مصباح الفقيه - ج ٦

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٦

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

مقتضاه التخيير في فعل أيّهما شاء لو لا الأهمّيّة في البين ، لا بمعنى أنّ التقييد العقلي اقتضى إرادة الوجوب التخييري من الدليلين في مورد المزاحمة ، بل بمعنى أنّ اشتراط كلّ من التكليفين بالقدرة أنتج ذلك بحكم العقل ، وأمّا مع أهمّيّة أحدهما فلا يرى العقل إلّا جواز ترك غير الأهمّ لأجل الاشتغال بالأهمّ لا مطلقا ، فيستنتج من ذلك وجوب الأهمّ مطلقا ووجوب غير الأهمّ معلّقا على ترك الأهمّ.

إن قلت : سلّمنا وجوب غير الأهمّ على سبيل الترتّب لكنّ الإتيان به على وجه يقع عبادة متعذّر ، إذ لا ينفكّ قصده عن العزم على ترك الأهمّ ، فيكون قصده مشوبا بالعزم على المعصية ، كما في المسألة السابقة.

قلت : ليس مجرّد عدم انفكاك القصدين مانعا من وقوع الفعل عبادة ، وإنّما المانع منه انحلال قصده إلى العزم على الحرام ، وهو غير لازم في المقام ، لأنّ قصد إيجاد غير الأهمّ إمّا مرتّب على العزم على ترك الأهمّ أو ملازم له لا متّحد معه ، فلا ضير فيه.

نعم ، لو قيل بأنّ ترك أحد الضدّين من مقدّمات فعل الآخر لا من لوازمه في الوجود ، اتّجه دعوى الانحلال بالتقريب المتقدّم في المسألة السابقة ، لكنّ المبنى فاسد ، كما تقرّر في محلّه.

مع إمكان أن يقال : إنّ العزم على إيجاد شي‌ء ينحلّ إلى العزم على إيجاد مقدّماته الوجوديّة لا مطلقا ، فليتأمّل.

الخامس : لو توضّأ أو اغتسل في شي‌ء من الموارد التي حرّم عليه ذلك غفلة عن حرمته أو نحوها من الأسباب الرافعة للتكليف الفعلي ، صحّ ولو في الموارد التي تعلّق به النهي بالخصوص ـ كما في المريض يخاف على نفسه ـ فضلا عمّا

١٦١

ثبتت حرمته ، لاتّحاده مع عنوان محرّم من غصب ونحوه ، لكن بشرط أن لا تكون الغفلة أو نحوها مسبّبة عن الجهل بالحكم الشرعيّ الذي لا يعذر بسببه المكلّف ، بل بسبب الجهل بالموضوع أو نسيانه أو نحوهما ، فهاهنا مقامان :

الأوّل : فيما نشأ حرمة الوضوء من اتّحاده مع العنوان المحرّم.

الثاني : فيما تعلّق النهي به بالخصوص.

أمّا وجه الصحّة في المقام الأوّل : فلما تقرّر في محلّه من أنّ الشرائط المنتزعة من التكاليف المستقلّة مخصوصة بحال تنجّز تلك التكاليف ، فالوضوء المتّحد مع الغصب إنّما يفسد إذا أثّرت الغصبيّة في صيرورة الفعل الصادر من المكلّف من حيث صدوره منه قبيحا ، ولا تكفي في ذلك مفسدته الذاتيّة اللازمة للفعل ما لم تؤثّر في قبح الفعل واستحقاق العقاب عليه ، كما تقدّم تحقيقه مفصّلا في مبحث غسل الأموات عند التكلّم في تغسيل غير المحارم للخنثى (١).

وقد اتّضح بما ذكرناه فيما تقدّم وجها لصحّة الغسل الصادر من غير المماثل عند غفلته عن عدم المماثلة مع ورود النهي عن تغسيل غير المماثل : وجه الصحّة في المقام الثاني أيضا حيث عرفت أنّه لا فرق بين العبادة المنهيّ عنها إذا كان تعلّق النهي بها لعروض جهة مقبّحة للفعل مانعة من مطلوبيّته ، لا لرفع ما يقتضي الطلب كصلاة الحائض ونحوها ، وبين العبادة المتصادقة مع المحرّم في الوجود الخارجي في اختصاص مانعيّة الجهة العارضة بصورة العمد الموجب لصيرورة الفعل الصادر من المكلّف من حيث صدوره منه بلحاظ جهته المقبّحة قبيحا ، فإنّ من المعلوم أنّ نهي المريض ـ مثلا ـ عن الوضوء ليس إلّا لتضرّره

__________________

(١) راجع : ج ٥ ، ص ١٠٣ وما بعدها.

