مصباح الفقيه - ج ٦

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٦

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

فصل

في تحديد الماسح والممسوح وكيفيّة المسح

أمّا الماسح : فيعتبر حصول المسح بما تحقّق به الضرب ممّا باشر الأرض من باطن الكفّين وما ناب منابه لدى الضرورة ؛ لكونه هو المتبادر من أدلّته.

ويعتبر حصول مسح الجبهة بكلتا اليدين ؛ لدلالة معظم الأخبار البيانيّة ـ قولا وفعلا ـ عليه.

ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في التيمّم «تضرب بكفّيك الأرض ثمّ تنفضهما وتمسح بهما وجهك ويديك» (١).

ورواية ليث المرادي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال في التيمّم : «تضرب بكفّيك على الأرض مرّتين ثمّ تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك» (٢) إلى غير ذلك من الأخبار الظاهرة فيه.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢١٢ / ٦١٥ ، الإستبصار ١ : ١٧١ / ٥٩٥ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٧.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠٩ ـ ٢١٠ / ٦٠٨ ، الإستبصار ١ : ١٧١ / ٥٩٦ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

٢٨١

وعن المحقّق الأردبيلي والخوانساري كفاية المسح بإحداهما (١) ؛ لإطلاق الآية وبعض الأخبار.

وعن ثانيهما أنّه قال : كما يجوز حمل المطلق على المقيّد ، يجوز القول بكفاية المطلق ، وحمل المقيّد على أنّه أحد أفراد الواجب (٢). انتهى.

ولا يخفى عليك ما في الاستدلال بإطلاق الآية بعد ثبوت كونها من المتشابهات التي يجب الرجوع فيها إلى تفسير أهل البيت عليهم‌السلام.

وأمّا بعض الأخبار المطلقة فالمراد به ـ على الظاهر ـ صحيحة زرارة ، الحاكية لفعل أبي جعفر عليه‌السلام في مقام التعليم بقوله : «فضرب بيده على الأرض ثمّ رفعها فنفضها ثمّ مسح بها جبينه وكفّيه مرّة واحدة» (٣).

وفي خبر أبي أيّوب الخزّاز : «فوضع يده على المسح (٤) ثمّ رفعها فمسح وجهه ثمّ مسح فوق الكفّ قليلا» (٥).

وأنت خبير بأنّه ليس في الروايتين إطلاق ؛ لكونهما إخبارا عن قضيّة خاصّة ، فإن تمّت دلالتهما على وقوع الضرب في تلك القضيّة بيد واحدة ، لم يعارضهما شي‌ء من الأخبار الظاهرة في اعتبار كونه باليدين ، بل يجب تأويل تلك الأخبار بحملها على الاستحباب ، أو إرادة مسح مجموع الوجه واليدين من

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٣٧ ، وحاشية الروضة البهيّة : ١٥٠ ، وحكاه عن الأردبيلي العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥٤٢.

(٢) حاشية الروضة البهية : ١٥٠.

(٣) الكافي ٣ : ٦١ / ١ ، التهذيب ١ : ٢١١ / ٦١٣ ، الإستبصار ١ : ١٧١ / ٥٩٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٤) المسح : البلاس. الصحاح ١ : ٤٠٥ «مسح».

(٥) الكافي ٣ : ٦٢ / ٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

٢٨٢

حيث المجموع بالكفّين ، أو غير ذلك من المحامل ؛ لعدم قبول الفعل الصادر في مقام البيان للتأويل.

لكنّهما لا تدلّان على ذلك ؛ لأنّ المراد باليد المضافة إلى الضمير جنسها الصادق على الواحد والمتعدّد ، لا الفرد الغير المعيّن ؛ لأنّها ليست بنكرة ، ولذا توهّم إطلاقها غفلة عن أنّ المطلق عند وقوعه في مقام الإخبار عمّا وقع مجمل لا يعارض الأخبار المبيّنة.

نعم ، لا يبعد دعوى أنّ الشائع المتعارف من إطلاق «يده» عند إفرادها إرادة إحدى يديه من غير فرق بين وقوعها في حيّز الطلب ، أو في مقام الإخبار ، فلها ظهور عرفيّ في إرادة هذا المعنى المقيّد.

لكنّها غير مجدية بالنسبة إلى الروايتين ؛ لتعيّن صرفهما عن هذا الظاهر بعد تسليمه ؛ لظهورهما بل صراحة قوله في الصحيحة : «ثمّ مسح بها جبينه وكفّيه» في وقوع مسح الكفّين أيضا بما أريد من مرجع الضمير ، فيجب أن يكون المراد به الجنس الصادق على يديه ؛ لتعذّر مسح الكفّين بيد واحدة.

هذا ، مع أنّ الظاهر اتّحاد القضيّة التي تضمّنتها هذه الصحيحة مع ما حكاها زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في خبر آخر بقوله : «فوضع أبو جعفر عليه‌السلام كفّيه على الأرض» (١) وفي صحيحة أخرى بقوله : «فضرب بيديه على الأرض» (٢).

