مصباح الفقيه - ج ٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

نازل بقصد الوطن غير بعيد.

وذكر كاشف الالتباس أنّه تخرج النبطيّة عن حكمها إذا خرجت من بلدها قبل بلوغها (١). انتهى كلام شيخنا المرتضى قدس‌سره.

والذي يظهر من تفسير معظم اللغويّين كونه حقيقةً في طائفة مخصوصة ، وأمّا استعماله في غير هذا المعنى على سبيل الحقيقة فلم يثبت ، بل لم يعلم من أكثر الاستعمالات التي نقلها اللغويّون في عرض هذا المعنى معارضتها له.

وكيف كان فإن استفدنا من كلمات اللغويّين وغيرها كونه حقيقةً في خصوص قوم ، فإلحاق مَنْ عداهم به وإن نشأ في وطنهم فضلاً عمّن ينزل عندهم بقصد التوطّن ممّا لا وجه له.

وإن قلنا بإجماله وتردّده بين هذا المعنى أعني «قوم مخصوصون من أهل السواد» وبين ما هو أعمّ منه ، فمقتضى القواعد : الاقتصار في تخصيص الأخبار المتقدّمة على القدر المتيقّن.

وإن بنينا على أنّ المخصّص مجمل مردّد بين المتباينين ويسري إجماله إلى العامّ ، فيسقط العامّ عن صلاحيّة الاستدلال ، ويرجع في موارد الاشتباه إلى استصحاب حالتها قبل بلوغها خمسين سنة ، وهي كونها حائضاً على تقدير رؤيتها للدم ثلاثة أيّام.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١٨٩ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٢٨٥ ، والعين ٧ : ٤٣٩ ، والمحيط في اللغة ٩ : ١٩٢ ، وديوان الأدب ١ : ٢١٨ ، والمغرب ٢ : ١٩٧ ، وتهذيب اللغة ١٣ : ٣٧١ ، والمصباح المنير ٢ : ٢٩٣ ، والصحاح ٣ : ١١٦٢ ، والنهاية لابن الأثير ـ ٥ : ٩ ، وكشف الغطاء : ١٢٨ ، وكشف الالتباس ١ : ٢٠٠.

٦١

ولا يعارضه استصحاب طهارتها قبل رؤية الدم ؛ لكون الأصل الأوّل حاكماً على هذا الأصل ، كما لا يخفى.

وأمّا مصاديق النبطيّة والقرشيّة : فطريق تشخيصها الرجوع إلى الأمارات التي يرجع إليها في تشخيص غيرهما من الأنساب.

ولو اشتبه المصداق ، فالمرجع أصالة عدم الانتساب ، المعوّل عليها لدى العلماء في جميع الموارد التي يشكّ في تحقّق النسبة ، بل الاعتماد عليها في مثل ما نحن فيه من الأُمور المغروسة في أذهان المتشرّعة ، بل المركوز في أذهان العقلاء قاطبة ، ولذا لا يعتني أحد باحتمال كونه قرشيّاً مع أنّ هذا الاحتمال بالنسبة إلى أغلب الأشخاص محقّق بل ربما يكون مظنوناً ومع ذلك لا يلتفتون إليه ، ويرتّبون آثار خلافه ، وهذا ممّا لا شبهة فيه.

وإنّما الإشكال في تعيين وجه عمل العقلاء والعلماء بهذا الأصل وبنائهم على عدم تحقّق النسبة المشكوكة وترتيب آثار خلافها.

ولا يبعد أن يكون منشؤه الغلبة ، وحكمة اعتبارها لديهم انسداد باب العلم غالباً.

ولا يعارض هذا الأصل بعد فرض اعتباره شي‌ء من الأُصول والعمومات ، كأصالة عدم ارتفاع حيضها ، أو عمومات بعض الأخبار ، أو قاعدة الإمكان على تقدير تسليم إمكان التمسّك بعمومها في مثل الفرض ؛ لحكومة الأصل المتقدّم على جميعها ، كما لا يخفى.

