مصباح الفقيه - ج ٦

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٦

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

لكن ظاهر بعض الأدلّة المتقدّمة للمضايقة أنّ الصلاة مع التيمّم فرد اضطراريّ للصلاة اجتزئ به في مقام الضرورة ، فعلى هذا تندرج المسألة في موضوع مسألة جواز البدار لاولي الأعذار ، فإن منعناه مطلقا أو مع رجاء زوال العذر ، ففي المقام أيضا يقتضي المنع ، وإلّا فالجواز.

ولذا صرّح بعض (١) بكون الصلاة من المتطهّر بالتيمّم من جزئيّات هذه المسألة ، وأنكر على من خصّ محلّ الخلاف بغير المتيمّم.

لكنّك عرفت فيما سبق ـ عند الاستشكال في حرمة الإراقة ـ أنّه لم يثبت اشتراط الصلاة بأزيد من جنس الطهور الحاصل في الفرض ، بل ثبت عدمه ، فالطهارة الحاصلة بالتيمّم طهارة اضطراريّة ، لا الصلاة الواقعة معها.

ولذا استشكلنا في حرمة تفويت التكليف بالطهارة المائيّة مع أنّه ليس لها وجوب نفسيّ ، فلا ينبغي التأمّل في جواز الصلاة في السعة بعد فرض صحّة التيمّم وكونه متطهّرا ولو على القول بعدم جواز البدار لاولي الأعذار ، كما هو الحقّ على تقدير رجاء زوال العذر لا مطلقا.

نعم ، مقتضاه المنع من فعل التيمّم في السعة لو لا دلالة الأدلّة المتقدّمة على خلافه.

(والواجب في التيمّم) كأخويه : الوضوء والغسل (النيّة) لعين ما مرّ فيهما.

وقد عرفت فيما مرّ في مبحث الوضوء تحقيق النيّة المعتبرة في صحّة العبادة ، وأنّه يكفي في تحقّقها واتّصاف العبادة بكونها منويّة انبعاثها عن عزم و

__________________

(١) لم نتحقّقه.

٢٤١

إرادة متقدّمة على الفعل ، سواء كانت الإرادة التفصيليّة الباعثة على الفعل مقارنة لأوّل جزء منه أو مفصولة عنه ولو قبل إيجاد مقدّماته ، لكن لا يتحقّق الانبعاث عن تلك الإرادة السابقة المنبعثة عن قصور الفعل وغايته ـ التي هي عبارة عن حصول الامتثال والتقرّب به ـ إلّا إذا بقيت تلك الإرادة في النفس بنحو من الإجمال بأن لم يرتدع ولم يذهل عنها بالمرّة حتّى يعقل تأثيرها في إيجاد الفعل واتّصافه بكونه منويّا ، فالمعتبر حين الفعل إنّما هو وجود الداعي إليه ، الذي هو أعمّ من الإرادة التفصيليّة والإجماليّة ، ولذا شاع في ألسنة المتأخّرين تفسير النيّة ـ المعتبرة في صحّة العبادة ـ بالداعي.

لكنّ الظاهر أنّه مسامحة ، وأنّ النيّة اسم للإرادة التفصيليّة ، لكن لا يشترط في اتّصاف العمل بكونه منويّا اقترانه بها (و) إنّما المعتبر (استدامة حكمها) أي باعثيّتها على الفعل بحيث يكون الفعل بجميع أجزائه منبعثا عنها.

وكيف كان فلا يعتبر في صحّة العبادة أزيد من ذلك. فإن قلنا بأنّ النيّة عبارة عن الإرادة التفصيليّة ، فلا تشترط مقارنتها للفعل. وإن قلنا بأنّها أعمّ منها ومن الإرادة الإجماليّة الداعية إلى الفعل ، فتشترط مقارنتها بل استدامتها إلى آخر العمل.

وكيف كان فالذي يعتبر في صحّة التيمّم ـ كأخويه ـ إنّما هو إيجاده بداعي القربة وامتثال الأمر المتعلّق به المتولّد من الأمر بغاياته ، ولا يعتبر فيه أزيد من ذلك من قصد الوجه والاستباحة وغيرها ، كما عرفت تحقيقه في مبحث الوضوء ، لكن لمّا كان التيمّم مختلفا بالنوع ؛ لوقوعه بدلا من الوضوء وغسل الجنابة والحيض وغيرها من الأغسال المختلفة بالنوع من غير أن يجتزئ بما يقع بدلا من بعض عمّا يقع بدلا من آخر إلّا أن يكون مبدله كذلك ـ كما ستعرفه ـ وجب تميّز

٢٤٢

كلّ نوع عند إرادة امتثال الأمر المتعلّق به عمّا يشاركه في الجنس حتّى يصحّ وقوعه امتثالا لذلك الأمر المتعلّق بالنوع ، وحيث إنّه لا سبيل لنا إلى تشخيص تلك الطبائع بغير القصد وجب علينا عند إرادة الإتيان بشي‌ء من تلك الأنواع القصد إلى وقوعه بعنوان يخصّ ذلك النوع ، ككونه بدلا من الوضوء أو غيره أو ما يؤدّي مؤدّاه في التمييز وإن لم يقصد به عنوان البدليّة ، كأن قصد ـ مثلا ـ بفعله تيمّما يقع امتثالا للأمر الناشئ من خروج البول أو المنيّ أو غير ذلك ممّا يوجب تمييز المأمور به عن غيره ولو بتوصيفه بالوجوب ، كما إذا انحصر الواجب في حقّه في نوع ، فنوى بفعله الإتيان بذلك التيمّم الذي وجب عليه بالفعل.