١٦٢

بذلك ، لا لفقد ما يقتضيه ، وإلّا فهو الأصل في الطهور الذي هو نور وقد أمر بإيجاد بدله الاضطراريّ ، فالمقتضي لمطلوبيّته موجود ، والمانع لا يصلح مانعا من حسن الفعل ومحبوبيّته الكافية في وقوعه عبادة إلّا مع الالتفات والعمد ، فإنّ الأفعال الاختياريّة الصادرة من المكلّف إنّما يعرضها (١) الحسن والقبح بلحاظ جهاتها (٢) المقصودة وعناوينها (٣) الاختياريّة ، فالوضوء الصادر من المريض ما لم يتنجّز النهي في حقّه لا يكون إلّا حسنا.

وإن شئت قلت : إنّه لا يفهم عرفا من النواهي المتعلّقة بالعبادة إذا كان منشؤها الجهات العارضة المانعة من مطلوبيّة الفعل إلّا تقييد مطلقات تلك العبادة ـ عند تنجّز التكليف ـ بتلك النواهي لا مطلقا.

تذنيب : لو تضرّر باستعمال الماء ضررا لا يجوز تحمّله أو كان الماء مغصوبا مثلا ، فارتمس فيه عصيانا ثمّ نوى بخروجه الغسل ، لم يصحّ ، كما لو نواه بدخوله ، خصوصا إذا كان مقصوده الاحتيال في تصحيح الغسل من أوّل الأمر ، لأنّ خروجه ـ كدخوله ـ مبغوض ومعاقب عليه ، لأنّ عمله من أوّله إلى آخره قبيح منهيّ عنه ، فلا يصحّ أن يقع عبادة ، وانقطاع النهي بعد أن دخل وصيرورة خروجه مأمورا به لا يجدي في صحّة غسله بعد أن قبح فعله وصحّ العقاب عليه ، وليس الأمر بخروجه بعد الدخول إلّا كأمر الزاني بإخراج ذكره بعد أن أدخله ، لكونه أقلّ مفسدة من الإبقاء ، لا لكون عمله حسنا.

نعم ، لو ندم عن عمله وتاب ثمّ خرج بقصد التخلّص ، لا يبعد القول بصحّته ، فليتأمّل.

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «يعرضه .. جهاته .. عناوينه». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «يعرضه .. جهاته .. عناوينه». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «يعرضه .. جهاته .. عناوينه». والظاهر ما أثبتناه.

١٦٣
١٦٤

(الطرف الثاني : فيما يجوز التيمّم به)

وقد اختلف أصحابنا في تعيينه ـ بعد اتّفاقهم على اشتراط كونه أرضا ، خلافا لمالك فجوّزه بالنبات ، وأبي حنيفة فبالثلج ، على ما حكي (١) عنهما ـ على أقوال.

فقيل : إنّه هو التراب الخالص ، وقد حكي ذلك عن الإسكافي (٢) والسيّد في شرح الرسالة (٣) والناصريّات (٤) والمفيد في المقنعة ، وأبي الصلاح (٥) ، بل عن ظاهر الناصريّات الإجماع عليه (٦).

لكنّ الحكاية عنهم لا تخلو عن نظر ، كما ستعرف وجهه.

__________________

(١) الحاكي عنهما هو صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٤٤٩ ، وانظر : بداية المجتهد ١ : ٧٢ ، والعزيز شرح الوجيز ١ : ٢٣٠. ونسب التيمّم بالثلج إلى مالك في المغني ١ : ٢٨٣ ، والشرح الكبير ١ : ٢٨٩ ، ولم نعثر في غيرهما على ما نسب إلى أبي حنيفة من تجويزه التيمّم بالثلج.

(٢) قال المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٧٢ : وقال الشيخ في المبسوط : لا يجوز ـ أي التيمّم ـ إلّا بما يقع عليه اسم الأرض إطلاقا ، سواء كان عليه تراب أو كان حجرا أو جصّا أو غير ذلك ، وبمعناه قال في جمله والخلاف ، وكذا قال ابن الجنيد منّا.

(٣) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٧٢.

(٤) مسائل الناصريّات : ١٥١ ، المسألة ٤٨.

(٥) المقنعة : ٥٩ ، الكافي في الفقه : ١٣٦.

(٦) حكاه عنها النراقي في مستند الشيعة ٣ : ٣٩٠ ، وانظر : مسائل الناصريّات : ١٥٢ ، المسألة ٤٨.

١٦٥

(و) قيل : (هو كلّ ما يقع عليه اسم الأرض) ترابا كان أو حجرا أو حصى أو غير ذلك من غير فرق بين حالتي الاختيار والضرورة ، كما هو ظاهر المتن وغيره ، وفاقا لظاهر المحكيّ عن الشيخ في مبسوطة وجمله وخلافه ، والسيّد في مصباحه (١) ، بل ربّما نسب (٢) ذلك إلى المشهور.

واختار غير واحد من المتأخّرين ـ تبعا للمحكيّ (٣) عن جماعة من القدماء ـ التفصيل بين حالتي الاختيار والضرورة ، فمنع ممّا عدا التراب في غير الضرورة ، وجوّزه لدى الضرورة ، وربما نسب (٤) هذا التفصيل إلى أكثر الفقهاء ، بل في حاشية المحقّق البهبهاني على المدارك نسبته إلى معظمهم إلّا من شذّ منهم ، مستشهدا بذلك على أنّهم لم يفهموا من الصعيد إلّا التراب (٥).

