مصباح الفقيه - ج ٦

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٦

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وكيف كان فهذه الأخبار إن أمكن توجيهها على وجه لا ينافي ما عرفت ، فهو ، وإلّا فيجب ردّ علمها إلى أهله ؛ فإنّ ظاهرها وجوب الغسل حتّى مع العلم بالضرر بل التلف ، فلو لم يكن فيها إلّا ما أشرنا إليه ـ من حرمة تعريض النفس للهلكة عقلا وشرعا ، وأهمّيّة حفظ النفوس من سائر الواجبات النفسيّة فضلا عن الوضوء أو الغسل الذي جعل الشارع له بدلا اضطراريّا سوّغه أدنى ضرورة ، كما في سائر المقامات ـ كفى به دليلا لعدم جواز العمل بها.

وتوهّم كونه عقوبة للمتعمّد فلا ينافي حكم الشرع والعقل بقبح الإقدام على الهلكة ، كما في الحدود والقصاص ، مدفوع : بأنّ مقتضاه حرمة إيجاد سببه ، وهو الجنابة العمديّة ، وإلّا للزم إباحة إلقاء النفس في المهلكة ، وهو باطل.

مع أنّه لا خلاف ظاهرا في جوازه في الجملة ، بل عن المعتبر دعوى الإجماع عليه (١).

كما يشهد له خبر السكوني «أنّ أبا ذر أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله هلكت جامعت على غير ماء ، قال : فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمحمل فاستترت به ، وبماء فاغتسلت أنا وهي ، ثمّ قال : يا أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين» (٢).

وخبر إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يكون مع أهله في السفر فلا يجد الماء يأتي أهله ، فقال : «ما أحبّ أن يفعل ذلك إلّا أن يكون شبقا أو يخاف على نفسه» قال : يطلب بذلك اللذّة ، فقال : «هو حلال» قلت : فإنّه

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٠٨ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٩٧.

(٢) التهذيب ١ : ١٩٤ / ٥٦١ ، و ١٩٩ ـ ٢٠٠ / ٥٧٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ١٢.

١٤١

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أبا ذر سأله عن هذا ، فقال : «ائت أهلك تؤجر» فقال : يا رسول الله وأؤجر؟ قال : «نعم ، إنّك إذا أتيت الحرام أزرت فكذلك إذا أتيت الحلال أجرت» فقال : «ألا ترى أنّه إذا خاف على نفسه فأتى الحلال أجر» (١).

والذي ينبغي أن يقال في الأخبار الآمرة بالغسل : أمّا المرفوعتان منها فلا يجوز العمل بهما بحال ؛ لضعف سندهما بالإرسال ، وإعراض المشهور عنهما ، مضافا إلى أنّ ثانيتهما مقطوعة ، وأولاهما مخالفة لظواهر الكتاب والسنّة المعتضدة بالقواعد العقليّة والنقليّة التي تجعلها نصّا في العموم أو قريبة من النصّ بحيث لا يرفع اليد عنها إلّا بنصّ صحيح صريح غير قابل للطرح أو التأويل ، بل كيف يتصرّف في إطلاق ما دلّ على أنّ المجدور يتيمّم ولا يغتسل! مع أنّ جملة من أخباره يتضمّن التوبيخ والدعاء على من غسله ، فلو كان الغسل واجبا عليه على تقدير كون جنابته عمديّة ، لم يكن يتوجّه عليه التوبيخ إلّا بعد الاستفصال وانكشاف كون جنابته بسبب الاحتلام ، كما لا يخفى.

وأمّا الصحيحتان فيعارضهما في خصوص موردهما صحيحتا داود بن سرحان والبزنطي ، وصحيحة ابن سنان ، المتقدّمات (٢).

والجمع بينها بحمل تلك الأخبار على ما لو خاف على نفسه التلف والصحيحتين على غيره وإن لم يكن بعيدا بالنظر إلى نفس الأخبار ، لكنّه لا يمكن بعد اعتضاد إطلاق تلك الأخبار ـ الآمرة بالتيمّم ـ بعمل المشهور ، وموافقتها لعمومات نفي الحرج ، التي يشكل ارتكاب التخصيص فيها ، خصوصا في مثل

__________________

(١) السرائر ٣ : ٦١١ ـ ٦١٢ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب التيمّم ، ج ١ و ٢.

(٢) في ص ١٣٤ و ١٤٠.

١٤٢

المقام إلّا بنصّ صريح ، فالمتعيّن طرح الصحيحتين لو لم يمكن تأويلهما.

لكن يمكن حملهما على الاستحباب فيما هو الغالب من موردهما ـ كما عن المعتبر وغيره (١) ـ فإنّ الغالب أنّ الخوف على النفس بمرض شديد أو تلف من الغسل في أرض باردة عند صحّة المزاج واعتداله ـ كما هو منصرف السؤال ـ إنّما ينشأ عن احتمال موهوم في الغاية لا تجب رعايته ، حيث إنّ المظنون فيه ـ على تقدير أن يتعقّبه التحفّظ من البرد بإكثار الثياب والتحمّي ـ الصحّة والسلامة ، بل الغالب في مثل الفرض الأمن من ضرره إلّا من أمراض يسيرة من زكام ونحوه ممّا لا يجب التحفّظ عنه ، بل ربما يكون خوفه من المرض والتلف من تلبيسات النفس وتسويلاتها تنشأ من مشقّة الفعل ، كما يفصح عن ذلك ما لو وقع قهرا في الماء فخرج وتحفّظ ، فإنّه لا يخاف عليه عادة من تلف أو مرض شديد.