وربما يتوهّم أنّ مرجع أصالة عدم الانتساب إلى استصحاب عدم تولّد هذا الشخص من أهل هذه القبيلة.

ويدفعه : أنّه ليس للمستصحب حالة سابقة معلومة إلّا أن يراد من

٦٢

العدم العدمُ الأزلي الذي لا يتوقّف استصحابه على إحراز حال الشخص بعد وجوده ، وهذا ممّا لا يجدي في إثبات عدم كون الشخص الموجود منهم فضلاً عن إثبات كونه من غيرهم ، كما هو المطلوب ، إلّا على القول بحجّيّة الأُصول المثبتة ، وهي خلاف التحقيق.

اللهمّ إلّا أن يدّعى كونه من آثار المستصحب عرفاً بمعنى كون الواسطة خفيّةً. وفيه تأمّل.

وكيف كان فهذا الأصل إجمالاً ممّا لا مجال لإنكاره وإن خفي علينا مستنده.

وعلى تقدير الخدشة فيه فالمرجع أصالة عدم ارتفاع حيضها بمعنى كونها حائضاً على تقدير رؤية الدم ثلاثة أيّام ، وقد أشرنا فيما سبق إلى أنّ هذا الاستصحاب التعليقي حاكم على استصحاب الطهارة فضلاً عن استصحاب وجوب العبادات المشروطة بالطهور.

واعترض شيخنا المرتضى رحمه‌الله على أصالة عدم ارتفاع الحيض بقوله : إنّ هذا الأصل لا يثبت كون الدم الخارج حيضاً. نعم ، ينفع في بعض المقامات ، كوجوب اعتدادها بعدّة مَنْ لا تحيض وهي في سنّ مَنْ تحيض (١).

وفيه أوّلاً : النقض بما لو شكّت في يأسها لأجل الشكّ في بلوغ الخمسين ؛ فإنّ ترتيب جميع آثار الحيض في مثل الفرض بحسب الظاهر مسلّم عنده.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١٨٧.

٦٣

وحلّه : إنّ الحالة المستصحبة إنّما هي كونها حائضاً على تقدير رؤية الدم ، وكون دمها حيضاً ، وقد قرّرنا في محلّه عدم الفرق بين الاستصحاب التقديري والتنجيزي تبعاً لشيخنا المرتضى (١) رحمه‌الله ، فراجع.

(و) ظهر لك فيما تقدّم أنّ دم الحيض لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام فـ (كلّ دم تراه المرأة دون الثلاثة فليس بحيض مبتدئة كانت أو ذات عادة) أو غيرهما.

(و) أمّا (ما تراه) المرأة من الدم (من الثلاثة إلى العشرة ممّا يمكن أن يكون حيضاً فهو حيض ، تجانس أو اختلف) بلا خلاف فيه ، بل عن الفاضلين في المعتبر والمنتهى دعوى الإجماع عليه مستدلّين عليه بعد الإجماع ـ : بأنّه دم في زمان يمكن أن يكون حيضاً ، فيكون حيضاً (٢).

وقضيّة هذا الدليل كون هذه القاعدة وهي كلّ ما أمكن أن يكون حيضاً فهو حيض في حدّ ذاتها من المسلّمات بحيث يستدلّ بها لا عليها ، وعن ظاهر بعض دعوى الإجماع عليها (٣). بل في الجواهر أنّها عند المعاصرين ومَنْ قاربهم من القطعيّات التي لا تقبل الشكّ والتشكيك ، حتى أنّهم أجروها في كثير من المقامات التي يشكّ في شمولها لها ، ككون حدّ اليأس مثلاً ستّين سنة ، وعدم اشتراط التوالي في الثلاثة

__________________

(١) فرائد الأُصول : ٦٥٤.

