مصباح الفقيه - ج ٦

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٦

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

(الطرف الثالث : في كيفيّة التيمّم)

التي منها إيقاعه في وقته المشروع فيه ، وإنّما لا يعدّ زمان الفعل ومكانه من كيفيّاته إذا لوحظا ظرفا له ، وأمّا إذا أخذا قيدا فيه ، فيكون كونه في الزمان أو المكان المعيّن من كيفيّات الفعل المقيّد بكونه كذلك.

(و) كيف كان فـ (لا يصحّ التيمّم قبل دخول الوقت) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عليه نقل الإجماع إن لم يكن متواترا ففي غاية الاستفاضة.

والمراد به ـ كما صرّح به بعضهم (١) ـ بطلانه فيما لو أتى به قبل الوقت لصاحبته ، وأمّا لو أتى به لغيرها من الغايات الواجبة أو المستحبّة ، فظاهرهم التسالم على صحّته ، بل صرّح بعضهم (٢) بجواز إيجاده قبل الوقت لسائر الغايات حتّى الكون على الطهارة ، كما أنّه هو الذي يقتضيه عموم المنزلة ، الذي أرسلوه إرسال المسلّمات ، ودلّ عليه ما دلّ على أنّ التراب أحد الطهورين (٣) ، وأنّه بمنزلة

__________________

(١) راجع جامع المقاصد ١ : ٤٩٩ ، وجواهر الكلام ٥ : ١٥٤.

(٢) راجع جامع المقاصد ١ : ٤٩٩ ، وجواهر الكلام ٥ : ١٥٤.

(٣) التهذيب ١ : ١٩٧ / ٥٧١ ، الإستبصار ١ : ١٦١ / ٥٥٧ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب التيمّم ، ح ٦.

٢٢١

الماء (١).

ومن هنا ربما يستشكل فيما حكي (٢) عن ظاهر المعتبر والمنتهى أو صريحهما من أنّ عدم جواز التيمّم قبل الوقت من خواصّه ، وبه افترق عن المائيّة ، مع أنّ ظاهرهم التسالم على عدم جواز الطهارة المائيّة أيضا للغايات الموقّتة قبل دخول أوقاتها ، لكنّهم صرّحوا بجواز الوضوء للتأهّب للفرض بل استحبابه ، لكن لم يعلم كونه لديهم تخصيصا لما تسالموا عليه من عدم جواز التقديم أو كونه تخصّصا إمّا بالالتزام بكون التأهّب للفرض وتمكين المكلّف نفسه للخروج من عهدة التكليف بالصلاة في أوّل أوقاتها من الغايات ، أو بالالتزام بأنّ مرجعه إلى قصد تحصيل الطهارة لإدراك الوقت متطهّرا حتّى يتمكّن من فعل الصلاة في أوّل وقتها ، فيكون المقصود بالوضوء الكون على الطهارة ، الذي هو في حدّ ذاته من الغايات ، ولا مانع من قيام التيمّم مقامه على كلّ من التقديرين.

نعم ، لو قلنا بالتخصيص ، أمكن المنع منه في التيمّم ـ كما قوّاه في الجواهر (٣) ـ بدعوى ظهور معاقد إجماعاتهم المحكيّة على المنع ، بل كاد يكون صريح بعضهم (٤) في شموله له ، فعلى هذا يتّجه ما يظهر من المعتبر والمنتهى من اختصاص عدم الجواز بالتيمّم.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٠٠ / ٥٨١ ، الإستبصار ١ : ١٦٣ / ٥٦٦ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٢) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٥٤ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٨١ ـ ٣٨٢ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٣٩.

(٣) جواهر الكلام ٥ : ١٥٥.

(٤) كما في جواهر الكلام ٥ : ١٥٥.

٢٢٢

والتحقيق أنّه إن كان مستندهم في المنع من تقديم الطهارات للغايات الموقّتة على أوقاتها دليلا خاصّا تعبّديّا من نصّ أو إجماع ونحوه ، فإن كان مقتضاه عدم جواز تقديم الطهارة المائيّة مطلقا أو في الجملة ، تبعها الترابيّة. وإن كان مقتضاه عدم جواز تقديم الترابيّة فقط ، اقتصر عليها ، وعمل فيما عداها على ما تقتضيه القواعد التي سنشير إليها.

وإن كان ذلك لبنائهم على عدم إمكان تعلّق الأمر بالمقدّمة قبل تنجّز التكليف بذيها كي يقع عبادة ، فهو إن تمّ لا يقبل التخصيص ، فيجب أن يكون الوضوء للتأهّب خارجا من موضوعه إمّا بكون التأهّب بنفسه غاية مستقلّة أو رجوعه إلى غاية أخرى غير ما لم يدخل وقتها ، فعلى هذا لا مانع من قيام التيمّم مقامه بعد الاعتراف بعموم المنزلة.

ودعوى شمول معاقد الإجماعات له بعد خروجه من موضوعها ، غير مسموعة.