لكن جملة ممّن نسب إليه هذا التفصيل لم يصرّح إلّا بالمنع من التيمّم بالحجر لدى التمكّن من التيمّم بالتراب ، بل لم يستند المحقّق البهبهاني في نسبة هذا القول إلى معظمهم إلّا بواسطة حكمهم بكون الحجر بعد العجز عن التراب.

وأنت خبير بما في هذه النسبة ، إذ لا ملازمة بين المنع من الحجر وبين المنع من سائر وجه الأرض ممّا ليس بتراب ، كيف! وقد ادّعى في محكيّ التذكرة إجماع العلماء على جواز التيمّم بالبطحاء (٦) الذي هو مسيل فيه دقاق الحصى مع

__________________

(١) الحاكي عنهما هو المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٧٢ ، وانظر : المبسوط ١ : ٣١ ، والجمل والعقود (ضمن الرسائل العشر) : ١٦٨ ، والخلاف ١ : ١٣٤ ، المسألة ١٧٧.

(٢) الناسب هو المحقّق السبزواري في كفاية الأحكام : ٨.

(٣) الحاكي هو العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥٢٨.

(٤) راجع : ذخيرة المعاد : ٩٩.

(٥) الحاشية على مدارك الأحكام ٢ : ١٠٥.

(٦) حكاه عنها صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٤٥٤ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ٢ : ١٧٥ ، المسألة ٢٩٨.

١٦٦

خروجه من مصداق التراب ، وستسمع من المعتبر والمنتهى دعوى الإجماع على جواز التيمّم بالرمل على كراهيّة ، فيمكن أن يكون منعهم من الحجر ـ بعد تسليم الصغرى ـ إمّا لخروجه من مسمّى الأرض بالاستحالة كالمعادن ، كما صرّح به ابن الجنيد ـ قال فيما حكي عنه : ولا يجوز من السبخ ولا ممّا أحيل عن معنى الأرض المخلوقة بالطبخ والتحجير خاصّة (١). انتهى ـ وإمّا لبنائهم على اشتراطهم العلوق المتعذّر حصوله لدى التيمّم بالحجر ، ولذا نسب بعضهم (٢) عدم جواز التيمّم بالحجر إلى أكثر الفقهاء ، مستظهرا ذلك من اشتراطهم العلوق ، بل هذا هو الذي ينبغي أن يكون وجها للتفصيل بين حالتي الاختيار والضرورة ، فإنّ اشتراط العلوق ـ على القول به ـ إنّما هو لدى القدرة لا مطلقا.

وأمّا على القول بخروجه من مسمّى الأرض أو مصداق الصعيد فيشكل إثبات جوازه لدى الضرورة ، كما سيتّضح لك إن شاء الله.

فالمتّجه بناء على عدم اشتراط العلوق إمّا جواز التيمّم بمطلق ما يقع عليه اسم الأرض ، أو خصوص التراب مطلقا من غير فرق بين حالتي الاختيار والضرورة ، لكنّ الثاني ـ بحسب الظاهر ـ خلاف الإجماع ، كما صرّح به بعض (٣) ، ويشهد له التتبّع وعدم نقل الخلاف في الجواز بما عدا التراب لدى الضرورة إلّا ممّا يستشعر أو يستظهر من عبارة ابن الجنيد ، المتقدّمة (٤) حيث منع من التيمّم بالحجر ونحوه بزعم الاستحالة.

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٦٠ ، المسألة ١٩٤.

(٢) راجع : مستند الشيعة ٣ : ٣٩٠.

(٣) راجع : مختلف الشيعة ١ : ٢٦١ ، ذيل المسألة ١٩٤.

(٤) آنفا.

١٦٧

ومن هنا قد يقوى في النظر عدم معروفيّة القول بكون ما يتيمّم به خصوص التراب لدى القدماء ، وإنّما حدث ذلك فيما بين المتأخّرين اغترارا بظاهر عبائر بعض القدماء وجملة من اللغويّين المفسّرين للصعيد بالتراب ؛ فإنّ عمدة من نسب إليه هذا القول من القدماء هو السيّد في الناصريّات وشرح الرسالة ، وأمّا من عداه ـ مثل المفيد في المقنعة ، والشيخ في النهاية ، وابن إدريس ـ فليس في كلماتهم المحكيّة إلينا إشعار بذلك ، عدا أنّهم اشترطوا الضرورة في جواز التيمّم بالحجر ونحوه ، فلا يبعد أن يكون ذلك لبنائهم على اشتراط العلوق ، ولا يحضرني كتبهم لأتحقّق حال النسبة.

وأمّا عبارة السيّد فكادت تكون صريحة في خلافه.