والحاصل : أنّ الغالب أنّه لا يترتّب على الغسل في البرد الشديد مع إمكان التحفّظ خصوصا مع التمكّن من إسخان الماء إلّا المشقّة الرافعة للتكليف.

كما يؤيّد ذلك قول السائل في صحيحة [عبد الله بن] سليمان ـ المتقدّمة (٢) ـ في رجل كان في أرض باردة فتخوّف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل ، فإنّ العنت : المشقّة ، فقول الإمام عليه‌السلام في جوابه : «يغتسل وإن أصابه ما أصابه» يعني من العنت.

وأمّا الخوف من التلف أو المرض الذي يجب التحرّز عنه فلا يكون غالبا إلّا على سبيل الاحتمال الموهوم الذي لا يؤثّر في حرمة العمل ، ولا مانع من تنزيل

__________________

(١) الحاكي عنهما صاحب الجواهر فيها ٥ : ١١٠ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٩٨ ، وكشف اللثام ٢ : ٤٨٨.

(٢) في ص ١٣٩.

١٤٣

الصحيحتين على مثل الفرض وحملهما على الاستحباب ؛ إذ لا يعارضهما حينئذ إلّا عمومات نفي الحرج ، والصحاح المتقدّمة.

أمّا العمومات فستعرف أنّه لا يفهم منها إلّا الرخصة في التيمّم لا وجوبه عينا.

وأمّا الصحاح فهي أيضا كذلك ؛ فإنّها وإن اشتملت على النهي عن الغسل لكن لوروده في مقام توهّم الوجوب لا يدلّ إلّا على جواز الترك ، وعلى تقدير ظهوره في الحرمة فليس على وجه يطرح لأجله الصحيحتان ، فالأقوى في الفرض استحباب الغسل ، والأحوط تركه إلّا مع الأمن من ضرره ولو يسيرا ، والله العالم.

وقد اتّضح بما تقدّم أنّه لا شبهة في جواز التيمّم في كلّ مورد يكون التكليف بالطهارة المائيّة ـ غسلا كان أو وضوءا ـ حرجيّا من غير فرق بين أن يكون ذلك لبرودة الهواء (أو) غيرها من الأسباب الموجبة لذلك ولو بأن خشي الشين الذي يشقّ تحمّله.

لكنّ الإشكال فيما أطلقه المصنّف وغيره من أنّه لو خشي (الشين باستعماله الماء ، جاز له التيمّم) بل عن ظاهر غير واحد دعوى الإجماع عليه حيث لم نعرف له مستندا عدا عموم نفي الحرج الذي لا يقتضي جوازه إلّا على تقدير أن يشقّ تحمّله ، وكون مطلقه كذلك غير معلوم.

اللهمّ إلّا أن يستند في ذلك إلى إطلاقات معاقد الإجماعات المستفيضة الكاشفة عن كون الخوف من الشين في حدّ ذاته مناطا لجواز التيمّم.

لكنّ الوثوق بذلك مشكل ؛ فإنّ القدر المتيقّن من معقد الإجماع ما إذا خشي شيئا يشقّ تحمّله ، لا مطلقا ، فقد حكي عن موضع من المنتهى وعن جماعة من

١٤٤

المتأخّرين تقييده بالفاحش (١) ، وعن جماعة أخرى تقييده بما لا يتحمّل (٢) ، بل عن الكفاية أنّه نقل بعضهم الاتّفاق على أنّ الشين إذا لم يغيّر الخلقة ويشوّهها ، لم يجز التيمّم (٣).

وكيف كان فلا وثوق بانعقاد الإجماع على أزيد ممّا يفهم جوازه من أدلّة نفي الحرج ، فالأقوى الاقتصار على الشديد منه الذي يشقّ تحمّله عادة ، سواء كان الخوف من حصوله أو زيادته أو بطؤ برئه أو شدّة ألمه.

ثمّ إنّ المراد بالشين ـ على ما صرّح به في المدارك وغيره (٤) ـ ما يعلو البشرة من الخشونة المشوّهة للخلقة من استعمال الماء في البرد ، وقد يصل إلى تشقّق الجلد وخروج الدم.

(وكذا لو كان معه ماء للشرب وخاف العطش) على نفسه (إن استعمله) جاز له التيمّم بلا إشكال ولا خلاف فيه نصّا وفتوى ، كما يدلّ عليه ـ مضافا إلى عمومات الكتاب والسنّة ـ صحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال في رجل أصابته جنابة في السفر وليس معه إلّا ماء قليل ، ويخاف إن هو اغتسل أن يعطش ، قال : «إن خاف عطشا فلا يهريق منه قطرة وليتيمّم بالصعيد ، فإنّ الصعيد أحبّ إليّ» (٥).

__________________

(١) الحاكي عنهم هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ١١٤ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ١٣٥ ، وجامع المقاصد ١ : ٤٧٣ ، وروض الجنان : ١١٧ ، وكشف اللثام ٢ : ٤٤٣.

(٢) كما في جواهر الكلام ٥ : ١١٤.

(٣) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٥ : ١١٤ ، وانظر : كفاية الأحكام : ٨.

(٤) مدارك الأحكام ٢ : ١٩٤ ـ ١٩٥ ، جامع المقاصد ١ : ٤٧٣.

(٥) الكافي ٣ : ٦٥ / ١ ، التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٧ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب التيمّم ، ح ١.

١٤٥

وصحيحة الحلبي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الجنب يكون معه الماء القليل فإن هو اغتسل به خاف العطش ، أيغتسل به أو يتيمّم؟ فقال : «بل يتيمّم وكذلك إذا أراد الوضوء» (١).