لكنّك قد عرفت في صدر الكتاب ـ عند توجيه وجوب الغسل في الليل لصوم يومه ـ وهن هذا البناء ، وأنّ الحقّ ـ الذي لا ريب فيه ـ أنّ الأوقات في التكاليف الموقّتة إنّما هي أوقات لأدائها في الخروج من عهدة التكليف بها ، وأمّا نفس التكاليف فيجب أن تتوجّه خطاباتها إلى المكلّف قبل حضور زمان الفعل ، فإذا أراد المولى إكرام زيد ـ مثلا ـ من الظهر إلى الغروب ، يجب أن يكلّفه بذلك قبل الوقت بأن يأمره بإيجاده في الوقت ؛ إذ لا يعقل أن يأمره بإيجاد شي‌ء في زمان صدور الطلب ، فالطلب إنّما يتعلّق بإيجاد شي‌ء في المستقبل إمّا مطلقا أو في زمان معيّن متّصل بالطلب أو منفصل عنه ، ووجوب المقدّمة إنّما ينبعث من الأمر بذيها ،

٢٢٣

لا من حضور زمان إيجاد المطلوب ، فيجب على العبد من حين صدور الطلب القيام بوظيفة العبوديّة بتهيئة مقدّمات الامتثال ، فإن علم بعدم تمكّنه من تحصيل المقدّمات بعد حضور زمان الفعل ، وجب عليه المبادرة إليها قبله.

ولذا التزمنا بوجوب تعلّم الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالصلاة والصوم ونحوهما (١) قبل حضور أوقاتها إذا علم المكلّف بعدم تمكّنه منه لدى الحاجة إليها.

وكذا التزمنا بحرمة إراقة الماء قبل الوقت إذا علم أنّه لا يتمكّن من تحصيله بعده ، فعلى هذا يجب عليه تحصيل الطهارة ـ كتعلّم المسائل وحفظ الماء ونحوه ـ قبل الوقت أيضا ، ولا يجوز الإخلال بها إذا علم بعدم تمكّنه منها بعد دخول الوقت.

لكن قد أشرنا في محلّه إلى أنّه يمكن أن يكون للمقدّمات التعبّديّة ـ مثل الوضوء والغسل ونحوهما ـ أوقات مخصوصة بأن يأمر الشارع بإيجادها بعد دخول الوقت مثلا ، فيكشف ذلك عن أنّ لكونها كذلك أيضا مدخليّة في إفادتها للطهارة التي هي شرط للصلاة ، فلو أتى بها في غير ذلك الوقت ، لا تفيد الطهارة ، وإلّا لم يعقل اختصاص وجوبها المقدّمي بما بعد الوقت ، فلو تمكّن المكلّف من تحصيل الطهارة بسبب آخر غير السبب الذي فرض اختصاص سببيّته بما بعد الوقت ، جاز له إيجادها بعنوان المقدّميّة كغيرها من المقدّمات التوصّليّة ، وإذا علم بعدم تمكّنه إلّا من إيجادها قبل الوقت بذلك السبب ، وجب عليه ذلك ، فإذا دلّ الدليل على أنّ الوضوء للصلاة قبل الوقت لم يصحّ ، جاز له تحصيل الطهارة بفعل الوضوء لسائر الغايات ، مثل الكون على الطهارة ، ومسّ كتابة القرآن ، ونحوهما

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «نحوها». والصحيح ما أثبتناه.

٢٢٤

من الغايات مقدّمة لإيجاد الصلاة في وقتها ، وإذا لم يتمكّن من تحصيل الطهارة إلّا بهذه الكيفيّة ، وجب.

ولا ينافي قصد مقدّميّتها للصلاة إرادة امتثال الأمر المتعلّق بها لسائر الغايات حتى تقع عبادة ؛ لما عرفت في مبحث النيّة من أن قصد التوصّل بفعل عبادة إلى أمر دينويّ ـ كزيادة الرزق ونحوها ـ فضلا عن الأغراض الراجحة شرعا لا ينافي القربة المعتبرة في ماهيّتها ، فراجع.

إذا عرفت ذلك ، فأقول : أمّا الوضوء والغسل فلم يدلّ دليل على اختصاص شرعيّتهما عند الإتيان بهما لشي‌ء من الغايات عند تنجّز الأمر بالغايات بحضور أوقاتها ، عدا ما يظهر منهم من التسالم عليه ، لكن مستندهم ـ على الظاهر ـ ليس إلّا ما زعموه من عدم جواز تعلّق الأمر به قبل حضور وقت الفعل ، وقد عرفت أنّ الحقّ خلافه.

وقد يستدلّ له : بمفهوم قوله عليه‌السلام : «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة» (١).

وفيه : أنّ غاية مفاده اشتراط وجوبهما بدخول الوقت ، وهو في الجملة مسلّم ؛ إذ لا ننكر كون الوقت من الشرائط الوجوبيّة للواجبات الموقّتة ، فلا يتنجّز التكليف بها إلّا بعد دخول الوقت.

وأمّا الوجوب التعليقي ـ الذي أثره جواز الإتيان بالمقدّمة ، بل وجوبه في الجملة ـ فهو موجود قبل الوقت لا محالة ؛ فإنّ الشرائط التي اعتبرها الشارع شرطا

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢ / ٦٧ ، التهذيب ٢ : ١٤٠ / ٥٤٦ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الوضوء ، ح ١ ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

٢٢٥

لتكاليفها ـ كالاستطاعة للحجّ ، والسفر لوجوب القصر ، ورؤية هلال [شهر] رمضان لوجوب الصوم ، وهلال شوّال للإفطار ، وحضور الوقت لوجوب الصلاة ـ ليست مؤثّرات في حدوث حكم جديد من الشارع متوقّف على عزم وإرادة جديدة ، فإنّه غير معقول ، بل هي أسباب لاندراج المكلّف بواسطتها في العناوين الكلّيّة التي ثبت لها أحكام شرعيّة إلهيّة من أوّل الشريعة ، فإذا علم المكلّف بأنّ الله تعالى أوجب القصر على المسافر وعلم أنّه سيسافر ، فقد علم بأنّ الشارع أراد منه إرادة حتميّة أن يقصّر في صلاته بعد مسافرته ، وإذا أحرز هذا المعنى ، استقلّ عقله بوجوب التهيّؤ للخروج من عهدة ما هو تكليفه بعد مسافرته من تعلّم أحكامه ، وتحصيل مقدّماته الوجوديّة ؛ إذ لا فرق بنظر العقل في وجوب امتثال الشارع بين أحكامه المنجّزة والمعلّقة.

