مصباح الفقيه - ج ٦

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٦

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

فما عن بعض (١) [متأخّري] المتأخّرين ـ من الميل إلى كون وجدان الماء ناقضا مطلقا ؛ اغترارا بما يتراءى من إطلاق النصوص والفتاوى المسوقة لبيان حكم آخر ، مع انصرافها إلى إرادة الماء الذي يتمكّن من التطهّر به ـ ضعيف ، فالمدار في الانتقاض إنّما هو على القدرة على الطهارة المائيّة ، لا مجرّد وجدان الماء.

نعم ، إذا وجد الماء ، بنى ـ بمقتضى ظاهر الحال ـ على انتقاض تيمّمه ، فإذا ظهر قصور زمان التمكّن عن الفعل ، انكشف خلافه ، لكن لو تمكّن عند وجدان الماء من حفظه والتطهّر به فقصّر في ذلك إلى أن زالت القدرة ، فقد خرج من الفرض ، واندرج في موضوع القادر الذي عرفت حكمه من انتقاض تيمّمه ، فعليه أن يتيمّم ثانيا بعروض العجز عند تنجّز التكليف بشي‌ء من غاياته ، كما يدلّ عليه الخبر المتقدّم (٢).

ولا فرق في انتقاض التيمّم بتجدّد القدرة بين كونها بعد دخول وقت الصلاة أو قبله ، كما إذا تيمّم قبل الوقت لغاية ، ثمّ تمكّن من استعمال الماء قبل أن يدخل وقت الصلاة ، فلم يستعمل حتّى طرأ العجز ، فعليه أن يتيمّم بعد الوقت لصلاته ، سواء كان طروّ العجز قبل دخول وقتها أو بعده ؛ لما عرفت من أنّ القدرة على استعمال الماء تزيل أثر التراب ؛ لكونه طهورا للعاجز وقد ارتفع العجز ، فلا طهارة.

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٥ : ٢٣٦ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من جواهر الكلام ، وانظر : ذخيرة المعاد : ١٠٧ ـ ١٠٨ ، والحبل المتين : ٩٤ ، والحدائق الناضرة ٤ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

(٢) أي خبر أبي أيّوب ، المتقدّم في ص ٣٤٠.

٣٤١

وعجزه عن الوضوء أو الغسل لخصوص الغاية التي لم يدخل وقتها بناء على بطلانه بهذا القصد لا يجعله غير متمكّن منه مطلقا حتى يبقى أثر تيمّمه ؛ فإنّ له فعلهما لسائر الغايات ، فلا يكون عاجزا عن الطهارة المائيّة حتّى يكون التراب طهورا له.

نعم ، قد يتوهّم ذلك بالنسبة إلى ما قبل الوقت فيما لو عرضه مانع من فعلهما لغاياتهما المستحبّة ، كما لو نهاه السيّد أو الوالد عن استعمال الماء ، فإنّه يوجب حرمته قبل تنجّز التكليف بشي‌ء من غاياته الواجبة ، فيكون قبل دخول الوقت عاجزا عن استعماله شرعا ، فلا ينتقض به تيمّمه ، كما لو وجد ماء مغصوبا.

ويدفعه ـ بعد تسليم تأثير مثل هذه النواهي في اندراجه في موضوع العاجز الذي يشرع له التيمّم حدوثا وبقاء مع ما فيه من الإشكال ـ ما عرفت عند البحث عن إراقة الماء قبل الوقت من عدم الفرق في وجوب المقدّمة المنحصرة بين كونه قبل الوقت وبعده ، فكما لا أثر لنهي السيّد عن الوضوء بعد الوقت ، كذلك لا أثر له قبله بعد فرض انحصار قدرته فيه.

وكونه مكلّفا بإطاعة السيّد في ظاهر تكليفه عند عدم علمه بعدم الانحصار لا يجعله مندرجا في موضوع العاجز الذي شرّع له التيمّم ، نظير من كان واجدا للماء وهو يعتقد عجزه عنه ، وقد عرفت في محلّه خروجه من الموضوع الذي ثبت له التيمّم ، فراجع.

(وإن وجده) أي : الماء (بعد الفراغ من الصلاة ، لم تجب الإعادة) كما عرفته فيما سبق مفصّلا.

(وإن وجده وهو في الصلاة ، قيل : يرجع ما لم يركع) في الركعة

٣٤٢

الاولى ، حكي هذا القول عن غير واحد من القدماء وجماعة من المتأخّرين (١).

ويدلّ عليه : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت : فإن أصاب الماء وقد دخل في الصلاة ، قال : «فلينصرف وليتوضّأ ما لم يركع ، فإن كان قد ركع فليمض في صلاته ، فإنّ التيمّم أحد الطهورين» (٢).

وخبر عبد الله بن عاصم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل لا يجد الماء فيتيمّم ويقوم في الصلاة ، فجاء الغلام فقال : هو ذا الماء ، فقال : «إن كان لم يركع فلينصرف وليتوضّأ ، وإن كان قد ركع فليمض في صلاته» (٣).

(وقيل : يمضي في صلاته) مطلقا (ولو تلبّس بتكبيرة الإحرام حسب) نسب هذا القول إلى المشهور (٤).