والحاصل : أنّه يعتبر في صحّة كلّ نوع من التيمّم تعيينه بالقصد ، فإن أراد القائل باعتبار قصد البدليّة من الوضوء أو الغسل ذلك ، فنعم الوفاق ، وإن أراد قصدها من حيث هي وإن حصل التعيين بغيره ، فلا دليل عليه.

بقي في المقام شي‌ء ، وهو : أنّه صرّح غير واحد بأنّه لا يجوز في التيمّم نيّة الرفع ، وإنّما ينوي به استباحة الغايات المشروطة بالطهور ؛ لأنّه غير رافع للحدث إجماعا ، كما عن جماعة (١) نقله ، وظاهرهم بل صريح بعضهم أنّ التيمّم لا يفيد الطهارة ، بل أثره رفع المنع من الدخول في الصلاة ونحوها مع الحدث.

ومستندهم في ذلك ـ بحسب الظاهر ـ ليس إلّا أنّه لو كان التيمّم مفيدا للطهارة التي هي نقيض الحدث ، لم يعقل انتقاضها بوجدان الماء الذي ليس بحدث إجماعا ، وستعرف أنّه ينتقض بذلك ، فيكشف ذلك عن أنّ الحدث

__________________

(١) حكاه عنهم صاحب الجواهر فيها ٥ : ١٦٧ ، وانظر : الخلاف ١ : ١٤٤ ، المسألة ٩٢ ، والمعتبر ١ : ٣٩٤ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٤٥.

٢٤٣

لم يكن زائلا ، وإلّا لم يعد بلا سبب.

أقول : أمّا انتقاض التيمّم بوجدان الماء المتمكّن من استعماله فممّا لا شبهة فيه ، كما أنّه لا شبهة في عدم كونه بنفسه حدثا ، لكن من الواضح ـ الذي لا يكاد يعتريه ريب ـ أنّ الشارع إنّما نزّل التراب منزلة الماء في إفادته للطهور الذي هو شرط للصلاة ونحوها لدى الضرورة ، لا أنّه أهمل شرطيّته ، وأباح الصلاة مع الحدث للعاجز من استعمال الماء.

والحاصل : أنّ الشارع جعل التراب طهورا ، كما جعل الماء طهورا ، لا أنّه نفى شرطيّة الطهارة في حقّ العاجز.

فإن أرادوا بقولهم : «إنّ التيمّم مبيح للصلاة ـ مثلا ـ وليس برافع ، أو ليس بطهور» ما يؤول إلى ارتكاب التخصيص فيما دلّ على أنّه «لا صلاة إلّا بطهور» (١) ففاسد جدّا.

وإن أرادوا ما لا ينافي شرطيّة الطهور وحصول الشرط بالتيمّم وإن لم يسمّوه بالطهارة بأن التزموا بتعميم الشرط على وجه يعمّ أثر التيمّم بدون أن يستلزم ارتكاب التخصيص في مثل «لا صلاة إلّا بطهور» بأن تكون فائدته مجرّد الرخصة في الصلاة مع الحدث ـ كما هو معنى الاستباحة ـ فلا مشاحّة فيه.

والذي ينبغي أن يقال : إنّه يستفاد من الكتاب والسنّة بل الإجماع والضرورة استفادة قطعيّة : أنّ الشارع لم يهمل شرطيّة الطهور لمن لم يتمكّن من استعمال الماء ، لكن جعل له التراب طهورا ، كما جعل الماء طهورا ، وظاهر جميع

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٩ ـ ٥٠ / ١٤٤ ، و ٢٠٩ / ٦٠٥ ، و ٢ : ١٤٠ / ٥٤٥ ، الاستبصار ١ : ٥٥ / ١٦٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، ح ١.

٢٤٤

الأدلّة كون التيمّم ـ كالوضوء والغسل ـ مفيدا للطهارة حقيقة.

قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه ـ بعد أن أمر بالتيمّم عند عدم وجدان الماء ـ (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١).

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في الأخبار التي كادت تكون متواترة ـ : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (٢).

وقال الوصيّ عليه‌السلام ـ في صحيحة جميل ـ : «إنّ الله عزوجل جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يفهم منها أنّه أحد الطهورين ، فلا يجوز رفع اليد عن هذا الظاهر إلّا بدليل معتبر ، وليس في المقام ما ينافيه عدا ما يتخيّل من أنّ الطهارة من الأمور القارّة ، ولا يرفعها إلّا الحدث ، وهو ينافي ناقضيّة وجدان الماء ، التي ثبتت بالنصّ والإجماع.

وفيه : أنّه لا منافاة بين الأمرين ؛ فإنّ التيمّم طهور للعاجز بوصف كونه عاجزا ، فإذا زال الوصف ، انتفى الحكم بانتفاء موضوعه ، لا بوجود المزيل.

توضيح ذلك : إنّا إمّا نلتزم بأنّ الطهارة أمر وجوديّ وحالة نفسانيّة ، فهي صفة كمال تحصل بأسبابها من الوضوء والغسل والتيمّم ، والحدث نقيضه ، كما

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) الفقيه ١ : ١٥٥ / ٧٢٤ ، الخصال : ٢٠١ / ١٤ ، و ٢٩٢ / ٥٦ ، وفي الموضع الأوّل منها : «لأمّتي» بدل «لي». الوسائل ، الباب ٧ من أبواب التيمّم ، الأحاديث ٢ ـ ٤.

