مصباح الفقيه - ج ٦

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٦

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

لعدم القدرة على المائيّة ، وعدم تحقّق شرط وجوب الترابيّة ، وهو كما ترى.

فظهر لك أنّ الطلب من حيث هو ليس ممّا يتوقّف عليه التيمّم لا شطرا ولا شرطا.

نعم ، له مدخليّة في إحراز مطلوبيّته والعلم بكونه مقرّبا ، فإنّه لا يعلم ذلك إلّا بعد أن تبيّن عجزه عن الطهارة المائيّة بالفحص ، فلو أخلّ بالطلب وتيمّم في سعة الوقت فقد أتى بما لم يعلم بكونه مأمورا به ، فلا يتأتّى منه قصد امتثال الأمر والتقرّب بعمله على سبيل الجزم ، فيفسد تيمّمه وصلاته بناء على ما هو المشهور بل المجمع عليه من اعتبار قصد التقرّب على سبيل الجزم في صحّة العبادة مع الإمكان.

لكنّك عرفت في مبحث نيّة الوضوء أنّ للتأمّل فيه مجالا.

وكيف كان فمنشؤ بطلان التيمّم فيما لو كان مصادفا لتكليفه على تقدير الفحص لو وقع بلا فحص ليس إلّا من حيث الإخلال بقصد التقرّب ، فلو فرض صدوره منه متقرّبا به على سبيل الجزم ، كما لو غفل عن احتمال وجود الماء فرأى نفسه عاجزا فتيمّم وصلّى وصادف عدم الماء ، صحّ عمله ؛ لكون المأتيّ به موافقا للمأمور به متقرّبا إلى الله ، بخلاف ما لو صادف وجوده ، فإنّه لم يصحّ ؛ لكونه مخالفا لتكليفه الواقعي.

وما ادّعاه بعض من ظهور الأدلّة في كون الطلب من حيث هو شرطا في صحّة التيمّم ، فيفسد مطلقا قد عرفت فساده.

هذا إذا كان في سعة الوقت (و) أمّا (لو أخلّ بالضرب) في الأرض وغيره من أنحاء الطلب (حتى ضاق الوقت) من الطلب والصلاة بالطهارة

١٠١

المائيّة ، فقد (أخطأ ، وصحّ تيمّمه وصلاته على الأظهر) الأشهر ، بل في المدارك أنّه المشهور (١) ، وعن الروض نسبته إلى فتوى الأصحاب (٢) ؛ لأنّ ضيق الوقت ـ الموجب لعدم القدرة على إتيان الصلاة مع الطهارة المائيّة في الوقت ـ بنفسه من أسباب العجز الموجب لانتقال الفرض إلى التيمّم ولو على تقدير وجود الماء فضلا عن احتماله ، فلا يجب عليه الطلب ، وحيث لا يسقط التكليف بالصلاة بحال يجب عليه الإتيان بها مع التيمّم ، والأمر يقتضي الإجزاء ، فتصحّ صلاته ، ولا يجب عليه قضاؤها من غير فرق بين ما لو صادف الماء في محلّ الطلب وعدمه ، بل قضيّة ما عرفت صحّة الصلاة والتيمّم على تقدير وجود الماء عنده بالفعل لو أخّر الوضوء أو الغسل حتّى ضاق الوقت وتعذّر الإتيان به مع الصلاة في وقتها ، فإنّ مناط صحّة التيمّم ومطلوبيّته العجز عن الطهارة المائيّة ، وهو حاصل في الفرض وإن كان بسوء اختيار المكلّف.

لكن قد يشكل ذلك بأنّه كان مكلّفا في سعة الوقت بالصلاة مع الطهارة المائيّة وقد صيّرها ممتنعة في حقّه باختياره ، وهو وإن كان موجبا لارتفاع الطلب لكنّه بواسطة العصيان الذي قد يتأمّل في سببيّته لانقلاب التكليف واندراج المكلّف في موضوع العاجز المأمور بالبدل الاضطراري ، فإنّه لا يبعد دعوى انصراف ما دلّ على مشروعيّة البدل للعاجز عن العاجز الذي اختار العجز للفرار من التكليف المنجّز عليه.

ألا ترى أنّه لو قيل : يجب على العاجز عن الحجّ أن يستنيب ، لا يتبادر منه

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ١٨٣.

(٢) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥٢٠ ، وانظر : روض الجنان : ١٢٧.

١٠٢

القادر الذي صيّر نفسه عاجزا بتخلّفه عن الرفقة.

وليس معنى «أنّ الصلاة لا تسقط بحال» بقاء التكليف بها بعد أن عصى المكلّف وصيّر إيجادها على النحو المعتبر شرعا في حقّه ممتنعا ، فمن الجائز أن يكون تأخير الطهارة المائيّة عند القدرة عليها إلى أن تتعذّر ـ كتأخير التيمّم إلى أن يتعذّر الإتيان به مع الصلاة في الوقت ـ موجبا لوجوب القضاء.

ومن هذا القبيل جميع الموارد التي أوجد المكلّف سبب التكليف الاضطراري اختيارا للفرار من الخروج من عهدة التكليف الاختياري المنجّز عليه ، كما لو أخّر الجنب الغسل في ليلة رمضان إلى أن ضاق الوقت ، فصام مع التيمّم ، أو أراق الماء مع الانحصار عند تنجّز التكليف بالغسل أو الوضوء ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، فإنّ الجزم بصحّة البدل الاضطراري في هذه الموارد في غاية الإشكال حيث لا يبعد دعوى انصراف ما دلّ على شرعيّة البدل عن شمول مثل هذا العجز الاختياري ، بل لا يبعد أن يكون التيمّم من مثل هذا الشخص مبغوضا للشارع ، فضلا عن أن يقع عبادة.