ثمّ لو سلّم مما شاة ظهور الآية في الإطلاق أو ظهور الروايتين في وقوع مسح الجبهة بيد واحدة أو في الإطلاق كما توهّمه الخصم ، فليس شي‌ء من هذه

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٠٨ / ٦٠٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٥.

(٢) السرائر ٣ : ٥٥٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٩.

٢٨٣

الظهورات ممّا يكافئ ظهور مثل قوله عليه‌السلام : «تضرب بكفّيك الأرض وتمسح بهما وجهك ويديك» (١) في اعتبار كونه باليدين ، فالقول بكفاية المسح بيد واحدة ضعيف.

وأضعف منه ما حكي عن الإسكافي من القول بكفاية المسح بخصوص اليمنى (٢) ؛ حيث لم يعرف على خصوصيّتها دليل.

وهل يعتبر المسح بهما معا أو يكفي على التعاقب؟ وجهان أحوطهما : الأوّل ؛ لانسباقه إلى الذهن من النصوص والفتاوى ، لكن لا يبعد دعوى كونه بدويّا ، والله العالم.

وأمّا الممسوح : فقد اختلفت كلمات الأصحاب في تحديده ، فربما نسب (٣) إلى المشهور تحديده من الوجه بخصوص الجبهة.

ومنشؤ النسبة على الظاهر ما وقع منهم من التعبير بمسح الجبهة ، كما في المتن وغيره ، أو التعبير بمسح الوجه من القصاص إلى طرف الأنف ، كما عن السيّدين (٤) وكثير من القدماء (٥) ، وإلّا فلم يعهد عنهم التصريح بالاختصاص.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢١٢ / ٦١٥ ، الإستبصار ١ : ١٧١ / ٥٩٥ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٧.

(٢) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٧٠ ، المسألة ٢٠٠.

(٣) الناسب هو الصيمري في غاية المرام ١ : ٩٣ ، وصاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٤٦٩.

(٤) حكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥٤٢ ، وانظر : الانتصار : ٣٢ ، والغنية (قسم الفقه) : ٦٣.

(٥) كما في مفتاح الكرامة ١ : ٥٤٢ نقلا عن مختلف الشيعة ١ : ٢٦٧ ، المسألة ١٩٩ ، وانظر : المقنعة : ٦٢ ، والنهاية : ٤٩ ، والمبسوط ١ : ٣٣ ، والكافي في الفقه : ١٣٦ ، والمراسم : ٥٤ ، والمهذّب ١ : ٤٧ ، والسرائر ١ : ١٣٦.

٢٨٤

وعن جامع المقاصد والمسالك والميسيّة والمجمع والمدارك وشرح المفاتيح والدرّة وغيرها التصريح بوجوب مسح الجبينين معها (١).

وعن بعضهم التصريح بضمّ الحاجبين إليهما (٢).

ولعلّه أراد به الوجوب المقدّمي ، كما أنّه لا يبعد إرادة من اعتبر مسح الجبينين ما يعمّهما ، بل يحتمل قويّا إرادة المشهور ـ المعبّرين بمسح الجبهة ، أو مسح الوجه من القصاص إلى طرف الأنف ـ ما يعمّ الجبينين ، كما يؤيّده ما عن مجمع البرهان من نسبته إلى المشهور (٣) ، بل عن حاشية المدارك عن الأمالي نسبته إلى دين الإماميّة تارة ، وأنّه مضى عليه مشايخنا اخرى (٤).

وعن شرح المفاتيح : لعلّه لا نزاع فيه بين الفقهاء (٥).

وعن كشف اللّثام أنّه يمكن دخوله في مراد المشهور (٦).

قلت : والظاهر أنّه كذلك ؛ لشيوع إرادة المجموع من إطلاق مسح الجبهة كما في عبارة الأكثر ، أو مسح ما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف كما في عبارة

__________________

(١) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٩٧ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٤٩٠ ، ومسالك الأفهام ١ : ١١٤ ، ومجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٣٤ ، ومدارك الأحكام ٢ : ٢٢٠ ، والدرّة النجفيّة : ٤٥ ، والميسيّة وشرح المفاتيح كلاهما مخطوط.

(٢) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥٤٣ عن الصدوق في الهداية : ٨٧ ـ ٨٨ ، والفقيه ١ : ٥٧ ذيل ح ٢١٢ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٤٩١.

(٣) حكاها عنه النراقي في مستند الشيعة ٣ : ٤٣٨ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٣٤.

(٤) حكاها عنها صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٩٨ ، وانظر : الحاشية على مدارك الأحكام ٢ : ١٣٣ ، وأمالي الصدوق : ٥١٥.

(٥) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٩٨.

(٦) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٩٨ ، وانظر : كشف اللثام ٢ : ٤٧١ ، وفيها : «الأكثر» بدل «المشهور».

٢٨٥

غيرهم ، كشيوع إرادة المجموع من إطلاق الجبين ، أو إرادته عند الأمر بمسح الجبينين.