(٣) الفقيه ١ : ٦٠ / ٢٢٣ ، التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٤ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب التيمّم ، ح ١ ، وكذا الباب ٢٤ من تلك الأبواب ، ح ٢ عن الإمام الصادق عليه‌السلام.

٢٤٥

تؤيّده تسمية أسبابه بالنواقض ، أو نلتزم بعكسه ، ونقول : إنّ الحدث قذارة معنويّة حاصلة بأسبابه ، وتزيلها المطهّرات ، فالأنسب على هذا تسمية المطهّرات نواقض ، ومقتضاه جواز الدخول في الصلاة لمن فرض خلقه دفعة مكلّفا ـ كآدم عليه‌السلام ـ ما لم يحدث ، أو نفصّل بين الحدث الأصغر والأكبر ، فنلتزم بالأوّل في الأوّل ، وبالثاني في الثاني ، أو نلتزم بأنّهما معا وصفان وجوديّان يمتنع تواردهما على موضوع واحد ؛ لتضادّهما ، فالشخص المفروض ليس بمحدث ولا متطهّر ، أو نمنع المضادّة أيضا ، بل نقول : هما من المتخالفين ، كالسواد والحلاوة ، فيمكن اجتماعهما في موضوع واحد ، فنلتزم ـ مثلا ـ بأنّ وضوء المسلوس والمستحاضة يفيد الطهارة حقيقة ، فيجتمع مع الحدث.

فإن التزمنا بأنّ الطهارة أمر وجوديّ ـ كما هو الأظهر على ما عرفته في مبحث الوضوء ـ سواء قلنا بأنّ الحدث نقيضه أم ضدّه أم خلافه ، فلا امتناع في أن لا يقتضي سببها إلّا حصولها في حال دون حال ، أو على تقدير صفة دون اخرى ، فالتيمّم إنّما يقتضي حصول تلك الصفة للعاجز عن استعمال الماء ما دام عاجزا لا مطلقا ، فيكون للعجز مدخليّة في حدوثها وبقائها ، نظير طرح العبد ـ مثلا ـ لبد سرجه أو برذعة حماره على مولاه حفظا له عن البرد ، فإنّه إكرام للمولى ما دامت الضرورة ، وتوهين به بدونها.

وإن بنينا على أنّ الحدث قذارة معنويّة وهي صفة وجوديّة والطهارة نقيضه ـ كما لعلّه لا يخلو عن وجه بالنسبة إلى الحدث الأكبر وإن كان الأوجه فيه أيضا كون أثر الغسل الرافع له أيضا وجوديّا ، كما يفصح عن ذلك بالنسبة إلى غسل الجنابة بل وغيره أيضا على احتمال إفادته فائدة الوضوء وغيره من الأغسال

٢٤٦

المستحبّة والواجبة ـ فنقول : إنّه لا استحالة في أن يكون التيمّم مزيلا لتلك القذارة على وجه يعدّ نظافة مع الضرورة ، لا بدونها ، نظير تنظيف اليد عن القذارات الصوريّة بالمسح بالحائط ونحوه حيث يعدّ نظافة لدى العرف في مقام الضرورة ، لا بدونها ، بل من الجائز أن يكون التيمّم رافعا لتلك القذارة بالمرّة ، ولكن تكون أسبابها المؤثّرة في حدوثها مقتضيات لتجدّدها عند تجدّد القدرة من استعمال الماء.

والحاصل : أنّه ليس مثل هذه المبعدات من الأمور التي يرفع اليد بها عن ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة الدالّة على كون التيمّم ـ كالوضوء والغسل ـ طهورا.

وأمّا ما ادّعوه من الإجماع على عدم كونه رافعا للحدث فلا يبعد أن يكون مراد المجمعين عدم كونه ـ كالوضوء والغسل ـ مزيلا لأثره بالمرّة على وجه لا يحتاج إلى فعل الطهور إلّا بسبب جديد ، وهذا حقّ لا محيص عنه.

وأمّا إنكار أنّ التيمّم يفيد الطهارة ـ التي هي شرط للصلاة ـ للمضطرّ ما دام مضطرّا فكاد يكون مصادما للضرورة.

فظهر لك أنّه لا مانع من قصد حصول الطهارة بفعل التيمّم ، بل ولا من قصد رفع الحدث ، لكن على الوجه الذي جعله الشارع له ، لا الرفع المطلق الذي هو من خواصّ الوضوء والغسل ، فلو نوى ذلك فقد شرّع ، لكن لم يبطل تيمّمه إلّا إذا جعله وجها للأمر الذي قصد امتثاله ـ بأن نوى امتثال الأمر بالتيمّم الذي أثره كذلك ـ فيبطل ؛ إذ لا أمر بهذه الكيفيّة.

وإن أردت مزيد توضيح للمقام ، فلاحظ ما أسلفناه في باب الوضوء ، و

٢٤٧

ستأتي تتمّة للكلام في رافعيّة التيمّم للحدث عند البحث عن انتقاض تيمّم الجنب بالحدث الأصغر ، فتبصّر.

ومن الواجب في التيمّم : المباشرة ـ كالوضوء والغسل ـ بأن يتولّاه بنفسه

(والترتيب) بأن (يضع يديه على الأرض ثمّ يمسح الجبهة بهما من قصاص الشعر إلى طرف أنفه ثمّ يمسح ظاهر) كلّ من (الكفّين) بالأخرى مقدّما اليمنى على اليسرى ، والموالاة بلا خلاف في شي‌ء منها ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع على كلّ منها ، ولعلّه هو العمدة في مستند الأخيرين.