ومن هنا قد يقال بوجوب الاحتياط بالجمع بين الصلاة مع التيمّم في الوقت وقضائها في خارجه ؛ لتردّد المكلّف به المعلوم بالإجمال بين الأمرين.

ولعلّه لذا أوجب غير واحد قضاء الصلاة فيما نحن فيه ، أعني فيما لو قصّر في الطلب وصلّى مع التيمّم وصادف وجود الماء في محلّ الطلب ، بل عن الحدائق (١) نسبته إلى المشهور ، وعن جامع المقاصد (٢) إلى أكثر الأصحاب.

__________________

(١) الحاكي عنها هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٨٧ ، وانظر : الحدائق الناضرة ٤ : ٢٥٦.

(٢) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٨٧ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٤٦٧.

١٠٣

لكن مع ذلك القول بالصحّة في المقام ونظائره ـ كما في المتن وغيره ـ لعلّه أقوى ؛ فإنّه لا يبعد دعوى أنّه يفهم بالتأمّل في الأدلّة الشرعيّة كون العجز من حيث هو مناطا لصحّة التيمّم من دون أن يكون لسببه مدخليّة في ذلك ، إلّا أنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

وقد يقال في توجيه القول بوجوب الجمع بين الصلاة مع التيمّم وقضائها بأنّه كان مكلّفا في سعة الوقت بإتيان الصلاة مع الطهارة المائيّة وقد فوّتها بسوء اختياره عصيانا فعليه قضاؤها ، وإنّما يجب عليه الصلاة مع التيمّم عند الضيق ؛ لما ثبت من أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فعند الضيق تجب مع التيمّم ، وكون الأمر مقتضيا للإجزاء لا يقتضي إلّا كون الصلاة مع التيمّم مسقطا للطلب المتعلّق بها ، دون الطلب المتعلّق بقضاء ما فات ، الذي تحقّق موضوعه بالنسبة إلى الصلاة مع الطهارة المائيّة التي كانت واجبة في سعة الوقت.

وفيه ما لا يخفى بعد وضوح أنّ المكلّف به في الواقع ليس إلّا صلاة الظهر ـ مثلا ـ مع الطهور المتوقّف حصوله عند التمكّن على الوضوء والغسل وعند الضرورة على التيمّم ، فإن أفاد التيمّم في مفروض مسألتنا الطهارة التي هي شرط لصحّة الصلاة المأمور بها بأن عمّه دليل مشروعيّته ، فقد وجب مقدّمة لتلك الصلاة الواجبة ، وإلّا فلا.

والحاصل : أنّ المأمور به إنّما هو إيجاد صلاة الظهر ـ مثلا ـ مع الطهارة المتوقّف حصولها على الغسل والوضوء لدى القدرة ، والتيمّم لدى الضرورة ، فالضرورة أثّرت في قيام التيمّم مقام الوضوء والغسل ، الذي هو مقدّمة لتلك الصلاة المأمور بها ، لا بدليّة الصلاة الواقعة معه عن الصلاة الواقعيّة.

١٠٤

هذا ، مع أنّه إنّما يجب الإتيان بالتيمّم لدى الضرورة لبدليّته من الوضوء والغسل وقيامه مقامهما ، فلا يعقل بقاء الأمر بالمبدل منه بعد تحقّق البدل بعنوان البدليّة وصحّته ، كما لا يخفى.

هذا هو الكلام في الحكم الوضعي ، أعني صحّة التيمّم والصلاة عند تأخير المكلّف إلى أن يتضيّق الوقت.

وأمّا الكلام في الحكم التكليفي ـ أعني حرمة التأخير واستحقاق العقاب عليه ـ فهو على الظاهر من المسلّمات التي لم ينقل الخلاف فيه من أحد إلّا من المصنّف في المعتبر (١) كما ستعرف ؛ لكونه تفويتا للتكليف الذي لا شبهة في قبحه في الجملة ، وإن كان قد يستشكل فيه في كثير من الموارد التي يتخيّل كونها نظير ما نحن فيه من حيث المشاركة في تفويت التكليف ، فالأولى شرح المقال لتتّضح حقيقة الحال بالنسبة إلى جميع الموارد ؛ لكون المسألة من المهمّات.

فأقول مستعينا بالله : تفويت التكليف قد يكون بدفع ما يقتضيه أو رفعه لا بدفع نفس التكليف أو رفعه. وبعبارة أخرى : قد يكون التفويت بتبديل الموضوع ، الموجب لانقلاب الحكم لا لأجل الاضطرار ، كما لو سافر الحاضر فارتفع تكليفه بالصوم وصلاة الجمعة وغيرهما من التكاليف التي يسقط طلبها بالسفر باعتبار أخذ وصف الحضور قيدا في موضوعها ، وهذا القسم ممّا لا إشكال في جوازه مطلقا.

أمّا قبل تنجّز الخطاب بالواجبات : فواضح ؛ فإنّه لا يتنجّز عليه شي‌ء من هذه التكاليف إلّا على تقدير اندراجه في موضوع الحاضر ، فيكون الحضور من

__________________

(١) راجع المعتبر ١ : ٣٦٦.

١٠٥

المقدّمات الوجوبيّة للواجب المشروط ، التي لا يجب تحصيلها بالضرورة.