وعليه ينزّل ما عن الهداية والفقيه من الاقتصار على مسح الجبينين مع ضمّ الحاجبين إليهما في الثاني (١) ، كما أنّ ما في جملة من الأخبار البيانيّة التي ستسمعها ـ من أنّه عليه‌السلام مسح جبينيه ـ محمول على ذلك ، فإنّ مقتضى الجمود على ظاهرها : عدم اعتبار مسح الجبهة ، مع أنّه لم ينقل الخلاف في وجوبه من أحد ، بل عن بعض (٢) دعوى الإجماع بل الضرورة عليه ، فالذي يغلب على الظنّ اتّحاد ما سمعته من الأقوال ، وكون الاختلاف في التعبير ، كما يشهد لذلك ما يظهر من المتن وغيره من عدّ المسألة ذات قولين.

أحدهما : ما سمعته من المصنّف من اعتبار مسح الجبهة من قصاص الشعر إلى طرف أنفه ثمّ مسح ظاهر الكفّين.

والآخر : ما عن ظاهر عليّ بن بابويه في رسالته على ما قيل (٣) ، وهو : الالتزام باستيعاب مسح الوجه والذراعين.

فمراد المصنّف رحمه‌الله بالجبهة على الظاهر ما يعمّ الجبينين ، وإلّا فالعبارة المحكيّة عن الهداية والفقيه كعبائر من سمعته من المتأخّرين صريحة في وجوب مسح الجبينين ، فمن المستبعد عدم تعرّضه لمثل هذا القول الذي هو مضمون جملة من الأخبار المعتبرة ، بل من عادته في مثل المقام على تقدير عدم وجود

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٨٥ ، الهامش (٢).

(٢) هو النراقي في مستند الشيعة ٢ : ٤٣٧.

(٣) لم نعثر على القائل فيما بين أيدينا من المصادر ، وانظر : مختلف الشيعة ١ : ٢٦٧ ، المسألة ١٩٩.

٢٨٦

قائل به أن ينسبه إلى رواية ، فيستكشف من ذلك أنّ ما اختاره ليس إلّا ما يستفاد من تلك الروايات ، كما يشهد لذلك نسبة اختصاص المسح بالجبهة في النافع إلى أشهر الروايات ، قال : وهل يجب استيعاب الوجه والذراعين بالمسح؟ فيه روايتان أشهرهما : اختصاص المسح بالجبهة وظاهر الكفّين (١) ، مع أنّك ستعرف أنّه لم تثبت رواية يظهر منها الاختصاص بالجبهة بخصوصها ، عدا ما حكي (٢) من عبارة الفقه الرضوي الذي لم يكن معروفا في الأزمنة السابقة ، فمراده بأشهر الروايات على الظاهر ليس إلّا الأخبار المتضمّنة لمسح الجبين.

وكيف كان فالمتّبع هو الذي يستفاد من أخبار أهل البيت عليهم‌السلام ، وهي بظاهرها مختلفة ، ففي كثير منها وقع التعبير بمسح الوجه.

منها : صحيحة أبي أيّوب الخزّاز عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، الحاكية لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيها : «فوضع يده على المسح ثمّ رفعها فمسح وجهه ثمّ مسح فوق الكفّ قليلا» (٣).

وبمضمونها صحيحة داود بن نعمان ، وفيها : «فوضع يديه على الأرض ثمّ رفعهما فمسح وجهه ويديه فوق الكفّ قليلا» (٤).

وحسنة الكاهلي ، قال : سألته عن التيمّم ، فضرب يديه على البساط فمسح

__________________

(١) المختصر النافع : ١٧.

(٢) الحاكي هو البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٢٣ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٨.

(٣) الكافي ٣ : ٦٢ / ٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٤) التهذيب ١ : ٢٠٧ / ٥٩٨ ، الإستبصار ١ : ١٧٠ / ٥٩١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٤.

٢٨٧

بهما وجهه ثمّ مسح كفّيه إحداهما على ظهر الأخرى (١).

وصحيحة زرارة ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «وذكر التيمّم وما صنع عمّار» فوضع أبو جعفر عليه‌السلام كفّيه على الأرض ثمّ مسح وجهه وكفّيه ولم يمسح الذراعين بشي‌ء (٢).

وعنه أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام قال في التيمّم : «تضرب بكفّيك الأرض ثمّ تنفضهما وتمسح بهما وجهك ويديك» (٣).

وعن ليث المرادي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «تضرب بكفّيك على الأرض مرّتين ثمّ تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك» (٤).

وصحيحة محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التيمّم ، فضرب بكفّيه الأرض ثمّ مسح بهما وجهه ثمّ ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع واحدة على ظهرها وواحدة على بطنها ثمّ ضرب بيمينه الأرض ثمّ صنع بشماله كما صنع بيمينه ، ثمّ قال : «هذا التيمّم على ما كان فيه الغسل ، وفي الوضوء الوجه واليدين إلى المرفقين ، وألقى ما كان عليه مسح الرأس والقدمين فلا يؤمّم بالصعيد» (٥).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٢ / ٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠٨ / ٦٠٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٥.