ويدلّ عليه خبر محمّد بن حمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال له : رجل تيمّم ثمّ دخل في الصلاة وقد كان طلب الماء فلم يقدر عليه ثمّ يؤتى بالماء حين يدخل في الصلاة ، قال : «يمضي في الصلاة ، واعلم أنّه ليس ينبغي لأحد أن يتيمّم إلّا في آخر الوقت» (٥).

__________________

(١) راجع : مفتاح الكرامة ١ : ٥٥٨ ، وجواهر الكلام ٥ : ٢٣٨.

(٢) الكافي ٣ : ٦٣ ـ ٦٤ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٠٠ / ٥٨٠ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٦٤ / ٥ ، التهذيب ١ : ٢٠٤ / ٥٩١ ، الإستبصار ١ : ١٦٦ ـ ١٦٧ / ٥٧٦ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٤) نسبه إليه المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٥٠٨ ، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام ١ : ١١٦ ، وروض الجنان : ١٢٩ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٣٩.

(٥) التهذيب ١ : ٢٠٣ / ٥٩٠ ، الإستبصار ١ : ١٦٦ / ٥٧٥ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

٣٤٣

وصحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت في رجل لم يصب الماء وحضرت الصلاة فتيمّم وصلّى ركعتين ثمّ أصاب الماء ، أينقض الركعتين أو يقطعهما ويتوضّأ ثمّ يصلّي؟ قال : «لا ، ولكنّه يمضي في صلاته ولا ينقضها لمكان أنّه دخلها وهو على طهر بتيمّم» (٢) فإنّ التعليل يقتضي وجوب المضيّ في الصلاة مع الدخول فيها ولو بتكبيرة الإحرام.

والذي يقتضيه الجمع بين الروايات إمّا تقييد الخبرين الأخيرين بما إذا دخل في الصلاة وركع ؛ جمعا بينهما وبين الخبرين الأوّلين ، كما التزم به أرباب القول الأوّل ، أو حمل الأمر بالانصراف والوضوء ما لم يركع على الاستحباب.

(و) لعلّ هذا (هو الأظهر) في مقام الجمع من تقييد الروايتين ، فإنّ الأخيرة منهما ـ وهي صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم ـ وإن لم يبعد التصرّف فيها بالتقييد بحملها على إرادة أنّه دخلها دخولا يعتدّ به ، وهو الدخول البالغ حدّ الركوع ، لكن ارتكابه في رواية محمّد بن حمران في غاية البعد ، فإنّ الأمر بالمضيّ من غير استفصال مع إطلاق السؤال بل ظهوره في إرادة الأخذ في الدخول أي أوّل آناته باعتبار وقوع التعبير عنه بلفظ المضارع يجعله في غاية الظهور في إرادة ما يعمّ قبل الركوع ، بل ربما يدّعى كونه نصّا في ذلك ، كما يشعر بذلك ما حكي عن المصنّف في المعتبر ـ بعد ذكره لهذه الرواية ورواية عبد الله بن عاصم ـ أنّه قال : ورواية ابن حمران أرجح من وجوه :

__________________

(١) في الوسائل : «عن محمّد بن مسلم».

(٢) التهذيب ١ : ٢٠٥ / ٥٩٥ ، الإستبصار ١ : ١٦٧ ـ ١٦٨ / ٥٨٠ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، ح ٤.

٣٤٤

منها : أنّه أشهر في العلم والعدالة من عبد الله بن عاصم ، والأعدل مقدّم.

ومنها : أنّه أخفّ وأيسر ، واليسر مراد الله تبارك وتعالى.

ومنها : أنّ مع العمل برواية محمّد يمكن العمل برواية عبد الله بالتنزيل على الاستحباب ، ولو عمل بروايته لم يكن لرواية محمّد محمل (١). انتهى.

ونظير هذه الرواية في الإباء عن التقييد ما عن الفقه الرضوي «فإذا كبّرت في صلاتك تكبيرة الافتتاح وأوتيت بالماء فلا تقطع الصلاة ولا تنقض تيمّمك وامض في صلاتك» (٢).

ويقرب منهما المرسل المحكيّ عن جمل المرتضى ، قال : وروي أنّه إذا كبّر تكبيرة الإحرام مضى فيها (٣).

فالإنصاف أنّ ارتكاب التقييد في مثل هذه المطلقات وتقديمه على سائر أنحاء التصرّفات التي أهونها حمل الأمر على الاستحباب جمود على ما تقتضيه الصناعة من غير أن يساعد عليه الفهم العرفي ، بل لا يبعد دعوى الجزم بعدم إرادة المعنى المقيّد من هذه المطلقات ، كما يؤيّده فهم المشهور ، وإلّا فليس قاعدة حمل المطلق على المقيّد ممّا يختفي عليهم.

وأبعد من ذلك : توجيه رواية ابن حمران بتنزيلها على إرادة التيمّم في ضيق الوقت المنافي للانصراف والتطهير ؛ لدلالة ذيلها على اعتبار وقوع التيمّم في آخر الوقت.

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ٢٤٠ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٠٠ ـ ٤٠١.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٨٠ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٠.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ٢٤٠ ، وانظر : جمل العلم والعمل : ٥٥.

٣٤٥

وفيه ما لا يخفى بعد وضوح عدم اعتبار هذه المرتبة من الضيق في صحّة التيمّم ، وكون المراد بآخر الوقت آخره عرفا ، مع ما عرفت في محلّه من كونه على سبيل الاستحباب لا الوجوب.