وأمّا بعد تنجّز الخطاب : فلأنّ بقاءه منجّزا عليه مشروط ببقاء كونه حاضرا ، وليس اشتراطه بهذا الشرط على حدّ اشتراطه بالقدرة ونحوها من الشرائط العقليّة التي يرتفع التكليف بارتفاعها لأجل التعذّر مع بقاء مقتضية ، التي ستعرف تحقيق الحال فيها ، بل هو من الشرائط المتّخذة شرعا من أجزاء المقتضي ، فالخطابات الصادرة من الشارع ، المثبتة لهذه الأحكام بمنزلة ما لو قال : إن كنت حاضرا فصم وصلّ صلاة الظهر أربع ركعات ، وإن كنت مسافرا فلا تصم وصلّ ركعتين ، فعند صدور مثل هذا الخطاب لا يجب على المكلّف إلّا ملاحظة حاله عند إرادة الخروج من عهدة التكليف ، نظير ما لو قال : إذا كنت في دار زيد فأكرمه ، فكما لا يجب عليه قبل تنجّز التكليف تحصيل شرط الوجوب ، فكذلك لا يجب عليه إبقاؤه بعد تنجّزه.

اللهمّ إلّا أن يدلّ عليه دليل خارجي ، كما لو ورد مثلا : النهي عن السفر في شهر رمضان أو بعد دخول وقت الصلاة إلّا بعد أدائها ، وهو خارج ممّا نحن فيه.

والحاصل : أنّ مقتضى الأصل جواز تفويت التكليف برفع الطلب المتعلّق بالفعل كدفعه ما لم يكن ذلك بواسطة العصيان أو تحصيل العجز المانع من بقاء الطلب ، بل برفع ما يقتضيه ، الموجب لتبدّل الموضوع ، المستلزم لارتفاع الحكم ، وليس هذا القسم في الحقيقة من قبيل تفويت التكليف ، وإنّما يطلق عليه ذلك بنحو من الاعتبار والمسامحة.

وقد يكون تفويت التكليف باختيار العجز الموجب لخروج المأمور به من كونه مقدورا ، فيسقط الطلب المتعلّق به لذلك ، لا لرفع مقتضية ، كما في القسم

١٠٦

السابق.

وهذا إمّا أن يكون بعد تنجّز الخطاب وحضور زمان إيجاد الفعل المأمور به ، كإراقة الماء مع الانحصار عند تنجّز التكليف بالغسل والوضوء بعد دخول وقت الصلاة ، وإمّا أن يكون قبل تنجّز الخطاب ، كإراقته قبل الوقت.

أمّا الأوّل : فلا شبهة في قبحه وترتّب العقاب عليه ، وإن كان قد يتأمّل في جهة الاستحقاق من أنّه هل هو لأجل ما يترتّب عليه من مخالفة الواقع أو لما فيه من حيث هو من القبح ، أو لهما بمعنى أنّه إن ترتّب عليه فوت الواقع فيعاقب عقابه ، وإلّا فيعاقب على نفسه ؛ لكونه من أقسام التجرّي الذي لا يقتضي قبحه إلّا استحقاق العقاب عليه بهذه الكيفيّة.

وكيف كان فربما يشكل الأمر في مثل الوضوء والغسل الواجبين مقدّمة للصلاة الواجبة إذا فوّتهما المكلّف بتقصيره وأتى ببدلهما ـ وهو التيمّم ـ وصلّى معه بناء على صحّة التيمّم والصلاة كما هو الأظهر ، فإنّه وإن أشرنا فيما تقدّم إلى أنّ استحقاق العقاب على تفويتهما من المسلّمات ـ بل لعلّه هو المغروس في أذهان المتشرّعة ـ لكنّه مع ذلك لا يخلو عن إشكال ؛ نظرا إلى أنّ وجوبهما ليس إلّا لتوقّف الصلاة الواجبة عليهما ، وهو إنّما يكون مع القدرة ، وأمّا مع العجز عنهما فلا تتوقّف عليهما الصلاة الواجبة ؛ لأنّ المفروض صحّتها مع التيمّم ، فأراقه الماء أو ترك الطلب ، الموجب لتعذّر الوضوء والغسل لا تؤثّر إلّا في فوت الواجب الغيري من دون أن يترتّب عليه فوت الغير الذي وجبا لأجله ، فلا مقتضي للعقاب حتّى من باب التجرّي ولو على القول بكون ترك المقدّمة من حيث هو منشأ لاستحقاق العقاب ؛ إذ لا تجرّي بعد عزمه على الخروج من عهدة الواجب النفسي

١٠٧

في آخر وقته بحسب ما يقتضيه تكليفه ، وأمّا استحقاق العقاب بترك المقدّمة من حيث هو إن قلنا به فهو فيما إذا كانت منحصرة ، لا في مثل الفرض الذي يتمكّن المكلّف من إيجاد ذي المقدّمة بشرائطه المعتبرة شرعا في زمان لا يتوقّف على هذه المقدّمة.