(٣) التهذيب ١ : ٢١٢ / ٦١٥ ، الإستبصار ١ : ١٧١ / ٥٩٥ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٧.

(٤) التهذيب ١ : ٢٠٩ ـ ٢١٠ / ٦٠٨ ، الإستبصار ١ : ١٧١ / ٥٩٦ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٥) التهذيب ١ : ٢١٠ / ٦١٢ ، الإستبصار ١ : ١٧٢ / ٦٠٠ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب التيمّم ، ح ٥.

٢٨٨

وموثّقة سماعة قال : سألته كيف التيمّم؟ فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين (١).

وهذه الأخبار كما تراها ظاهرة في وجوب استيعاب مسح الوجه ، لأنّه هو المتبادر من الأمر به ، كما في بعض الأخبار ، أو الإخبار عن وقوعه ، كما في بعض آخر ، مع ورودها في مقام البيان.

وظاهر بعضها ـ كخبر المرادي وصحيحة ابن مسلم وموثّقة سماعة ـ وجوب استيعاب مسح الذراعين أيضا ، فهذه الروايات الثلاثة بظاهرها منطبقة على ما حكي عن علي بن بابويه ، فهي على الظاهر مستنده ، لكن يجب ارتكاب التأويل في كلّ من الظاهرين.

أمّا بالنسبة إلى مسح الذراعين : فلمعارضة هذه الروايات ببعض ما تقدّمها ، مثل صحيحة زرارة ، التي وقع التصريح فيها بأنّه عليه‌السلام لم يمسح الذراعين بشي‌ء ، وفي صحيحتي داود بن نعمان وأبي أيّوب : «ثمّ مسح فوق الكفّ قليلا» وهذه العبارة في قوّة التصريح بعدم استيعاب المسح إلى المرفقين ، فالمتعيّن إمّا حمل مسح الذراعين على الاستحباب ، أو طرح هذه الروايات ؛ لشذوذها ، وإعراض الأصحاب عنها ، مع ما فيها من أمارة التقيّة ، كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة إلى استيعاب مسح الوجه : فمع أنّه لم ينقل القول به بالخصوص من أحد قد يعارض هذا الظاهر ما هو صريح في عدم وجوب الاستيعاب ، كصحيحة زرارة ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ألا تخبرني من أين

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٠٨ / ٦٠٢ ، الإستبصار ١ : ١٧٠ / ٥٩٢ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

٢٨٩

علمت وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرّجلين؟ وذكر الحديث إلى أن قال أبو جعفر عليه‌السلام : «ثمّ فصل بين الكلام فقال (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال (بِرُؤُسِكُمْ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثمّ قال : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) فلمّا أن وضع الوضوء عمّن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحا ؛ لأنّه قال (بِوُجُوهِكُمْ)» (١) إلى آخره ، فإنّها صريحة الدلالة في عدم وجوب الاستيعاب.

وفي جملة من الأخبار البيانيّة أنّه عليه‌السلام مسح جبينه في بعضها بلفظ الإفراد ، وفي بعضها بالتثنية.

منها : ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام حاكيا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قضيّة عمّار «ثمّ أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد ثمّ مسح جبينيه (٢) بأصابعه وكفّيه إحداهما بالأخرى ثمّ لم يعد ذلك» (٣).

ومنها : رواية عمرو بن أبي المقدام عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه وصف التيمّم فضرب بيديه على الأرض ثمّ رفعهما فنفضهما ثمّ مسح على جبينه وكفّيه مرّة واحدة (٤).

ومنها : ما نقله ابن إدريس في آخر السرائر من كتاب النوادر (٥) عن عبد الله

__________________

(١) الفقيه ١ : ٥٦ ـ ٥٧ / ٢١٢ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب التيمّم ، ح ١ ، والآية في سورة المائدة ٥ : ٦.

(٢) في «ض ٤ ، ٥» والوسائل : «جبينه».

(٣) الفقيه ١ : ٥٧ / ٢١٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٨.

(٤) التهذيب ١ : ٢١٢ / ٦١٤ ، الإستبصار ١ : ١٧١ / ٥٩٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٦.

(٥) كتاب النوادر لأحمد بن محمد بن أبي نصر.

٢٩٠

ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام حاكيا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قضيّة عمّار : «فضرب بيديه على الأرض ثمّ ضرب إحداهما على الأخرى ثمّ مسح بجبينه ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الأخرى» (١) إلى آخره.

ومنها : موثّقة زرارة ، المرويّة عن الكافي وموضع من التهذيب من طريق محمّد بن يعقوب ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن التيمّم فضرب بيده الأرض ثمّ رفعها فنفضها ثمّ مسح بها جبينه وكفّيه مرّة واحدة (٢).

وعن موضع آخر من التهذيب عن المفيد بطريق آخر مثله ، إلّا أنّه قال : «ثمّ مسح جبهته» (٣).