وأمّا الشرط الأوّل ـ أعني المباشرة ـ فيدلّ عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ ظهور الأدلّة من الكتاب والسنّة في اعتباره ؛ لما عرفت في مبحث الوضوء من أنّ الأصل في الواجبات التعبّديّة بل التوصّليّة أيضا ـ على ما تقتضيه ظواهر أدلّتها ـ إنّما هو خروج المكلّف من عهدتها مباشرة ، لا بالاستنابة والتسبيب ، إلّا أن يدلّ عليه دليل خارجيّ ، كما في التوصّليّات حيث علم فيها بحصول الغرض بوجود متعلّق التكليف كيف اتّفق ، فيسقط بذلك التكليف ، دون التعبّديّات التي لم يعلم فيها ذلك.

نعم ، لو تعذّر عليه ذلك ـ بأن لم يتمكّن من أن يتيمّم بنفسه ـ يمّمه غيره ، كالوضوء ؛ لما عرفته فيه.

ويدلّ عليه أيضا : قوله عليه‌السلام في المستفيضة المتقدّمة في مسوّغات التيمّم ، الواردة في المجدور الذي غسّل فمات : «ألا يمّموه؟ إنّ شفاء العيّ السؤال» (١).

وفي مرسلة ابن أبي عمير : «يؤمّم المجدور والكسير إذا أصابتهما

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٣٧ ، الهامش (٣).

٢٤٨

جنابة» (١).

ومرسلة الصدوق : «المبطون والكسير يؤمّمان ولا يغسّلان» (٢).

وقد عرفت في مبحث الوضوء أنّ الذي يتولّاه الغير إنّما هو صورة الفعل سواء نوى بفعله عنوان المأمور به أم لم ينوه ، وإنّما المعتبر هو نيّة العاجز المكلّف بالوضوء أو التيمّم ؛ لما عرفت من أنّ مقتضى القاعدة عند عجزه عن إتيان المأمور به مباشرة إنّما هو إيجاده بالتسبيب ، أعني بإعانة الغير بأن يكون الغير بمنزلة الآلة له ، لا على وجه الاستنابة بأن يكون نائبا عنه في امتثال الأمر المتعلّق به حتى تعتبر نيّته ، كما في الحجّ وصلاة الاستئجار.

ولا يستفاد من الأخبار المتقدّمة أيضا إلّا التسبيب والإعانة في صدور التيمّم من العاجز وإيجاده على وجه يقوم الفعل به بأن يصير متيمّما ، لا الاستنابة عنه ، وإلّا لوجب على النائب أن يتيمّم بنفسه بعنوان النيابة ، كما في سائر الأفعال القابلة للاستنابة.

وقد تقدّم مزيد توضيح لذلك في مبحث الوضوء.

ويظهر لك ممّا تقدّم أنّ المعتبر في المقام إنّما هو ضرب الأرض بيدي العليل ومسح الجبهة والكفّين بهما مع الإمكان ، لا بيدي النائب ؛ لاعتبار خصوصيّتهما في ماهيّة التيمّم ، فلا يجوز إهمالها من غير ضرورة ، نظير مسح الرأس والرّجلين في الوضوء ، وقد عرفت أنّ المتّجه إيجاده بيد العاجز لا

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٨ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب التيمّم ، ح ٤ ، ولفظ الحديث فيهما : «يتيمّم المجدور والكسير بالتراب إذا أصابته جنابة».

(٢) الفقيه ١ : ٥٩ / ٢١٧ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب التيمّم ، ح ١٢ ، وفي النسخ الخطّيّة والحجريّة : «المجدور والكسير .. ولا يغتسلان». وما أثبتناه كما في المصدر.

٢٤٩

المتولّي.

وتنظيره على الغسل أو غسل الوجه واليدين في الوضوء حيث لا يعتبر فيهما مباشرة العاجز بنفسه قياس مع الفارق ، كما لا يخفى.

وأمّا الترتيب بين الأجزاء : أمّا وجوب تقديم مسح الجبهة على مسح الكفّين كتقديم ضرب اليدين على الأرض على مسح الجبهة فهو ممّا لا شبهة فيه ، كما يدلّ عليه ـ مضافا إلى الإجماع ـ جميع الأدلّة الواردة في بيان كيفيّة التيمّم حتى الكتاب العزيز ، فإنّه وإن وقع فيه عطف الأيدي على الوجوه بالواو (١) لكنّ المتبادر منه في المقام ـ ولو بملاحظة وروده بعد بيان الوضوء الذي يجب فيه البدأة بما بدأ الله به ـ إنّما هو إرادة الترتيب.

وأمّا الترتيب بين مسح الكفّين فربما يتأمّل في استفادته من الأخبار ؛ لخلوّ أكثرها ـ كظاهر الكتاب ـ عن الإشعار به فضلا عن الدلالة عليه ، بل لا يبعد دعوى ظهور بعض الأخبار في الاجتزاء بمطلقه وإن لم يخل عن تأمّل.

واستدلّ لاعتبار الترتيب مطلقا بصحيحة زرارة ـ المرويّة عن مستطرفات السرائر ـ عن الباقر عليه‌السلام ، الحاكية لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند بيان كيفيّة التيمّم ، قال عليه‌السلام : «فضرب بيديه على الأرض ثمّ ضرب إحداهما على الأخرى ثمّ مسح بجبينه ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الأخرى ، فمسح اليسرى على اليمنى واليمنى على اليسرى» (٢) لظهورها في وقوع الفعل بالترتيب المذكور في الرواية ،

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

(٢) السرائر ٣ : ٥٥٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، ح ٩.