وموثّقة سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلّته ، قال : «يتيمّم بالصعيد ويستبقي الماء ، فإنّ الله عزوجل جعلهما طهورا : الماء والصعيد» (٢).

وخبر ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب ومعه ماء قدر ما يكفيه لشربه أيتيمّم أو يتوضّأ به؟ فقال : «يتيمّم أفضل ، ألا ترى أنّه جعل عليه نصف الطهور» (٣).

وكذا جاز له التيمّم لو خاف العطش على غيره مطلقا على الأظهر آدميّا كان أم غيره ممّا تعلّق الغرض شرعا أو عرفا بحفظه وريّ كبده من الظمأ ، كما هو الشأن في سائر الحيوانات ، فإنّ أحدا من أرباب المروّات لا يرضى بأن يرى شيئا من ذوات أكباد حارّة يتلظّى عطشا ، فيكون حفظ الماء لرعاية ذلك من المقاصد المرغوبة شرعا وعرفا بحيث يخاف فوته عند خوفه قلّة الماء ، فله حينئذ أن يتيمّم بالصعيد ، ويستبقي الماء ، فإنّ الله تعالى جعلهما طهورا ، كما دلّ عليه موثّقة (٤) سماعة ؛ فإنّ مفادها كون خوف قلّة الماء وفقده لدى الحاجة إليه في مأكل ومشرب وغيره من المقاصد المهمّة مبيحا للتيمّم.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٦ / ١٢٧٥ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٢) التهذيب ١ : ٤٠٥ / ١٢٧٤ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٣) الكافي ٣ : ٦٥ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب التيمّم ، ح ٤.

(٤) تقدّمت آنفا.

١٤٦

ويدلّ عليه أيضا إعادة السؤال في الجواب منكّرا في صحيحة (١) ابن سنان حيث قال : «إن خاف عطشا فلا يهريق منه قطرة» فإنّ إطلاقه يقتضي عدم الفرق بين أن يخاف على نفسه أو غيره آدميّا كان أو غيره.

نعم ، ينصرف ذلك عن كلّ ما كان الراجح شرعا وعرفا الاحتيال في إتلافه آدميّا كان أو حيوانا مؤذيا ، كما هو واضح.

وبعضهم (٢) خصّ الحكم ـ عند خوف العطش على الغير ـ بما إذا كان ذلك الغير مسلما محقون الدم أو حيوانا مملوكا يتضرّر بتلفه. واستشكل في الكتابي ، ونفى الجواز فيما عداه ، سواء كان آدميّا مهدور الدم أصلا أو عارضا ، أو حيوانا غير مملوك أو مملوكا يمكن الانتفاع به بعد الذبح بحيث لم يتضرّر ، زاعما أنّه لا يفهم من الأخبار إلّا جوازه فيما إذا خاف على نفسه العطش ، وقصور أدلّة نفي الحرج عن إثبات الحكم إلّا في الجملة.

وإنّما التزم بالجواز مطلقا عند الخوف على النفس المحترمة من الآدمي لكون حفظها أهمّ في نظر الشارع من الوضوء.

وأمّا الاستشكال بالنسبة إلى الكتابي فللشكّ في وجوب حفظه ، وإنّما المتيقّن حرمة إتلافه.

وأمّا عند الخوف على المملوك الذي يتضرّر بتلفه فهو من جزئيّات الخوف على المال الذي عرفت جواز التيمّم عنده.

وفيه ما عرفت فيما سبق من أنّ كون أحد الواجبين أهمّ إنّما يصلح دليلا

__________________

(١) تقدّمت في ص ١٤٥.

(٢) لم نتحقّقه.

١٤٧

لترك غير الأهمّ بعد تنجّز التكليف بالأهمّ وإحراز توقّفه على ترك غير الأهمّ ، ولا يكفي في ذلك مجرّد الاحتمال المجامع للخوف ، كما في سائر الشبهات الموضوعيّة.

فالعمدة فيه لدى الخوف على النفس المحترمة الإجماع ـ كما صرّح به بعض (١) ـ وإطلاق الخبرين (٢) المتقدّمين ، بل قد عرفت أنّ مقتضى إطلاقهما جوازه عند خوف قلّة الماء والعطش مطلقا ولو على حيوان غير مملوك ممّا جرت العادة بسقيه عند العطش ، كما يؤيّد ذلك الوجه الاعتباري الذي تقدّمت الإشارة إليه من أنّ إطفاء حرّ الكبد من الظمأ في حدّ ذاته من الأمور المستحسنة المرغوبة لدى العقلاء بحيث يرونه من الأعذار المبيحة لترك جملة من مقاصدهم العقلائيّة ، فمن المستبعد جدّا أن لا يكون لدى الشارع كذلك بالنسبة إلى الطهارة المائيّة التي جعل لها بدلا اضطراريّا ، وهذا النحو من الاعتبار وإن لم يصلح مستندا لإثبات حكم شرعي لكنّه يفيد الوثوق بكون مناط الحكم هو خوف العطش مطلقا ، كما وقع التعبير به في النصّ وفتاوى الأصحاب ، وأنّه لا عبرة بتفسير من فسّره بما هو أخصّ من هذا المفهوم المطلق.

وكيف كان فالأظهر اطّراد الحكم في جميع موارد الخوف من العطش ولو على غير آدميّ من غير فرق بين أن يكون العطش ـ الذي يخاف منه ـ ممّا يؤدّي إلى الهلاك أو إلى المرض أو يشقّ تحمّله وإن أمن من ضرره ؛ لإطلاق الأدلّة.