(٢) حكاه عنهما صاحب الجواهر فيها ٣ : ١٦٤ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٠٣ ، ومنتهى المطلب ١ : ٩٨.

(٣) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٣ : ١٦٤.

٦٤

ونحو ذلك من المقامات التي وقع النزاع في إمكان كونه حيضاً عند الشارع وعدمه.

وهو لا يخلو من تأمّل ؛ إذ الظاهر على ما هو المستفاد من بعضهم ، كالشهيد في الروضة وغيره أنّه بعد تسليمها تختصّ بما علم إمكان حيضيّته عند الشارع كأن تكون المرأة مثلاً بالغةً غير يائسة ورأت الدم ثلاثة أيّام متواليات ولم يكن مسبوقاً بما يمنع من الحكم بحيضيّته ولم تكن حبلى عند مَنْ اختار أنّ الحبلى لا تحيض ، فإنّها تحكم حينئذٍ بالحيضيّة ؛ لأنّه زمان يعلم صلاحيّته للحيض شرعاً (١). انتهى.

فالمراد من الإمكان على ما صرّح به الشهيد هو الإمكان في الواقع وفي نظر الشارع ، كما هو المتبادر من لفظ «الإمكان» لا الإمكان الاحتمالي ، كما تخيّله مَنْ تمسّك بعموم القاعدة في مواقع النزاع.

ولكنّ الإنصاف أنّ المعنى الثاني هو الذي ينسبق إلى الذهن في خصوص المقام بحيث لو كان لنا خبر معتبر بهذا المضمون ، لكُنّا نحمله عليه ؛ إذ من المستبعد جدّاً إرادة الإمكان الواقعي في مقام تأسيس قاعدة ظاهريّة يرجع إليها الشاكّ في مقام العمل.

كيف! ولو أُريد الإمكان الواقعي على الإطلاق كما هو مقتضى ظاهر اللفظ ـ لتعذّر الاطّلاع عليه عند الجهل بكون الدم الموجود حيضاً ؛ إذ لا واسطة في الممكنات بين الامتناع العرضي والوجوب العرضي حيث إنّه عند تحقّق علّته التامّة يجب وعند انتفائها يمتنع ، فيصير على هذا

__________________

(١) جواهر الكلام ٣ : ١٦٤ ، وانظر : الروضة البهيّة ١ : ٣٧٢ ٣٧٤.

٦٥

التقدير معنى «كلّ ما لم يمتنع أن يكون حيضاً فهو حيض» : كلّ ما وجب أن يكون حيضاً فهو حيض : وهو كما ترى.

وحَمْلُ الإمكان على الإمكان الواقعي لكن بالنظر إلى الموانع الكلّيّة المقرّرة في الشريعة كما هو ظاهر الشهيد وغيره لا الموانع الشخصيّة المحتملة في خصوصيّات الموارد ليس بأولى من إرادة الإمكان الاحتمالي ، بل الأمر بالعكس.

ولكنّك خبير بأنّ هذا النحو من الترجيحات إنّما يتمشّى على تقدير إحراز كون هذه الفقرة بلفظها صادرةً من الإمام عليه‌السلام لا في مثل ما نحن فيه ؛ فإنّ مجرّد وقوعها في معاقد إجماعاتهم المنقولة لا يكشف عن ذلك خصوصاً مع معلوميّة عدم التزام كثيرٍ من نَقَلة الإجماع بعموم القاعدة بهذا المعنى وتفسير بعضهم لها بالمعنى الأوّل.

وكيف كان فالمتّبع هو الدليل.

