مصباح الفقيه - ج ٦

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٦

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

رعاية لاحترام الميّت فضلا عن جواز صرفه فيه ، ثمّ التيمّم بعد صيرورته فاقدا للماء ، فإنّ الله تعالى منّ على عباده بأن وسّع عليهم الأمر ، فجعل لهم التراب طهورا ، كما جعل الماء طهورا لأن لا يقعوا في الضيق وكلفة حفظ الماء بتحمّل المشاقّ ومنافيات الأغراض ، فأباح لهم أن يتعمّدوا بالجنابة مع علمهم بعدم إصابة الماء ، كما عرفت عدم الخلاف فيه وشهادة النصّ عليه ، مع أنّ المتأمّل في الأدلّة لا يكاد يرى له خصوصيّة ، وإنّما المناط في جوازه ابتناء أمر التيمّم على التوسعة لا التضييق.

وملخّص الكلام : أنّ الصلاة الواجبة لا تتوقّف إلّا على مطلق الطهور الذي يحصل بالتراب على تقدير فقد الماء ، وإنّما أوجبنا حفظ الماء والتزمنا بحرمة إراقته في الجملة لبعض الأدلّة اللّبّيّة القاصرة عن شمول مثل الفرض ، فليتأمّل.

ويدلّ على المدّعى ـ مضافا إلى ما عرفت ـ صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران : سأل أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب ، والثاني ميّت ، والثالث على غير وضوء وحضرت الصلاة ومعهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم ، من يأخذ الماء؟ وكيف يصنعون؟ قال : «يغتسل الجنب ، ويدفن الميّت بتيمّم ، وتيمّم الذي هو على غير وضوء ، لأنّ غسل الجنابة فريضة ، وغسل الميّت سنّة ، والتيمّم للآخر جائز» (١) فإنّ مقتضى ما زعموه ـ من إطلاق وجوب الطهارة المائيّة مقدّمة للصلاة التي حضر وقتها ، المقتضي لحرمة البذل على تقدير الكفاية ، ووجوب المبادرة والتملّك في المباح ـ طرح الصحيحة مع صحّتها وعمل الأصحاب بها ؛ لأنّ الماء الموجود معهم إن كان ملكا لأحدهم ،

__________________

(١) الفقيه ١ : ٥٩ ـ ٦٠ / ٢٢٢ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب التيمّم ، ح ١.

٣٦١

لم يجز له بذله للغير على الفرض.

(وإن كان ملكا لهم جميعا) وجب على كلّ من المحدث والجنب السعي في تملّك حصّة صاحبيه ببيع ونحوه ولو بالعزم على عدم تمليك الآخر وإظهاره له حتّى يئس منه ، فيعطيه سهمه ، أو يشتري المحدث سهم الميّت ، فيضمّه إلى سهمه ، ويتوضّأ بهما ، أو يصير إلى آخر الوقت بحيث لم يتمكّن الجنب من الاغتسال وإدراك الصلاة في وقتها فيعطيه سهمه ، إلى غير ذلك من أنحاء المعالجات التي يتمكّن معها المحدث من الوضوء ، بل قلّما يتّفق قصور سهم المحدث من الماء ـ الذي يكفي لغسل الميّت والجنب ـ عن أن يتوضّأ به ولو بمثل الدهن ، ففرض مشاركة المحدث معهم في الماء وعدم قدرته من الوضوء من سهمه ، أو مع ما يتمكّن من تحصيله من سهم الميّت وغيره فرض لا يكاد يتحقّق موضوعه حتّى تحمل الصحيحة عليه.

وكذا لو كان الماء لثالث (أو) كان مباحا (لا مالك له ، أو) كان (مع مالك يسمح ببذله) مجّانا من غير منّة ، فإنّه يجب في جميع هذه الفروض أيضا ـ بمقتضى الفرض ـ على كلّ منهما السعي في تحصيله بشراء ونحوه ، فإن تملّكه أحدهما ، وجب عليه استعماله ، وإن تملّكاه دفعة ، اندرج في الفرض السابق الذي عرفت أنّه لا يصحّ حمل الصحيحة عليه.

هذا ، مع أنّ مثل هذه الفروض خارج من منصرف السؤال فضلا عن أن يحمل إطلاق الجواب مع ترك الاستفصال عليه ، فإنّ المتبادر من قول السائل : «ومعهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم» إمّا كون الماء لهم جميعا ، أو كونه لبعضهم ، ولكنّ الماء لابتذاله وعدم كون المقصود بتملّكه إلّا قضاء حوائجهم لم يضف إلى

٣٦٢

خصوص مالكه ، أو كونه مدّخرا لقضاء حوائجهم من غير أن يقصدوا به التملّك ، فإن قلنا بصيرورته في مثل الفرض ملكا للجميع أو لخصوص من حازه ، فقد عرفت حكمه ، وإن قلنا ببقائه على الإباحة الأصليّة ، فيتبع إناءه ، بمعنى أنّ لمالكه منع الغير من التصرّف فيه.

وكيف كان فلا يكاد يتحقّق فرض لم يتمكّن فيه المحدث من أن يتوضّأ بعد فرض كونه صاحب حقّ وبنائه على المداقّة في استيفاء حقّه.

فالأظهر عدم وجوب المداقّة وجواز البذل ، فالأولى رعاية ما يقتضيه حسن المعاشرة من تقديم ما هو الأحوج ، وعدم ملاحظة حقّ الاختصاص والملكيّة بالنسبة إلى الماء الذي بناء أمره على التوسعة فيما بين الأصدقاء في الأسفار وغيرها (فالأفضل تخصيص الجنب به) كما يدلّ عليه الصحيحة المتقدّمة (١).