ونظير هذا التوجيه في الضعف : توجيه الخبرين المفصّلين بين إصابة الماء بعد دخوله في الصلاة قبل الركوع وبعده بحملهما على أنّ المراد بالدخول في الصلاة الشروع في مقدّماتها كالأذان ، وبقوله : «ما لم يركع» ما لم يتلبّس بالصلاة ، وبقوله : «وإن كان قد ركع» [بعد] (١) دخوله فيها إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ.

ولا يخفى ما فيه من البعد ، وشدّة المخالفة للظاهر ، فالمتعيّن إمّا حمل الأمر بالانصراف والتوضّؤ في الخبرين على الاستحباب ، أو الرجوع إلى المرجّحات السنديّة ، كما أشار إليهما المصنّف في عبارته المتقدّمة (٢).

والظاهر : أنّ صحيحة زرارة أرجح من رواية محمّد من حيث السند ، لكنّ المصنّف لم يوردها في عبارته المتقدّمة ، فكأنّه غفل عنها.

وكيف كان فإنّما يحسن الرجوع إلى المرجّحات على تقدير عدم إمكان الجمع ، وهو ممكن بالحمل على الاستحباب ، فهو الأولى ، كما حكي عن المبسوط والإصباح (٣) وظاهر المنتهى (٤) الجزم بذلك. بل عن التذكرة ونهاية الإحكام قرب استحباب النقض والطهارة المائيّة مطلقا ولو بعد الركوع (٥).

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «قبل». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في ص ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

(٣) حكاه عنهما صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٤٩٥ ، وانظر : المبسوط ١ : ٣٣ ، وإصباح الشيعة : ٥٢.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٥٥.

(٥) حكاه عنهما صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٤٩٥ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ٢ : ٢١١ ، الفرع «أ» من المسألة ٣١٤ ، ونهاية الإحكام ١ : ٢١٠ ـ ٢١١.

٣٤٦

لكن قد يتوهّم التنافي بين بقاء أثر التيمّم وجواز النقض فضلا عن استحبابه ؛ نظرا إلى كونه طهورا للعاجز ، ولا عجز مع جواز القطع وتمكّنه من استعمال الماء.

ويدفعه : عدم إناطة شرعيّة التيمّم حدوثا وبقاء بالعجز العقلي ، بل المدار على كون المتيمّم معذورا بعذر مقبول عند الشارع ، وقد قبل الشارع دخوله في الصلاة عذرا له في عدم استعمال الماء إمّا رعاية لحرمة الصلاة ، المنافية للانصراف عنها إلّا بالتسليم الذي جعله الشارع تحليلا لها ، أو إرفاقا بالمكلّف وتسهيلا عليه حيث لم يوقعه في كلفة الإعادة واستئناف الصلاة ، إلى غير ذلك ممّا لا ينافي جواز القطع بل استحبابه لتحصيل الفرد الأكمل.

ومن هنا قد يقوى في النظر قرب ما عن التذكرة ونهاية الإحكام من استحبابه مطلقا بدعوى ورود الأمر بالمضيّ في الأخبار المطلقة والمقيّدة بما بعد الركوع مورد توهّم الحظر ، فلا يفهم منه أزيد من الجواز ، كما أنّه هو الذي يقتضيه الجمع بين هذا الأخبار وبين ما رواه الحسن الصيقل ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل تيمّم ثمّ قام يصلّي فمرّ به نهر وقد صلّى ركعة ، قال : «فليغتسل وليستقبل الصلاة» قلت : إنّه قد صلّى صلاته كلّها ، قال : «لا يعيد» (١).

وما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل صلّى ركعة على تيمّم ثمّ جاء رجل ومعه قربتان من ماء ، قال : «يقطع الصلاة ويتوضّأ ثمّ يبني على

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٦ / ١٢٧٧ ، الإستبصار ١ : ١٦٨ / ٥٨١ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، ح ٦.

٣٤٧

واحدة» (١).

لكنّ الأقوى خلافه ؛ فإنّ دعوى قصور الأخبار الآمرة بالمضيّ عن إفادة الوجوب بعد مغروسيّة حرمة قطع الصلاة وكون النقض منافيا لاحترامها في أذهان المتشرّعة غير مسموعة ، خصوصا بالنسبة إلى الروايتين المفصّلتين اللّتين وقع التعبير فيهما بأنّه «إن لم يركع فلينصرف ، وإن كان قد ركع فليمض» فإنّ حمل مثل هذين الأمرين على مجرّد بيان الجواز إفراط في التأويل ، بل ظاهرهما الوجوب ، وغاية ما يمكن التأويل فيهما بواسطة الجمع ـ الذي هو أولى من الطرح ـ إنّما هو الحمل على الاستحباب ، كما قوّيناه في الفقرة الاولى.

وأمّا الحمل على مجرّد الجواز المجامع لمرجوحيّة الفعل فهو في غاية البعد خصوصا بعد حمل الفقرة الأولى على الاستحباب ، فإنّ التفصيل يقطع الشركة.