نعم ، العلم بحصول الشرط بمعنى إحراز كونه ممّن يندرج في الموضوع المعلّق عليه الحكم شرط في تنجّز التكليف بمقدّمته ، كما تقدّم تحقيق ذلك كلّه في صدر الكتاب ، وأشرنا إليه أيضا عند التكلّم في وجوب حفظ الماء للوضوء ، ونبّهنا في ذلك المبحث على أنّه كما لا يتنجّز التكليف بالمقدّمات إلّا بعد إحراز اندراجه في العنوان المعلّق عليه الحكم ، كذلك لا يتنجّز التكليف بشي‌ء من تلك المقدّمات بخصوصه إلّا بعد إحراز انحصار المقدّمة فيه ، فإذا أحرز المكلّف ـ مثلا ـ استطاعته من أن يحجّ في هذه السنة وإن لم تكن أسبابه متهيّئة له بالفعل لكن علم بحصولها لدى الحاجة إليها ، وجب عليه بحكم العقل الإتيان بما يتوقّف عليه فعل الحجّ من المقدّمات المنحصرة دون غيرها ، لا بمعنى أنّه لو أتى بمقدّمة غير منحصرة لا تقع مصداقا للمقدّمة الواجبة حتّى لا يمكن قصد التقرّب بعمله ،

٢٢٦

بل بمعنى أنّه لا يتعيّن عليه فعلها ، نظير قولنا : لا تجب الصلاة في المسجد ، فحال الطهور قبل دخول الوقت عند التمكّن منه بعده حال المضيّ إلى الحجّ مع التمكّن من تأخيره ، فلا يجب ، لكن بالمعنى الذي عرفته ، وعلمت عدم منافاته لقصد التقرّب بفعله المعتبر في طهوريّة الطهور ، فتحديد الطهور بالوقت في الرواية ـ على الظاهر ـ ليس إلّا بهذه الملاحظة بمعنى أنّه لا يتنجّز التكليف بفعله إلّا بعد دخول الوقت ، لا أنّه لا يجوز فعله قبل الوقت ، كيف! وهو في حدّ ذاته نور يجوز الإتيان به لذاته مطلقا ، فضلا عن رجحان فعله بقصد التوصّل به إلى أداء الواجب في وقته ، فجواز تحصيل الطهور قبل الوقت بل رجحانه في الجملة ممّا لا شبهة فيه ، وإنّما الكلام في أنّ الوضوء قبل الوقت هل يفيد الطهارة أم لا؟ وهو أجنبيّ عمّا يفهم من هذه الرواية.

وكيف كان فالاستدلال بها للمنع ضعيف ، بل الظاهر عدم استناد الأصحاب إليها ، ولذا لم يذكروا الوقت من شرائط الوضوء والغسل ، ولم يعتبروا فيهما عدا تحقّقهما في الخارج قربة إلى الله تعالى ، لكنّهم بنوا على عدم حصول التقرّب بفعله قبل الوقت ؛ لزعمهم انتفاء الأمر ، وقد بيّنّا خلافه.

فالأظهر جواز إيجادهما قبل الوقت ، لكنّ الأحوط تركه إلّا لسائر الغايات.

وأمّا التيمّم : فقد عرفت أنّ عدم جواز تقديمه أيضا من المسلّمات ، بل لا خلاف فيه على الظاهر ، عدا ما حكي عن كاشف الغطاء من جوازه بل وجوبه قبل الوقت إذا علم بأنّه لم يتمكّن منه بعد الوقت (١).

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٥٥ عن الأستاذ الأكبر ـ وهو الوحيد البهبهاني ـ في شرح المفاتيح ـ مخطوط ـ وحاشية المدارك ٢ : ١١٧ ـ ١١٨. ولم نعثر على الحاكي عن كاشف الغطاء ولا على ما نسب إليه في المتن في كشف الغطاء.

٢٢٧

فإن كان مستندهم فيه أيضا ما عرفت ، فقد عرفت ما فيه.

لكن يمكن أن يوجّه ذلك : بأنّ التيمّم طهارة اضطراريّة اعتبرت الحاجة قيدا في طهوريّته ، فما لم تتحقّق الحاجة الفعليّة لا يفيد طهارة ، وإنّما تتحقّق الحاجة إليه عند إرادة الخروج من عهدة شي‌ء من غاياته التي تنجّز التكليف بها بدخول وقتها.

ولا ينتقض ذلك بالتيمّم في الليل لصوم الغد ؛ لأنّ وقت الحاجة إليه إنّما هو في الليل لإدراك الفجر متطهّرا.

نعم ، الأحوط تأخيره إلى آخر الليل أو الإتيان به لشي‌ء من غاياته المنجّزة ، كما أنّ الأحوط بل الأقوى وجوب تحصيل الطهارة بالتيمّم لشي‌ء من غاياته مقدّمة لفعل الصلاة في وقتها إذا علم بأنّه لا يتمكّن من تحصيلها في الوقت.