ولو اجتمع جماعة محدثون بالأصغر وجنب ومعهم من الماء ما يكفي إمّا لغسل الجنب أو لوضوء من عداه ، لا يبعد أولويّة رعاية حقّ الجماعة ، كما يشهد له خبر أبي بصير ، قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن قوم كانوا في سفر فأصاب بعضهم جنابة وليس معهم من الماء إلّا ما يكفي الجنب لغسله يتوضّؤون هم هو أفضل أو يعطون الجنب فيغتسل وهم لا يتوضّؤون؟ فقال : «يتوضّؤون هم ويتيمّم الجنب» (٢).

ويدلّ على أولويّة تقديم غسل الجنب على الميّت ـ مضافا إلى الصحيحة

__________________

(١) أي : صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران ، المتقدّمة في ص ٣٦١.

(٢) التهذيب ١ : ١٩٠ / ٥٤٨ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

٣٦٣

المتقدّمة (١) ـ خبر الحسين (٢) بن النضر الأرمني ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن القوم يكونون في السفر فيموت منهم ميّت ومعهم جنب ومعهم ماء قليل قدر ما يكفي أحدهما أيّهما يبدأ به؟ قال : «يغتسل الجنب ، ويدفن (٣) الميّت ، لأنّ هذا فريضة ، وهذا سنّة» (٤).

وخبر الحسن التفليسي ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن ميّت وجنب اجتمعا ومعهما ماء يكفي أحدهما ، أيّهما يغتسل؟ قال : «إذا اجتمعت سنّة وفريضة بدأ بالفرض» (٥).

(وقيل : بل يختصّ به الميّت) لكن في المدارك (٦) وغيره (٧) : لم نعرف قائله.

ويشهد له ما رواه محمّد بن علي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : الميّت والجنب يتّفقان في مكان لا يكون فيه الماء إلّا بقدر ما يكتفي به أحدهما أيّهما أولى أن يجعل الماء له؟ قال : «يتيمّم الجنب ، ويغسّل الميّت بالماء» (٨).

__________________

(١) في ص ٣٦١.

(٢) في الاستبصار : «الحسن».

(٣) في المصدر : «ويترك» بدل «ويدفن».

(٤) التهذيب ١ : ١١٠ / ٢٨٧ ، الإستبصار ١ : ١٠٢ / ٣٣١ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب التيمّم ، ح ٤.

(٥) التهذيب ١ : ١٠٩ / ٢٨٦ ، الإستبصار ١ : ١٠١ / ٣٣٠ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٦) مدارك الأحكام ٢ : ٢٥١.

(٧) جواهر الكلام ٥ : ٢٥٦.

(٨) التهذيب ١ : ١١٠ / ٢٨٨ ، الإستبصار ١ : ٢٠٢ / ٣٣٢ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب التيمّم ، ح ٥.

٣٦٤

وربّما علّل ذلك أيضا بكون غسله خاتمة طهارته ، فهو أولى بالمراعاة.

وفيه : أنّه مجرّد اعتبار لا يصلح دليلا في مقابل ما عرفت ، لكنّه ينهض مؤيّدا للمرسلة الدالّة عليه ، إلّا أنّها مع ذلك قاصرة عن معارضة ما عرفت.

وحكي عن الشيخ القول بالتخيير ؛ لتعارض الأخبار ، وعدم الترجيح (١).

وفي الأخير منع ، لكن لمّا لم يجب التقديم وكان الحكم مبنيّا على الأولويّة والاستحباب جاز العمل بهذه الرواية أيضا برجاء الإصابة ، أمّا وجه عدم الوجوب : فواضح ، مضافا إلى عدم الخلاف فيه على ما يظهر من بعض (٢) ، ضرورة أنّه لا يجب على أحد رفع اليد عن حقّه في الماء المختصّ به أو المشترك بينه وبين الجنب ، ولا يحرم عليه المبادرة إلى الماء الذي يجدونه في الطريق وتملّكه ، سواء وجب عليه الوضوء أم لا.

وإطلاق هذه الأخبار لا ينافي اشتراط طيب نفوس الجميع بصرف البعض للماء ؛ لتحقّق الطيب في مفروض السائل ، وكون المقصود بالسؤال تشخيص الأهمّ.

هذا ، مع عدم كون الإطلاق مسوقا لبيان الحكم من هذه الجهة ، مضافا إلى عدم إمكان التصرّف في مثل هذه القواعد بالظواهر المنافية لها ، فلا محيص عن الالتزام بكون التخصيص مبنيّا على رعاية الأولويّة والفضل ، والله العالم.

ثمّ إنّا وإن جوّزنا للمحدّث بذل مائه المختصّ به إذا تعلّق به غرض صحيح

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٠٥ ، وانظر : الخلاف ١ : ١٦٦ ـ ١٦٧ ، المسألة ١١٨.

(٢) راجع : جواهر الكلام ٥ : ٢٥٧ ، والمعتبر ١ : ٤٠٦.

٣٦٥

أخرجه من عنوان كونه بمنزلة الإراقة ونحوها لكنّ الأحوط تركه ، بل لا يبعد دعوى انصراف أخبار الباب عن فرض الاختصاص.