والذي يقتضيه التحقيق ويشهد به التتبّع والتأمّل في الأخبار وسيرة الناس في جميع الموارد هو : أنّ كلّ احتمال ينافيه أصالة السلامة لا يلتفت إليه ؛ لأنّ أصل السلامة أصل معتبر معتمد عليه عند العقلاء كافّة في جميع أُمورهم معاشاً ومعاداً ، ومعلومٌ أنّ الحيض دم يقذفه الرحم بمقتضى طبعه ، وأمّا الاستحاضة فإنّه وإن قلنا بأنّها لا تكون إلّا من آفة إلّا أنّ آفتها عامّة ، فلا يبعد أن يقال : إنّها ليست بحيث ينافيها أصالة السلامة. فلو تردّد الدم بين كونه حيضاً أو استحاضةً وبين كونه من قرح أو جرح أو علّة أُخرى مجهولة الأصل ، فلا يعتنى بسائر الاحتمالات ، بل يبنى على كونه حيضاً أو استحاضةً.

٦٦

هذا إذا لم تكن العلّة متحقّقةً ، وأمّا إذا أُحرز وجودها كما لو علم بكون الجوف مجروحاً أو مقروحاً ، أو بحصول الاقتضاض المقتضي لخروج الدم ، وشكّ في كون الدم منه أو من الحيض فلا يتمشّى الأصل ؛ إذ لا شكّ في عدم السلامة ، فلا بدّ حينئذٍ من الرجوع إلى ما جَعَله الشارع طريقاً لتشخيص كلٍّ من الدمين ، كخروج القطنة مطوّقةً أو منغمسةً ، أو من الجانب الأيسر ونحوه.

وأمّا لو تردّد الدم بين كونه حيضاً أو استحاضةً فيشكل البناء على كونه حيضاً ؛ لما عرفت من إمكان المناقشة في أصالة السلامة ، النافية لاحتمال كونه استحاضةً من حيث كثرة الابتلاء بها ، وقد أشرنا إلى أنّ الاعتماد على أصالة السلامة بالنسبة إلى الآفات العامّة البلوى مشكل خصوصاً في مثل هذه الآفة التي لا تعدّ آفةً في العرف والعادة.

اللهمّ إلّا أن يمنع كثرتها ، ويدّعى وضوح كون الاستحاضة في العرف والعادة منشأها اختلال المزاج ، فيكون احتمال كون الدم استحاضةً على هذا التقدير كسائر الاحتمالات ممّا لا يعتنى به لدى العقلاء ما لم يقم عليه أمارة ، كما يؤيّد هذه الدعوى بل يقرّرها التدبّرُ في أخبار الباب وفي أسئلة السائلين وسيرة النساء ؛ فإنّ المتأمّل فيها لا يكاد يرتاب في أنّ احتمال كون الدم الخارج منهنّ ـ ما عدا دم الحيض لم يكن احتمالاً في عرض احتمال كونه حيضاً ، بل لم تكن المرأة ملتفتةً إلى سائر الاحتمالات حتى الاستحاضة إلّا إذا أحسّت خللاً في مزاجها ، كأن استمرّ بها الدم شهراً أو شهرين ، أو رأت الدم ساعة والطهر أُخرى ، أو رأت الدم ثلاثة أيّام أو أربعة والطهر كذلك وهكذا بحيث لولا الاختلال لما اعتنت

٦٧

باحتمال كون ما تراه من الدم غير حيض أصلاً.

فالإنصاف أنّه لو قيل : إنّ الأصل في دم النساء لديهنّ على ما هو المغروس في أذهانهنّ هو الحيض بمعنى عدم اعتنائهنّ لسائر الاحتمالات ما لم يكن عن منشأ عقلائيّ مانع من جريان أصالة السلامة ، لم يكن بعيداً ، بل ربما يقرّبه بحيث يكاد يلحق بالبديهيّات ملاحظةُ أخبار متظافرة متكاثرة آمرة بترتيب آثار الحيض برؤية الدم من دون اعتناء بسائر الاحتمالات.

مثل : الأخبار المستفيضة المتقدّمة (١) الدالّة على أنّ ما تراه المرأة قبل العشرة فهو من الحيضة الأُولى ، وما تراه بعدها فهو من الحيضة المستقبلة.