هذا غاية ما أمكننا من القول في توجيه عدم جواز التيمّم قبل الوقت مع اعتضاده بقاعدة الاحتياط ، التي لا يبعد القول بوجوبه في مثل المقام ، لكنّه مع ذلك يحتاج إلى مزيد تأمّل ، إلّا أنّ المسألة بحسب الظاهر ممّا لا خلاف فيه.

لكنّ الذي يوجب التشكيك فيها احتمال استناد المجمعين إلى القاعدة التي أقمنا البرهان على خلافها ، فلا يكون مثل هذا الإجماع موجبا للقطع بقول المعصوم وإن كان المظنون عدم استنادهم إلى خصوصها في خصوص التيمّم ، كما يؤيّد ذلك ما ستسمعه من الخلاف ما لم يتضيّق وقته ، فالأحوط بل الأظهر عدم جوازه قبل دخول الوقت ولو مع العلم بعدم التمكّن من إيجاده بعده.

نعم ، يجب عليه في هذا الفرض بمقتضى القاعدة التي قرّرناها تحصيل

٢٢٨

الطهارة بإيجاده لشي‌ء من غاياته المنجّزة مقدّمة لإدراك الصلاة مع الطهور في وقتها ، والله العالم بحقائق أحكامه.

(و) كيف كان فلا ريب في أنّه (يصحّ) التيمّم (مع تضيّقه) أي الوقت.

وربما يستدلّ له : بالإجماع المحصّل والمنقول.

وفيه ما لا يخفى بعد ثبوت شرعيّته بالضرورة من الدين ، وكون هذا الفرض هو القدر المتيقّن من مورده ، الموجب لخروج من ينكره من الدين.

(وهل يصحّ مع سعته؟ فيه تردّد) منشؤه تصادم الأدلّة واختلاف الفتاوى.

فقيل بالجواز مطلقا ، كما عن الصدوق (١) وجملة من المتأخّرين (٢).

وقيل بالمنع مطلقا ، كما عن الشيخ في أكثر كتبه والسيّد وأبي الصلاح وغيرهم (٣) ، بل ربما نسب ذلك إلى الأكثر بل المشهور (٤) ، بل عن السرائر أنّه مذهب

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٥٣ ، المسألة ١٩١ ، وانظر : المقنع : ٢٥ ، والهداية : ٨٨ ، وأمالي الصدوق : ٥١٥.

(٢) كالعلّامة الحلّي في منتهى المطلب ١ : ١٤٠ ، وتحرير الأحكام ١ : ٢٢ ، والشهيد في البيان : ٣٥ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٢٣ ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ٦٣ ، والسبزواري في كفاية الأحكام : ٩ ، والسيّد بحر العلوم في الدرّة النجفيّة : ٤٦ ، كما حكاه عنهم صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٥٩.

(٣) حكاه عنهم العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٥٣ ، المسألة ١٩١ ، وانظر : النهاية : ٤٧ ، والمبسوط ١ : ٣١ ، والخلاف ١ : ١٤٦ و ١٦٣ ، المسألتان ٩٤ و ١١٤ ، والانتصار : ٣١ ، وجمل العلم والعمل : ٥٤ ، والكافي في الفقيه : ١٣٦ ، والمراسم : ٥٤.

(٤) نسبه إلى الأكثر العلّامة الحلّي في منتهى المطلب ١ : ١٤٠ ، والمجلسي في بحار الأنوار ٨١ : ١٤٦ ، وصاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٤٨٢. ونسبه إلى المشهور العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٥٣ ، المسألة ١٩١ ، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام ١ : ١١٤.

٢٢٩

جميع أصحابنا إلّا من شذّ ممّن لا يعتدّ بقوله ؛ لأنّه عرف باسمه ونسبه (١) ، بل عن الانتصار والغنية والناصريّات وشرح الجمل وأحكام الراوندي الإجماع عليه (٢).

وقيل بالمنع مع رجاء زوال العذر ، والجواز مع عدمه ، كما عن ابن الجنيد (٣). وعن المصنّف في المعتبر والعلّامة في جملة من كتبه اختياره (٤).

واستدلّ للأوّل : بإطلاق قوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) (٥) إلى آخره ، فإنّ ظاهره قيام التيمّم مقام الوضوء والغسل عند إرادة الصلاة.

ويدلّ عليه أيضا جملة من الأخبار :

مثل : خبر داود الرقّي عن الصادق عليه‌السلام : أكون في السفر وتحضر الصلاة وليس معي ماء ، ويقال : إنّ الماء قريب منّا ، فأطلب الماء ـ وأنا في وقت ـ يمينا وشمالا؟ قال : «لا تطلب ولكن تيمّم فإنّي أخاف عليك» (٦) إلى آخره.

وخبر السكوني ، الآمر بالفحص غلوة أو غلوتين (٧) ، فإنّه يفهم منه جواز

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٥٨ ، وانظر : السرائر ١ : ١٤٠.

(٢) حكاه عنها صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٤٨٣ ، وانظر : الانتصار : ٣١ ، والغنية : ٦٤ ، ومسائل الناصريّات : ١٥٦ ، المسألة ٥١ ، وفقه القرآن ١ : ٣٧ ، وليس في شرح الجمل ـ للقاضي ابن البرّاج ـ : ٦١ نقل الإجماع.

(٣) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٨٣ ، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٥٣ ، المسألة ١٩١.