٢٥٠

فلا يجوز التخطّي عنه عند احتمال مدخليّة الترتيب في صحّة العمل خصوصا بعد معلوميّة اعتباره بين سائر الأجزاء.

واحتمال جري الترتيب الخاصّ مجرى العادة والاتّفاق ، أو كونه مستحبّا ممّا لا يلتفت إليه ما لم يتحقّق ؛ لأنّ وقوعه في مقام البيان بمنزلة ما لو قال : «تيمّموا بهذه الكيفيّة» فلا يجوز إهمال شي‌ء من الخصوصيّات التي يحتمل دخلها في المأمور به.

وبهذا التقريب يمكن الاستدلال به لاعتبار الموالاة أيضا.

لكنّ الإنصاف أنّه لا يخلو عن نظر يظهر وجهه ممّا مرّ في مبحث الوضوء من عدم صلاحيّة إطلاق القول ـ فضلا عن الفعل ـ لأن يكون بيانا لوجه الخصوصيّات الجارية مجرى العادة بعد العلم بعدم إرادتها على الإطلاق خصوصا بالنسبة إلى الموالاة التي تقتضيها العادة في مقام التعليم.

هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّه ربما يستشعر من قوله عليه‌السلام : «ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الأخرى» أنّ هذا على إجماله هو المعتبر في ماهيّة التيمّم ، وما ذكره بعد هذه الفقرة إخبار عمّا وقع من باب الاتّفاق ، كما يؤيّد ذلك الاقتصار في سائر الأخبار الحاكية لفعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذه الفقرة.

هذا كلّه ، مع أنّ ظهور الرواية في وقوع مسح اليمنى قبل اليسرى أيضا لا يخلو عن تأمّل ، فتأمّل.

ثمّ إنّه لو تمّ الاستدلال بذلك لاعتبار الترتيب أو الموالاة ، فهذا إنّما يتمّ لو لم يفهم عدمه من إطلاقات الأدلّة كما هو المفروض ، وإلّا فلا يصلح الفعل لمعارضة القول ، كما هو واضح.

٢٥١

وربما يستدلّ له : بالفقه الرضوي : «صفة التيمّم أن تضرب بيديك على الأرض ثمّ تمسح بهما وجهك موضع السجود من مقام الشعر إلى طرف الأنف ثمّ تضرب اخرى فتمسح بها اليمنى إلى حدّ الزند. وروي من أصول الأصابع تمسح باليسرى اليمنى وباليمنى اليسرى على هذه. وأروي : إذا أردت التيمّم اضرب كفّيك على الأرض ضربة واحدة ثمّ تضع إحدى يديك على الأخرى ثمّ تمسح بأطراف أصابعك وجهك من فوق حاجبيك وبقي ما بقي ثمّ تضع أصابعك اليسرى على أصابعك اليمنى من أصل الأصابع من فوق الكفّ ثمّ تمرّها على مقدّمها على ظهر الكفّ ثمّ تضع أصابعك اليمنى على أصابعك اليسرى فتصنع بيدك اليمنى ما صنعت بيدك اليسرى على اليمنى مرّة واحدة» (١).

وهذه الرواية لا قصور في دلالتها ، بل ما روي فيها مرسلا صريح في الترتيب بين الأجزاء ، بل بين أجزاء الإجزاء أيضا ، كما لعلّه المشهور بل المجمع عليه على ما ادّعي.

ولا يبعد انجبار مثل هذه الرواية بفتوى الأصحاب وإجماعهم الموجب للوثوق بصدق الرواية المرسلة وصدور مضمونها عن الحجّة.

وقد يستدلّ له أيضا بصحيحة ابن مسلم عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن التيمّم ، فضرب بكفّيه الأرض ثمّ مسح بهما وجهه ثمّ ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع واحدة على ظهرها وواحدة على بطنها ثمّ ضرب بيمينه الأرض ثمّ صنع بشماله كما صنع بيمينه ، ثمّ قال : «هذا التيمّم على ما كان فيه الغسل ، وفي الوضوء الوجه واليدين إلى المرفقين ، وألقى ما كان عليه

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٨.

٢٥٢

مسح الرأس والقدمين ، فلا يؤمّم بالصعيد» (١).

وفيه ما لا يخفى بعد كون الرواية مطروحة ومحمولة على التقيّة ، كما يؤيّدها ما فيها فيما هو بدل الوضوء من اعتبار مسح اليدين منكوسا منتهيا إلى المرافق ، كما هو شعار العامّة في وضوئهم.

وكيف كان فلا ينبغي الاستشكال في أصل الحكم ـ أعني اعتبار الترتيب ـ بعد استفاضة نقل الإجماع المعتضد بعدم نقل الخلاف في المسألة ، وبالرضويّ مع ما فيه من الرواية المرسلة المعتضدة بالفتاوي والإجماعات المنقولة وغيرها من المؤيّدات ، والله العالم.

وأمّا الموالاة بين الأجزاء فممّا لا خلاف فيه في الجملة ، بل عليها نقل الإجماع إن لم يكن متواترا ففي غاية الاستفاضة.

ولعلّ مستندهم عدم انصراف الذهن عند الأمر بمركّب ذي أجزاء ، بل عند الأمر بعدّة أشياء مرتبط بعضها ببعض في التأثير ـ وإن لم يسمّ المجموع باسم خاصّ ـ [إلّا إلى] (٢) إيجادها متوالية على وجه يلتئم بعضها مع بعض بنظر العرف بأن لم يفصل بينها بمقدار يعتدّ به.