ورواية يونس ، المتقدّمة (٢) الواردة في مَنْ ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة وترى الطهر ثلاثة أو أربعة ، ورواية (٣) اخرى قريبة منها.

ورواية (٤) أُخرى في مَنْ ترى الدم ساعة والطهر كذلك وهكذا.

وما ورد من تحيّض الحامل بالدم معلّلاً : بأنّه «ربما قذفت المرأة الدم وهي حبلى» (٥).

__________________

(١) في ص ٤٦.

(٢) في ص ٥٢.

(٣) التهذيب ١ : ٣٨٠ / ١١٨٠ ، الإستبصار ١ : ١٣٢ / ٤٥٤ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الحيض ، الحديث ٣.

(٤) انظر : قرب الإسناد : ٢٢٥ / ٨٨٠ ، والوسائل ، الباب ٤ من أبواب الحيض ، الحديث ٨.

(٥) التهذيب ١ : ٣٨٦ / ١١٨٨ ، الإستبصار ١ : ١٣٩ / ٤٧٥ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ١٠.

٦٨

وما ورد فيما تراه المرأة قبل عادتها من أنّه من الحيض معلّلاً : بأنّه «ربما تعجّل بها الوقت» (١).

وما ورد من أنّ الصائمة تفطر بمجرّد رؤية الدم (٢).

وما ورد في مَنْ نفست فتركت الصلاة ثلاثين يوماً ثمّ طهرت ثمّ رأت الدم بعد ذلك من أنّها «تدع الصلاة ، لأنّ أيّامها أيّام الطهر قد جازت مع أيّام النفاس» (٣) فعلّل الحكم بالحيضيّة بمجرّد عدم المانع ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ، كأخبار الاستظهار ونحوها.

وبما أشرنا إليه في تقريب الاستشهاد بمثل هذه الروايات لا يتطرّق المناقشة في دلالتها بعدم كون شي‌ء منها مسوقاً لبيان تأسيس الأصل ، وإنّما هي مسوقة لبيان حكمٍ آخر.

والمراد من الدم المأخوذ موضوعاً في أغلب هذه الأخبار هو الدم المعهود لا مطلق الدم ، فالمراد بالرواية الآمرة بإفطار الصائمة عند رؤية الدم مثلاً إنّما هو دم الحيض لا مطلق الدم ، فهي مسوقة لبيان انتقاض الصوم برؤية دم الحيض ولو في آخر النهار ، ويكفي في صحّة مثل هذا الإطلاق أعني الأمر بالإفطار بمجرّد رؤية دم الحيض إمكان معرفته في ابتداء رؤيته في الجملة ولو لأجل كونه في أيّام العادة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٧٧ / ٢ ، التهذيب ١ : ١٥٨ ١٥٩ / ٤٥٣ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الحيض الحديث ١ ، والباب ١٥ من تلك الأبواب ، الحديث ٢.

(٢) التهذيب ١ : ٣٩٤ / ١٢١٨ ، الإستبصار ١ : ١٤٦ / ٤٩٩ ، الوسائل الباب ٥٠ من أبواب الحيض ، الحديث ٣.

(٣) الكافي ٣ : ١٠٠ / ١ ، التهذيب ١ : ٤٠٢ / ١٢٦٠ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب النفاس ، الحديث ١.

٦٩

توضيح الاندفاع : أنّ المتأمّل في هذه الأخبار المتكثّرة لا يكاد يتردّد في أنّ سائر الاحتمالات لم تكن ملحوظةً وملتفتاً إليها أصلاً ؛ لما هو المغروس في أذهانهم من أنّ الأصل في الدم أن يكون حيضاً ، وإلّا لكان على الإمام عليه‌السلام أو السائلين الاستفصال عن حكم صورة الشكّ في مثل هذه الموارد التي قلّما تنفكّ عن سائر الاحتمالات على تقدير الاعتناء بها ، خصوصاً احتمال كونها استحاضةً ، فكون المراد من الدم هو الدم المعهود في أغلب هذه الروايات مسلّم لكن لم تكن معهوديّته إلّا لكونه أصلاً فيه ، فكما لا ينتقل الذهن عند السؤال عن حكم الدم الذي تراه المرأة إلّا إلى إرادة الدم المعهود ، كذلك لا ينتقل عند رؤيته إلّا إلى كونه ذلك الدم ، وإلّا لكان السائل يسأل في مثل هذه الموارد عن حكم صورة الشكّ.