ولعلّه لذا خصّ المصنّف رحمه‌الله الحكم بأفضليّة التخصيص بغير هذا الفرض ، وأطلقه بالنسبة إلى ما عداه من الصور من غير أن يقيّده بعدم تمكّن المحدث من الوضوء بالمبادرة إلى المباح أو وفاء سهمه في صورة الاشتراك ، كما هو الغالب.

وأحوط منه عدم التخطّي عمّا ذكروه من ملاحظة كلّ منهما ما يقتضيه تكليفه بملاحظة نفسه من تحصيل الطهارة المائيّة مع القدرة عليها بالمبادرة إلى حيازة المباح والمداقّة في استيفاء حقّه عند وفائه بما يحتاج إليه ، بل تملّك سهم الميّت وغيره لدى القدرة عليه وإن كان مقتضاه حمل الصحيحة على ما لا يكاد يتحقّق له مورد ، كما أشرنا إليه آنفا ، لكن لا بأس به بعد موافقته للاحتياط ، وابتناء السؤال في الرواية على مجرّد الفرض والجواب على الأولويّة والاستحباب ، والله العالم.

تنبيه : لو أمكن الجمع بأن يتوضّأ المحدث ـ مثلا ـ ويجمع ماء الوضوء في إناء ، ثمّ يغتسل الجنب الخالي بدنه من النجاسة ويجمع ماؤه في الإناء ويغسّل به الميّت ، فقد صرّح غير واحد من الأصحاب بوجوبه. ولا ريب في أنّه أحوط وأوفق بالقواعد.

ولو منعنا من استعمال المستعمل في الحدث الأكبر ، يجمع بين الوضوء وغسل الجنب أو الميّت ، فإنّ المستعمل في الوضوء يجوز استعماله ثانيا بلا خلاف فيه على الظاهر ، إلّا من بعض أهل الخلاف (١).

__________________

(١) المبسوط ـ للسرخسي ـ ١ : ٤٦ ، بدائع الصنائع ١ : ٦٦ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٩ ، حلية العلماء ١ : ٩٧ ، بداية المجتهد ١ : ٢٧ ، المحلّى ١ : ١٨٥ ، ١٨٦ ، المجموع ١ : ١٥١ و ١٥٣ ، المغني ١ : ٤٧ ، الشرح الكبير ١ : ٤٣ ، الجامع لأحكام القرآن ١٣ : ٤٨.

٣٦٦

وفي محكيّ الذكرى ـ بعد الإشارة إلى خبر عبد الرحمن بن أبي نجران ـ قال : وفيه إشارة إلى عدم طهوريّة المستعمل ، وإلّا لأمر بجمعه (١). انتهى.

أقول : ولو قيل بأنّ فيه إشارة إلى عدم كون الأمر في التيمّم بهذه المكانة من الضيق والعجز عن تحصيل الماء بالمعالجات الغير المتعارفة ، لكان سليما من جملة من الاعتراضات التي يمكن أن يورد عليه من جري الرواية مجرى الغالب من عدم خلوّ بدن الجنب عن النجاسة غالبا ، وعدم تيسّر الجمع في مثل الفرض بقدر أن يكفي غيره ، وعدم صلاحيّة ما ذكر وجها لعدم الجمع بين الوضوء والغسل بتقديم الوضوء على الغسل ، وإن أمكن التفصّي أمّا عن الأخير : فلابتنائه على الاهتمام في أمر الغسل برعاية الاحتياط فيه خوفا من أن ينقص ماؤه ، وأمّا ما عداه من الدعاوي المتقدّمة فأمّا غير مجدية أو غير مسموعة ، فإنّ الغالب سهولة الأخذ ممّا ينفصل من غسالته بعد تطهير بدنه بقدر أن يتحقّق أقلّ ما يجتزأ به في الوضوء بمثل الدهن.

وكيف كان فطريق الاحتياط في جميع الفروض غير خفيّ ، والله العالم.

(السابع : الجنب إذا تيمّم بدلا من الغسل ثمّ أحدث ، أعاد التيمّم بدلا من الغسل ، سواء كان حدثه أصغر أو أكبر) فلو أحدث بالأصغر ووجد ماء بقدر أن يتوضّأ ، لم يعتدّ به ، بل يتيمّم بدلا ممّا وجب عليه من الغسل على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، بل لم ينقل الخلاف

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٩٦ ، وانظر : الذكرى ١ : ١٨٨.

٣٦٧

فيه إلّا من السيّد في شرح الرسالة وبعض المتأخّرين ، كصاحبي المفاتيح والذخيرة (١). وفي الحدائق (٢) أيضا تقويته.

قال السيّد في محكيّ شرح الرسالة : إنّ المجنب إذا تيمّم ثمّ أحدث حدثا أصغر ووجد ما يكفيه للوضوء ، توضّأ ؛ لأنّ حدثه الأوّل قد ارتفع ، وجاء ما يوجب الصغرى ، وقد وجد من الماء ما يكفيه لها ، فيجب عليه استعماله (٣). انتهى.

واعترض عليه بالإجماع المستفيض نقله بل المتواتر على أنّ التيمّم لا يرفع الحدث ، بل يستباح به الصلاة ، فالجنابة باقية ، والاستباحة قد زالت بالحدث الأصغر ، والذي يجب على الجنب ـ على ما نطق به الكتاب والسنّة والإجماع ـ إنّما هو الغسل ، فما دام العجز يأتي بما هو بدل منه.