نعم ، لا يعتنى بالخوف من العطش الذي يسهل تحمّله ؛ لانصرافها عنه ،

__________________

(١) انظر : جواهر الكلام ٥ : ١١٤.

(٢) أي : خبرا ابن سنان وسماعة ، المتقدّمان في ص ١٤٥ و ١٤٦.

١٤٨

والله العالم.

ثمّ لا يخفى أنّه حيثما جاز التيمّم عند الخوف من عطش جاز ذلك عند تحقّق ذلك العطش ؛ لفحوى الأدلّة المتقدّمة والأولويّة القطعيّة.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : ظاهر غير واحد أنّ الخوف ـ الذي أنيط به الأحكام المتقدّمة ـ يساوق الظنّ.

وهو وهم ؛ فإنّ الخوف من وقوع المكروه يتحقّق عرفا ولغة عند احتمال وقوعه احتمالا يعتدّ به حيث يكون منشأ لتشويش الخاطر من حيث عدم الوثوق بعدمه في مقابل الأمن بذلك ، فالطريق المخوف عبارة عن غير المأمون ، لا ما يظنّ فيه عدم السلامة ، كما هو واضح.

الثاني : هل يكفي في جواز التيمّم في جميع الموارد المتقدّمة مطلق الخوف؟ أم يعتبر بلوغه حدّا يظنّ معه وقوع ما يخاف منه؟ كما هو صريح الجماعة الّتي تقدّمت الإشارة إليهم ، أو فيه تفصيل؟ والذي ينبغي أن يقال : دوران الحكم في كلّ مورد مدار تحقّق العنوان المأخوذ من دليله ، فيكفي مطلق الخوف المعتدّ به لدى العقلاء في الموارد التي يفهم حكمها من الأدلّة الخاصّة المتقدّمة ، كالخوف من العطش أو من زيادة المرض أو من تلف النفس ، وفي الموارد التي لا يفهم حكمها إلّا من أدلّة نفي الحرج يعتبر بلوغه حدّا يشقّ تحمّله في العادة ، وهذا كما يختلف باختلاف ما يخاف منه ، كذلك يختلف باختلاف مراتب الخوف ، فربّ مرتبة منه لا يكون التكليف بتحمّلها حرجيّا وإن كان متعلّقه على تقدير تحقّقه ممّا لا يتحمّل عادة ، و

١٤٩

كذلك يختلف باختلاف شدّة الاعتناء والاهتمام بالتحرّز عن المتعلّق وضعفه.

والحاصل : أنّه إذا كان مستند الحكم نفي الحرج ، يدور الحكم مدار عنوان الحرج ، وليس مطلق الخوف في الموارد المتقدّمة ملزوما لتحقّق ذلك العنوان.

لكن لا يبعد أن يقال : إنّه يستفاد من تتبّع فتاوى الأصحاب ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة في الفروع المتقدّمة : أنّ الخوف على المال أو النفس أو غيرهما من الأمور المتقدّمة من حيث هو بنفسه عنوان لموضوع الحكم ، ولا عبرة بتفسير من فسّره بالظنّ ، فإنّه راجع إلى اجتهاده ، وإلّا فظاهرهم الاتّفاق على جواز التيمّم عند الخوف على المذكورات ، لكنّ الجزم بذلك مشكل ، فالأحوط بل الأقوى هو الاقتصار على مواقع الحرج الفعلي.

نعم ، لو ظنّ ضررا يعتدّ به في ماله أو نفسه ، جاز له التيمّم وإن لم يشقّ عليه تحمّله ؛ لقاعدة نفي الضرر ، فإنّ الظاهر كون مظنون الضرر لدى العقلاء بحكم مقطوعة ، والله العالم.

الثالث : أنّ التيمّم في الموارد التي ثبت جوازه بدليل نفي الحرج رخصة لا عزيمة ، فلو تحمّل المكلّف المشقّة الشديدة الرافعة للتكليف وأتى بالطهارة المائيّة ، صحّت طهارته ، كما تقدّمت الإشارة إليه في حكم الاغتسال لدى البرد الشديد ؛ فإنّ أدلّة نفي الحرج ـ لأجل ورودها في مقام الامتنان وبيان توسعة الدين ـ لا تصلح دليلا إلّا لنفي الوجوب لا لرفع الجواز.

إن قلت : إذا انتفى وجوب الطهارة في موارد الحرج ، فلا يبقى جوازها حتى تصحّ عبادة ، فإنّ الجنس يذهب بذهاب فصله.

وبعبارة أخرى : أدلّة نفي الحرج حاكمة على العمومات المثبتة للتكاليف ،

١٥٠

فتخصّصها بغير موارد الحرج ، فإتيانها في تلك الموارد بقصد امتثال الأمر تشريع محرّم.

قلت : إذا كان منشؤ التخصيص كون التكليف بالوضوء والغسل حرجيّا من دون أن يترتّب عليهما ـ عدا المشقّة الرافعة للتكليف ـ مفسدة ، لا يجوز الإقدام عليها شرعا من ضرر ونحوه ، فهو لا يقتضي إلّا رفع مطلوبيّة الفعل على سبيل الإلزام ، لا رفع ما يقتضي الطلب ومحبوبيّة الفعل ، فلو أتى به المكلّف متحمّلا لمشقّته فقد أتى بما هو المحبوب في الواقع وإن لم يكن واجبا عليه لمشقّته ، وكفى بكونه كذلك وجها لوقوعه عبادة ، كما عرفت في نيّة الوضوء.