وبهذا ظهر لك أنّ الخبرين ـ اللّذين استشهدنا بهما للجمع ـ لا ينهضان لذلك ، بل هما معارضان للأخبار الآمرة بالمضيّ ؛ لوضوح المناقضة بين الأمر بالمضيّ والانصراف ، فالمتعيّن طرح الخبرين مع قصورهما في حدّ ذاتهما من حيث السند ، وإعراض الأصحاب عنهما ، وتنافي مفاديهما ، وموافقتهما للعامّة على ما قيل (٢) ، فلا ينهضان للحجيّة فضلا عن المعارضة ، فلو سلّم قصور الأخبار الآمرة بالمضيّ عن إفادة الوجوب ، لكفى في ذلك استصحاب حرمة القطع.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٣ / ١٢٦٣ ، الإستبصار ١ : ١٦٧ / ٥٧٩ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، ح ٥.

(٢) راجع : جواهر الكلام ٥ : ٢٤٢.

٣٤٨

فالأظهر وجوب المضيّ بعد أن ركع ، وجوازه قبله ، ولكنّ الأفضل بل الأحوط هو الانصراف ما لم يركع ، وأحوط منه الإتمام ثمّ الإعادة.

وربّما يتمسّك لوجوب المضيّ مطلقا بعد التلبّس بتكبيرة الإحرام : بعموم ما دلّ على حرمة قطع الصلاة ، واستصحاب الصحّة ، وأصالة البراءة عن كلفة الإعادة ، واستصحاب الطهارة السابقة الثابتة بما دلّ على شرعيّة التيمّم ، المقتصر في تخصيصها على ما إذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة ، إلى غير ذلك ممّا لا ينبغي الالتفات إلى شي‌ء منها بعد استفاضة الأخبار الواردة عليها مع ما في جلّها بل كلّها من النظر ، بل لو لا الأدلّة الخاصّة ، لكان مقتضى القاعدة المتلقّاة من الشرع ـ من كون التيمّم طهارة اضطراريّة ـ مضافا إلى إطلاق ما دلّ على كون وجدان الماء ـ كالحدث ـ رافعا لأثره : إنّما هو انتقاضه بطروّ القدرة مطلقا من غير فرق بين كونه في أثناء الصلاة ، وعدمه ، ومقتضاه انقطاع الصلاة بسببه ، فلا يبقى حينئذ مجال لتوهّم شي‌ء من المذكورات ، لكنّ الأخبار الخاصّة الحاكمة على القواعد العامّة أغنانا عن إطناب الكلام في النقض والإبرام في تشخيص الأصول الحاكمة ، وتقرير ما ادّعيناه من القاعدة.

ثمّ إنّ في المسألة أقوالا أخر لا يساعد على شي‌ء منها دليل يعتدّ به.

منها : ما عن ابن الجنيد أنّه قال : إن وجد الماء بعد دخوله في الصلاة ، قطع ما لم يركع الركعة الثانية ، فإن ركعها مضى في صلاته ، فإن وجده بعد الركعة الاولى وخاف من ضيق الوقت أن يخرج إن قطع ، رجوت أن يجزئه إن لا يقطع صلاته ، فأمّا قبله فلا بدّ من قطعها مع وجود الماء (١). انتهى.

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، المسألة ٢٠٥.

٣٤٩

ولعلّ نظره في هذا التفصيل إلى الجمع بين مجموع الأخبار بتخصيص ما دلّ على المضيّ مطلقا بالخبرين المفصّلين ، والجمع بين جميعها وبين ما يعارضها ـ أي : الخبرين الواردين فيمن صلّى ركعة ، الظاهرين في القطع مطلقا ـ بحمل كلّ من المتعارضين على ما هو القدر المتيقّن إرادته منه ، وهو في الخبرين خصوص موردهما ، وهو قبل الركوع في الركعة الثانية ، لكن في غير فرض الضيق الذي يظنّ عدم إرادته من إطلاقهما ، وبالنسبة إلى سائر الأخبار ما بعده ، والله العالم.

ومنها : ما عن سلّار من الانصراف قبل دخوله في القراءة ، وعدمه بعده (١).

ولعلّ مخالفته مع المشهور في تشخيص مفهوم الدخول في الصلاة ، فكأنّه رأى أنّ التكبيرة افتتاحها ، وأنّ الدخول فيها يتحقّق بالأخذ في سائر الأجزاء التي أوّلها القراءة.

ومنها : ما حكاه في محكيّ الذكرى عن ابن حمزة في الواسطة مستغربا منه ، وهو : أنّه إذا وجد الماء بعد الشروع وغلب على ظنّه عدم ضيق الوقت لو قطع وتطهّر ، وجب عليه ذلك ، وإن لم يمكنه ذلك ، لم يقطعها إذا كبّر. وقيل :يقطع ما لم يركع. وهو محمول على الاستحباب (٢). انتهى.

ولعلّ مبناه فساد التيمّم الواقع في السعة عنده ، فإذا غلب على ظنّه التمكّن من التطهير والصلاة في وقتها ، علم فساد تيمّمه ، فعليه القطع ، فمورد أخبار الباب عنده إنّما هو فيما إذا دخل في الصلاة بتيمّم صحيح بأن كان واقعا في ضيق الوقت ،

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٧٥ ، المسألة ٢٠٥ ، وانظر : المراسم : ٥٤.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ٢٤٤ ، وانظر : الذكرى ٢ : ٢٧٨.