وتوهّم أنّ الصلاة مع التيمّم فرد ناقص من الصلاة اجتزأ به الشارع عند الضرورة بدلا من الفرد التامّ ، نظير ما يؤتى به من الصلاة الناقصة ؛ لقاعدة الميسور ونحوها ، فقد فوّت المكلّف بسوء اختياره صفة كمالها ، فيحسن العقاب عليه ، مدفوع : بأنّ الأدلّة الدالّة على شرعيّة التيمّم ـ من الكتاب والسنّه والإجماع ـ بأسرها ناطقة بأنّ الجعل الشرعي إنّما تعلّق بتنزيل التيمّم لدى الضرورة منزلة الوضوء والغسل في إفادة الطهارة التي هي شرط في الصلاة ، لا أنّ الشارع اجتزأ بالصلاة الناقصة الفاقدة لشرط صحّتها في مقام الضرورة لأجل كونها عنده من باب تعدّد المطلوب كي يتطرّق فيه ما توهّم ، ولذا يستباح بالتيمّم ما دام بقاء أثره سائر الغايات التي لم يضطرّ إلى فعلها ، كصلاة القضاء وصلاة الآيات وغيرها ممّا لم تتضيّق أوقاتها ولم يتعيّن عليه فعلها ، ولو لا ذلك لأشكل صحّته من الأجير ، بل ربما يستشكل في صحّة الاقتداء بالمتيمّم كما في سائر المقامات التي يؤتى بالصلوات الناقصة لأجل الضرورة.

ولو سلّم كون الصلاة مع الطهارة المائيّة أكمل بواسطة أكمليّة طهورها ، فليس ذلك إلّا من باب كونه أفضل الأفراد ، لا كون الصلاة مع التيمّم فاقدة لبعض الشرائط المعتبرة في صحّتها ؛ ضرورة أنّ المعتبر في صحّة الصلاة إنّما هو مطلق الطهور الذي قضت الضرورة بحصوله لدى العجز بالتيمّم.

١٠٨

والحاصل : أنّه لا مجال للتفصّي عن الإشكال بما ذكر.

وغاية ما يمكن أن يقال في حلّه : إنّه كما دلّت الأدلّة على كون الصلاة مع التيمّم صلاة صحيحة تامّة الأجزاء والشرائط وإنّ الجعل الشرعي لم يتعلّق إلّا بالتعميم فيما يحصل به شرط الصلاة ، لا في إلغاء شرطيّته ، كذلك دلّت على أنّ التيمّم بدل اضطراريّ من الوضوء والغسل سوّغه العجز عن امتثال الطهارة المائيّة ، الذي لا يصلح إلّا للمنع من تنجّز التكليف بها مع قيام مقتضيها ، ومقتضاه مبغوضيّة إيجاد العجز اختيارا.

كما يدلّ على ذلك ـ مضافا إلى استفادته من الأدلّة ـ إجماعهم ظاهرا ـ عدا ما عن المصنّف في المعتبر (١) ـ كما عن غير واحد دعواه على حرمة تفويت التكليف بها بعد تنجّز الخطاب بإراقة الماء ونحوها ، ولا يتّجه ذلك إلّا على تقدير كون العجز مانعا من تنجّز التكليف مع بقاء مقتضية ، لا موجبا لتبدّل الموضوع بأن يكون كلّ من العاجز والقادر بنفسه موضوعا مستقلّا لحكم شرعي ، نظير المسافر والحاضر ، كما عرفت الكلام فيه مفصّلا ، فيستكشف من ذلك أنّ للطهارة المائيّة من حيث هي لدى الإتيان بشي‌ء من غاياتها الواجبة مطلوبيّة وراء مطلوبيّتها مقدّمة للواجبات المشروطة بالطهور من حيث كونها مشروطة بالطهور ، فإنّ معروض هذه المطلوبيّة المقدّميّة مطلق ما يتوقّف عليه وجود تلك الواجبات من دون فرق بين أسباب الطهور ، وكون الطهارة كاملة أو ناقصة ، أصليّة أو بدليّة ، فإنّ إيجاب شي‌ء لا يقتضي من حيث المقدّميّة إلّا إيجاب ما يتعذّر ذلك الشي‌ء بدونه ، والمفروض صحّة تلك الغايات مع التيمّم لدى العجز ، فلا اقتضاء لمطلوبيّة ما

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٨٩ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٦٦.

١٠٩

عداه حينئذ من هذه الجهة ، فوجب أن تكون للطهارة المائيّة مطلوبيّة أخرى غير هذه المطلوبيّة المخصوصة بحال القدرة ، وهي إمّا لمزيّة وشرافة في نفس الطهارة المائيّة مقتضية لإيجاب اختيارها مقدّمة مع الإمكان ، كما لو كان للرواح إلى السوق المأمور به مثلا طريقان يشتمل أحدهما على مزيّة مقتضية لتعيّن اختياره مع الإمكان ، أو لمزيّة في الغايات المأتيّ بها مع الطهارة المائيّة زائدة عمّا تقتضيه تلك الغايات في تقوّم ماهيّاتها ، كالصلاة جماعة أو في المسجد ونحوه لو فرض كون الخصوصيّة الموجبة لأفضليّة الفرد بالغة حدّا يقتضي لزوم مراعاتها مهما أمكن.

لكن يضعّف الاحتمال الأخير بل يدفعه : جواز الإتيان بسائر الغايات مطلقا حتّى الصلوات الأدائيّة في كثير من الفروض لا لضرورة عند صحّة التيمّم وبقاء أثره ، فيستكشف من ذلك أنّه ليس للغايات المأتيّ بها مع الطهارة المائيّة مزيّة لازمة المراعاة لدى الشارع ، فينحصر الوجه في التفصّي عن الإشكال بالأوّل ، أعني كون الطهارة المائيّة في حدّ ذاتها مشتملة على مزيّة مقتضية لوجوب رعايتها مهما أمكن عند إرادة الخروج من عهدة الغايات المشروطة بالطهور وإن لم يتوقّف وجودها عليها بالخصوص.