(٤) حكاه عنهما العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٠٩ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٨٤ ، وتذكرة الفقهاء ٢ : ٢٠١ ، ذيل الفرع (أ) من فروع المسألة ٣١١ ، وقواعد الأحكام ١ : ٢٣ ، ومختلف الشيعة ١ : ٢٥٣ ، المسألة ١٩١.

(٥) النساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

(٦) الكافي ٣ : ٦٤ / ٦ ، التهذيب ١ : ١٨٥ ـ ١٨٦ / ٥٣٦ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب التيمّم ، ح ١.

(٧) التهذيب ١ : ٢٠٢ / ٥٨٦ ، الإستبصار ١ : ١٦٥ / ٥٧١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

٢٣٠

التيمّم والصلاة بعد الفحص مطلقا ، كما عرفته في محلّه.

إلى غير ذلك من الأخبار الآمرة بالتيمّم والصلاة عند حضور وقتها من غير تعرّض فيها لوجوب التأخير ، بل إشعارها بإرادة الصلاة في أوّل الوقت.

وأوضح منها دلالة على المدّعى : المعتبرة المستفيضة التي كادت تكون متواترة ، الدالّة على عدم الإعادة لمن صلّى ثمّ وجد الماء ، وفي كثير منها التصريح بوجدانه في الوقت.

مثل : رواية عليّ بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : أتيمّم وأصلّي ثمّ أجد الماء وقد بقي عليّ وقت ، فقال : «لا تعد الصلاة ، فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد» (١) إلى آخره.

وموثّقة أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تيمّم وصلّى ثمّ بلغ الماء قبل أن يخرج الوقت ، قال : «ليس عليه إعادة الصلاة» (٢).

وصحيحة زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فإن أصاب الماء وقد صلّى بتيمّم وهو في وقت ، قال : «تمّت صلاته ولا إعادة عليه» (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار التي سيأتي نقلها في محلّه إن شاء الله.

وتنزيل هذه الأخبار الكثيرة على إرادة ما لو صلّى في السعة بظنّ الضيق

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٠٢ / ٥٨٧ ، الإستبصار ١ : ١٦٥ / ٥٧٢ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ١٧.

(٢) التهذيب ١ : ١٩٥ / ٥٦٥ ، الإستبصار ١ : ١٦٠ / ٥٥٥ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ١١.

(٣) التهذيب ١ : ١٩٤ / ٥٦٢ ، الإستبصار ١ : ١٦٠ / ٥٥٢ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ٩.

٢٣١

مع مخالفته للأصل وظاهر إسناد الفعل إلى الفاعل المختار خصوصا مع ما فيها من ظهور السؤال في التراخي بين الصلاة ووجدان الماء كما هو الغالب في مصاديقه الخارجيّة حيث إنّه لا يعثر على الماء غالبا إلّا في خلال الطريق بعد أخذه في السير بعد الفراغ من صلاته في غاية البعد ، خصوصا مع ترك الاستفصال وإطلاق الجواب.

وما عن الشيخ ـ من حمل صحيحة زرارة على إرادة الصلاة مع التيمّم في الوقت ، لا إصابة الماء (١) ـ ففيه : أنّه وإن أمكن هذا التوجيه في خصوص هذه الصحيحة على بعد لكنّه متعذّر في غيرها.

فالحقّ أنّه لا قصور في دلالة هذه الأخبار على المدّعى ، بل هي بمنزلة النصّ عليه غير قابلة للتأويل.

واستدلّ للقول بالمنع : بالإجماعات المنقولة ، وبقاعدة الاحتياط ، وأنّ التيمّم طهارة اضطراريّة ، ولا تتحقّق الضرورة إلّا في آخر الوقت ، وبأنّه مكلّف بصلاة ذات طهارة مائيّة في مجموع الوقت لدى القدرة عليها في الجملة ، ولذا ينتظر الماء لو علم حصوله في آخر الوقت ، فلا يشرع له التيمّم إلّا مع عجزه عن ذلك ، ولا يعلم العجز إلّا عند الضيق.

وبصحيحة محمّد بن مسلم قال : سمعته يقول : «إذا لم تجد الماء وأردت التيمّم فأخّر التيمّم إلى آخر الوقت ، فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض» (٢).

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٥٧ ، وانظر : التهذيب ١ : ١٩٤ ، ذيل ح ٥٦٢.

(٢) الكافي ٣ : ٦٣ / ١ ، التهذيب ١ : ٢٠٣ / ٥٨٨ ، الإستبصار ١ : ١٦٥ / ٥٧٣ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب التيمّم ، ح ١.

٢٣٢

وحسنة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام «إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت ، فإن خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم وليصلّ في آخر الوقت ، ولا قضاء عليه ، وليتوضّأ لما يستقبل» (١).

وقد سمعت فيما سبق (٢) من المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك أنّ هذه الرواية وردت بإسناد آخر : «فليمسك» بدل «فليطلب» فعلى هذا تكون أوضح دلالة على المدّعى.

وموثّقة ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال فيه : «فإذا تيمّم الرجل فليكن ذلك في آخر الوقت ، فإن فاته الماء فلن تفوته الأرض» (٣).

وموثّقته الأخرى المرويّة عن قرب الإسناد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أجنب فلم يصب الماء أيتيمّم ويصلّي؟ قال : «لا حتّى آخر الوقت ، فإن فاته الماء لم تفته الأرض» (٤).