وكيف كان فلا يفهم من أدلّة نفي الحرج عرفا وعقلا إلّا ما عرفت ، فلا إشكال فيه مع أنّ أدلّة نفي الحرج لا تزاحم التكاليف المستحبّة التي ليس فيها إلزام ، فلا يخصّص بها العمومات الدالّة على استحباب الوضوء لغاياته المستحبّة ، فليتأمّل.

وأمّا سائر الموارد التي ثبت جواز التيمّم فيها بغيرها من الأدلّة : فإن كان مقتضاها حرمة الوضوء والغسل بلحاظ ما يترتّب عليهما من المفسدة التي لا يسوغ تحمّلها شرعا وإلّا فنفس الطهور من حيث هي لا يتعلّق بها النهي ، كإلقاء النفس في المهالك أو ارتكاب ما يظنّ معه الضرر في نفس أو عرض أو مال ضررا يجب التجنّب عنه شرعا ، تعيّن عليه التيمّم.

وإن لم يكن مقتضاها إلّا جواز التيمّم من دون أن يترتّب على فعل الوضوء أو الغسل مفسدة محرّمة عدا توهّم كونه تشريعا من دون أن يتعلّق به نهي شرعيّ ولو بالنظر إلى ظواهر الأدلّة ، كبعض موارد الضرر الذي يجوز تحمّله لسائر

١٥١

الأغراض العقلائيّة ، فحكمه ما عرفت في موارد الحرج من كون التيمّم فيه رخصة لا عزيمة ، فإنّ قضيّة بدليّة التيمّم من الوضوء والغسل وكون طهارته عذريّة اضطراريّة : ثبوت المقتضي لوجوب الوضوء والغسل مطلقا ، وكون الأعذار المسوّغة للتيمّم من قبيل الموانع ، وحيث فرضنا جواز ارتكاب المحظور الذي قبله الشارع عذرا في ترك الطهارة المائيّة ، فلا يصلح ذلك مانعا إلّا من تأثير المقتضي فيما يقتضيه من الإلزام دون ما يقتضيه من حسن الفعل ومحبوبيّته شرعا ، وقد عرفت أنّه يكفي في وقوعه عبادة.

فتلخّص : أنّ التيمّم لا يجب عينا إلّا إذا تعذّرت الطهارة المائيّة عقلا أو شرعا بأن توقّفت على ارتكاب محرّم أو ترك واجب ، وإلّا فله الإتيان بالطهارة المائيّة وإن لم يوجبها الشارع بالخصوص ؛ لما فيها من المشقّة ونحوها.

الرابع : هل يصحّ الوضوء أو الغسل في الموارد التي تعيّن عليه التيمّم؟ فيه تفصيل ، فإن كان ذلك لتوقّف الطهارة المائيّة على مقدّمة محرّمة متقدّمة على فعلها ، كسلوك طريق مظنون الضرر لتحصيل الماء ، فلو سلكه وأصاب الماء ، فقد عصى ، ووجب عليه الوضوء والغسل ؛ لارتفاع المانع الشرعي بسبب العصيان.

وأمّا إن كان من المقدّمات المقارنة للفعل أو العناوين المتّحدة معه في الوجود ، فلم يصحّ ، وليس من هذا الباب ما لو زاحم فعل الوضوء أو الغسل واجبا أهمّ ، فإنّه وإن تعيّن عند ذلك التيمّم لكن لو ترك الأهمّ وأتى بالوضوء أو الغسل ، صحّ على الأظهر ، فهاهنا مسائل ثلاث :

الأولى : ما إذا تحقّق بوضوئه أو غسله عنوان محرّم ، كما لو تضرّر باستعمال الماء أو تصرّف بفعله في مال الغير ، كما إذا كان الماء مغصوبا أو كان في

١٥٢

مكان مغصوب لا يمكن الاغتسال أو التوضّؤ منه إلّا بالانغماس فيه على وجه يتحقّق بفعله الخاصّ الغسل والتصرّف في المغصوب.

الثانية : ما إذا توقّف على مقدّمة محرّمة مقارنة مع الفعل ، كما لو انحصر ماء الوضوء في آنية مغصوبة وتعذّر فعله إلّا بالاغتراف منها شيئا فشيئا لغسلاته المترتّبة.

الثالثة : ما إذا زاحم فعله واجبا أهمّ.

والحكم في الأوليين البطلان ، بخلاف الثالثة.

أمّا وجه البطلان في الاولى ـ وهي ما لو اتّحد مع المحرّم ـ : فلأنّ الفعل الخارجي ـ الذي تعلّق به النهي ، وصحّ العقاب عليه ـ لا يعقل أن يقع عبادة ؛ لتوقّفها على الأمر الممتنع تعلّقه بالمنهيّ عنه ؛ لتعذّر الامتثال ، ولكون النهي ناشئا عن قبح الفعل بلحاظ مفسدته الملزمة القاهرة المقبّحة له ، فيقبح الأمر بإيجاده ، إلى غير ذلك من المفاسد المقرّرة في الأصول.