وإن أبيت عن ذلك ، فالمتعيّن إمّا الالتزام بعدم صحّة الصلاة ونحوها في مثل الفرض ، وهو وإن أمكن توجيهه كما عرفت آنفا لكنّه في غاية الإشكال ، بل لا يمكن الالتزام به في شي‌ء من موارده ، بل لعلّه في بعضها مخالف للضرورة ، وإمّا الالتزام بعدم حرمة تحصيل العجز كما عن المصنّف في المعتبر (١) اختياره حيث

__________________

(١) لم نعثر على الحاكي عنه فيما بين أيدينا من المصادر ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٦٦.

١١٠

قال ـ فيما حكي عنه ملخّصا ـ : إنّه مخاطب في تمام الوقت بصلاة واحدة مخيّرا في أيّ جزء منه بلا ترتيب ، ففي أيّ جزء يلاحظ حالته ويعمل بموجب حالته من كونه مسافرا ـ مثلا ـ فيقصّر ، أو حاضرا فيتمّ ، ومن الحالات إذا كان واجدا للماء فبالطهارة المائيّة ، أو غير واجد له فبالترابيّة ، ولا يجب في جزء من الزمان المتقدّم حفظ حالته للزمان المتأخّر. انتهى.

واستغرب الحاكي صدور هذا الكلام من مثل المحقّق ، وقد عرفت أنّه ليس بهذا المكان من الغرابة وإن كان مخالفا لما هو المغروس في الأذهان ، المستظهر من الأدلّة خصوصا بعد ما عرفت من الإشكال الذي ينحصر حلّه بالالتزام بالوجوب النفسي التقديري للطهارة المائيّة.

وكيف كان فقد ظهر لك بما ذكرنا أنّه لا ملازمة بين وجوب الطلب والفحص عن الماء عند احتمال وجوده ، وبين وجوب حفظ الماء الموجود وحرمة إتلافه ؛ لإمكان كون كلّ من القادر والعاجز موضوعا مستقلّا في عرض الآخر ، كالمسافر والحاضر ، فلا يحرم عليه تحصيل العجز ، لكن يجب عليه عند الشكّ في كونه قادرا أو عاجزا الاختبار والفحص لإحراز ما يقتضيه تكليفه ، فالاستدلال على وجوب الحفظ بفحوى وجوب الطلب ونحوها غير وجيه ، والعمدة فيه ما عرفت ، والله العالم.

وإن كان تفويت التكليف بجعل المكلّف نفسه عاجزا عن الامتثال قبل حضور زمان الفعل ـ كما لو صيّر المكلّف قبل الوقت نفسه عاجزا من أن يصلّي في الوقت ، أو يأتي ببعض أجزائها أو شرائطها التي لا يعذر فيها العاجز إلّا لعجزه عن الامتثال ـ فالحقّ أنّه كتفويته بعد حضور وقت الفعل ، فيحرم مطلقا ، كما عرفت

١١١

تحقيقه في صدر الكتاب عند البحث عن وجوب الغسل لصوم اليوم في الليل.

لكن لا يخفى عليك اختصاص موضوع الحكم بما إذا كان التكليف ـ الذي فرّط فيه ، نفسيّا كان أو مقدّميّا ـ عامّا من حيث المقتضي ، وكان العجز مانعا من تنجّزه ، وأمّا لو لم يكن كذلك ـ بأن كان التكليف من حيث الذات مخصوصا بالقادر بحيث تكون قدرته من أجزاء المقتضي ـ فقد عرفت في صدر المبحث تصريحا وعند التكلّم عن حرمة إراقة الماء بعد تنجّز التكليف تلويحا أنّه يجوز قطعا ، بل لا يعدّ ذلك في الحقيقة من قبيل تفويت التكليف.

وكيف كان فلا فرق في قبح الفرار من عهدة امتثال التكاليف بإحداث العجز بالإخلال بشي‌ء من مقدّماته الوجوديّة بين كونه قبل حضور زمان الفعل أو بعده ، لكن يشترط في ذلك أمران.

أحدهما : العلم بتنجّز الخطاب ، أي إحراز المكلّف اندراجه في زمرة المكلّفين بذلك التكليف بالعلم باجتماع جميع شرائطه الوجوبيّة التي من جملتها المقدّمات الوجوديّة الخارجة من اختيار المكلّف ، كاجتماع الرفقة للحجّ ومسير القافلة ونحوهما ، فلا يتنجّز التكليف إلّا بعد إحراز جميع هذه المقدّمات بمعنى علمه بتحقّق هذه الأمور لدى الحاجة إليها ، وعدم معذوريّته من قبلها.

لكن أشرنا غير مرّة إلى أنّ الشرائط التي لا يتنجّز التكليف إلّا بإحرازها إنّما هو ما عدا عدم العجز عن الامتثال ونحوه من الأعذار العقليّة التي منها بقاؤه بشرائط التكليف إلى أن يتحقّق الامتثال ، فإنّه يكفي فيها مجرّد الاحتمال ، كما عرفته في محلّه.

الأمر الثاني : إحراز فوت الواجب بالإخلال بالمقدّمة التي فرّط فيها بأن

١١٢

علم بمقتضى العرف والعادة أنّها مقدّمة منحصرة يتعذّر التوصّل إلى الواجب بدونها ، فإذا احتمل تمكّنه من الحجّ بمسير قافلة أخرى غير ما يتخلّف عنها ، جاز له التخلّف ، وكذا لو احتمل تمكّنه من الصلاة مع الطهارة المائيّة ، لم يجب عليه حفظ ما عنده من الماء ، بل يجوز له إتلافه حتّى بعد الوقت فضلا عمّا قبله ، فإنّ وجوب ذي المقدّمة لا يقتضي إلّا وجوب ما يتوقّف عليه ويتعذّر بدونه ، فمتى لم يعلم بتوقّف الخروج من عهدة الصلاة مع الطهارة المائيّة على حفظ هذا الماء الموجود أو توقّف الحجّ على الخروج مع هذه القافلة المعيّنة ، لم يجب عليه ذلك.