والحاصل : أنّ المتأمّل في الأخبار وفي كيفيّة أسئلة السائلين وفي أجوبتهم لا يكاد يشكّ في أنّ رؤية الدم كانت عندهم أمارة الحيض ما لم يتحقّق خلافه.

ألا ترى إلى ما رواه سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن المرأة ترى الدم قبل وقت حيضها ، فقال عليه‌السلام : «إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة فإنّه ربما تعجّل بها الوقت ، فإن كان أكثر أيّامها التي تحيض فيهنّ فلتتربَّص ثلاثة أيّام بعد ما تمضي أيّامها ، فإذا تربّصت ثلاثة أيّام ولم ينقطع الدم عنها فلتصنع كما تصنع المستحاضة» (١) فإنّ المفروض في السؤال ليس إلّا رؤية الدم قبل الوقت ، بل ظاهره أنّ السائل

__________________

(١) الكافي ٣ : ٧٧ / ٢ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الحيض ، الحديث ١.

٧٠

لأجل تغيير الوقت تردّد في كونه دم الحيض ، فأجابه الإمام عليه‌السلام بوجوب التحيّض معلّلاً : بإمكان خروج الحيض قبل وقته دفعاً لاستبعاده ، فكان الكبرى عندهم أعني عدم الاعتناء بسائر الاحتمالات عند إمكان كونه حيضاً من الواضحات.

ويؤيّده أمره بالتربّص ثلاثة أيّام ؛ فإنّه وإن كان موافقاً للأصل ولكنّه لا يخلو عن تأييد.

وكذا لم يقع السؤال في جملة من الأخبار المستفيضة الواردة في الحامل إلّا عن أنّ المرأة ترى الدم وهي حامل ، فأجابه الإمام عليه‌السلام بوجوب التحيّض برؤية الدم ، معلّلاً في بعضها : بأنّ المرأة ربما قذفت الدم وهي حبلى (١) ، وفي بعضها : بأنّه ربما بقي في الرحم الدم ولم يخرج (٢) ، بل ظاهر السؤال والتعليل الوارد في هذه الروايات تردُّد السائل في كونه دم الحيض ؛ لزعمه عدم الاجتماع مع الحمل ، فأجابه عليه‌السلام بإمكانه.

ويؤكّد المطلوب وضوحاً : أنّه لم يقع السؤال في شي‌ء من الأخبار عمّا يعرف به دم الحيض عن غيره ، ولم يرد خبر ابتداءً يرشدهم إلى ذلك.

مع أنّه لو لم يكن كونه حيضاً هو الأصل على ما هو المغروس في أذهانهم ، لكان ذلك من أهمّ الأُمور ، خصوصاً بالنسبة إلى المبتدئة

__________________

(١) الكافي ٣ : ٩٧ / ٥ ، التهذيب ١ : ٣٨٦ / ١١٨٧ ، الإستبصار ١ : ١٣٨ ١٣٩ / ٤٧٤ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ١ : ٣٨٦ / ١١٨٦ ، الإستبصار ١ : ١٣٨ / ٤٧٣ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ٩.