ولا يرفع هذا القبح اختلاف جهتي الأمر والنهي ، كالصلاة في الدار المغصوبة مثلا ، فإنّ الأمر بإيجاد الفعل الخاصّ الخارجيّ المتّحد في الوجود والنهي عنه قبيح مطلقا ؛ إذ لا يؤثّر ذلك في القدرة على الامتثال ، ولا في صيرورة الفرد الخارجي ـ المشتمل على الجهة المقبّحة له بالفعل ـ حسنا حتى يحسن طلبه ، فإنّ إيجاد الفرد الخارجي يعرضه صفة الحسن والقبح باعتبار جهته القاهرة ، فلا يكون ما يوجده المكلّف من حيث صدوره منه إلّا حسنا أو قبيحا على سبيل منع الجمع ؛ لامتناع توارد الوصفين المتضادّين على الفعل الخاصّ الصادر من المكلّف من حيث صدوره منه ، الذي لا يتّصف بشي‌ء من الصفتين إلّا من هذه

١٥٣

الحيثيّة ، ويتبعها الطلب الشرعي على ما تقتضيه قواعدنا ، فالفرد الخارجي من الصلاة ـ الذي يتحقّق به الغصب المحرّم على الإطلاق ـ يمتنع أن يطلبه الشارع ولو مشروطا بأيّ شرط يتصوّر من دون فرق بين أن يطلبه لذاته أو للتوصّل به إلى أمر آخر ، فإنّ الأمر بشي‌ء في الجملة ينافي النهي عنه على الإطلاق.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما قد يتوهّم من أنّ الممتنع إنّما هو الأمر بإيجاد الفرد منجّزا ، وأمّا الأمر بإيجاده على تقدير ارتكاب المعصية بأن يكون العاصي بارتكاب المحرّم مكلّفا باختيار الفرد المشتمل على المصلحة من دون أن يكون الأمر مقتضيا لإيجاد المعصية فلا.

توضيح فساده : أنّه لو كان المانع من اجتماع الأمر والنهي مجرّد تعذّر الامتثال مع قيام مقتضي الطلبين بالفعل ، لكان للتوهّم المذكور مجال ، كما سيتّضح لك تقريبه في المسألة الآتية ، لكنّك عرفت أنّ عمدة المانع إنّما هو امتناع صيرورة الفعل القبيح ـ الذي يعاقب عليه ـ حسنا حتّى يحسن طلبه.

إن قلت : نحن نرى بالوجدان أنّه إذا أحبّ المولى ـ مثلا ـ إحضار زيد في داره وتعذّر ذلك إلّا إذا كان راكبا فلم يأمر به المولى لكراهة دخول أحد عليه راكبا ، فلو اختار العبد معصية سيّده فيما نهاه عنه من أن يدخل عليه راكبا ، استقلّ العقل بأنّ إدخال زيد أحسن ، وحيث استقلّ العقل بحسن اختيار هذا الفرد على تقدير المعصية بل وجوبه رعاية لتحصيل غرض المولى مهما أمكن ، فلا مانع من أن يكلّفه مولاه بذلك على نحو ما يستقلّ به عقله ، ولا يقبح مؤاخذته على ترك اختياره عند المعصية كما نلتزم بمثله في ترك غير الأهمّ من الواجبين المتزاحمين.

قلت : هذا إنّما هو في التوصّليّات التي يتحقّق الغرض بمجرّد حصول

١٥٤

الفعل كيفما اتّفق ، وليس إلزام العقل بوجوب اختيار الفرد المحصّل للغرض لأجل صيرورته بعد اختيار المعصية حسنا مقرّبا للعبد إلى سيّده ، بل كيف يعقل أن يطاع السيّد فيما يعصى به ويعاقب عليه!؟ فالفعل الخارجي الصادر من العبد من حيث صدوره منه لا يكون إلّا قبيحا بعد فرض قاهريّة جهته المقبّحة وحسن العقاب عليه ، وإنّما العقل بل وكذا المولى قد يحكم بوجوب اختيار الفرد المشتمل على مصلحة مقهورة من باب الإرشاد إلى ارتكاب أقلّ القبيحين ، نظير الأمر باختيار الخضخضة (١) على الزنا عند إرادة معصية الشارع في حفظ الفرج ، ضرورة أنّ الفرد الذي لا مصلحة فيه رأسا أقبح ممّا فيه مصلحة مقهورة ، فيجب اختياره عند الدوران من باب أقلّ القبيحين ، لكن لا يعقل ذلك في التعبّديّات التي لا مصلحة فيها إلّا إذا تحقّقت بداعي التقرّب المتعذّر حصوله بفعل ما هو مبغوض بالفعل ، فالصلاة في الدار المغصوبة لا مصلحة فيها أصلا كي يتعيّن اختيارها على سائر أنحاء التصرّف في الغصب ، بل مفسدتها أكثر ؛ لاشتمالها على قبح التشريع.

وقد ظهر بما ذكرنا وجه البطلان في المسألة الثانية ، وهي ما إذا توقّف فعل الوضوء أو الغسل على مقدّمة محرّمة ، فإنّ الأمر بما يتوقّف على القبيح أيضا كالأمر بالقبيح قبيح ، بل هو هو ، فإنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي إيجاب ما توقّف عليه ولا أقلّ من أنّه يقتضي جوازه ، والمفروض حرمة المقدّمة ، فيمتنع أن يكون ما يتوقّف عليها واجبا ، لكن التفصّي عن شبهة جواز الأمر بالوضوء على سبيل الترتّب ـ كما في غير الأهمّ من المتزاحمين ـ في هذه المسألة أصعب من التفصّي

__________________

(١) الخضخضة ـ بخاءين معجمتين وضادين كذلك ـ هي الاستمناء باليد. مجمع البحرين ٤ : ٢٠٢.

١٥٥

عنه في المسألة السابقة ؛ إذ ليس في فعل ذي المقدّمة من حيث هو مفسدة عدا توقّفه على محرّم ، فيكون حكم العقل بقبح طلبه لاقتضائه الإذن فيما هو منهيّ عنه بالفعل أو التكليف بما لا يطاق.