وكونه أحد أفراد المقدّمة لا يقتضي وجوبه بالخصوص إلّا في فرض الانحصار وعدم إمكان التوصّل إلى الواجب بدونه ، والعلم بكونه كذلك شرط في تنجّز التكليف به بخصوصه ، وإلّا فالمرجع فيه البراءة.

هذا ، مع أنّ حفظ الماء في المثال الأوّل على تقدير مصادفة ماء آخر ليس من أفراد المقدّمة أيضا ، بل هو مقدّمة لخصوص الطهارة الواقعة معه التي لا مدخليّة لخصوصيّتها في المقدّميّة للواجب.

وما يقال من أنّ مقتضى اشتغال الذمّة بالصلاة مع الطهارة المائيّة وجوب حفظ الماء في الفرض من باب الاحتياط ، ففيه : أنّ الاحتياط إنّما يجب عند الشكّ في المكلّف به لا في التكليف ، والتكليف المحرز في المقام ليس إلّا وجوب الصلاة وما يتوقّف عليه فعلها ، وكون حفظ هذا الماء بالخصوص ممّا يتوقّف عليه فعل الصلاة غير معلوم ، فالأصل براءة الذمّة عنه.

وكيف كان فكما يحرم إتلاف الماء عند العلم بتوقّف الصلاة مع الطهارة

١١٣

المائيّة على حفظه ، كذلك يحرم نقض الطهارة المائيّة لا لضرورة عند العلم بعدم تمكّنه منها عند إرادة الصلاة ؛ إذ المدار على تفويت التكليف ، وهو حاصل في الفرض ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين كونه مسبّبا عن إراقة الماء أو نقض الطهارة السابقة ، كما هو واضح.

نعم ، لو كان نفس الوضوء أو الغسل واجبا نفسيّا على المحدث ، وكان التيمّم بدلا اضطراريّا منه ، لاتّجه الفرق بين إتلاف الماء ونقض الطهارة ، فيحرم الأوّل دون الثاني ؛ لكون نقض الطهارة حينئذ موجبا لحدوث التكليف لا لتفويته ، فهو من المقدّمات الوجوبيّة للواجب المشروط ، ولا يؤثّر إلّا بمقدار قابليّة المحلّ ، وهذا بخلاف إراقة الماء ؛ فإنّ تركها من المقدّمات الوجوديّة للواجب ، فلا يجوز الإخلال به ، والله العالم.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من حرمة تفويت التكليف بالإخلال بشي‌ء من مقدّماته الوجوديّة بعد إحرازه وعدم الحرمة عند الشكّ فيه أو في توقّفه على خصوص هذه المقدّمة التي أخلّ بها إنّما هو بمقتضى القاعدة الأوّليّة التي يحكم بها العقل ، وإلّا فربما يستفاد من أدلّة نفي الحرج وغيرها ـ مثل أخبار التقيّة ونحوها ـ جواز إيجاد سبب الاضطرار اختيارا في كثير من الموارد ، كما أنّه لا يبعد دعوى أنّه يستفاد من بعض الأدلّة الخاصّة عدم جواز الإقدام على ما يخاف معه من الاختلال بشي‌ء من معالم دينه من الصلاة ونحوها ، كما لا يخفى.

وقد ظهر لك فيما تقدّم حكم ما لو ترك المكلّف الفحص في طلب الماء وصلّى مع التيمّم في سعة الوقت وضيقه مع مصادفة فعله وجود الماء في محلّ الطلب وعدمه وضعا وتكليفا.

١١٤

وأمّا لو تفحّص وبذل جهده بقدر ما يقتضيه تكليفه في طلب الماء ولم يجده فتيمّم وصلّى ثمّ انكشف في الوقت أو في خارجه وجوده ، صحّ تيمّمه وصلاته على الأظهر ؛ لتحقّق العجز وعدم الوجدان الذي أنيط به شرعيّة التيمّم في ظواهر الكتاب والسنّة.

وتوهّم اعتبار استمرار العجز في تمام الوقت في صحّة التيمّم تحقيقا لمفهوم الاضطرار الذي هو المناط في الحقيقة لشرعيّة التيمّم ، لا مجرّد صدق عدم الوجدان ، فانكشاف وجود الماء في الوقت كاشف عن عدم تحقّق الضرورة المسوّغة للتيمّم وإن كان حال العمل آتيا بما يقتضيه تكليفه في مرحلة الظاهر مراعيا صحّته بعدم انكشاف الخلاف ، مدفوع : بمخالفته لظواهر الأدلّة الدالّة على جواز التيمّم والصلاة بعد الفحص وعدم الوجدان حيث لا يتبادر منها إلّا اعتبار الضرورة حال الفعل ، لا عدم قدرته في الواقع من الطهارة المائيّة في مجموع الوقت.

مضافا إلى استفادته من النصوص المستفيضة الآتية في محلّها ، الدالّة على عدم إعادة الصلاة لو تجدّدت القدرة بعدها بوجود الماء في الوقت.

وبما أشرنا إليه ـ من أنّ مناط الصحّة هو العجز عن استعمال الماء ـ قد يقوى في النظر صحّة صلاة واجد الماء الذي نسيه واعتقد عدم تمكّنه من استعمال الماء فتيمّم وصلّى. وكذلك من عنده الماء ولم يعلم بوجوده واعتقد عجزه فصلّى مع التيمّم ، فإنّ اعتقاد العجز يؤثّر في عدم تمكّنه واقعا من استعمال الماء ؛ ضرورة عدم قدرته على الطهارة المائيّة ، ومعذوريّته عنها ما دام معتقدا عدم الماء وتاركا للفحص بواسطته.