وقد استدلّ في محكيّ المعتبر على بقاء الجنابة ـ بعد أن ادّعى إجماع العلماء كافّة على أنّه لا يرفع الحدث ـ بأنّ المتيمّم يجب عليه الطهارة عند وجود الماء بحسب الحدث السابق ، فلو لم يكن الحدث السابق باقيا ، لكان وجوب الطهارة لوجود الماء ؛ إذ لا وجه غيره ، ووجود الماء ليس حدثا بالإجماع ، ولأنّه لو كان حدثا ، لوجب استواء المتيمّمين في موجبه ؛ ضرورة استوائهم فيه ، لكن هذا باطل ؛ لأنّ المحدث لا يغتسل ، والمجنب لا يتوضّأ (٤). انتهى.

أقول : هذا هو عمدة ما يستدلّ به للمشهور.

ويرد عليه أوّلا : النقض بالطهارة العذريّة ، أي طهارة أصحاب الجبيرة و

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ١ : ٦٥ ، ذخيرة المعاد : ١١.

(٢) الحدائق الناضرة ٤ : ٤١٧.

(٣) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٩٥ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٤١٦.

(٤) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٩٤.

٣٦٨

نحوها على القول بوجوب إعادتها بعد زوال السبب ؛ لجريان هذا الدليل فيها حرفا بحرف ، ومقتضاه وجوب إعادة الغسل على صاحب الجبيرة إذا اغتسل من الجنابة ثمّ أحدث بالأصغر ، مع أنّه لا يظنّ بأحد من القائلين به الالتزام بذلك.

وحلّه ما عرفته في محلّه من أنّه إن أريد بقولهم : «إنّ التيمّم لا يرفع الحدث» أنّه ليس ـ كالوضوء والغسل ـ مزيلا لأثره بالمرّة بحيث لا يحتاج بعد تجدّد القدرة من الماء إلى استعماله ـ كما زعمه بعض (١) العامّة على ما قيل ـ فهو حقّ لا ريب فيه.

وإن أريد به أنّه لا يفيد الطهارة التي هي شرط للصلاة ونحوها ، بل يؤثّر في سقوط شرطيّة الطهارة لتلك الغايات بالنسبة إلى من عجز عن استعمال الماء ، فهو ممّا لا يمكن الالتزام به ؛ لمخالفته لجميع ما دلّ على شرعيّة التيمّم وبدليّته من الوضوء والغسل ، وكونه أحد الطهورين ، ولا يظنّ بأحد من العلماء أن يرضى بذلك حيث إنّه يتضمّن مفاسد ومناقضات لا يمكن توجيهها ، كما أشرنا إلى جملة منها فيما تقدّم ، فالحقّ أنّه طهور وهو نور ، لكن لمن لم يقدر على استعمال الماء ما دام كونه كذلك ، فإذا قدر عليه ، عاد محدثا بالسبب السابق حيث إنّه صدق عليه ـ مثلا ـ أنّه رجل أتى أهله وهو قادر على استعمال الماء ولم يغتسل فهو جنب ، وأمّا قبل أن يقدر عليه ، فقد كان مندرجا في موضوع العاجز الذي كان طهوره التراب ، فإذا تيمّم ، فهو ما دام مندرجا في هذا الموضوع كأنّه اغتسل من غدير ماء ، فهو متطهّر ، وقد تقدّم توضيحه وتصويره في محلّه.

فبذلك ينحلّ الإشكال المتقدّم في عبارة المعتبر ـ الذي أوقعهم في الالتزام

__________________

(١) المجموع ٢ : ٢٢١ ، المغني ١ : ٢٨٦ ، الشرح الكبير ١ : ٢٩٣ ، الجامع لأحكام القرآن ٥ : ٢٣٤.

٣٦٩

بعدم طهوريّة التيمّم ـ من استلزام كون وجدان الماء حدثا ، فإنّه بعد أخذ العجز قيدا في طهوريّة التيمّم لا يحتاج عود الجنابة بعد طروّ القدرة إلى سبب جديد ، كما هو واضح.

وعلى هذا يتّجه استدلال السيّد على مدّعاه بأنّ حدثه الأوّل قد ارتفع ؛ إذ لم يقصد بذلك أنّه قد ارتفع على وجه لا يحتاج بعد طروّ القدرة إلى الغسل حتّى يردّ بمخالفته للإجماع بل الضرورة.

وكيف كان فمقتضى طهوريّة التيمّم للعاجز وبدليّته من الغسل عدم تأثير البول وغيره من موجبات الوضوء بعد أن تيمّم بدلا من غسله ، إلّا فيما تقتضيه تلك الموجبات ، لا عود الجنابة السابقة وصيرورتها مؤثّرة بعد أن زال أثرها بالتيمّم ، إلّا أن يدلّ دليل تعبّديّ عليه ، فيكون ذلك حاكما على إطلاق ما دلّ على أنّ التيمّم لمن لم يجد الماء بمنزلة غسله ووضوئه ، وسيأتي التكلّم فيه.

فإن أراد المشهور من استدلالهم ببقاء الجنابة كونه ما دام موصوفا بالعجز متّصفا (١) بصفة الجنابة الفعليّة ، ففيه منع خصوصا لو قلنا بأنّها صفة منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، وليست قذارة معنويّة متأصّلة.

وإن أرادوا صحّة إطلاق الجنب عليه بملاحظة بقاء أثر الجنابة في الجملة ، المقتضي لوجوب الغسل عليه عند تجدّد القدرة ، فهو مسلّم ، لكنّه لا يقتضي وجوب التيمّم ثانيا بدلا من الغسل.