وعن الفقه الرضوي قال : «وصفة التيمّم للوضوء والجنابة وسائر أبواب الغسل واحد ، وهو أن تضرب بيديك على الأرض ضربة واحدة [ثمّ] (٤) تمسح بهما وجهك موضع السجود من مقام الشعر إلى طرف الأنف ثمّ تضرب بهما اخرى فتمسح بها اليمنى إلى حدّ الزند ، وروي من أصول الأصابع ، ثمّ تمسح باليسرى [اليمنى وباليمنى اليسرى] (٥) على هذه الصفة ، وروي : إذا أردت التيمّم اضرب كفّيك على الأرض ضربة واحدة ثمّ تضع إحدى يديك على الأخرى ، ثمّ تمسح بأطراف أصابعك وجهك من فوق حاجبيك وبقي ما بقي ثمّ تضع أصابعك اليسرى على أصابعك اليمنى من أصل الأصابع من فوق الكفّ ثمّ تمرّها على مقدّمها على ظهر الكفّ ثمّ تضع أصابعك اليمنى على أصابعك

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٥٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٩.

(٢) الكافي ٣ : ٦١ / ١ ، التهذيب ١ : ٢١١ / ٦١٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٣) التهذيب ١ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ / ٦٠١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ذيل ح ٣.

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥) ما بين المعقوفين من المصدر.

٢٩١

اليسرى فتصنع بيدك اليمنى ما صنعت بيدك اليسرى على اليمنى مرّة واحدة ، فهذا هو التيمّم ، وهو الوضوء التامّ الكامل في وقت الضرورة» (١).

وهذه الأخبار بأسرها كادت تكون صريحة في عدم استيعاب مسح الوجه ، فإنّه لا يقال عرفا في مقام الإخبار عمّا وقع لإفادة بيان ماهيّة التيمّم على تقدير وقوع مسح مجموع الوجه واعتباره كذلك في الماهيّة : إنّه مسح جبينيه.

نعم ، لو لم يعتبر في الماهيّة إلّا مسح الجبينين يعبّر بمثل هذه العبارة وإن كان الواقع مسح مجموع الوجه من باب الاتّفاق ، أو لكونه مستحبّا مثلا ، حيث لم يتعلّق الغرض إلّا بنقل ما هو المعتبر في الماهيّة ، وهذا بخلاف ما إذا كان المعتبر مسح مجموعه ، كما هو واضح ، فمقتضى الجمع بين هذه الروايات والأخبار السابقة إمّا رفع اليد عن ظهور تلك الأخبار في وجوب الاستيعاب بحملها على الاستحباب ، أو رفع اليد عن ظهورها في الاستيعاب بحملها على إرادة مسح الوجه في الجملة ولو بمسح بعضه ، وكلاهما من أهون التصرّفات خصوصا الأخير منهما حيث لا ظهور للعبارة في حدّ ذاتها في الاستيعاب إلّا بقرينة صدورها في مقام البيان ، فرفع اليد عنه بسائر الأدلّة من قبيل التقييد الذي هو من أهون التصرّفات خصوصا مع اتّحاد مضمون معظم تلك الأخبار مع ما تضمّنته هذه الروايات ؛ إذ الظاهر كون المجموع إخبارا عن قضيّة خاصّة ، وهي ما صدر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتعليم عمّار ، أو من أبي جعفر عليه‌السلام لتعليم زرارة ونظرائه ، والأخبار المقيّدة لها قوّة ظهور في عدم استيعاب مسح الوجه في شي‌ء من القضيّتين.

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٢٣ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٨.

٢٩٢

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في عدم وجوب الاستيعاب.

نعم ، لا يبعد الالتزام باستحبابه إبقاء لبعض الأخبار المتقدّمة على ظاهرها من هذه الجهة ، فليتأمّل.

وهل المعتبر مسح الجبينين مع ما بينهما من الجبهة ، أو خصوص الجبينين كما يقتضيه الجمود على ما يتراءى من أكثر الأخبار المقيّدة السالمة من معارض مكافئ ، أو خصوص الجبهة كما استظهر من المشهور؟ وجوه ، لم ينقل القول بأوسطها من أحد ، بل قد سمعت من بعض دعوى الإجماع بل الضرورة على اعتبار مسح الجبهة (١) ، ولو لا ذلك لأمكن الالتزام به بملاحظة ما عرفت.

وأمّا الأخير وإن نسب (٢) إلى المشهور لكن لا يساعد عليه دليل حيث لم يظهر من شي‌ء من الأخبار إرادة الجبهة بالخصوص عدا موثّقة زرارة ، التي وقع فيها التعبير بلفظ «الجبهة» على ما رواها في التهذيب (٣) ، وصدر عبارة الفقه الرضوي من تحديده بموضع السجود (٤) ، الظاهر في إرادته بالخصوص ، أمّا الموثّقة : فلم يثبت صدورها بهذا المتن ؛ لما سمعت من روايتها في موضع آخر من التهذيب وفي الكافي ـ الذي هو أوثق منه في النقل ـ بلفظ «الجبين» (٥).