قال في المدارك حاكيا عن شرح رسالة السيّد : لا يجزئ في التيمّم إلّا التراب الخالص ، أي الصافي من خلطة ما لا يقع عليه اسم الأرض ، كالكحل والزرنيخ وأنواع المعادن. ثمّ قال : ونحوه قال المفيد في المقنعة وأبو الصلاح. ونقل عن ابن أبي عقيل أنّه جوّز التيمّم بالأرض وبكلّ ما كان من جنسها كالكحل والزرنيخ ، واستحسنه في المعتبر (١). انتهى.

وهذه العبارة كما تراها صريحة في أنّ مراده بالتراب الخالص الاحتراز عمّا لا يقع عليه اسم الأرض ، لا مثل الحجر والحصى ، وإلّا لكان أولى بالتمثيل والتعرّض ، كما هو واضح ، فكأنّ السيّد قدس‌سره أراد بالتراب في هذه العبارة الأرض ، و

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ١٩٦ ـ ١٩٧ ، وانظر : المقنعة : ٥٩ ، والكافي في الفقه : ١٣٦ ، والمعتبر ١ : ٣٧٢. ولا يخفى أنّ المحقّق في المعتبر استوجه قول الشيخ الطوسي بجواز التيمّم على مطلق الأرض ، فليلاحظ.

١٦٨

قد حكي تفسير التراب بالأرض عن بعض اللغويّين (١) المفسّرين للصعيد بالتراب.

ويؤيّده ما حكي عن ناصريّاته ، قال : الذي يذهب إليه أصحابنا أنّ التيمّم لا يكون إلّا بالتراب وما جرى مجرى التراب ما لم يتغيّر بحيث يسلب إطلاق اسم الأرض عليه.

ثمّ حكى عن الشافعي وجملة من العامّة أقوالهم المختلفة ، إلى أن قال : حجّتنا الإجماع (٢). انتهى ؛ فإنّ ظاهره دعوى الإجماع على الجواز بما لا يخرج من إطلاق اسم الأرض في مقابل الأقوال التي حكاها عن المخالفين.

لكن قد ينافيه ما حكي عنه في الاستدلال عليه : بقوله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (٣) قائلا في تقريبه : إنّ الصعيد هو التراب بالنقل من أهل اللغة ، حكاه ابن دريد عن أبي عبيدة. وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» ولو جاز التيمّم بمطلق الأرض ، لكان لفظ «ترابها» لغوا (٤).

وهذه الفقرة الأخيرة صريحة في أنّ مراده بالتراب أخصّ من الأرض ، فالإنصاف أنّ عبارة السيّد لا تخلو عن تشويش ، ولم أجد فيما عثرت عليه من عبائر غيره التصريح بأنّ ما يتيمّم به هو خصوص التراب ، وأنّه هو المراد بالصعيد ، فلا بدّ في ذلك من التتبّع.

وكيف كان فالمتّبع هو الدليل ، والمتّجه ما هو المشهور من جواز التيمّم

__________________

(١) راجع : الحدائق الناضرة ٤ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

(٢) مسائل الناصريّات : ١٥١ ـ ١٥٢ ، المسألة ٤٨.

(٣) النساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

(٤) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٧٢ ـ ٣٧٣ ، وانظر : جمهرة اللغة ٢ : ٦٥٤ «صعد».

١٦٩

بمطلق ما يقع عليه اسم الأرض.

وأمّا اشتراط العلوق أو عدمه فهو أمر آخر سنتكلّم فيه ، فإنّ عمدة ما تشبّث به الخصم ـ بعد قاعدة الاشتغال ، التي ستعرف حالها ـ ما ذكره السيّد في عبارته المتقدّمة (١) من تصريح بعض اللغويّين بأنّ الصعيد هو التراب ، والنبوي المتقدّم (٢).

وفيه : أنّ تفسير هذا البعض معارض بتفسير من هو أوثق منهم ، وهو جلّ الفقهاء ومعظم اللغويّين.

فعن أمين الإسلام الطبرسي في مجمع البيان أنّه قال ناقلا عن الزجّاج : إنّه قال : لا أعلم خلافا بين أهل اللّغة في أنّ الصعيد مطلق وجه الأرض.

ثمّ قال رحمه‌الله : وهذا يوافق مذهب أصحابنا في أنّ التيمّم يجوز بالحجر سواء كان عليه تراب أو لم يكن (٣). انتهى.

وعن المصباح المنير وغيره من كتب اللغويّين التصريح بالتعميم. (٤)

وعن المعتبر نسبته إلى فضلاء أهل اللغة (٥).

ويؤيّد ذلك كون هذا المعنى أنسب بمعناه الوصفيّ الذي لم يستعمل في هذا المعنى على الظاهر إلّا بمناسبته ، بل لا يبعد أن يكون تفسير المعظم له بوجه

__________________

(١) في ص ١٦٩.

(٢) في ص ١٦٩.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٢٤٤ ، وانظر : مجمع البيان ٣ ـ ٤ : ٥٢ في تفسير الآية ٤٣ من سورة النساء.

(٤) الحاكي عنهما هو البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٢٤٤ و ٢٤٥ ، وانظر : المصباح المنير :٤١٠ ، والمغرب ١ : ٣٠١ «صعد».