ألا ترى أنّه لو قال المجتهد لمقلّديه : إنّه يستحبّ تسبيحة الزهراء ـ سلام الله عليها ـ في كلّ وقت ، وهي عبارة عن عدّة تكبيرة وتحميده وتسبيحة ، أو قال : يستحبّ الأذان والإقامة لكلّ صلاة ، وعدّد له إجزاءهما ، أو قال : يجوز ـ مثلا ـ

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢١٠ / ٦١٢ ، الإستبصار ١ : ١٧٢ / ٦٠٠ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب التيمّم ، ح ٥.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «إنّما هو». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

٢٥٣

التفؤّل بالمصحف بكيفيّة خاصّة بأن تصلّي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث مرّات ثمّ تقرأ التوحيد ثلاث مرّات ثمّ تقرأ الدعاء الفلاني ثمّ تفتح المصحف ، لا يفهم من إطلاق قول المجتهد شرعيّة هذه الأمور على الإطلاق ولو عند تقطيع بعض أجزائها عن بعض بأن يأتي بعضها ـ مثلا ـ في الصبح وبعضها في الظهر وبعضها في العصر ، بل لا ينسبق إلى ذهنه إلّا إرادة إيجادها متوالية.

والإنصاف أنّ منع انصراف مثل هذه الإطلاقات عن مثل الفرض مكابرة.

وأمّا دعوى انصرافها إلى إرادة التوالي المانعة من نفي شرطيّته بأصل البراءة فهي قابلة للتأمّل وإن كان الأقرب هو الانسباق لكن لا على وجه يظهر منه الاشتراط ، بل نظير إرادة القيود الجارية مجرى العادة في عدم كونها من مقيّدات ما تعلّق به الغرض ، فالمتبادر من الأمر بإيجاد مركّب مترتّب أجزاؤه في الوجود إنّما هو إرادة إيجاد تلك الأجزاء بلا فصل يعتدّ به زائدا عمّا يقتضيه العرف والعادة لكن لا على وجه يفهم منه كون الفصل مخلّا بغرض الآمر ، نظير ما لو أمر المولى عبده بغسل ثوبه ، وكان عندهما ماء ، فإنّ المتبادر منه إرادة الغسل بالماء الموجود من دون أن يفهم منه اشتراط الخصوصيّة ، وحينئذ لو شكّ في اعتبار تلك الخصوصيّة الحاضرة في ذهن الآمر ، الموجبة لعدم التفاته في مقام الطلب إلّا إليها ، يشكل رفع اليد عنها ما لم يعلم بعدم مدخليّتها في الغرض ، بل لا يبعد أن يقال : إنّ المتعارف في هذا النوع من المركّبات لدى العرف على تقدير احتياجهم إليها في مقاصدهم العرفيّة إنّما هو إيجادها متتابعة ، نظير قراءة دعاء أو شعر أو قصيدة ، فلو تعلّق الأمر بشي‌ء من هذا السنخ وإن لم يكن شخصه معهودا لديهم ، لا يتبادر إلّا إرادته بالكيفيّة المتعارفة في نوعه ، فالمتبادر من الأمر بالوضوء والغسل والصلاة

٢٥٤

وغيرها من العبادات المركّبة إنّما هو إرادة إيجادها متوالية الأجزاء ، فيشكل التخطّي عن ذلك ، إلّا أن يعلم بتنقيح المناط أو بدليل خارجيّ عدم اختلالها بالفصل الطويل ، كما ثبت ذلك في الغسل ، فيكون الأصل في العبادات المركّبة المستفادة من الأدلّة اللفظيّة اعتبار التوالي ما لم يتحقّق خلافه.

ولو نوقش في عموم هذه الدعوى ، فلا مجال للتشكيك فيها بالنسبة إلى التيمّم بعد ما سمعت من عدم الخلاف فيه ، واستفاضة نقل الإجماع عليه.

فما عن بعض ـ من عدم اعتبار الموالاة فيما هو بدل من الغسل ؛ نظرا إلى عدم اعتبارها في المبدل منه (١) ـ ضعيف ، ولم يقصد بتنزيل التراب منزلة الماء شرعا ما يعمّ كيفيّة استعماله ، كما هو واضح.

وقد ظهر لك بما ذكرنا أنّ الموالاة المعتبرة في التيمّم إنّما هي إيجاد أجزائه متتابعة من غير فصل يعتدّ به زائدا عمّا تقتضيه العادة في إيجاد مثل هذه المركّبات ، ومآله إلى اعتبار المتابعة العرفيّة ، كما عن بعض (٢) تفسيرها بها.

وعن بعض تحديدها بتقدير الجفاف إن كان ماء (٣). وفيه ما لا يخفى.

وفي الجواهر فسّرها بعدم التفريق المنافي لهيئة التيمّم وصورته ؛ نظرا إلى أنّ ذهاب الصورة يوجب انتفاء الاسم ، فيتّجه حينئذ الحكم بالفساد ، كما في كثير من العبادات. وتنظّر في كلام من فسّرها (٤) بعدم المتابعة العرفيّة على تقدير

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٥ : ١٧٦ نقلا عن نهاية الإحكام ١ : ٢٠٨ احتمالا ، وعن الدروس ١ : ١٣٣ جزما.

(٢) انظر : مفتاح الكرامة ١ : ٢٦٣.