٣٥٠

فعمل بإطلاق ما دلّ على المضيّ ، كما عن المشهور ، وحمل ما دلّ على القطع قبل الركوع على الاستحباب ، كما التزم به ، أو احتمله كلّ من تصدّى لتوجيهه من القائلين بمقالة المشهور ، ولا غرابة في التزامه باستحباب القطع مع فرض الضيق بعد مساعدة الدليل ؛ لإمكان أن يكون ما يدركه من صلاته في الوقت مع الطهارة المائيّة أرجح لدى الشارع من إيقاع تمام صلاته في الوقت مع التيمّم.

لكنّ الغريب التزامه باعتبار هذه المرتبة من الضيق في صحّة التيمّم ، وتجويزه دخوله في الصلاة بالتيمّم بل مضيّه فيها إن لم يجد الماء في الأثناء وهو في حال لو وجد الماء لغلب على ظنّه التمكّن من الطهارة والصلاة ، كما هو المنساق إلى الذهن في موضوع فرضه.

اللهمّ إلّا أن يلتزم بكفاية إحراز الضيق عند إرادة التيمّم والصلاة بنحو من المسامحة العرفيّة ، ولزوم مراعاته على سبيل التحقيق عند وجدان الماء ، كما لا يخلو عن وجه.

وكيف كان فقد ظهر لك بما أشرنا إليه آنفا ـ من أنّ مقتضى القاعدة انتقاض التيمّم بالتمكّن من استعمال الماء مطلقا في غير ما ثبت خلافه ـ حكم الطواف من أنّ المتّجه انتقاض التيمّم بوجدان الماء في أثنائه كوجدانه قبله من غير فرق بين الواجب منه والمندوب ، والتشبيه له بالصلاة (١) منصرف إلى غيره ، كما أنّ المتّجه انتقاض تيمّم الميّت بالتمكّن من تغسيله قبل الدفن وإن صلّي عليه ، كما عرفته في

__________________

(١) إشارة إلى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الطواف بالبيت صلاة». راجع : سنن النسائي ٥ : ٢٢٢ ، وسنن الدارمي ٢ : ٤٤ ، والمستدرك ـ للحاكم ـ ١ : ٤٥٩ ، و ٢ : ٢٦٧ ، والمعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١١ : ٣٤ / ١٠٩٥٥.

٣٥١

محلّه.

وهل تعاد صلاته؟ فيه تردّد ، والأشبه أنّها لا تعاد.

ولو وجده في أثناء الصلاة ، قطعها ، وإن كان الأحوط إتمامها ثمّ الإعادة بعد التغسيل ، والله العالم.

وهل يختصّ جواز المضيّ في الصلاة ـ عند وجدان الماء ـ بالفريضة ، أم يعمّ النافلة أيضا؟ وجهان ، أوجههما : الأوّل ، لانصراف ما دلّ على الجواز ـ من النصوص والفتاوى ـ إلى الفريضة ، والله العالم.

(الخامس : المتيمّم يستبيح ما يستبيحه المتطهّر بالماء).

وليعلم أنّ النظر في هذه المسألة يقع من جهات جميعها مقصودة بالحكم.

منها : عدم اختصاص أثر التيمّم باستباحة الغايات التي اضطرّ إلى فعلها ، مثل الصلاة المفروضة الموقّتة التي لا سبيل له إلّا إلى إيجادها مع التيمّم ، بل يستباح به جميع الأفعال التي تكون الطهارة شرطا لصحّتها ، كالصلاة ، نافلة كانت أم فريضة ، أو لكمالها ، كقراءة القرآن ، أو لجوازها ، كمسّ المصحف ، ولبث الجنب والحائض في المسجد ، فالضرورة المعتبرة في التيمّم غير ملحوظة بالنسبة إلى أثره بأن تكون طهوريّته مقصورة على مواقع الاضطرار إلى الطهارة.

ومنها : أنّه إذا تيمّم لغاية يستباح به سائر غاياته وإن لم يقصدها ولم يضطرّ إلى فعلها بمعنى أنّه إذا تيمّم بدلا من غسل ، يكون ما دام بقاء المسوّغ بحكم المغتسل بذلك الغسل ، ولو تيمّم من الوضوء ، يكون بمنزلة ما لو توضّأ وضوءا صحيحا مبيحا لغاياته.

٣٥٢

ومنها : أنّه يستباح بالتيمّم كلّ غاية مشروطة بالطهور ، بمعنى أنّه يجوز فعله للتوصّل إلى كلّ غاية من غاياته بأن يتيمّم ـ مثلا ـ لمسّ المصاحف ، أو اللّبث في المساجد ، فكما يستباح بفعله جميع الغايات وإن لم يضطرّ إلى فعلها ، كذلك له فعله لاستباحة تلك الغايات ، فلا تتوقّف صحّته على ما إذا وجد لغاية خاصّة من صلاة ونحوها ، كما توهّمه بعض (١).