بل لنا أن نقول : سلّمنا أنّه جنب بالفعل ، لكن لا دليل على أنّه يجب على الجنب إعادة تيمّمه بعد البول ؛ فإنّ الجنب القادر على الغسل فرضه الغسل ، و

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «متّصفة». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

٣٧٠

العاجز عنه فرضه التيمّم بدلا من الغسل ، فإذا تيمّم بدلا من الغسل عند إرادة الصلاة ، فقد سقط ما وجب عليه من البدل ، فإذا بال ، لا يؤثّر بوله إلّا فيما يقتضيه من الوضوء أو التيمّم بدلا منه ، لا من الغسل.

وإن شئت قلت : إنّ التيمّم السابق رفع مانعيّة الجنابة من إتيان الغايات المشروطة بالطهور ، وإلّا لم يجز فعلها قبل البول ، وحدوث البول ليس مقتضاه إلّا وجوب الوضوء ، لا عود مانعيّة الجنابة.

ودعوى أنّ التيمّم لا يقتضي إلّا رفع مانعيّتها قبل أن يحدث حدث ، غير مسموعة ، إلّا أن يقوم عليها بيّنة بالخصوص ، وإلّا فهي مخالفة لإطلاق ما دلّ على كونه بمنزلة الوضوء والغسل للعاجز ، وسيأتي التكلّم فيه.

وبما ذكرنا ظهر لك ضعف الاستدلال للمشهور بإطلاق الجنب على المتيمّم في بعض الأخبار ، مثل : المرسل المرويّ عن الغوالي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لبعض أصحابه الذي تيمّم من الجنابة وصلّى : «صلّيت بأصحابك وأنت جنب!؟» (١) فإنّه ـ بعد الغضّ عن ضعف الرواية ، ومعارضتها بما دلّ على أنّ الله تعالى جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا ، فإذا تيمّم فقد فعل أحد الطهورين فهو طاهر ، وليس بجنب بالفعل وإن صحّ إطلاقه عليه في الجملة ـ يتوجّه عليه : أنّه لا أثر للجنابة بعد فعل التيمّم بدلا من الغسل.

ودعوى أنّ كلّ من قال ببقاء الجنابة قال بالتيمّم بدلا من الغسل دون الوضوء ، فالقول بخلافه خرق للإجماع المركّب ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليها ،

__________________

(١) أورده عنه النراقي في مستند الشيعة ٣ : ٤٨٧ ، وانظر : غوالي اللآلئ ١ : ٤١٣ / ٨٢ ، و ٢ : ٢٠٩ / ١٣٢.

٣٧١

ضرورة عدم استكشاف رأي المعصوم عليه‌السلام بمثل هذه الدعاوي التقديريّة المتفرّعة على الجمود على الظواهر.

وأضعف منه الاستدلال لهم بمفهوم قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «متى أصبت الماء فعليك الغسل إن كنت جنبا ، والوضوء إن لم تكن جنبا» (١) حيث شرط الوضوء بعدم الجنابة ، فتبطل مقالة السيّد القائل بوجوب الوضوء على الجنب على تقدير عدم كفاية الماء لغسله.

وفيه : أنّ المراد بإصابة الماء ما كان وافيا بما يحتاجه من الوضوء أو الغسل ، فالمتيمّم الذي أحدث إن لم يجد ماء يكفي لغسله ، فهو غير مراد بالرواية ، وليس بجنب عند السيّد إمّا حقيقة أو حكما ، بل هو محدث وجد الماء بقدر وضوئه ، فعليه أن يتوضّأ.

وأوهن من ذلك الاستشهاد بالمعتبرة (٢) المشتملة على أمر الجنب بالتيمّم وإن كان عنده من الماء ما يكفيه للوضوء.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّه لا ينكر أحد أنّ الواجب على الجنب أوّلا هو الغسل أو التيمّم بدلا منه ، فلا عبرة بوجود الماء الغير الكافي للغسل ، ولا بوجدانه بعد التيمّم الذي هو بمنزلة الغسل في الأثر ، وإنّما الكلام في أنّه إذا أحدث بالأصغر بعد هذا التيمّم هل تجب عليه إعادة التيمّم ، عملا بما تقتضيه الجنابة ، أو لا تجب إلّا العمل بما يقتضيه الحدث من فعل الوضوء لدى القدرة ، والتيمّم بدلا منه لدى

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢١٠ / ٦١١ ، الإستبصار ١ : ١٧٢ / ٥٩٩ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب التيمّم ، ح ٤.

(٢) الفقيه ١ : ٥٧ ـ ٥٨ / ٢١٣ ، التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٦ ، و ٤٠٥ / ١٢٧٢ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب التيمّم ، الأحاديث ١ و ٣ و ٤.

٣٧٢

العجز؟ فهذه الأخبار أجنبيّة عن المقام.

واستدلّ لهم أيضا بصحيحة زرارة ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : يصلّي الرجل بتيمّم واحد صلاة الليل والنهار كلّها؟ فقال : «نعم ما لم يحدث أو يصب ماء» (١) وخبر السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : «لا بأس بأن تصلّي صلاة الليل والنهار بتيمّم واحد ما لم تحدث أو تصب الماء» (٢) حيث يفهم منهما أنّ مطلق الحدث ـ كوجدان الماء ـ ناقض لمطلق التيمّم.