(٣) كما في جواهر الكلام ٥ : ١٧٧ عن الدروس ١ : ٩٣.

(٤) كذا ، والظاهر : «أفسده» أي أفسد التيمّم بعدم .. لاحظ المصدر.

٢٥٥

انفكاك فوات المتابعة عن ذهاب الصورة (١).

واعترضه بعض (٢) بما ملخّصه : أنّ البطؤ بقدر الماحي للاسم مبطل آخر غير مختصّ بالمقام ، بل الإبطال به سار في سائر العبادات ، فلا يقتضي الاستدلال عليه بظهور الآية والرواية البيانيّة ، فاستدلالهم بنحوها بعد الإجماع قاض بإرادتهم مجرّد عدم المتابعة العرفيّة ، وهو أخصّ من البطؤ الماحي ؛ لتوقّف محو الاسم على تفرّق أزيد من ذلك.

أقول : إن أريد بالصورة المعتبرة في التيمّم ما يرجع إلى ما ذكرناه من إيجاد أجزائه متتابعة من غير فصل يعتدّ به زائدا عمّا هو المتعارف في إيجاد مثل هذه المركّبات ، فهو ، وإلّا فلا محصّل له ؛ ضرورة أنّ الصورة المعتبرة في العبادات كغيرها إنّما هي متقوّمة بأجزائها بشرائطها المعتبرة فيها ، ومعها يتحقّق الاسم لا محالة ، فإن لم تكن الموالاة شرطا في العبادة ، تتقوّم صورتها ويتحقّق اسمها بوجود أجزائها في الخارج ولو مع الفصل كما في الغسل. وإن اعتبر فيها الموالاة ، يتوقّف صدق الاسم وقوام الصورة على إيجادها متوالية ، فلا يعقل تحديد الموالاة المعتبرة في العبادة ببقاء صورتها.

وإن أريد بصورة التيمّم الكيفيّة المعهودة عند المتشرّعة من إيجاد أجزائه متتابعة ، فالكلام إنّما هو في اعتبار هذه الكيفيّة ، ومعهوديّتها لديهم ما لم يستكشف بذلك اعتبارها شرعا غير مجدية ، بل لا اعتناء في الفرض بعدم إطلاق الاسم عرفا على فاقدتها بل سلبه عنها ؛ إذ لا سبيل للعرف في تشخيص

__________________

(١) جواهر الكلام ٥ : ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٢) لم نتحقّقه.

٢٥٦

ماهيّة العبادات إلّا ببيان الشارع ، فهو المرجع في تشخيصها لا العرف ، فما كان في الواقع واجدا لشرائط التيمّم اسمه التيمّم ، سواء عرفه أهل العرف وسمّوه تيمّما أم لا.

نعم ، قد يستكشف بمعهوديّتها لدى المتشرّعة وصولها إليهم يدا بيد من الشارع لكن لا في العاديّات ، كالموالاة في التيمّم.

اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ اقتضاء العادة إيجاده بكيفيّة خاصّة يوجب صرف الأدلّة إلى إرادته بهذه الكيفيّة ، كما ليس بالبعيد.

وقد ظهر لك بما ذكرناه أنّ ما قيل من اشتراط عدم ذهاب الصورة ومحو الاسم في كثير من العبادات أو في جميعها كلام صوريّ كأنّه مقتبس من اشتراطه في الصلاة ، مع وضوح الفرق بين الصلاة وسائر العبادات حيث اعتبر في ماهيّة الصلاة عدم الانقطاع وعدم الخروج منها إلّا بالتسليم ، فيجب قبل التسليم أن لا يوجد ما ينافي كونه في الصلاة ، وأن يكون بهيئة المصلّي وإن لم يشتغل بأجزائها ، فيعتبر حين عدم اشتغاله بالأجزاء أيضا كونه مصلّيا ، وإلّا لخرج من الصلاة بغير التسليم ، ولا يعتبر هذا المعنى في سائر العبادات ، فالواجب فيها بحكم العقل ليس إلّا إيجاد ذواتها بشرائطها التي دلّ الدليل على اعتبارها ، كما هو واضح.

بقي الكلام فيما يراعى فيه الترتيب والتوالي. وهو ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ وضع اليدين على الأرض ومسح الجبهة وظاهر الكفّين بهما.

أمّا اعتبار الأوّل في التيمّم كالأخيرين إجمالا ممّا لا شبهة فيه ، فإنّه وإن قصر أفهامنا عن استفادته من الكتاب العزيز لكن كفانا مئونته الأخبار المتواترة الواردة

٢٥٧

في كيفيّة التيمّم ، المبيّنة لما في الكتاب من الإجمال.

وتوهّم قصور الأخبار عن إفادة اعتباره من حيث هو ؛ لاحتمال جريها مجرى العادة وكون المناط إيصال أثر الصعيد إلى الجبهة وظهر الكفّين ، فيكفي تعريضهما لذلك بتلقّيهما الأثر من الهواء المغبرّ ، فاسد بعد أن علم أنّ المراد بالتيمّم من الصعيد ليس إيصاله إلى البدن ولا مسحه به ، بل المسح منه بالكيفيّة التي بيّنها الحجج عليهم‌السلام.

ويتلوه في الفساد توهّم أنّ المناط تأثّر اليدين ـ الماسحتين للجبهة وظهر الكفّين ـ من الصعيد والتصاق التراب بهما ولو بوضع التراب عليهما أو استقبالهما للعواصف ، كما حكي (١) عن العلّامة في النهاية أنّه استقرب الاجتزاء بالأخير فضلا عن الأوّل ، لكن نفاء بعض (٢) ، ونسب الحكاية إلى الغفلة عن فهم مراده.