(٥) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٢٢ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٧٣.

١٧٠

الأرض للإشارة إلى المناسبة ، وإلّا فالمتبادر منه في كثير من موارد استعمالاته هو نفس الأرض.

مثل : قوله تعالى (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) (١) أي أرضا ملساء يزلق عليها باستئصال نباتها.

وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة على صعيد واحد» (٢) أي : أرض واحدة.

هذا ، مع أنّ إرادة هذا المعنى أو معناه الوصفي أوفق بسياق الآية على ما يشهد به الذوق السليم ؛ فإنّ المتبادر من قوله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (٣) إرادة القصد إلى صعيد طيّب بالمضيّ إلى نحوه ، لا مجرّد العزم على استعماله بأن يكون المراد من قصده استعماله ، وهذا المعنى لا يناسب إرادة التراب الذي هو في حدّ ذاته من المنقولات ، كالماء ، فإنّ من المستهجن أن يقال : اقصدوا ، أو تيمّموا ماء طاهرا ، أو ترابا نظيفا ، بخلاف ما لو أريد به أرض نظيفة أو مكان مرتفع (٤) من الأرض بإرادة معناه الوصفي ، كما هو واضح.

ولا يبعد أن تكون إرادة المعنى الثاني أنسب بسوق الآية بملاحظة توصيفه بالطيّب حيث إنّ الغالب في المكان المرتفع تحقّق النظافة ، فيستشعر من

__________________

(١) الكهف ١٨ : ٤٠.

(٢) أورده المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٧٣ ، وفي صحيح مسلم ٤ : ٢١٩٤ / ٢٨٥٩ ، والمعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٣ : ٩٣ / ٢٧٥٥ ، بدون «على صعيد واحد».

(٣) النساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «أرضا نظيفا أو مكانا مرتفعا». والصحيح ما أثبتناه.

١٧١

التوصيف ما هو النكتة في تخصيص الصعيد بالذكر مع عدم كون خصوصيّته من مقوّمات الموضوع ، بل من الخصوصيّات الموجبة لأفضليّة الفرد ، كما ستعرف من استحباب أن يكون التيمّم من ربا الأرض وعواليها.

ويؤيّد إرادة هذا المعنى من الآية بل يدلّ عليه ما عن الصدوق في معاني الأخبار عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «الصعيد : المرتفع من الأرض ، والطيّب : الذي ينحدر عنه الماء» (١).

ومثله عن الفقه الرضوي ؛ فإنّه قال : «قال الله تبارك وتعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (٢) والصعيد : المرتفع من الأرض ، والطيّب : الذي ينحدر عنه الماء» (٣).

وقد نبّهنا غير مرّة على شدّة الوثوق بكون ما في الفقه متون الأخبار الموثّقة لدى مصنّفه إن لم يكن بنفسه من مصنّفات الإمام عليه‌السلام كما هو المظنون ، وإلّا فهو حجّة كافية ، فلا ضير في انجبار ضعف الروايتين في المقام بجملة من المعاضدات التي لا تخفى على المتأمّل.

وكيف كان فلم يحصل لنا وثوق أصلا من قول اللغويّين الذين فسّروا الصعيد بخصوص التراب بكونه بخصوصه من حيث هو معناه الحقيقيّ ، ولا نلتزم بحجّيّة قولهم تعبّدا في مثل هذه الأمور الاستنباطيّة ما لم يحصل الوثوق الشخصي من قولهم ، خصوصا مع وجود المعارض ، فضلا عن تنزيل الآية عليه ،

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٢٤٥ ، وانظر : معاني الأخبار : ٢٨٣.

(٢) النساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٢٤٥ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٠.

١٧٢

مع ما عرفت من أنسبيّة المعنى الوصفي الذي لا شكّ في كونه حقيقة فيه ، وقد سمعت التصريح بإرادته في الخبرين.

لكن قد يقال : إنّ الصعيد في الآية وإن قلنا بأنّه لم يستعمل في خصوص التراب بعنوان الخصوصيّة لكنّه بالخصوص ـ لكونه أظهر أفراد الصعيد وأشيعها ـ مراد منه بقرينة قوله تعالى في سورة المائدة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (١) فإنّ المتبادر من لفظة (مِنْهُ) إرادة المسح ببعض ذلك الصعيد ، وهذا لا يستقيم إلّا بإرادة التراب دون الحجر ، فإنّ الحجر لا يعلّق باليد حتّى يصدق المسح منه.

وحمل كلمة «من» على البدليّة بإرجاع الضمير إلى الماء خلاف الظاهر ، وحملها على الابتداء بعيد من السياق.

وعدم ذكر لفظة منه في آية التيمّم في سورة النساء (٢) لا يجدي ؛ فإنّ القرآن يقيّد بعضه بعضا بلا شبهة.