وفيه : أنّ غاية ما يفهم من الروايتين إنّما هو عدم جواز الصلاة بذلك التيمّم بعد حدوث الحدث ، كما أنّه لا يجوز فعلها بعد الحدث لو كان آتيا بمبدله من الوضوء أو الغسل ، فقوله عليه‌السلام : «لا بأس بأن تصلّي» إلى آخره ، بمنزلة ما لو قلنا : لا بأس بأن تصلّي لغسل الجنابة ما لم تحدث ، فلا إشعار فيه أصلا ـ فضلا عن الدلالة ـ بأنّ الحدث يؤثّر في صيرورة التيمّم كعدمه ، وصيرورة الجنابة السابقة مؤثّرة بعد أن زالت أو زال أثرها ، بل لو كان الوارد في الأخبار «أنّ كلّ تيمّم يستباح به الصلاة ينتقض بمطلق الحدث» لم يكن يفهم منه إلّا تأثير الحدث في رفع الطهارة والاستباحة الحاصلة بفعل التيمّم ، كما أنّه لا يفهم من إطلاق النواقض على موجبات الوضوء والغسل في عبارة العلماء إلّا ذلك ، لا عود الحدث السابق الذي تطهّر منه ، وصيرورته مؤثّرا بعد أن زال ، فإنّ الزائل لا يقبل الانتقاض ، وإنّما القابل له الطهارة الحاصلة باستعمال الطهور ، فقولنا : «الوضوء أو غسل الجنابة ينتقض

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٣ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٠٠ / ٥٨٠ ، الإستبصار ١ : ١٦٤ / ٥٧٠ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب التيمّم ، ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠١ / ٥٨٢ ، الإستبصار ١ : ١٦٣ / ٥٦٧ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب التيمّم ، ح ٥.

٣٧٣

بالبول» معناه أنّه لا يبقى له أثر بعد الحدث ، فلو أراد الإتيان بشي‌ء مشروط بالطهور ، فعليه أن يتطهّر ، لا أنّه يعود جنبا أو محدثا بالسبب الأوّل.

ألا ترى أنّا لو بنينا على أنّ كلّ غسل يجزئ عن الوضوء وقلنا بشرعيّة التيمّم بدلا من كلّ غسل ، وكونه ـ كمبدله ـ رافعا للحدث ، لا نقول بجواز إعادة التيمّم بدلا من ذلك الغسل بعد انتفاء مسوّغة.

فالإشكال في المقام إنّما نشأ من بقاء أثر الجنابة ، الموجب للغسل حيث أوجب التحيّر في أنّه كما يقتضي وجوب الغسل عند القدرة عليه ، كذلك يقتضي وقوع التيمّم دائما بدلا من ذلك الغسل ، أم لا يقتضي بعد الإتيان بتيمّم واحد بدلا من ذلك الغسل إلّا نفس الغسل ، فلا يجب عند حدوث الحدث إلّا ما يقتضيه ذلك الحدث.

فما زعمه بعض (١) من ابتناء الخلاف في المسألة على أنّ مطلق الحدث هل هو ناقض لمطلق التيمّم ، أولا ينتقض التيمّم الواقع بدلا من غسل الجنابة ـ مثلا ـ إلّا بالجنابة؟ في غير محلّه.

وكيف كان فقد ظهر لك أنّ الأقوى بالنظر إلى ما دلّ على طهوريّة التيمّم للعاجز وعموم تنزيله منزلة الوضوء والغسل : ما ذهب إليه السيّد وأتباعه من وجوب الوضوء بعد الحدث أو التيمّم بدلا منه لا من الغسل ، لكنّ الجزم بذلك مشكل.

وعمدة ما يوجب التردّد والوسوسة فيه نقل الإجماع على خلافه ، واعتضاده بالشهرة المحقّقة قديما وحديثا ، بل شذوذ المخالف.

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٥ : ٢٦٣.

٣٧٤

فمن هنا قد يقوى في النظر خلافه ، فإنّا وإن جزمنا بطهوريّة التيمّم وكونه بمنزلة الوضوء والغسل لمن لم يجد الماء لكن مع ذلك لا يبعد الالتزام بمقالة المشهور في المقام بدعوى : أنّه يستفاد من الأدلّة الشرعيّة أنّ الطهارة ـ التي هي شرط في الصلاة بل مطلق الطهارة وإن لم تبلغ مرتبة يستباح بها الصلاة ـ صفة وجوديّة تحصل بأسبابها ، كما قوّينا ذلك في محلّه ، وأنّ الحدث قذارة معنويّة حادثة بأسبابها مخالفة للأصل مانعة من الدخول في الصلاة ، كما نفينا البعد عن ذلك ، بل قوّيناه بالنسبة إلى الحدث الأكبر ، فنلتزم بعدم المضادّة بين ذاتيهما ، بل التنافي إنّما هو بين أثريهما من جواز الدخول في الصلاة والامتناع منه ، كما إليه يؤول ما هو المشهور من أنّ التيمّم مبيح للصلاة ، وليس برافع ؛ لما أشرنا إليه من أنّهم لم يقصدوا بذلك على الظاهر استباحتها بلا شرط ؛ فإنّ من المستبعد التزامهم بذلك.

وكيف كان فنمنع المضادّة بين الوصفين. وقياسهما على النظافة والقذارة الصوريّة فاسد ، لم لا يجوز أن يكون كالمستحاضة (١) التي اغتسلت ـ وكذا المسلوس والمبطون ـ واجدة للحدث والطهارة التي هي شرط في الصلاة حقيقة؟ وإذا جاز ذلك فنقول : أمّا غسل الجنابة ـ مثلا ـ فهو رافع للقذارة الحادثة بالجنابة ، ومفيد للطهارة التي هي شرط في الصلاة ، وأمّا سائر الأغسال فإن قلنا بالاجتزاء بها عن الوضوء ، فكغسل الجنابة ، وإلّا فهي مع كونها مزيلة للحدث تفيد مرتبة في الطهارة لا تبلغ هذه المرتبة.