وملخّص الكلام في المقام أنّ الشارع جعل التراب طهورا لمن لم يجد الماء ، أي : عجز عن استعماله ، كما جعل الماء طهورا لمن قدر عليه ، بمعنى أنّه جعل التراب للعاجز بمنزلة الماء للقادر ، ويتفرّع عليه جميع الأحكام المذكورة من استباحة جميع الغايات بالتيمّم ، وشرعيّة التيمّم للجميع ، واستباحة الجميع بفعله للبعض ، فمتى تحقّق العجز عن الاستعمال اندرج المكلّف في الموضوع الذي شرّع له التيمّم ، فجاز له التطهّر به لأيّ غاية أحبّ ولو للتجديد أو الكون على الطهارة.

وتوهّم عدم كونه مفيدا للطهارة ، وإلّا لم ينتقض بوجدان الماء ، فلا يشرع له قصده قد عرفت دفعه في محلّه ، فلا تتوقّف شرعيّة التيمّم بعد تحقّق العجز إلّا على مطلوبيّة الطهور ، سواء كان لذاته أو لشي‌ء من غاياته ، واجبة كانت أم مندوبة ، ومتى تطهّر به لشي‌ء من الغايات فقد حصلت الطهارة ، واستبيح له جميع ما يتوقّف على الطهور ، وإلّا للزم إمّا أن لا يكون التيمّم طهورا له ، أو لا تكون الطهارة لتلك الغاية مطلوبة منه ، فيفسد لذلك ، أو يتخلّف أثر الطهارة عنها ، والأخير باطل بالبديهة ، والثاني ينافيه إطلاق مطلوبيّة الغاية ومحبوبيّة الطهور ، والأوّل خلاف

__________________

(١) فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ١ : ٦٦ ـ ٦٧.

٣٥٣

الفرض.

ويشهد للمدّعى ـ أعني كونه طهورا للعاجز بمنزلة الماء للقادر ـ قوله تعالى بعد شرع التيمّم لمن لم يجد الماء (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (١).

وقول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة حمّاد : «هو بمنزلة الماء» (٢).

وفي الصحيح لمحمّد بن حمران وجميل : «إنّ الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» (٣).

وفي خبر أبي أيّوب ـ المرويّ عن تفسير العيّاشي ـ : «التيمّم بالصعيد لمن لم يجد الماء كمن توضّأ من غدير ماء ، أليس الله يقول (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (٤)؟» (٥).

ويؤيّده : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في خبر السكوني ـ لأبي ذر : «يكفيك الصعيد عشر سنين» (٦).

وفي خبر آخر : «[الصعيد] الطيّب طهور المسلم [و] إن لم يجد الماء

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠٠ / ٥٨١ ، الإستبصار ١ : ١٦٣ / ٥٦٦ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

(٣) الفقيه ١ : ٦٠ / ٢٢٣ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب التيمّم ، ح ١.

(٤) النساء ٤ : ٤٣.

(٥) تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٤ / ١٤٣ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب التيمّم ، ح ٦.

(٦) التهذيب ١ : ١٩٤ / ٥٦١ ، و ١٩٩ ـ ٢٠٠ / ٥٧٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ١٢.

٣٥٤

عشر سنين» (١).

وفي ثالث : «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر سنين» (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأخبار المستفيضة الواردة في مقام الامتنان : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (٣).

وقول أبي جعفر عليه‌السلام ـ في الصحيح ـ لزرارة : «فإنّ التيمّم أحد الطهورين» (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على أنّ التراب طهور ، وأنّه أحد الطهورين ، وأنّ ربّه ربّ الماء (٥).

وعن الفقه الرضوي «إنّ التيمّم غسل المضطرّ ووضوؤه» (٦).

وعنه أيضا بعد بيان صفة التيمّم للوضوء والجنابة وسائر أبواب الغسل : «فهذا هو التيمّم ، وهو الوضوء التامّ الكامل في وقت الضرورة» (٧).

إلى غير ذلك من الشواهد والمؤيّدات التي لا يبقى معها مجال للتشكيك

__________________

(١) سنن البيهقي ١ : ٢١٢ ، مسند أحمد ٥ : ١٥٥ و ١٨٠ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ١ : ١٥٦ ـ ١٥٧ ، بتفاوت في اللفظ.

(٣) الفقيه ١ : ١٥٥ / ٧٢٤ ، الخصال : ٢٠١ / ١٤ ، و ٢٩٢ / ٥٦ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب التيمّم ، الأحاديث ٢ ـ ٤.

(٤) الكافي ٣ : ٦٣ ـ ٦٤ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٠٠ / ٥٨٠ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، ح ١.

(٥) راجع : الوسائل ، الباب ١٤ و ٢١ من أبواب التيمّم ، ح ١٥ و ١.

(٦) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٧٠ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٨.

(٧) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٢٣ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٨ ـ ٨٩.

٣٥٥

في أنّ الله تعالى منّ على عباده بأن جعل لهم التراب طهورا ما لم يجدوا ماء ، فمتى استحبّ تحصيل الطهور لذاته أو لشي‌ء من غاياته ، أو وجب ، جاز لمن لم يجد الماء تحصيله بالتراب.

ولعمري إنّ المسألة من الواضحات التي لا ينبغي إطالة الكلام فيها ، وإثبات كونها بعمومها إجماعيّة أو كون بعض جزئيّاتها موردا للخلاف.