وخبر محمّد بن حمران عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قلت له : رجل تيمّم ثمّ دخل في الصلاة وقد كان طلب الماء فلم يقدر عليه ثمّ يؤتى بالماء حين يدخل في الصلاة ، قال : «يمضي في الصلاة ، واعلم أنّه ليس ينبغي لأحد أن يتيمّم إلّا في آخر الوقت» (٥).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٣ / ٢ ، التهذيب ١ : ١٩٢ ـ ١٩٣ / ٥٥٥ ، و ٢٠٣ / ٥٨٩ ، الاستبصار ١ : ١٥٩ / ٥٤٨ ، و ١٦٥ ـ ١٦٦ / ٥٧٤ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٢) في ص ٩١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٥ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٤) قرب الإسناد : ١٧٠ / ٦٢٣ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب التيمّم ، ح ٤.

(٥) التهذيب ١ : ٢٠٣ / ٥٩٠ ، الإستبصار ١ : ١٦٦ / ٥٧٥ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

٢٣٣

وفي محكيّ البحار عن دعائم الإسلام عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن عليّ عليه‌السلام «لا ينبغي أن يتيمّم من لا يجد الماء إلّا في آخر الوقت» (١).

وعن الفقه الرضوي «وليس للمتيمّم أن يتيمّم إلّا في آخر الوقت أو إلى أن يتخوّف خروج وقت الصلاة» (٢).

واختصاص مورد الأخبار بفاقد الماء غير ضائر بعد عدم القول بالتفصيل في موارد العجز ، مع أنّ ظاهر ذيل رواية محمّد بن حمران وكذا الفقه الرضوي الإطلاق.

واستدلّ له أيضا : بخبر يعقوب بن يقطين ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل تيمّم وصلّى فأصاب بعد صلاته ماء أيتوضّأ ويعيد الصلاة أم تجوز صلاته؟ قال : «إذا وجد الماء قبل أن يمضي الوقت توضّأ وأعاد ، فإن مضى الوقت فلا إعادة عليه» (٣).

وموثّقة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل تيمّم وصلّى ثمّ أصاب الماء ، فقال : «أمّا أنا فكنت فاعلا ، إنّي كنت أتوضّأ وأعيد» (٤).

وفي الجميع نظر.

أمّا الروايتان الأخيرتان : فهما على خلاف مطلوبهم أدلّ ؛ فإنّهما تدلّان على

__________________

(١) بحار الأنوار ٨١ : ١٦٦ ـ ١٦٧ / ٢٨ ، وانظر : دعائم الإسلام ١ : ١٢٠ ، وأورده عن البحار ـ نقلا عن دعائم الإسلام ـ صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٥٩.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٨ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٦٠.

(٣) التهذيب ١ : ١٩٣ ـ ١٩٤ / ٥٥٩ ، الإستبصار ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ / ٥٥١ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ٨.

(٤) التهذيب ١ : ١٩٣ / ٥٥٨ ، الإستبصار ١ : ١٥٩ / ٥٥٠ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ١٠.

٢٣٤

جواز التيمّم والصلاة في سعة الوقت وعدم الإعادة إلّا على تقدير مصادفة الماء في الوقت ، وهذا ينافي مذهب المستدلّ ، وحينئذ فإن أوجبنا الإعادة في الفرض ، تكون صحّتهما مراعاة بعدم المصادفة ، نظير الصلاة مع الطهارة الثابتة بالاستصحاب ونحوه. وإن لم نوجب ـ كما هو الحقّ ، ويدلّ عليه المعتبرة المستفيضة التي تقدّمت الإشارة إليها ـ لتعيّن إمّا طرح الروايتين ، أو حملهما على الاستحباب ، كما هو ظاهر ثانيتهما ، وحينئذ لهما نحو شهادة على أنّ الأمر بتأخير التيمّم في الأخبار المتقدّمة مع صحّته وصحّة الصلاة معه في السعة إنّما هو للإرشاد إلى إدراك مصلحة الصلاة مع الطهارة المائيّة التي أثّرت في حسن الإعادة على تقدير المصادفة ، بل في قوله عليه‌السلام ـ في خبر محمد بن حمران ـ : «ليس ينبغي لأحد أن يتيمّم إلّا في آخر الوقت» وكذلك فيما روي عن الدعائم إيماء إلى ذلك ، وظاهرهما استحباب التأخير.

وأمّا سائر الروايات : فظاهرها وجوب التأخير لكن مع احتمال إصابة الماء ، لا بدونه ؛ فإنّ في قوله عليه‌السلام في أغلب تلك الأخبار : «فإن فاته الماء فلن تفوته الأرض» إشارة أبلغ من التصريح بأنّ التأخير إنّما هو لرجاء إصابة الماء. وكذلك الأمر بالطلب في حسنة زرارة إنّما يحسن مع الرجاء ، لا بدونه.

نعم ، لو ثبت كون متن هذه الرواية «فليمسك» بدل «فليطلب» لكان للاستشهاد بها لمدّعي الخصم على عمومه وجه لو لم نقل بانصرافه ـ بقرينة مورده بضميمة المناسبات المغروسة في الذهن ـ أو صرفه ـ بقرينة سائر الأخبار ـ إلى صورة احتمال وجدان الماء ، لكنّه لم يثبت ، فالرواية مضطربة المتن.

واحتمال كون ما رواه زرارة روايتين مستقلّتين ، إحداهما : «فليطلب» و

٢٣٥

أخراهما : «فليمسك» ممّا لا ينبغي الاعتناء به.