وكيف كان فهو فاسد ؛ لأنّه تحكيم وتصرّف في ظواهر الأدلّة في الأحكام التعبّديّة التي انحصر سبيل معرفتها في الأخذ بالظواهر ، فالمتعيّن هو الأخذ بظواهرها ، والالتزام بمدخليّة وضع اليدين على الأرض في التيمّم.

لكنّ الإشكال في مقامين :

أحدهما : في أنّه هل هو شرط في التيمّم؟ كما عن بعض (٣) التصريح به ، و

__________________

(١) الحاكي هو صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٤٦٩ ، وانظر : نهاية الإحكام ١ : ٢٠٣.

(٢) لم نتحقّقه.

(٣) كالعاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢١٧ ، والمحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد : ١٠٢ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٣٠.

٢٥٨

عن الفاضل في النهاية اختياره حيث جعل المسح أوّل الأجزاء (١) ، أو أنّه جزء ، كما صرّح به غير واحد.

والثمرة بين القولين ـ على ما ذكره بعض (٢) ـ في أمرين :

أحدهما : في النيّة ، فعلى الجزئيّة لا يجوز تأخيرها عن الضرب ، وعلى عدم الجزئيّة يجوز.

و [ثانيهما :] في الحدث بعد الضرب قبل المسح ، فعلى الجزئيّة يعيد الضرب ، بخلافه على عدم الجزئيّة ؛ لعدم الدليل على بطلانه به.

أقول : الظاهر أنّه جزء للتيمّم لكن لا كسائر الأجزاء بحيث يعدّ جزءا مستقلّا في عرض مسح الجبهة والكفّين ، بل لو قيس إلى المسح ، لكان بالشرط أشبه ، لكنّ المعتبر في التيمّم ـ كما نطق به الكتاب (٣) العزيز ـ هو المسح المقيّد بكونه من الصعيد ، ولا يتحقّق هذا المفهوم المقيّد ـ على ما يفهم من الأخبار البيانيّة ـ إلّا بالضرب ، والمتبادر من تلك الأخبار أنّ للضرب من حيث هو مدخليّة في حصول هذا العنوان المقيّد بمعنى أنّه مأخوذ في قوام ذاته ، لا أنّه من مقدّمات وجوده ، بأن يكون المصحّح لاتّصاف المسح بكونه من الصعيد وقوعه بعد ضرب اليد على الأرض إمّا مطلقا أو إذا كان بقصد المسح ، فيكون الضرب الخارجي من حيث هو خارجا من الماهيّة مؤثّرا في انتزاع الصفة المعتبرة فيها من دون أن يكون له بذاته دخل في تحقّقها ، فإنّه وإن أمكن ذلك لكنّه خلاف ظواهر الأخبار

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٢٠٣.

(٢) لم نتحقّقه.

(٣) النساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

٢٥٩

خصوصا مع ما في بعضها من التصريح بأنّ التيمّم ضربتان ؛ ضربة للوجه وضربة للكفّين (١).

ثمّ إنّه لو قيل بأنّه شرط ، وأنّ ماهيّة التيمّم عبارة عن المسحات المتعقّبة للضرب ، فالظاهر أنّه شرط تعبّدي يعتبر في تحقّقه قصد الغاية ، بأن يكون إتيانه بداعي المسح الذي أريد به التيمّم ؛ لأنّ هذا هو المتبادر من الأمر بضربة للوجه وضربة للكفّين ، كما في خبر الكندي (٢) ، بل لعلّه هو المتبادر من صحيحة زرارة وغيرها من الأخبار الآتية ، فعلى هذا تنتفي ثمرة جواز تأخير النيّة ؛ لأنّه على تقدير الجزئيّة أيضا لا يعتبر أزيد من هذا القصد ، بل ليس له إيجاده إلّا بهذا الوجه الذي هو وجه وجوبه ، وأمّا تشخيص أنّه جزء أو شرط فلا أثر له في مقام الإطاعة.

وأمّا الثمرة الأخرى ـ أعني عدم الاختلال بالحدث الواقع بين الضرب والمسح ـ فالظاهر انتفاؤها ، وعدم التزام أحد ـ ممّن يقول بالشرطيّة ـ بها ؛ إذ لا ينسبق إلى الذهن من الأدلّة إلّا إرادة إيجاد الضرب ـ كأجزاء التيمّم ـ بعد الحدث الذي تطهّر منه ، فلا ينبغي الارتياب في اعتبار القصد فيه وبطلانه بالحدث ، فلا يترتّب على تحقيق كونه جزءا ثمرة يعتدّ بها ، فتأمّل.

ثانيهما : أنّه هل يكفي مطلق وضع اليد ، كما هو ظاهر المتن وغيره ، بل عن بعض (٣) التصريح به ، أم يعتبر كونه باعتماد على نحو يتحقّق معه اسم الضرب ، كما

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢١٠ / ٦٠٩ ، الإستبصار ١ : ١٧١ ـ ١٧٢ / ٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٢) التهذيب ١ : ٢١٠ / ٦٠٩ ، الإستبصار ١ : ١٧١ ـ ١٧٢ / ٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٣) كالشهيد في الدروس ١ : ١٣٢ ، والذكرى ٢ : ٢٥٩ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٤٨٩ ، وحكاه عنهما البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ٣٣١ ، وصحاب الجواهر فيها ٥ : ١٨٠.

٢٦٠