نعم ، يشكل الأمر في مواقع :

منها : أنّه هل يجوز التيمّم بدلا من الوضوءات الغير الرافعة كوضوء الجنب والحائض ، أو الأغسال المستحبّة ، أم لا؟ وجهان ، قد يقوى في النظر جوازه بدلا من الوضوءات المستحبّة ؛ لإطلاق قوله عليه‌السلام : «التيمّم بالصعيد لمن لم يجد الماء كمن توضّأ من غدير ماء» (١).

هذا ، مع قوّة احتمال كون الوضوء في حدّ ذاته طبيعة واحدة فائدتها الطهور ، وهي تختلف بحسب الموارد من حيث قابليّة المحلّ وعدمها ، وأمّا الأغسال المسنونة فيشكل فيها ذلك وإن اقتضاه إطلاق قوله عليه‌السلام في الرضوي : «التيمّم غسل المضطرّ ووضوؤه» (٢) وعموم المنزلة في صحيحة حمّاد : «هو بمنزلة الماء» (٣) فإنّ المتبادر منه كونه بمنزلته في التوضّؤ والاغتسال ، لكن لا يبعد دعوى انصرافها عمّا لا يرفع الحدث خصوصا بملاحظة كون الحكمة في شرع بعضها التنظيف ، مع أنّ من المستبعد جدّا جواز التيمّم بدلا من غسل الجمعة ،

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٤ / ١٤٣ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب التيمّم ، ح ٦.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣٥٥ ، الهامش (٦).

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٣٥٤ ، الهامش (٢).

٣٥٦

ولم يشر إليه في شي‌ء من الأخبار المسوقة لبيان حكم من لا يتمكّن من الاغتسال يوم الجمعة من تقديم الغسل يوم الخميس وقضائه يوم السبت ، إلى غير ذلك من المواقع المناسبة للتنبيه عليه ، فالأظهر عدم شرعيّته بدلا من الأغسال المسنونة ولو على القول بالاجتزاء بها عن الوضوء ، والله العالم.

ومنها : أنّه هل يستباح الوطؤ بالتيمّم الذي يقع بدلا من غسل الحيض بناء على حرمته قبل الاغتسال ، أو تزول كراهته على القول بها؟ فيه إشكال بناء على انتقاض كلّ تيمّم بمطلق الحدث ؛ لأنّ حصول مسمّى الوطي ينافي بقاء أثره حتّى يستباح به الوطؤ ، إلّا أن يدّعى أنّ المستفاد من الأدلّة ليس إلّا المنع من الوطي قبل التطهّر بمعنى اعتبار طهارتها عند إيجاد الوطي ، لا استمرارها حاله ، أو يتمسّك لاستباحته بالتيمّم بما يدلّ عليه بالخصوص ، لا بالأدلّة العامّة ، وقد تقدّم (١) تحقيقه في محلّه.

ومنها : أنّه إذا تيمّم لضيق الوقت عن الصلاة مع الطهارة المائيّة ، فلا شبهة في أنّه لا طهارة له بعد انقضاء صلاته التي ضاق وقتها ، وأمّا ما دام متشاغلا بفعل الصلاة ومقدّماتها فهل له الإتيان بسائر الغايات التي لم تتضيّق أوقاتها ، أم لا؟ فيه وجهان : من أنّ العجز عن الطهارة المائيّة أخذ قيدا في موضوعيّة الموضوع ، فهو جهة تقييديّة لا تعليليّة ، فالمتيمّم لضيق الوقت عاجز عن الطهارة المائيّة لصلاة ضاق وقتها لا مطلقا ، فهو بالمقايسة إلى سائر الغايات متمكّن من الطهارة المائيّة خصوصا إذا لم يكن الاشتغال بالوضوء أو الغسل في خلال الصلاة منافيا لصورتها ، ومن أنّ العجز في الجملة أثّر في شرعيّة التيمّم ، فمتى تيمّم فقد فعل

__________________

(١) في ج ٤ ، ص ١١٨ ـ ١٢٠.

٣٥٧

أحد الطهورين ، وحصلت الطهارة ، فله الإتيان بجميع ما هو مشروط بالطهور ، وهذا هو الأقوى ، فإنّ كون الجهة تقييديّة لا يؤثّر في إمكان اتّصاف المكلّف في زمان واحد بكونه متطهّرا وغير متطهّر ، فهو بعد أن فعل أحد الطهورين متطهّر ، وإلّا لم يجز له فعل الصلاة ، ومتى كان متطهّرا جاز له فعل الجميع ، وإلّا لتخلّف أثر الطهارة عنها ، أو لزم أن لا تكون الطهارة من حيث هي شرطا لها ، والثاني خلاف ما تقتضيه الأدلّة ، والأوّل باطل بالضرورة.

نعم ، لو كان أثر التيمّم مجرّد رفع المنع من فعل الغايات لا الطهارة ، لأمكن التفكيك بينها ، لكنّك عرفت في محلّه أنّ الحقّ خلافه ، فتحقّق أنّه متى استبيح فعل الصلاة استبيح سائر الغايات.

لا يقال : إنّه إذا تيمّم عند الضيق وترك الصلاة عصيانا ، للزم أن يباح له ما دام في الوقت سائر الغايات ، كما أبيح له الصلاة ، وهذا ممّا يقطع ببطلانه.