١١٥

ولكنّ الأقوى في الصورتين البطلان ، ووجوب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه عند انكشاف مخالفة اعتقاده للواقع ، فإنّ العجز ـ الذي يتبادر إلى الذهن من الأدلّة الشرعيّة اعتباره في شرعيّة التيمّم ـ إنّما هو ما عدا هذا النحو من العجز المسبّب عن اعتقاد العجز وإن كان الآتي به معذورا عقلا في مخالفته لما هو تكليفه في الواقع من ترك الصلاة مع الطهارة المائيّة ، لكن عليه أن يخرج من عهدتها بعد انكشاف الواقع بالإعادة في الوقت والقضاء في خارجه.

ودعوى أنّ الأمر العقلي الذي يبعثه على فعل الصلاة مع التيمّم يقتضي الإجزاء عن الواقع ممّا لا ينبغي الإصغاء إليها.

ويدلّ عليه في الجملة ـ مضافا إلى ما عرفت ـ خبر أبي بصير ، قال : سألته عن رجل كان في سفر ومعه ماء فنسيه وتيمّم وصلّى ثمّ ذكر أنّ معه ماء قبل أن يخرج الوقت ، قال : «عليه أن يتوضّأ ويعيد الصلاة» (١).

(ولا فرق) في سقوط التكليف بالطهارة المائيّة ووجوب التيمّم (بين عدم الماء أصلا ووجود ماء لا يكفيه لطهارته) وضوءا وغسلا ، فإنّ الطهارة الحدثيّة لا تتبعّض ولا تلفّق من الماء والتراب بلا خلاف في شي‌ء منهما على الظاهر ، كما يدلّ عليه ظاهر الكتاب ، فإنّ المتبادر من قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) (٢) ليس إلّا إرادة الماء للوضوء والغسل بقدر أن يتوضّأ أو يغتسل بالكيفيّة المذكورة في صدر الآية.

وحكي عن بعض العامّة أنّه قال : الجنب إذا وجد ماء لا يكفيه لطهارته ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٥ / ١٠ ، التهذيب ١ : ٢١٢ / ٦١٦ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ٥.

(٢) النساء : ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

١١٦

استعمل الماء وتيمّم (١).

وفي محكيّ المنتهى عن بعض الشافعيّة ذلك في الحدث الأصغر أيضا ؛ لأنّه واجد للماء ما لم يستعمله ، فلا يسوغ له التيمّم (٢).

وفيه ما لا يخفى.

وما حكي عن العلّامة في النهاية ـ من أنّه قطع بأنّ المحدث لو وجد من الماء ما لا يكفيه لطهارته ، لم يجب عليه استعماله ، بل يتيمّم ، واحتمل في الجنب مساواته للمحدث ، ووجوب صرف الماء إلى بعض أعضائه ؛ لجواز وجود ما يكمل به الطهارة ، قال : والموالاة ساقطة هنا ، بخلاف المحدث (٣) ـ ليس خلافا فيما نحن فيه ، أعني عدم تبعّض الطهارة ، بل هو للتنبيه على الفرق بين الوضوء والغسل بإمكان القول بوجوب صرفه في الغسل رعاية للاحتياط عند احتمال تجدّد القدرة من الإكمال ، وهذا بخلاف الوضوء ؛ لتعذّر الاحتياط فيه بذلك ؛ لاشتراطه بالموالاة.

ويتوجّه عليه : أنّ اشتراط الموالاة في الوضوء دون الغسل لا يصلح فارقا بينهما من هذه الجهة ، فإنّه كما يتأتّى الاحتياط بصرف البعض في الغسل برجاء تكميله بتجدّد القدرة ، كذلك يتأتّى بحفظ الماء الموجود ليضمّه إلى ما يرجو

__________________

(١) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ١٨٧ ، وانظر : حلية العلماء ١ : ٢٥٢ و ٢٥٣ ، والمجموع ٢ : ٢٦٨ ، والمغني ١ : ٢٧٠ و ٢٧١ ، والشرح الكبير ١ : ٢٨٠ و ٢٨١.

(٢) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ١٨٧ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ١٣٤ ، وكذا المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤١ ـ ٤٢ ، والمجموع ٢ : ٢٦٨ ، وحلية العلماء ١ : ٢٥٣ ، والعزيز شرح الوجيز ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ ، والمغني ١ : ٢٧١ ، والشرح الكبير ١ : ٢٨١.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، وانظر : نهاية الإحكام ١ : ١٨٦.

١١٧

حصوله ، فلا يتعيّن عليه صرفه في البعض ، بل له إبقاؤه إلى أن تتجدّد القدرة أو يتحقّق اليأس ، بل هذا هو الأحوط للجزم بالنيّة ، ومثله يتأتّى في الوضوء ، فإن وجب الاحتياط في الفرض ، فقد وجب في الطهارتين ، وإلّا لم يجب في شي‌ء منهما.

وكيف كان فهذا المطلب أجنبيّ عمّا نحن بصدده من عدم وجوب صرف الماء في بعض الطهارة من حيث هو.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى الإجماع وظاهر الآية ـ المعتبرة المستفيضة الآمرة بالتيمّم بدلا من الغسل مع وجود ماء لا يكفي للغسل.