وهذا إنّما هو فيما إذا أوجب عليه إيجاده منجّزا ، وأمّا إذا أوجبه على تقدير إتيانه بالحرام فلا ؛ إذ لا يصلح شي‌ء من الأمرين مانعا من التكليف المعلّق على العصيان ، فإنّ العاصي بفعل المقدّمة قادر على إيجاد ذي المقدّمة ، والتكليف المعلّق عليه لا يقتضي وجوب إيجاده حتّى يستلزم صيرورة المنهيّ عنه مأمورا به ؛ إذ المفروض أنّه لا يتنجّز التكليف إلّا على تقدير العصيان ، فيكون تحقّق العصيان من المقدّمات الوجوبيّة للواجب المشروط ، ولا ضير فيه.

لا يقال : هذا إنّما يتصوّر بالنسبة إلى المقدّمات المتقدّمة على الفعل ، وأمّا المقدّمات المقارنة أو المتأخّرة عن الشروع فيه ـ كالاغتراف من الآنية المغصوبة لغسل اليدين في الوضوء ـ فلا ؛ إذ لا يعقل أن يكون العصيان ـ الذي لم يتحقّق إلّا بعد الأخذ في الفعل ـ شرطا لوجوبه ؛ لامتناع تقديم المعلول على علّته ، ولا يصحّ أن يكون العزم على المعصية شرطا للوجوب ؛ فإنّ العزم عليها لا يبيحها ، ولا يخرج فعلها من كونه مقدّمة لإيجاد ذي المقدّمة حتّى يتنجّز التكليف به على تقدير حصول العزم ، بل يجب عليه نقض العزم وترك المحرّم ، لا إيجاد ما يقتضيه.

لأنّا نقول : كونه عاصيا في الواقع شرط في جواز تكليفه بذي المقدّمة ، نظير اشتراط سائر التكاليف بكونه قادرا على الامتثال ، ومرجع هذا النحو من الشرط إلى أنّ الطلب الشرعي تعلّق بمن يعصي في فعل المقدّمة ، ويقدر على

١٥٦

إيجاد المأمور به ، فعزمه على المعصية طريق لإحراز كونه من مصاديق هذا العنوان من دون أن يجب عليه تحصيله ، كسائر المفاهيم المأخوذة عنوانا لسائر الأحكام من كونه مسافرا أو حاضرا أو نحوهما ، فكما يجوز أن يكلّف المسافر بشي‌ء من دون أن يوجب عليه المسافرة ، فكذلك يجوز تكليف العاصي بفعل المقدّمة إن يأتي بذي المقدّمة.

ألا ترى أنّه لا قبح عقلا ولا عرفا في أن يكلّف المولى عبده بكنس السطح ونحوه ممّا يتوقّف على كونه فيه مشروطا بأن يكون فيه لا مطلقا بأن يقول : إن كنت على السطح فاكنسه ، كما أنّه لا قبح فيما لو كلّفه كذلك بأشياء لا يتوقّف حصولها على الكون على السطح ، مثل قراءة القرآن ونحوها من دون فرق في ذلك بين كون نفس الكون من حيث هي محبوبة أو مبغوضة.

وهذا إجمالا ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، لكنّه لا يجدي في تصحيح الوضوء المتوقّف على الاغتراف من الآنية المغصوبة ، لاشتراط تحقّقه في الخارج بقصد حصول عنوانه بداعي التقرّب ، فيكون القصد المحصّل لعنوانه من مقوّمات ماهيّة المأمور به ، فيشترط فيه عدم كونه مبغوضا للشارع ، فغسل الوجه ـ مثلا ـ إنّما يقع جزءا من الوضوء إذا تحقّق بعنوان جزئيّته للوضوء المأمور به بأن يكون الآتي به بانيا على إتمامه وضوءا ، وهذا البناء ممّن يرتكب المقدّمة المحرّمة قبيح يجب عليه هدمه والعزم على ترك الوضوء بترك التصرّف في الغصب ، فلا يجوز أن يكون هذا العزم ـ الذي يجب عليه نقضه ـ أن يكون من مقوّمات الماهيّة المأمور بها ، فالذي يجوز أن يتعلّق به الأمر التقديري في المثال المتقدّم إنّما هو نفس الكنس ، لا العزم على إتمامه من حين الشروع فيه ، فإنّه لدى التحليل عزم على

١٥٧

المعصية ، فإنّ العزم على إيجاد ذي المقدّمة عزم على إيجاد مقدّمته إجمالا ، لا أنّه موقوف عليه حتّى يمكن أن يلتزم فيه أيضا بالترتّب ، بل ينحلّ إليه عند التحقيق ، فالعزم الخاصّ الصادر من العاصي المقرون ببنائه على العصيان قبيح يجب عليه نقضه ، فلا يجوز أن يكون مصحّحا للعبادة.

نعم ، لو انفكّ عزمه على الفعل المأمور به عن بنائه على العصيان بأن لم يكن جازما على إيجاده حتّى يكون عزما إجماليّا على المعصية بأن نوى بغسل وجهه الاحتياط بانيا على إتمامه وضوءا إن اقتضاه تكليفه بتجدّد القدرة ولو بتصرّفه في المغصوب من دون أن يكون بانيا عليه حين غسل الوجه ثمّ تصرّف في المغصوب فأتى بسائر أفعال الوضوء كذلك من دون أن يكون إتيان شي‌ء منها مقرونا بالعزم على المعصية ، اتّجه الالتزام بصحّته ، فالأمر التعليقي الذي تعقّلناه إنّما ينتج صحّة الوضوء في مثل الفرض لا مطلقا.