واحتمال كونها رواية أخرى باعتبار اختلاف طريقها ضعيف في الغاية ، مع أنّه لا ينبغي الارتياب في كونها على تقدير المغايرة إخبارا عن القضيّة التي

__________________

(١) في ص ٢٨٦.

(٢) نسبه إلى المشهور البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٤٢.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٢٩١ ، الهامش (٣).

(٤) تقدّمت عبارة الفقه الرضوي في ص ٢٩١.

(٥) تقدّم تخريجه في ص ٢٩١ ، الهامش (٢).

٢٩٣

تضمّنتها تلك الرواية ، فلا بدّ من حمل كلّ منهما على ما لا ينافي الأخرى بالالتزام بكون ما صدر في تلك القضيّة الخاصّة مسح مجموع الجبهة والجبينين ، فإنّه من أجمل وجوه الجمع بين الروايتين حيث لا يستلزم تصرّفا في شي‌ء من الروايتين إلّا من حيث ظهورهما ـ لأجل مناسبة المقام ـ في الاقتصار على الجبهة أو الجبينين.

وأنت خبير بوهن هذا الظهور في الغاية ، بل عدم ظهور شي‌ء منهما فيما ينافي الآخر ، لا لعدم الاعتناء بمفهوم اللّقب حتّى ينافي وقوعه في مقام بيان الحدّ ، ولا لشيوع إطلاق الجبهة على ما يعمّ الجبين وعكسه حتّى يتوجّه عليه كونه مجازا لا يحمل اللّفظ عليه إلّا مع القرينة ، بل لأنّ مسح الجبهة باليدين لا ينفكّ عادة عن مسح الجبينين في الجملة ، وكذا عكسه ، فلا يستفاد من نقل الفعل التحديد الحقيقي.

ألا ترى أنّه لا يفهم من الروايتين أنّ الإمام عليه‌السلام في تلك الواقعة لم يمسح حاجبيه.

نعم ، ما صدر عن الإمام عليه‌السلام في مقام الحكاية لفعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام بيان التيمّم من الاقتصار على لفظ «الجبينين» ظاهر في اعتبار مسحهما بالخصوص ، لا لظهور النقل في اقتصار المسح عليهما في تلك القضيّة الصادرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كيف! ومسح الجبينين لا ينفكّ عادة عن مسح ما حولهما في الجملة ولو من باب المقدّمة ، بل لأنّ عدم تعرّض الإمام عليه‌السلام إلّا لنقل مسح الجبينين دليل على أنّ ما عداه لا يعتبر في ماهيّة التيمّم ، فيظهر منه الاختصاص.

وبما ذكرنا ظهر لك ما يقتضيه الجمع بين الرضوي على تقدير اعتباره ، وبين الأخبار الحاكية لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الظاهرة في الاختصاص بالجبينين من

٢٩٤

رفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بصريح الآخر ؛ فإنّ الرضوي نصّ في اعتبار الجبهة ، وظاهر في عدم اعتبار غيره من باب السكوت في معرض البيان ، وسائر الأخبار عكسه ، فيأوّل الظاهر بالنصّ.

هذا ، مع شيوع إطلاق كلّ من الجبهة والجبين على ما يعمّ الآخر ، بل قد يقال : إنّ المتبادر عرفا من إطلاق الجبهة وكذا الجبين منفردا ـ كما في بعض الأخبار ـ هو المعنى الأعمّ.

ألا ترى أنّ المتبادر من مثل قوله : «إذا مات المؤمن عرق منه الجبين» (١) إرادة السطح المشتمل على الجبهة والجبينين.

وعلى هذا ينزّل الأخبار المعبّرة بالجبين بعد انعقاد الإجماع على عدم الاجتزاء بهما بالخصوص ، فيكون الإجماع كاشفا عن إرادة هذا المجاز الشائع ، أو دليلا لتقييد ما يظهر منها من إطلاق كفاية مسح الجبينين ، ويكون الرضوي والموثّق شاهدين عليه على تقدير اعتبارهما ، ومؤيّدين على تقدير العدم.

ولقد أعجب في الحدائق حيث حمل لفظ «الجبينين» في هذه الأخبار على إرادة خصوص الجبهة بعلاقة المجاورة ؛ مستشهدا بفهم المشهور ، حيث زعم التزامهم باعتبار مسحها بالخصوص ، واستنادهم فيه إلى هذه الأخبار (٢).

وقد أشرنا في صدر المبحث إلى أنّ المظنون عدم إرادة المشهور الاختصاص ، وأمّا حمل الأخبار على إرادة خصوص الجبهة فهو في غاية البعد ؛ لأنّ إرادتها بالخصوص من لفظ «الجبينين» بل وكذا من لفظ «الجبين» ـ كما في

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٩١ عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

(٢) الحدائق الناضرة ٤ : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

٢٩٥

بعض الأخبار (١) ـ من المجازات المستنكرة التي لا يكاد يساعد عليها شي‌ء من موارد استعمالاتهما. وما استشهد به من إرادتها بالخصوص من لفظ «الجبين» في بعض أخبار السجود (٢) منظور فيه.