ويشهد له ـ مضافا إلى أنّه هو الظاهر من الآية ـ صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرّجلين ، وذكر الحديث ، إلى أن قال أبو جعفر عليه‌السلام : «ثمّ فصّل بين الكلام فقال (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال (بِرُؤُسِكُمْ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء .. ثمّ قال (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) فلمّا أن وضع الوضوء عمّن لم يجد الماء أثبت بعض

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) النساء ٤ : ٤٣.

١٧٣

الغسل مسحا ، لأنّه قال (بِوُجُوهِكُمْ) ثمّ وصل بها (وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي من ذلك التيمّم ، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه ، لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ ، ولا يعلق ببعضها» (١) الحديث.

وفيه : أنّ كلمة «من» في الآية على الظاهر للابتداء ، ولا يستقيم حملها على التبعيض إلّا بتمحّل.

وقد حكي عن السيّد في طيّ كلام له : التصريح بأنّ كلمة «من» للابتداء ، وأنّ جميع النحويّين من البصريّين منعوا ورود «من» لغير الابتداء (٢).

وأمّا الصحيحة فهي شاهدة على ذلك لا على ما ادّعي.

بيان ذلك : أنّه إن أريد بكلمة «من» التبعيض ، لكان معناها : امسحوا بوجوهكم بعض الصعيد ، ومن المعلوم أنّ بعض الصعيد صعيد ، فهو بمنزلة ما لو قال : امسحوا بوجوهكم الصعيد ، فإنّه لا يفهم من هذه العبارة أيضا إلّا إرادة بعضه ؛ لتعذّر إرادة كلّه ، وهذا المعنى لا يكاد يتحقّق إلّا أن يكون ما يطلق عليه الصعيد ممسوحا به ، نظير قولك : امسح يدك بالمنديل ، فيكون مفاد الآية حينئذ ما صنعه عمّار حيث تمرّغ في التراب ، كما حكي قصّته في عدّة أخبار (٣) ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين أن يكون ذلك البعض الذي يمسح بالوجه حجرا أو ترابا.

لكنّ هذا المعنى غير مراد بالآية قطعاً ، فإنّه لا يعتبر في التيمّم بالضرورة فضلا عن النصّ والإجماع مسح الصعيد بالوجه واليدين ، بل المعتبر فيه مسحهما

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٠ / ٤ ، الفقيه ١ : ٥٦ ـ ٥٧ / ٢١٢ ، التهذيب ١ : ٦١ ـ ٦٢ / ١٦٨ ، الإستبصار ١ : ٦٢ ـ ٦٣ / ١٨٦ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب التيمّم ، ح ١.

(٢) مسائل الناصريّات : ١٥٥ ـ ١٥٦ ، المسألة ٥٠.

(٣) راجع : الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، الأحاديث ٢ و ٤ و ٨ و ٩.

١٧٤

بالكفّين الموضوعتين على الأرض ، فالمراد بـ «من» في الآية على الظاهر ليس إلّا ما أراده الصادق عليه‌السلام في قوله ـ في صحيحة الحلبي ـ : «إذا لم يجد الرجل طهورا وكان جنبا فليتمسّح من الأرض» (١) ومن المعلوم عدم كون كلمة «من» في هذه الصحيحة للتبعيض ، بل هي للابتداء ، فالمقصود من الأمر بالمسح من الصعيد بالوجه واليدين عند عدم إرادة مسح نفس الصعيد بهما إنّما هو كون المسح بهما ناشئا منه بنحو من الاعتبار ، فتكون كلمة «من» للابتداء لا للتبعيض.

ومن هنا يتطرّق الإجمال في تشخيص المراد بالمسح من الصعيد حيث لا يفي مجرّد الأمر به بفهم الكيفيّة التي أريدت من إضافة المسح إلى الصعيد ، ولذا قد أكثر الناس في السؤال عن كيفيّة التيمّم ولم يفهموها من الآية ، وقد بيّنها النبيّ والوصيّ ـ صلوات الله عليهما ـ في جملة من الأخبار البيانيّة : مثل ما عن داود بن النعمان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التيمّم ، فقال : «إنّ عمّارا أصابته جنابة فتمعّك كما تتمعّك الدابّة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يهزأ به : يا عمّار تمعّكت كما تتمعّك الدابّة؟» فقلنا له : فكيف التيمّم؟ فوضع يده على الأرض ثمّ رفعهما فمسح وجهه ويديه فوق الكفّ قليلا (٢).

وعن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول وذكر التيمّم وما صنع عمّار ، فوضع أبو جعفر عليه‌السلام كفّيه على الأرض ثمّ مسح وجهه وكفّيه ولم يمسح

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٣ / ٣ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ٤.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠٧ / ٥٩٨ ، الإستبصار ١ : ١٧٠ / ٥٩١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٤.

١٧٥

الذراعين بشي‌ء (١) (٢).

وعنه أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام في التيمّم ، قال : «تضرب بكفّيك الأرض ثمّ تنفضهما وتمسح بهما وجهك ويديك» (٣).