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «المستحاضة». والظاهر ما أثبتناه.

٣٧٥

وكيف كان فالتيمّم إنّما يقوم مقام الوضوء والغسل في الطهوريّة المسوّغة لاستباحة الغايات ، أي المجامعة مع عدم المانع بصفة المانعيّة ، وأمّا كونه بمنزلتهما في إزالة ذات المانع من حيث هي فالأدلّة قاصرة عن إثباته.

أمّا ما دلّ على أنّه طهور ، وأنّه أحد الطهورين : فواضح.

وأمّا ما دلّ على أنّ التراب بمنزلة الماء وأنّ التيمّم غسل المضطرّ ووضوؤه ونحو ذلك : فهو وإن اقتضى عموم المنزلة خصوصا مع كون الإزالة من أظهر وجوه المشبّه به لكنّ العلم ببقاء الأثر في الجملة المقتضي لوجوب الغسل لدى القدرة عليه موجب لصرف الذهن عن إرادة إزالة ذاته بالتشبيه ، ولذا لا يستنكر العرف إطلاق الجنب عليه حين العجز ، بل لم يسعنا فيما سبق ـ عند تقرير مذهب السيّد ـ إنكار هذا المعنى ، وإنّما تكلّفنا في توجيهه ، وقلنا ـ بعد التسليم ـ بعدم اقتضاء الجنابة إلّا تيمّما واحدا بدلا من الغسل.

لكنّك خبير بأنّه لا يسمع منّا هذا القول بعد فرض دلالة الأدلّة على اقتضاء حدث الجنابة من حيث هو للمنع من الصلاة ، وعدم ارتفاعه بالتيمّم ، كما هو مقتضى الأصل ، مضافا إلى الإجماعات المحكيّة وغيرها ، وعدم اقتضاء طهوريّة التيمّم إلّا مزاحمتها للتأثير ما دام بقاء أثره ، فمتى انتقض عادت الجنابة مانعة بالفعل ، ولا تزول مانعيّتها إلّا بالتيمّم الذي هو بدل من الغسل ، كما هو واضح.

هذا غاية ما أمكننا من التوجيه لمذهب المشهور ، وإليه يؤول دليلهم الأوّل الذي أشرنا إلى أنّه هو عمدة أدلّتهم ، وبعد للتأمّل فيه مجال ، والمسألة موقع تردّد ، ومقتضى الأصل الاحتياط ؛ لكون الشكّ في المكلّف به ، فيجب بعد الحدث الجمع بين التيمّم بدلا من الغسل وبين الوضوء إن وجد ماء بقدره ، والتيمّم بدلا

٣٧٦

منه إن لم يجد ، ويجزئه في هذا الفرض تيمّم واحد بدلا ممّا وجب عليه في الواقع بناء على اتّحاد كيفيّة التيمّم ، وإلّا فلا بدّ من التعدّد.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ما ذكرناه في توجيه مقالة المشهور ـ الذي إليه يؤول دليلهم الأوّل الذي هو عمدة ما ركنوا إليه ، بل لم يستند عامّتهم على الظاهر إلّا إليه من أنّ الجنابة باقية ، والاستباحة قد زالت ، فعليه إعادة التيمّم بدلا من الغسل ـ إنّما يتّجه في التيمّم الواقع بدلا من غسل يستباح به الصلاة ، مثل غسل الجنابة ، وأمّا غسل الحيض ونحوه لو لم نقل بأنّه يجزئ عن الوضوء فلا ، فإذا تيمّمت الحائض بدلا من الغسل ، يستباح بتيمّمها دخول المساجد وقراءة العزائم ونحوهما كمبدله ، سواء تيمّمت معه بدلا من الوضوء أيضا أم لا.

وهذه الاستباحة تجامع الحدث الأصغر ، وإلّا لم تحصل بتيمّمها الواقع بدلا من الغسل ؛ لأنّها كانت محدثة بالأصغر أيضا ، فالحدث الأصغر لا يؤثّر في إزالة هذه الاستباحة حتّى يتمّ به الاستدلال ، بل ربما يتأمّل في اقتضاء ذلك الدليل منع الجنب من دخول المساجد بعد الحدث ؛ نظرا إلى عدم اقتضاء الحدث رفع استباحة الدخول وإن أمكن التفصّي عن ذلك ببعض الوجوه الغير الخالية عن التأمّل بالإجماع المنقول على انتقاض تيمّم الجنب بمطلق الحدث ، فالالتزام بانتقاض تيمّم الحائض بمطلق الحدث مع الالتزام بجواز تلك الغايات قبل حدوثه مع كونها محدثة بالأصغر في غاية الإشكال ، ولعلّه لذا خصّ المصنّف كغيره موضوع الحكم في المتن وغيره بالجنب.

فما جزم به غير واحد من انتقاض كلّ تيمّم بمطلق الحدث ، وإسناده إلى المشهور مع خلوّ كلام المشهور عن التصريح بالتعميم بل إشعاره بعدمه واقتضاء

٣٧٧

دليلهم عدم الاطّراد لا يخلو عن تأمّل.

لكن مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط فيه ، بل لا يجوز بناء على ما نفينا عنه البعد بل قوّيناه في محلّه من الاجتزاء بغسلها عن الوضوء ، فحكمها حينئذ حكم الجنب الذي مقتضى القاعدة فيه الاحتياط ، والله العالم.