وكيف كان فقد اتّضح أنّ الوجه الأوّل ـ أعني اعتبار مسح الجبهة والجبينين ـ مع كونه أحوط أشبه بظواهر النصوص ، بل وكذا الفتاوى بضميمة ما أشرنا إليه من القرائن.

وأمّا مسح الحاجبين وإن أمكن القول بوجوبه ؛ لعدم انفكاكه عن مسح الجبهة والجبينين غالبا ، وموافقته للاحتياط الذي قد يقال بلزومه في مثل المقام ، لكن عدمه أظهر ؛ إذ لا إشارة إليه في شي‌ء من الأخبار ، بل ظاهر بعض الأخبار الحاكية ، وكذا ما روي في ذيل عبارة الفقه : عدمه ، مع أنّ الحقّ أنّ المرجع على تقدير الشكّ هو البراءة ، لا الاحتياط.

نعم ، لو توقّف عليه مسح الجبهة والجبينين أو العلم بمسحهما ، وجب من باب المقدّمة ، فلا تجب إزالة ما عليها من الحائل لو لم يتوقّف المسح الواجب عليها ، لكن الاحتياط لا ينبغي تركه ، والله العالم.

وأمّا تحديد الممسوح من اليدين : فالمعروف بين الأصحاب اختصاصه بظاهر الكفّين من الزند ، وعن غير واحد دعوى الإجماع عليه ، ويعضدها عدم نقل الخلاف فيه من أحد ، إلّا من عليّ بن بابويه من استيعاب مسح الوجه و

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢١٢ / ٦١٤ ، الاستبصار ١ : ١٧١ / ٥٩٤ ، الفقيه ١ : ٥٧ / ٢١٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٦ و ٨.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٩٨ / ١٢٠٢ ، الإستبصار ١ : ٣٢٧ / ١٢٢٣ ، الكافي ٣ : ٣٣٣ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب السجود ، ح ٤ و ٧.

٢٩٦

الذراعين. وقد تقدّم الكلام فيه ، واتّضح أنّه لا يجب مسح شي‌ء من الذراعين ، كما يدلّ عليه صحيحة زرارة ، المصرّحة بأنّه «مسح وجهه وكفّيه ، ولم يمسح الذراعين بشي‌ء» (١).

ولا يعارضها ما في صحيحتي داود بن نعمان وأبي أيّوب الخزّاز من أنّه مسح فوق الكفّ قليلا (٢) ؛ لإجمال وجه الفعل ، واحتمال كونه من باب المقدّمة ، أو الاستحباب.

مع احتمال إرادة ظهر الكفّ من فوقه ، فظاهره على هذا التقدير : عدم استيعاب ظاهر الكفّ بالمسح.

لكن لم يتحقّق هذا الاحتمال حتى يعتنى بهذا الظاهر ، فالمعتمد إنّما هو ظاهر سائر النصوص وفتاوى الأصحاب من استيعاب ظاهر الكفّين من الزندين.

نعم ، ظاهر ما أرسله في الفقه الرضوي في صدره وذيله : كونه من أصل الأصابع (٣).

وكذا مرسلة حمّاد بن عيسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن التيمّم ، فتلا هذه الآية (وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٤) وقال (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (٥) [قال :] (٦) «فامسح على كفّيك من حيث

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصدرها في ص ٢٨٨ ، الهامش (٢).

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصدرهما في ص ٢٨٧ ، الهامش (٣ و ٤).

(٣) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٨.

(٤) المائدة ٥ : ٣٨.

(٥) المائدة ٥ : ٦.

(٦) ما بين المعقوفين من المصدر.

٢٩٧

موضع القطع» وقال : «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» (١) (٢).

فمقتضى القاعدة تقييد سائر الروايات بهما ، لكن إعراض الأصحاب عنهما مع ما في سندهما من الضعف أسقطهما عن الاعتبار.

وما عن كشف اللثام ـ من نسبة مضمونهما إلى القيل (٣) ـ لا يخرجهما من الشذوذ فضلا عن أن يجبر سندهما.

ويحتمل قويّا أن يكون المراد بأصل الأصابع في ذيل الرضوي أساسها من الكفّ ، فقوله : «من فوق الكفّ» يعني من أعلاها ، كما يؤيّد إرادة هذا المعنى قوله فيما بعد : «ثمّ تمرّها على مقدّمها على ظهر الكفّ» فلا يكون مخالفا للمشهور.

ولا يبعد أن يكون المراد بما رواه أوّلا أيضا هذا المعنى ، فتكون مخالفته مع ما أفتى به في كيفيّة المسح من حيث الابتداء والانتهاء ، فليتأمّل.

