغيرها من الأدلّة اعتبار الطلب والفحص حين إرادة التيمّم مطلقا ، فلا يكفي الفحص للتيمّم

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «التي». والظاهر ما أثبتناه.

٩٧

السابق ، فضلا عن الفحص قبل تنجّز التكليف ، مدفوعة : بأنّ غاية ما يمكن أن يدّعى الإجماع عليه إنّما هي وجوب الطلب في الجملة ، وأمّا وجوب تجديده عند كلّ تيمّم فلا ، بل لا ينبغي أن يصغى إلى من يدّعيه ، كما أنّ رواية السكوني أيضا لا يفهم منها إلّا ذلك ، وحيث إنّ وجوبه توصّليّ لا يتفاوت الحال فيه بين تحقّقه قبل الخطاب أو بعده.

وأمّا حسنة زرارة مع ما فيها من اختلاف المتن فقد عرفت أنّها مأوّلة أو مطروحة ، مع أنّه لا يكاد يفهم منها وجوب إعادة الطلب في الموضوع الذي بذل جهده ولم يجد الماء فيه.

ودعوى استفادته من الكتاب العزيز باعتبار تعليق التيمّم على عدم الوجدان ، الذي لا يتحقّق عرفا إلّا بعد الفحص قد أشرنا إلى دفعها.

مضافا إلى أنّ غاية ما يمكن أن يقال إنّما هو توقّف صدق عدم الوجدان على سبق الطلب في الجملة ، لا على استدامته ؛ ضرورة أنّه لو تفحّص في مكان ولم يجد الماء فيه ، فما دام في ذلك المكان ولم يحصل بيده الماء يصدق عرفا أنّه إلى الآن لم يجد الماء ، ولا يتوقّف ذلك على تجديد الطلب كلّ حين.

وأمّا قاعدة الاشتغال ، القاضية بوجوب الفحص فالاستصحابات المتقدّمة واردة عليها ، نظير استصحاب إضافة الماء أو نجاسته أو غصبيّته ، الوارد على قاعدة الاشتغال ، القاضية بوجوب الاحتياط ، فليتأمّل.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الاقتصار في الطلب على الغلوة أو الغلوتين إنّما هو فيما إذا لم يعلم بوجود الماء في خارج الحدّ ، وإلّا يجب عليه تحصيله ما لم يوجب حرجا أو ضررا أو مانعا آخر ، فإنّ قوله عليه‌السلام في الرواية : «لا يطلب أكثر

٩٨

من ذلك» (١) منصرف عن صورة العلم بوجود الماء ، كما هو ظاهر.

وأمّا الغلوة فهي بالفتح كما في مجمع البحرين : مقدار رمية سهم ، وحكى فيه عن الليث : الفرسخ التامّ خمس وعشرون غلوة. وعن أبي شجاع (٢) في خراجه : الغلوة قدر ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة (٣).

وحكي عن الارتشاف أنّها مائة باع والميل عشر غلاء (٤).

هذا ، ولكنّ الظاهر أنّ هذا الخلاف إنّما هو في تحديد المصداق لا في تعيين مفهوم الغلوة كي يكون لقول اللغويّين فيه خصوصيّة ، فلا وثوق بقولهم في مثله ، خصوصا مع قضاء العادة بعدم كونهم من أهل الخبرة في العمل ، مع أنّ تطبيقه على الفرسخ والميل على سبيل التعيين ـ كما سمعته من بعضهم ـ لا يخلو عن مجازفة.

وكيف كان فالمدار على مقدار رمية سهم أو سهمين بحسب المتعارف الغالب ، لكنّ الذي أشكل علينا الأمر عدم تعارف الرمي بالسهم في عصرنا ، إلّا أنّ الذي يقوى في حدسي أقربيّة ما عن أبي الشجاع إلى الواقع ؛ فإنّ من المستبعد تجاوز السهم المتعارف عن أربعمائة ذراع ، لكنّ الظنّ لا يغني من جوع ، بل يجب الاحتياط حتّى يحصل القطع بالخروج من عهدة التكليف.

ولو اختلفت الجهات سهولة وحزونة ، ففي كلّ جهة يراعى حكمها.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٠٢ / ٥٨٦ ، الإستبصار ١ : ١٦٥ / ٥٧١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٢) في المغرب : «ابن شجاع».

(٣) مجمع البحرين ١ : ٣١٩ «غلا» وانظر : المغرب ٢ : ٧٨.

(٤) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٤٣٥.

٩٩

ولو اختلفت الجهة الواحدة بحيث لم يصدق عليها أحد الاسمين على الإطلاق ، قيل : تراعى النسبة (١).

وهو لا يخلو عن إشكال بعد خروج الفرض من منصرف الرواية ، فمقتضى قاعدة الاحتياط عدم الاقتصار على ما دون غلوتين ، والله العالم.

ثمّ إنّ وجوب الطلب ـ الذي يحكم به العقل ؛ لقاعدة الاشتغال ، ويتبادر من النصّ والفتوى ـ إنّما هو من باب المقدّمة لتحصيل الطهارة المائيّة التي هي الأصل في التطهير ، كما أنّه يجب تحصيل التراب مقدّمة للتيمّم عند تنجّز التكليف به ، فالباعث على طلب الماء أوّلا وبالذات إنّما هو احتمال مصادفة الماء ، ولا مدخليّة له من حيث هو في صحّة التيمّم ولا في مطلوبيّته بمعنى أنّه ليس من مقدّماته الوجوديّة ولا الوجوبيّة.

أمّا الأوّل : فواضح ، وإلّا لم يعقل وجوبه قبل تنجّز التكليف به.

وأمّا الثاني : فلأنّ مناط مطلوبيّة التيمّم هو العجز عن الطهارة المائيّة ، الذي يستكشف بالطلب والفحص ، لا نفس الطلب من حيث هو.

وتعليق الأمر بالتيمّم على عدم الوجدان ، الذي يتوقّف صدقه عرفا على الطلب ـ كما قيل (٢) ـ إنّما هو لكونه طريقا لإحراز العجز ، لا لكون هذا المفهوم المقيّد من حيث هو معتبرا في تقوّم الموضوع ، كما لا يخفى على المتأمّل في الآية وغيرها من الأدلّة ، وكيف لا!؟ وإلّا للزم أن لا يكون المقصّر التارك للفحص ، الذي يكون في الواقع فاقدا للماء مكلّفا واقعا بالصلاة مع شي‌ء من الطهارتين ؛

__________________

(١) راجع : جامع المقاصد ١ : ٤٦٥.

(٢) القائل هو الكركي في جامع المقاصد ١ : ٤٦٥.

١٠٠