(الثامن : إذا تمكّن) المتيمّم (من استعمال الماء) لما هو بدل منه ولم يكن له عذر عقليّ أو شرعيّ في تركه (انتقض تيمّمه) بلا شبهة ، كما يدلّ عليه جميع ما دلّ على اختصاص طهوريّة التيمّم بالعاجز ، مضافا إلى خصوص المعتبرة المستفيضة المصرّحة بذلك.

مثل : صحيحة زرارة ورواية السكوني ، المتقدّمتين (١).

وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل تيمّم ، قال : «يجزئه ذلك إلى أن يجد الماء» (٢).

وقد عرفت عند التكلّم في الحكم الرابع أنّ المراد بوجدان الماء إنّما هو وجدانه على وجه يتمكّن من استعماله ويكون وافيا بمقصوده (٣).

فما زعمه بعض ـ من انتقاض التيمّم بمجرّد الوجدان (٤) ـ ضعيف.

(ولو فقده بعد ذلك ، افتقر إلى تجديد التيمّم) لأنّ الزائل لا يعود بلا سبب.

وتوهّم اقتضاء طهوريّة التيمّم للعاجز عوده مؤثّرا باندراجه ثانيا في

__________________

(١) في ص ٣٧٣.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠٠ / ٥٧٩ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٣) راجع : ص ٣٤٠.

(٤) راجع الهامش (١) من ص ٣٤١.

٣٧٨

موضوعه كصيرورة الجنابة الزائلة ـ على القول برافعيّة التيمّم ـ مؤثّرة عند تجدّد القدرة ، مدفوع : بقصور الأدلّة عن إثبات هذا النحو من الأثر للتيمّم ، بل ظهورها في كونه طهورا لمن عجز عن استعمال الماء ما دام باقيا عجزه.

هذا ، مضافا إلى عدم الخلاف فيه على الظاهر ، ودلالة النصّ عليه بالصراحة ، كما عرفته فيما تقدّم.

فروع : الأوّل : لو تيمّمت الحائض أو المستحاضة ونحوهما بتيمّمين بدلا من الوضوء والغسل ، فوجدت ما يكفي للوضوء خاصّة ، انتقض ما هو بدل من الوضوء لا غير.

ولو وجدت ما يكفي لكلّ منهما لا كليهما ، قال في الجواهر : ففي انتقاضهما معا بذلك ، أو ما يختار المكلّف منهما ، أو القرعة أوجه ، أقواها : الأوّل ؛ لصدق الوجدان في كلّ منهما ، وعدم الترجيح (١). انتهى.

أقول : أمّا بناء على أهمّيّة الغسل ـ كما لعلّه المسلّم عندهم ، خصوصا على القول بالاجتزاء به عن الوضوء وكون الوضوء معه مستحبّا تعبّدا ـ فالترجيح محقّق ، والمنتقض هو التيمّم الواقع بدلا من الغسل حيث يتعيّن على المكلّف صرف الماء فيه ، لكن لو خالف تكليفه وتوضّأ ، صحّ وضوؤه بقاعدة الترتّب ، التي حقّقناها مرارا ، ومقتضاها انتقاض ما هو بدل من الوضوء أيضا على تقدير ترك الغسل ، فلو أتلف الماء ، انتقض التيمّمان.

وعلى تقدير عدم الأهمّيّة أيضا ينتقضان معا إن ترك استعمال الماء

__________________

(١) جواهر الكلام ٥ : ٢٦٤.

٣٧٩

الموجود في شي‌ء من الوضوء أو الغسل إلى أن يمضي زمان يتمكّن فيه من فعل كلّ من الطهارتين ؛ لصيرورته عند إصابة الماء قادرا على كلّ من الوضوء والغسل على تقدير ترك الآخر ، وقد تحقّق التقدير في الفرض بالنسبة الى كلّ منهما ، فانتقضا معا.

وأمّا على تقدير استعماله في أحدهما فالظاهر عدم انتقاض ما هو بدل من الآخر ؛ لعدم قدرته على الإتيان بمبدله على تقدير صرف الماء فيما استعمله بمقتضى تكليفه ، ولكنّ الأحوط إعادة التيمّم خصوصا مع احتمال أهمّيّة أحدهما في الواقع وجهله بواقعة ، بل لا يخلو القول بوجوب الاحتياط في الفرض عن وجه منظور فيه.

واحتمال وجوب تشخيصه في الفرض بالقرعة مدفوع : بأنّه لا يعمل بها في تشخيص الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها ، وقد تقدّم عند البحث عن مسوّغات التيمّم ما يقرّر بعض الدعاوي المتقدّمة ، فراجع.

الثاني : لو وجد جماعة ماء يباح لهم التصرّف فيه ، فإن تمكّن كلّ منهم من التصرّف فيه على وجه سائغ من غير أن يزاحمه غيره ، انتقض تيمّم الجميع ، وإلّا انتقض تيمّم المتمكّن خاصّة.

الثالث : لو تيمّم تيمّمات متعدّدة بدلا من أغسال متعدّدة ، فوجد ماء لا يكفي إلّا لغسل واحد ، انتقض الجميع ، فإنّ له أن يأتي بذلك الغسل بنيّة الجميع.

وإن منعنا التداخل ، فحكمه ما عرفت في الفرع الأوّل.

الرابع : لو لم يجد الماء إلّا في المسجد وكان جنبا ، جاز له الدخول وأخذ الماء منه بل ولبثه فيه حتّى في المسجد الحرام ومسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل وجب

٣٨٠