وأمّا الفقه الرضوي : فظاهره وإن كان وجوب التأخير مطلقا لكنّه لا يصلح دليلا لإثبات مثل هذا الحكم ، فضلا عن المعارضة للأدلّة المتقدّمة.

فتلخّص لك : أنّ غاية ما يمكن استفادته من هذه الأخبار إنّما هو وجوب التأخير لمن لم يجد الماء مع احتمال إصابة الماء ، وقضيّة عدم القول بالفصل الالتزام بوجوب التأخير في جميع مواقع الضرورة مع رجاء زوال العذر ، كما هو مذهب المفصّل.

ولا ينافيه إطلاق الآية ونحوها ؛ فإنّ تقييدها بهذه الروايات من أهون التصرّفات ، لكن ينافيه إطلاق نفي الإعادة في المعتبرة الواردة فيمن وجد الماء في الوقت (١) من دون استفصال ، مع أنّ الغالب في الموارد التي يعثر على الماء بعد صلاته قيام احتماله حين التيمّم وعدم تحقّق اليأس من الإصابة إلى آخر الوقت ، فليس ارتكاب التقييد في مثل هذه الروايات بأهون من حمل الأمر بالتأخير على الإرشاد والاستحباب ، مع ما سمعت من وجود الشاهد لهذا الحمل في نفس تلك الأخبار وغيرها.

وأمّا الاستدلال للمنع بالإجماعات المنقولة : ففيه ما لا يخفى بعد معروفيّة الخلاف في المسألة قديما وحديثا.

وأضعف منه الاستدلال له بالاحتياط ، وبعدم تحقّق الضرورة إلّا في آخر الوقت ، وتعذّر الاطّلاع على العجز إلّا عند الضيق ؛ إذ لا يصلح شي‌ء من ذلك دليلا

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٩٥ / ٥٦٥ ، الإستبصار ١ : ١٦٠ / ٥٥٥ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ١١.

٢٣٦

لرفع اليد عن ظواهر الأدلّة المعتبرة.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الأخيران : ففيهما أنّ المناط في شرعيّة التيمّم ـ على ما يستفاد من ظاهر الكتاب وغيره ـ هو العجز عن استعمال الماء ، والاضطرار إلى فعل التيمّم عند إرادة الإتيان بشي‌ء من غاياته ، لا الاضطرار إلى إيجاد تلك الغاية مع التيمّم ، فالمناط هو العجز حين الفعل ، كما عرفت نظيره في مبحث الوضوء الصادر تقيّة ، لا العجز المطلق ، وإلّا لم يتحقّق موضوعه بالنسبة إلى التيمّم لقضاء الفوائت وغيرها من الواجبات الغير الموقّتة ، ولم يكن وجه لعدم الإعادة عند وجدان الماء بعد الصلاة ، كما نطق به المعتبرة المستفيضة.

وأمّا ما قيل ـ من وجوب الانتظار مع العلم بحصول الماء في آخر الوقت ـ ففيه : أنّه إن دلّ عليه دليل من نصّ أو إجماع ، فهو ، وإلّا فللنظر فيه مجال وإن كان الأظهر انصراف ما دلّ على شرعيّة التيمّم للعاجز عن العاجز الذي يعلم بأنّه سيتمكّن عن قريب من استعمال الماء ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذا لا يعدّ عرفا من مصاديق العاجز وإن تعذّر عليه عقلا فعل الوضوء بالفعل ؛ فإنّه بنظر العرف بمنزلة الواجد للماء ، الذي يسعى في تحصيل مقدّماته ، فإنّه قبل تحصيل المقدّمات يمتنع في حقّه الوضوء ، لكنّه ليس بنظر العرف من أفراد العاجز.

ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بإطعام شخص ـ مثلا ـ في الغد بخبز الحنطة مع الإمكان ، وبالشعير لدى الضرورة ، ولم يجد العبد في البلد إلّا الشعير فأطعمه بذلك ، يعدّ ممتثلا وإن احتمل حال الإطعام تجدّد القدرة من تحصيل الحنطة فيما بعد ، بخلاف ما لو علم بأنّه سيتمكّن من تحصيله في زمان يقع امتثالا للواجب.

٢٣٧

والحاصل : أنّه فرق في المعذوريّة بالنسبة إلى التكاليف العذريّة بين ما إذا علم بتجدّد القدرة ، وبين ما إذا لم يعلم بذلك وإن احتمله ، كما لا يخفى على من راجع وجدانه ، وقد نبّهنا على ذلك في مبحث التقيّة.

هذا ، مع إمكان أن يدّعى أنّه يستفاد من الأخبار السابقة ونحوها بنحو من الدلالات الغير المقصودة أنّه لا يرضى الشارع بفعل التيمّم مع العلم بإصابة الماء في الوقت ، فليتأمّل.

ثمّ إنّ هذين الوجهين لو تمّا فلا يصلح شي‌ء منهما دليلا إلّا لإثبات مذهب المفصّل ؛ ضرورة أنّ الاضطرار إلى فعل التيمّم إنّما يتحقّق بوجوب الصلاة عليه وعدم قدرته على إيجادها مع الطهارة المائيّة ، غاية الأمر أنّه قبل أن يتضيّق الوقت لم يتضيّق عليه الخروج من عهدة ما اضطرّ إليه ، وهذا لا ينفي اضطراره إلى أصل الفعل بعد فرض عدم قدرته على استعمال الماء في مجموع الوقت ، فمتى أحرز ذلك ولو في أوّل الوقت بأن يئس من زوال عذره في الوقت ، له فعل التيمّم.