وعنه أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «أتى عمّار بن ياسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله أجنبت الليلة فلم يكن معي ماء ، قال : كيف صنعت؟ قال : طرحت ثيابي وقمت على الصعيد فتمعّكت فيه ، فقال : هكذا يصنع الحمار ، أما قال الله عزوجل (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)؟ فضرب بيديه على الأرض ثمّ ضرب إحداهما على الأخرى ثمّ مسح بجبينه ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الأخرى ، فمسح اليسرى على اليمنى واليمنى على اليسرى» (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في كيفيّة التيمّم ، الدالّة على أنّ المراد بتيمّم الصعيد وضع الكفّين عليه وإمرارهما على الوجه واليدين ، لا إمرار نفس الصعيد عليهما الذي هو عبارة عن مسحه بهما ، فكيف يمكن أن يراد بـ «من» في الآية التبعيض!؟

ولا يصحّح ذلك الالتزام باشتراط العلوق ، فإنّ غاية ما يمكن أن يلتزم به إنّما هو اعتبار الأثر الذي يبقى في اليدين الموضوعتين على التراب ـ مثلا ـ بعد

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «ثمّ رفعهما فنفضهما ، ثمّ مسح على جبينه وكفّيه مرّة واحدة». وهو من رواية عمرو بن أبي المقدام عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، الواردة في الوسائل بعد رواية زرارة. وما أثبتناه من رواية زرارة.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠٨ / ٦٠٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٥.

(٣) التهذيب ١ : ٢١٢ / ٦١٥ ، الإستبصار ١ : ١٧١ / ٥٩٥ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٧.

(٤) السرائر ٣ : ٥٥٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٩.

١٧٦

نفضهما ، وهذا الأثر لا يسمّى باسم التراب عرفا وإن صدق عليه أنّه منه ، لكن بمعنى كونه ناشئا منه ، لا بمعنى كونه ترابا أو بعضا من التراب.

وإن أبيت إلّا عن كفاية هذا المقدار من الإضافة ـ بعد المسامحة العرفيّة ـ في إرادة التبعيض من كلمة «من» في الآية ، فنقول : إنّ هذا المقدار من الأثر ـ الذي ـ يبقى في اليد بعد نفضها الذي لا يعتبر في التيمّم أزيد منه بالضرورة ـ قلّما ينفكّ عنه ضرب اليدين على مطلق وجه الأرض ولو على الحجر ، فإنّ الغالب وجود غبار عليه تتأثّر منه اليد ، وعدم كون ذلك الغبار جزءا من الحجر لا يضرّ بعد كونه جزءا من الأرض التي هي عنوان الموضوع.

فما اعترضه بعض على صاحب الذخيرة ـ حيث جوّز التيمّم بالحجر بشرط أن يكون عليه غبار يتعلّق باليد (١) ـ بأنّ المتبادر من الآية كون ما يتيمّم به من جنس ما يتعلّق باليد في غير محلّه.

وحيث إنّ الغالب تحقّق هذا المقدار من الأثر عند مماسّة الحجر أيضا فلا يصلح أن يكون ظهور «من» في التبعيض شاهدا على عدم إرادة ما عدا التراب.

ثمّ لو سلّم ظهور كلمة «من» في التبعيض ، ومنافاته لجواز التيمّم بالحجر فإنّما هو في المتماسك منه ، دون مسحوقه أو غيره من أنحاء وجه الأرض ، فلا يصلح قرينة لإرادة خصوص التراب.

وملخّص الكلام : أنّ دعوى دلالة الآية على إرادة التراب من الصعيد ضعيفة جدّا.

ونظيرها دعوى استفادته من صحيحة زرارة ، المتقدّمة (٢) ؛ فإنّها مسوقة

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٩٨ ، كفاية الأحكام : ٨.

(٢) في ص ١٧٣.

١٧٧

لبيان دلالة الآية على أنّ المسح ببعض الوجه واليدين لمكان الباء.

وقد تقدّم بعض الكلام في توجيه الرواية في مبحث الوضوء ، فراجع (١).

وقوله عليه‌السلام : «ثمّ وصل بها (وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي من ذلك التيمّم» إنّ أبقيناه على ظاهره بإرجاع الضمير إلى نفس التيمّم وإن احتاج توجيهه إلى تكلّف ، فالمتعيّن حمل كلمة «من» على الابتداء ، كما هو واضح.