لا يقال : إنّ غاية ما تعقّلناه إنّما هو جواز الأمر التعليقيّ لا وقوعه كي ينتج الصحّة في الفرض ، ولا ريب في أنّ عموم قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (١) إلى آخره ، وكذا غيره من الأدلّة الآمرة بالوضوء مخصّصة بحكم العقل والعرف بالأدلّة الناهية عن ارتكاب مقدّمته ، فيكون المراد بالآية وغيرها إيجاب الوضوء على من لم ينهه الشارع عن إيجاد مقدّمته ، فالعاصي غير مراد بهذه الأدلّة ، ولم يرد في حقّه دليل خاصّ يقتضي صحّة عمله.

لأنّا نقول : ليس لنا مخصّص لفظي يقتضي خروج العاصي على الإطلاق من موضوع الأدلّة ، وإنّما العقل وكذا أهل العرف بحكم عقلهم يحكمون بخروج

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

١٥٨

من يمتنع إرادته من العامّ من الحيثيّة التي يمتنع إرادته منه لا مطلقا ، فيقتصر في تقييد الأوامر بما يعلم خروجه ، كيف! ولو تمّ ذلك لاقتضى بطلان عبادة من جهل الغصبيّة أو نسيه ، وهو فاسد.

إن قلت : ما ذكرته وجها لبطلان الوضوء عند انحصار مقدّمته في الحرام يقتضي بطلانه مع عدم الانحصار أيضا ، فإنّه إن كان الوجه في ذلك فساد قصده ، لكونه مشوبا بالعزم على المعصية ، فهو حاصل مع عدم الانحصار أيضا إذا كان بانيا على أن يتصرّف ـ لأجل وضوئه ـ في المغصوب ، فإنّ قدرته على الإتيان بالوضوء في ضمن فرد آخر لا يصحّح قصده الخاصّ المتعلّق بإيجاد الفرد المتوقّف على التصرّف في المغصوب.

قلت : العزم على إرادة امتثال الأمر بالوضوء المتنجّز عليه في صورة عدم الانحصار لا ينحلّ إلّا إلى العزم على إيجاد ما يتوقّف عليه على سبيل الإجمال ، وخصوص الفرد المحرّم ليس ممّا يتوقّف عليه ، فعزمه على الإتيان بهذا الفرد عزم آخر منبعث عن ذلك العزم لا عينه ، وهذا بخلاف ما لو انحصرت المقدّمة فيه ، كما لا يخفى.

نعم ، قد يتصوّر الانحلال عند عدم الانحصار أيضا فيما إذا لم يقصد امتثال الأمر إلّا بتصرّفه في الغصب بحيث علّق إرادته للامتثال على التصرّف في الغصب ، فنوى الامتثال بنيّة منحلّة إلى العزم على التصرّف في الغصب ، فالمتّجه حينئذ بطلان الوضوء ، فليتأمّل.

[وأمّا] (١) المسألة الثالثة : [وهي] (٢) ما إذا زاحمت الطهارة المائيّة

__________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

١٥٩

واجبا أهمّ ، كما لو وجب عليه إنقاذ الغريق ـ مثلا ـ ولم يتمكّن معه إلّا من التيمّم والصلاة ماشيا في طريقه فتركه وصلّى مع الطهارة ، صحّت طهارته وصلاته على الأظهر ، كما هو الشأن في جميع الموارد التي أتى بغير الأهمّ من الواجبين المتزاحمين وإن أثم بترك الأهمّ ، إذ لا مانع من وجوب غير الأهمّ في الفرض إلّا مزاحمة الأهمّ ، وهي لا تقتضي إلّا عدم التكليف بغير الأهمّ على تقدير الإتيان بالأهمّ لا مطلقا ، وليس الأمر بإيجاد الأهمّ منجّزا إلّا مانعا من طلب غير الأهمّ أيضا كذلك ، وأمّا الأمر بإيجاده على تقدير ترك الأهمّ فلا ، كما تقدّم تقريبه في المسألة السابقة.

وعرفت فيما تقدّم اندفاع ما قد يتوهّم من أنّ ما دلّ على وجوب الوضوء والغسل إنّما يدلّ على وجوبهما منجّزا ، وقد قيّد إطلاقه بإطلاق ما دلّ على وجوب الأهمّ ، ولا دليل لنا غيره يدلّ على وجوب غير الأهمّ معلّقا على العصيان حيث عرفت أنّ الحاكم بالتقييد ليس إلّا العقل الذي لا يحكم إلّا بعدم الوجوب على تقدير الإتيان بالأهمّ لا مطلقا.

وببيان أوفى : إنّ الواجبين إنّما يتزاحمان إذا عمّ إطلاق دليلهما مورد المزاحمة ، وإلّا فلا معارضة ، كما هو واضح.

وحينئذ نقول : مقتضى إطلاق الدليلين وجوب الإتيان بهما مطلقا ، لكنّ القدرة على الامتثال شرط في تنجّز التكاليف (١) بحكم العقل ، وحيث إنّ امتثالهما معا غير ممكن استقلّ العقل بمعذوريّة المكلّف في ترك الغير المقدور ، وهو الإتيان بهما معا ، وأمّا الإتيان بأحدهما عند ترك الآخر فهو مقدور فيجب ، و

__________________

(١) في «ض ٣ ، ٤ ، ٥» : «التكليف».

١٦٠