وما قيل ـ من أنّه لا يعرف العجز في مجموع الوقت إلّا بالتضيّق ـ ففيه ما لا يخفى ؛ ضرورة أنّ المريض والجريح وغيرهما من اولي الأعذار كثيرا مّا يقطعون بامتداد عذرهم إلى آخر الوقت.

وكيف كان فلا ينبغي الاعتناء بمثل هذه الأدلّة في مقابلة ما عرفت ، خصوصا مع ما في وجوب انتظار آخر الوقت من الحرج المنافي لشرع التيمّم ، فإنّ أشقّ ما يكون على المريض وغيره من اولي الأعذار إلزامهم بذلك خصوصا بالنسبة إلى العشاءين.

وما قيل في التفصّي عن ذلك ـ بأنّ له المندوحة عن ذلك بحفظ طهارته

٢٣٨

السابقة ، أو الإتيان بالتيمّم في أوّل الوقت لسائر الغايات ـ ففيه : ما لا يخفى من أنّ إمكان الفرار من تكليف لا ينفي كونه حرجيّا.

فالأظهر جواز التيمّم مع سعة الوقت ، لكنّ الأحوط بل الأفضل التأخير إلى أن يتضيّق خصوصا مع رجاء زوال العذر ، والله العالم.

ثمّ إنّ آخر الوقت ـ الذي ينبغي للمتيمّم رعايته أو تجب على الخلاف فيه ـ إنّما هو آخره عرفا بحيث عدّ إتيان الصلاة مع التيمّم عنده بنظر العرف إتيانا بها في آخر وقتها ، لا الآخر الحقيقي الذي لم يتّسع إلّا لفعل التيمّم والصلاة ، فإنّ تحديدهما بالآخر الحقيقي تكليف بما لا يطاق.

ويكفي في تحقّقه عرفا ـ على الظاهر ـ عدم زيادة الوقت عن فعل التيمّم وأداء صلاة المختار ولو الفرد الطويل منها إذا كان لها فردان : طويل وقصير ، كالتمام في مواضع التخيير ، بل ولو مع بعض المندوبات المتعارفة في الصلاة ، مثل القنوت ، بل مع مقدّماتها المتعارفة قبل الصلاة من وضع التربة ، والمشي إلى مكان المصلّي ، وستر المرأة جسدها ونحو ذلك زيادة معتدّا بها في العرف.

ويكفي في إحرازه الظنّ بل خوفه من أن يفوته الوقت إذا أخّر ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام في حسنة زرارة ، المتقدّمة (١) : «فإن خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم وليصلّ في آخر الوقت».

ثمّ إنّه إذا اعتقد ضيق الوقت أو ظنّه أو خاف فواته فتيمّم وصلّى ثمّ انكشف وقوعها في السعة ، تمّت صلاته ولا يعيدها ولو على القول بالمضايقة ، كما هو المشهور عند أربابها على ما صرّح به غير واحد ، خلافا لما عن الشيخ من

__________________

(١) في ص ٢٣٣.

٢٣٩

الإعادة (١).

وهو ضعيف محجوج بالأخبار المستفيضة ـ التي كادت تكون متواترة ـ المصرّحة بعدم الإعادة ، ومقتضاه أن يكون اعتقاد الضيق وخوف خروج الوقت في حدّ ذاته ـ بناء على اعتبار الضيق ـ هو الشرط في صحّة التيمّم والصّلاة ، لا الضيق الواقعي.

وليعلم أنّه حكي عن صريح جماعة وظاهر آخرين أنّ محلّ الخلاف في المسألة ـ يعني الإتيان بالصلاة مع التيمّم في سعة الوقت ـ إنّما هو في غير المتيمّم ، وأمّا من كان متيمّما لصلاة قد ضاق وقتها ، أو لنافلة أو لفائتة ثمّ حضر وقت صلاة أخرى ، أو كان حاضرا ، جاز له الصلاة من غير اعتبار الضيق ؛ لوجود المقتضي ـ وهو سببيّة الوقت للوجوب ـ وارتفاع المانع ، وهو العجز عن الفعل ؛ لتعذّر تحصيل الطهور ، المتوقّف على ضيق الوقت ، فعلى هذا لا يبقى للنزاع ثمرة يعتدّ بها ؛ إذ له حينئذ التيمّم لغاية أخرى غير الحاضرة ثمّ يأتي بها في سعة الوقت.

وملخّصه : أنّ النزاع إنّما هو في صحّة التيمّم في السعة ، وإفادته للطهارة ، وأمّا جواز الإتيان بالغايات المشروطة بالطهور ، التي منها فعل الحاضرة في أوّل وقتها فلا خلاف فيه بعد انعقاده صحيحا ما دام بقاء أثره.

وهذا هو الأوفق بما سيأتي في الأحكام من أنّه إذا تيمّم لغاية ، يستباح به سائر الغايات وإن لم يضطرّ إليها ، كما نبّهنا عليه عند التكلّم في حرمة إراقة الماء مع الانحصار.

__________________

(١) حكاها عنه المحقّق في المعتبر ١ : ٣٨٤ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٦٨ ، وانظر : التهذيب ١ : ١٩٣ ، ذيل ح ٥٥٨ ، والاستبصار ١ : ١٥٩ ، ذيل ح ٥٥٠.

٢٤٠