منها : ما رواه محمّد بن مسلم ـ في الصحيح ـ عن أحدهما عليهما‌السلام في رجل أجنب في سفر ومعه ماء قدر ما يتوضّأ به ، قال : «يتيمّم ولا يتوضّأ» (١).

ومنها : ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل يجنب ومعه قدر ما يكفيه من الماء لوضوء الصلاة ، أيتوضّأ أو يتيمّم؟ قال : «لا ، بل يتيمّم ، ألا ترى أنّه جعل عليه نصف الوضوء» (٢).

ومنها : ما عن الحسين بن أبي العلاء ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب ومعه من الماء بقدر ما يكفيه لوضوئه للصلاة ، أيتوضّأ بالماء أو يتيمّم؟ قال : «يتيمّم ، ألا ترى أنّه جعل عليه نصف الطهور» (٣).

ولعلّ المراد بقوله عليه‌السلام : «ألا ترى» إلى آخره ، بيان ابتناء الأمر في شرع التيمّم

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٥ / ١٢٧٢ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب التيمّم ، ح ٤.

(٢) الفقيه ١ : ٥٧ ـ ٥٨ / ٢١٣ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب التيمّم ، ح ١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٦ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

١١٨

على التسهيل دون التضييق.

ويحتمل أن يكون المراد رفع الاستبعاد عن شرع التيمّم عند التمكّن من الوضوء الذي هو أبلغ في التطهير ببيان عدم إناطة ذلك بما تناله العقول بالمقايسة والاستحسانات ، كما يكشف عن ذلك كون التيمّم مسحتين ، وهما نصف الوضوء ، حيث إنّ مقتضى المناسبة التي تراها العقول الناقصة مساواته للوضوء عند كونه بدلا منه في الإحاطة بمواضعه ، وكذا في الغسل.

وكيف كان فيفهم من هذه الروايات ـ ولو من حيث السكوت في مقام البيان ـ عدم وجوب صرف الماء في بعض مواضع الغسل ، وأنّ الواجب هو التيمّم لا غير ، فلم يبق بعد ما سمعت من النصّ والإجماع مجال للتشكيك في أنّ الطهارة لا تتبعّض ، فلا تجري فيها من هذه الجهة قاعدة الميسور و «ما لا يدرك» فإنّ عموم القاعدتين لا يصلح معارضا للأدلّة المخصّصة.

ومن هنا يتّجه عدم اختصاص الحكم المذكور ـ أعني وجوب التيمّم ، وعدم وجوب غسل بعض أعضاء الوضوء أو الغسل ـ بما إذا لم يكن الماء كافيا ، بل يعمّ سائر المواضع التي لم يتمكّن إلّا من الإتيان ببعض الوضوء أو الغسل من غير فرق بين كونه مسبّبا عن نقصان الماء أو وجود مانع من غسل بعض الأعضاء من مرض أو نجاسة تتعذّر إزالتها أو جرح مكشوف ونحوها ممّا لا يلحقه حكم الجبيرة ، فإنّ المتّجه في جميع هذه الموارد هو التيمّم ، وقد تقدّم شطر من الكلام فيه في مبحث الجبيرة في باب الوضوء ، فراجع.

فرع : لو تمكّن من مزج الماء ـ الذي لا يكفيه لطهارته ـ بما لا يسلبه إطلاق

١١٩

الاسم ، وتحصل به الكفاية ، هل يجب عليه ذلك كما جزم به بعض (١) ، أم لا يجب؟ وجهان : من تمكّنه من الطهارة المائيّة ، فيجب تحصيلها مع الإمكان ، ومن عدم اعتناء العرف والعقلاء بهذا النحو من القدرة الحاصلة بالمعالجات الغير المتعارفة ، فإنّهم لا يرتابون في أنّ تكليف من لم يجد الماء بقدر الكفاية بالطهارة المائيّة تكليف بما لا يطاق ، نظير ما لو أمر من لم يجد منّا من الحنطة ـ مثلا ـ بأن يتصدّق بالمنّ من الحنطة على الفقير ، فإنّه قبيح عند العقلاء من دون فرق بين أن لم يجد شيئا منه ، أو وجد أقلّ من المنّ بمقدار لو مزجه بشي‌ء من التراب ونحوه مزجا لا يسلبه إطلاق الاسم لصار منّا.

وسرّه أنّ إطلاق اسم الحنطة ـ مثلا ـ على الحنطة الممتزجة بشي‌ء من التراب بعد استهلاكه إنّما هو لعدم اعتنائهم بالمستهلك ، وعدم ملحوظيّة الخليط في حدّ ذاته محكوما بحكم ، وهذا يناقض حكمهم بوجوب إيجاده مقدّمة لامتثال الأمر بتلك الطبيعة المغايرة له ، فإنّه موقوف على تصوّره وملاحظة كونه جسما خارجيّا مؤثّرا في زيادة المقدار ، وبهذه الملاحظة يمتنع وقوعه امتثالا للأمر المتعلّق بتلك الطبيعة الصرفة ، فإنّ استقلاله بالملاحظة مانع من عدّه جزءا للماهيّة المغايرة له محكوما بحكمها ، ولذا لا يرى أحد جواز مزج التراب ونحوه في الحنطة التي تعطى للفقير في زكاة الفطرة وغيرها ، أو تسلّم إلى المشتري في بيع السّلم ، وهذا بخلاف ما لو كانت ممزوجة من أصلها.

والحاصل : أنّ المرجع في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعيّة ـ التي

__________________

(١) كالعلّامة الحلّي في تحرير الأحكام ١ : ٥ ـ ٦ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥ ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٢٧.

١٢٠