٧١

والمضطربة ، وإنّما وقع السؤال في جملة من الأخبار عن حكم صورة الاشتباه عند انقطاع أصالة السلامة ، التي يتعيّن بها كون الدم حيضاً ، كما لو اقتضّت ، أو أحسّت بجوفها قرحة ، أو استمرّ بها الدم مدّة لا يمكن أن يكون مجموعة حيضاً ، فأمرهم الإمام عليه‌السلام في مثل هذه الفروض بالرجوع إلى أمارات غالبيّة لتشخيص دم الحيض عن غيره ، وهذا بخلاف ما لو رأت الدم ابتداءً ، فإنّه لم يرد الأمر في شي‌ء من الأخبار إلّا بالتحيّض برؤية الدم ، ولو لا أنّه الأصل في الدم ، لكان الواجب على الإمام عليه‌السلام أن يكلّف المبتدئة مثلاً بالاحتياط ثلاثة أيّام حتى يتحقّق حيضها أو يأمرها بالرجوع إلى معرّف شرعيّ تعبّديّ كالأوصاف ، مع أنّه عليه‌السلام أمرها بترك الصلاة عند رؤية الدم.

ففي موثّقة ابن بكير في الجارية أوّل ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون مستحاضةً ، قال : «إنّها تنتظر الصلاة فلا تصلّي حتى يمضي أكثر ما يكون من الحيض ، فإذا مضى ذلك وهو عشرة أيّام ، فَعَلَتْ ما تفعله المستحاضة» (١).

وموثّقته الأُخرى عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا رأت المرأة الدم أوّل حيضها واستمرّ الدم تركت الصلاة العشرة أيّام» (٢) إلى آخره.

وموثّقة سماعة ، قال : سألته عن الجارية البكر أوّل ما تحيض تقعد

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٠ / ١٢٥١ ، الإستبصار ١ : ١٣٧ / ٤٧٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الحيض ، الحديث ٥.

(٢) التهذيب ١ : ٣٨١ / ١١٨٢ ، الإستبصار ١ : ١٣٧ / ٤٦٩ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الحيض ، الحديث ٦.

٧٢

في الشهر يومين وفي الشهر ثلاثة أيّام يختلط عليها لا يكون طمثها في الشهر عدّة أيّام سواء ، قال : «فلها أن تجلس وتدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم يجز العشرة ، فإذا اتّفق شهران عدّة أيّام سواء فتلك أيّامها» (١) إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبّع.

فالإنصاف أنّه لا مجال للتشكيك في أنّ الأصل في الدم الخارج من الموضع المعتاد مطلقاً من دون التفات إلى أوصافه هو أن يكون حيضاً خصوصاً بعد ما عرفت من دعوى غير واحدٍ الإجماع عليه ، وأنّه لم يعهد من أحد من الأئمّة عليهم‌السلام أو السائلين ، وكذا من النساء الاعتناء بسائر الاحتمالات إلّا بعد إحراز مقتضياتها.

وأمّا اختلاف ألوان الدم وكونه بأوصاف الاستحاضة فليس من الأسباب الموجبة للاعتناء باحتمال كونه استحاضةً ؛ إذ قلّما ينفكّ الحيض عن اختلاف اللون ، مع أنّه لم يقع السؤال عن حكمه في شي‌ء من الموارد ، فيكشف ذلك عن عدم معهوديّة الاعتناء بها لديهم ، وإنّما يجب الرجوع إليها في الموارد المنصوصة لأجل النصّ.

وما ربما يتوهّم من كون دم الحيض وكذا الاستحاضة بأوصافها المنصوصة معهوداً لدى النسوان ، فكون الدم بأوصاف الاستحاضة لو لم يكن سبباً للعلم بها فلا أقلّ من كونه منشأً للاعتناء باحتمالها ، مدفوع : بالمنع ، كما يشهد به التتبّع في الأخبار سؤالاً وجواباً.

وليس في قول المرأة في رواية حفص بن البختري بعد ما سمعتْ

__________________

(١) الكافي ٣ : ٧٩ / ١ ، التهذيب ١ : ٣٨٠ / ١١٧٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الحيض ، الحديث ١.