وإن قلنا بأنّه أريد بالتيمّم ما يتيمّم به ، كما هو الظاهر المناسب لما بعده من التعليل وغيره من القرائن ، فالأمر أيضا كذلك بمعنى أنّ المتعيّن حملها حينئذ أيضا على الابتداء دون التبعيض ؛ فإنّ المقصود بقوله عليه‌السلام : «إنّ ذلك أجمع» الحديث ـ على الظاهر ـ إنّما هو بيان حكمة أنّ الله تعالى أوجب أن يكون المسح من الصعيد لا به بنفسه حيث علم أنّه بنفسه لا يتعلّق بالكفّ على وجه يمكن إجراؤه بالكيفيّة المعتبرة في التيمّم على الوجه واليدين ، فأوجب الله تعالى أن يكون المسح ناشئا منه لا به ، وليس المراد بما يعلق ببعض الكفّ من الصعيد العلوق الذي اعتبره القائلون به ؛ ضرورة أنّ ذلك العلوق ـ بعد تسليم صحّة إطلاق كونه بعض الصعيد ـ يعلق غالبا بجميع الكفّ ، كما هو الشرط على الظاهر لدى مشترطيه ، بل ربما يتعلّق بظاهر اليد أيضا ، فالمقصود به على الظاهر ليس إلّا أنّ ذلك الصعيد بنفسه لا يعلق حقيقة إلّا ببعض الكفّ ، فلا يمكن أن يكلّف الناس بإجرائه على الوجه واليدين بالنحو المعتبر فيهما ، ولذا لم يأمرهم بذلك ، وإنّما أوجب عليهم المسح منه بنحو من الاعتبار الذي بيّنه الشارع في الأخبار البيانيّة.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ٣٤٠ وما بعدها.

١٧٨

وبما ذكرنا اتّضح ما نبّه عليه الشهيد في محكيّ الذكرى بقوله ـ بعد إيراد الخبر المذكور ـ : وهذا الصحيح فيه إشارة إلى عدم اعتبار العلوق (١). انتهى.

لا يقال : إنّ مقتضى ما ذكرت خروج الحجر ونحوه ممّا لا يعلق بعضه المسمّى باسمه ببعض الكفّ من مصداق الصعيد ؛ لما في الرواية من التصريح بأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ.

لأنّا نقول : كونه كذلك إنّما هو بحسب الغالب ، وقد ذكر ذلك تمهيدا لقوله عليه‌السلام : «ولا يعلق ببعضها» الذي هو الحكمة في عدم إيجاب المسح به ، فلا ظهور له في إناطة موضوعيّة الموضوع بكونه متّصفا بهذه الصفة.

ثمّ إنّ ما ذكرنا في توجيه الرواية الشريفة أقرب وجوهها المحتملة في مقام التوجيه ، وإلّا فالإنصاف أنّ هذه الفقرة الأخيرة منها متشابهة لا يكاد يرى ظاهرها على وجه يوثق به.

والغرض من إطالة الكلام فيها الإشارة إلى أجمل الوجوه ، والتنبيه على عدم دلالتها على اشتراط العلوق ، كما قد يتوهّم ، وإلّا فقد أشرنا آنفا إلى أنّه لو سلّمت دلالتها على أنّ كلمة «من» في الآية للتبعيض ، بل صراحتها على اشتراط العلوق في التيمّم لا يجدي للمستدلّ بعد قضاء الضرورة بعدم اعتبار أزيد من الأثر الباقي في اليد بعد نفضها في صحّة التيمّم ، فإنّ مثل هذا الأثر كثيرا مّا بل غالبا يحصل بضربها على الحجر المتماسك أيضا فضلا عن مسحوقه ، كما هو واضح.

وأجيب عن استدلال السيّد وأتباعه بقوله عليه‌السلام : «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» بضعف الرواية ؛ لعدم إيرادها بهذا المتن إلّا في كتب

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٩٣ ، وانظر : الذكرى ٢ : ٢٦٣.

١٧٩

الفقهاء ، وأمّا في كتب الأخبار فقد رويت بإسقاط لفظ «وترابها».

فعن الكافي أنّه روى عن أبان بن عثمان عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أعطى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ـ إلى أن قال ـ وجعل له الأرض مسجدا وطهورا» (١) الحديث.

وعن محاسن البرقي عن أبي إسحاق الثقفي عن محمّد بن مروان مثله (٢).

وعن الفقيه مرسلا قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (٣) الحديث.

وعن الخصال بسنده ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فضّلت بأربع : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأيّما رجل من أمّتي أراد الصلاة فلم يجد ماء ووجد الأرض فقد جعلت له مسجدا وطهورا» (٤) الحديث.

وعنه أيضا بسند آخر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (٥) الحديث.

نعم ، عن العلل روايتها بذكر «وترابها طهورا» مسندة إلى جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) بسند جلّ رواتها من العامّة ، فلا تعويل عليها.

وعن المحقّق في المعتبر مرسلا ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا أينما أدركتني الصلاة صلّيت» (٧).

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٧ / ١ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب التيمّم ، ح ١.

(٢) المحاسن : ٢٨٧ / ٤٣١ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب التيمّم ، ذيل ح ١.

(٣) الفقيه ١ : ١٥٥ / ٧٢٤ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٤) الخصال : ٢٠١ / ١٤ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٥) الخصال : ٢٩٢ / ٥٦ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب التيمّم ، ح ٤.

(٦) علل الشرائع : ١٢٧ ـ ١٢٨ / ٣ ، مستدرك الوسائل ، الباب ٥ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٧) المعتبر ٢ : ١١٦ ، وفي ج ١ ص ٣٧٣ صدره.

١٨٠