لأنّا نقول : إنّما يصحّ منه التيمّم على تقدير إتيانه بالصلاة التي ضاق وقتها لا مطلقا ، لا لاختصاص وجوب المقدّمة وصحّتها بموصلتها كما قد يتوهّم ، بل لأنّ التيمّم لا يصحّ إلّا ممّن عجز عن استعمال الماء ، ولا يعجز عن ذلك إلّا على تقدير إتيانه بالصلاة في الوقت ، ولا مدخليّة لإيجاب الصلاة عليه في وقتها في عجزه عن الطهارة المائيّة ، وإنّما المؤثّر فيه امتثاله لهذا الواجب ، فإن كان المكلّف آتيا بالصلاة في وقتها ، فهو عاجز ، وإلّا فلا ، فصحّة تيمّمه مراعاة بفعل الصلاة بعده ، فإذا فعلها ، كشف عن كونه عاجزا عن الوضوء والغسل ، وإلّا انكشف فساد تيمّمه.

وبعبارة أخرى : التيمّم طهور لمن كان معذورا في استعمال الماء ، وإنّما

٣٥٨

يعذر في ذلك لو صلّى بتيمّمه ، وأمّا العاصي بترك الصلاة فلا يقبل الاعتذار منه بوجوب الصلاة عليه وعدم قدرته على فعلها مع الطهارة المائيّة ، كما هو واضح.

وقد تقدّم في صدر الكتاب عند البحث عن وجوب المقدّمة مع اشتراطه بالقدرة على الإتيان بذيها ، وكذا فيما نبّهنا عليه بعد ذكر مسوّغات التيمّم من التعرّض لبيان بطلان الوضوء المتوقّف على مقدّمة محرّمة ، وصحّته عند مزاحمته لواجب أهمّ ، وكذا في سائر المقامات المناسبة ما يزيل بعض الشبهات المتوهّمة في المقام ، فليتأمّل.

(السادس : إذا اجتمع ميّت ومحدث) بالأصغر (وجنب ومعهم من الماء ما يكفي أحدهم ، فإن كان ملكا لأحدهم ، اختصّ به) وحرم على غيره تناوله من غير رضاه.

فإن كان المالك هو الميّت ، تعيّن صرفه في تغسيله ، وليس لوارثه السماحة به ، فإنّ الميّت أولى بماء غسله من وارثه.

وإن كان غيره ، فهل له إيثاره على نفسه بتقديم الميّت أو صاحبه مع ما به من الحاجة لصرفه في رفع حدثه مقدّمة لصلاته الواجبة عليه؟ وجهان ، صرّح غير واحد بعدم الجواز ؛ نظرا إلى عدم اجتماع وجوب التطهير به مع جواز بذله للغير.

وربما تعدّوا عن الفرض إلى ما لو كان مباحا غير مملوك لهم ، فأوجبوا الاستباق ومزاحمة الغير مقدّمة للواجب ، خلافا لظاهر المتن في هذه الصورة.

قال في المدارك : فإن كان ملكا لأحدهم ، اختصّ به ، ولم يكن له بذله لغيره مع مخاطبته باستعماله ، لوجوب صرفه في طهارته ، ولو كان مباحا ، وجب على كلّ من المحدث والجنب المبادرة إلى حيازته ، فإن سبق إليه أحدهما وحازه ، اختصّ

٣٥٩

به ، ولو توافيا دفعة ، اشتركا ، ولو تغلّب أحدهما ، أثم وملك (١). انتهى.

وظاهره كصريح جملة ممّن تأخّر عنه : اختصاص المنع والمزاحمة بما إذا تنجّز التكليف بالصلاة بأن دخل وقتها بناء منهم على عدم وجوب المقدّمة قبل دخول وقت ذيها.

وقد عرفت في صدر الكتاب وعند البحث عن حرمة إراقة الماء قبل الوقت ، وكذا عند التكلّم في عدم جواز التيمّم قبل الوقت فساد هذا المبنى ، فلو تمّ دليل الحرمة ، لاقتضى عمومها لما قبل الوقت أيضا ، ولذا التزمنا بوجوب تحصيل المقدّمات المنحصرة للواجبات الموقّتة قبل أوقاتها.

والأقوى جواز البذل في المملوك ، والتخلية بين الماء وبين صاحبه في المباح.

نعم ، ما دام واجدا للماء أو متمكّنا من استعماله لا يجوز له التيمّم.

لنا على الجواز : أمّا مع رجاء إصابة الماء : فواضح بعد ما عرفت في محلّه من عدم وجوب حفظ الماء إلّا على تقدير العلم بفوت الطهارة المائيّة بإتلافه.

وأمّا مع العلم بعدم الإصابة : فلأنّ غاية ما أمكننا إثباته فيما تقدّم بعد التشبّث بذيل الإجماع ونحوه من الأدلّة اللّبّيّة إنّما هي حرمة تفويت التكليف بالطهارة المائيّة بإراقة الماء ونحوها ممّا يعدّ في العرف فرارا من التكليف ومسامحة في أمره ، وأمّا حرمة صرف الماء في مقاصده العقلائيّة ـ من مأكله ومشربه والإنفاق على صديقه ودابّته وغيرها من الأغراض العقلائيّة التي من أهمّها احترام موتاهم بتغسيلها ـ فلا ، بل لا يبعد الالتزام بجواز التيمّم وحفظ الماء

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٢٥٠.

٣٦٠