وأمّا ما أرسله حمّاد فقد يوجّه بكونها مسوقة لتعليم السائل كيفيّة الاستدلال على العامّة بما يوافق مذهبهم في السرقة ويبطل مذهبهم في التيمّم ، فكأنّه لمّا أطلق الأيدي في آيتي السرقة والتيمّم وقيّدت في آية الوضوء علم أنّ القطع والتيمّم ليسا من المرفقين.

أقول : معهوديّة جريان الحدود على وفق آراء العامّة ومهجوريّة الحقّ وجهل عامّة الناس به في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ممّا يؤيّد هذا الحمل ، لكن فيه تثبيت لمذهبهم في حكم القطع ، وهو لا يخلو عن بعد.

__________________

(١) مريم ١٩ : ٦٤.

(٢) الكافي ٣ : ٦٢ / ٢ ، التهذيب ١ : ٢٠٧ / ٥٩٩ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ٢٠٣ ، وانظر : كشف اللثام ٢ : ٤٧٣.

٢٩٨

ويحتمل أن يكون المراد بموضع القطع موضوعه الذي تعلّق به الحكم في عناوين الأدلّة ، وهو : اليد التي يراد بها الكفّ عند إطلاقها من غير التفات إلى أنّ الواجب قطع بعضها ، كما هو مذهب الخاصّة ، أو جميعها كما هو مذهب العامّة ، فالمراد بالرواية بيان أنّ متعلّق الحكم هو الكفّ ، فالمسح منها ، لا من المرفق.

والغرض من الاستشهاد بالآيتين بيان أنّ المتبادر من اليد هو الكفّ ، وإنّما فهم وجوب غسل الذراعين في آية الوضوء من ذكر الغاية ، فلو وجب المسح إلى المرفقين في التيمّم أيضا لبيّنه الله تعالى كما في الوضوء ، فإنّه تعالى لا ينسى شيئا ، والله العالم.

ثمّ إنّ صريح جملة من الأصحاب كظاهر آخرين : وجوب استيعاب الأعضاء الممسوحة بالمسح ، بل عن الروض دعوى الإجماع عليه (١) ، وعن الرياض دعواه في الكفّين (٢).

والظاهر عدم القول بالفرق.

ومستنده انسباقه إلى الذهن من الأدلّة : فإنّ المتبادر من الأمر بمسح الجبهة والكفّين إرادة استيعابهما بالمسح ، ويتحقّق ذلك عرفا بإمرار اليدين الماسحتين بباطنهما على جميع الجبهة والجبينين وظاهر الكفّين من الزندين إلى أطراف الأصابع مرّة واحدة وإن لم تتحقّق به مباشرة الماسح لجميع أجزاء الممسوح لدى التدقيق ، فإنّ المعتبر هو صدق مسح الأعضاء عرفا ، ولا يتوقّف ذلك على التأكيد والمبالغة والتخليل ، بل في بعض الأخبار المتقدّمة الحاكية للفعل التصريح بوقوع

__________________

(١) روض الجنان : ١٢٧.

(٢) رياض المسائل ٢ : ٤٥.

٢٩٩

المسح مرّة واحدة ، وهي لا تنفكّ غالبا عن الخلل.

وكيف كان فلا يعتبر فيه أزيد من صدق إمرار اليد على الجبهة وظاهر الكفّين عرفا.

ودعوى ابتناء الصدق العرفي ـ عند عدم الاستيعاب الحقيقي ـ على المسامحات العرفيّة ، مدفوعة ، أوّلا : بأنّ مسح العضو عبارة عن إمرار اليد على ظاهره ، ولا يلاحظ أجزاء العضو بحيالها موضوعات مستقلّة حتّى ينافي عدم مباشرة الماسح بشي‌ء منها إطلاق المسح حقيقة.

وثانيا : أنّ المتبادر من الأمر بمسح العضو إنّما هو إرادة ما يطلق عليه مسح ذلك العضو عرفا ، وبعد تسليم مساعدة العرف على الصدق يعمّه إطلاق الأمر ، وقد تقدّم عند التكلّم في ضرب اليدين على الأرض ما يوضّح المقام ، فراجع.

وهل يعتبر استيعاب الماسح أيضا كالممسوح بمعنى مسح مجموع الجبهة والجبينين بجميع باطن اليدين لا ببعضهما ، وكذا مسح ظاهر كلّ من اليدين بجميع باطن الأخرى لا ببعضه؟ وجهان : من انسباق إرادة المسح بما أريد ضربه على الأرض من مثل قوله : «تضرب بكفّيك الأرض وتمسح بهما وجهك ويديك» مع اقتضاء المناسبة اعتبار المسح بما اعتبر مباشرته للأرض عند الضرب ؛ إذ الظاهر أنّ اعتبار وضع اليد على الأرض لتصحيح علاقة مسح الوجه واليدين من الصعيد ، وقد عرفت أنّ المتبادر من النصوص والفتاوى ضرب مجموع الكفّ ، فمقتضى المناسبة وقوع المسح بالمجموع ، ومن صدق المسح باليدين على إمرار بعضهما على الممسوح ، مضافا إلى ما في صحيحة زرارة من التصريح

٣٠٠