٧٣

من الإمام صفات الحيض ـ : «والله لو كان امرأةً ما زاد على هذا» (١) وكذا قول المرأة في رواية إسحاق لمولاتها بعد أنّ سمعتْ الأوصاف : «أتراه كان امرأةً!؟» (٢) شهادة على معروفيّة دم الحيض بأوصافها الخاصّة لديهنّ ، بل سؤالهما في الروايتين يشهد بخلافها ، وإنّما وقع التعجّب منهما من إحاطة الإمام عليه‌السلام بأوصاف الدم وخصوصيّاته المنوّعة له ، وإلّا فالمرأة لم تكن عارفةً بأنّ أحد القسمين حيض والآخر استحاضة كما لا يخفى على مَنْ تأمّل في سؤالها ، بل اعترفتْ بجهلها بكون ما تراه حيضاً أو دماً آخر في الرواية الأُولى ، وفي الرواية الثانية زعمتْ كون الجميع حيضاً فسألتْ عن حكمه ، فقالت : ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيّام حيضها؟

وكيف كان فقد أشرنا إلى أنّ وجه عدم الاعتناء بسائر الاحتمالات ـ بحسب الظاهر هو الاعتماد على أصالة السلامة ، القاضية بكون الدم حيضاً ، فيختصّ مورده بما إذا جرى هذا الأصل بأن لم يكن الاحتمال ناشئاً من علّةٍ محقّقة ، وإلّا فيرجع في تشخيص أحد المحتملين إلى الطرق المنصوصة ، ككونه في أيّام العادة ، أو بأوصاف الحيض ، أو خروج القطنة منغمسةً ، أو غيرها من الطرق التعبّديّة مقتصراً في الرجوع إليها على موارد النصوص ، كما عرفت وجهه سابقاً.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٩١ / ١ ، التهذيب ١ : ١٥١ / ٤٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٩١ / ٣ ، التهذيب ١ : ١٥١ / ٤٣١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ٣.

٧٤

ويحتمل قويّاً أن يكون وجه اعتبار قاعدة الإمكان لدى العرف والعقلاء : الغلبةَ ، وعلى هذا التقدير أيضاً لا يرجع إليها إلّا في الموارد الخالية عن أمارةٍ مقتضية لخلافها ، كما لا يخفى وجهه ، وأمّا مع وجود ما يقتضي خلافها : فالحكم ما عرفت من الرجوع إلى الطرق التعبّديّة ، ومع فقدها فالمرجع استصحاب الحالة السابقة من الطهارة أو الحيض ، والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه على كلّ حال ، والله العالم بحقائق أحكامه.

(وتصير المرأة ذاتَ عادة بأن ترى الدم دفعة ثمّ ينقطع على أقلّ الطهر فصاعداً ثمّ تراه ثانياً بمثل تلك العدّة) بلا خلاف فيه ، بل في الجواهر (١) وغيره (٢) دعوى الإجماع عليه نقلاً وتحصيلاً ، خلافاً لما حكي (٣) عن بعض العامّة من أنّها تصير ذاتَ عادة بمرّة واحدة ، وربما نقل (٤) عن بعض أصحابنا موافقته.

وفيه : ما لا يخفى بعد مخالفته للإجماع وصريح النصوص الآتية.

وربما نوقش فيه : بمخالفته لمبدإ اشتقاق العادة ؛ فإنّها من العود.

ويمكن التفصّي عنها بأنّ المراد من كونها ذات عادة كونها عارفةً بمقدار ما تقتضيه طبيعتها من قذف الدم بحسب استعداد مزاجها ،

__________________

(١) جواهر الكلام ٣ : ١٧١.

(٢) الحدائق الناضرة ٣ : ٢٠٧ ٢٠٨ ، مدارك الأحكام ١ : ٣٢٥ ، تذكرة الفقهاء ١ : ٢٥٩ ، المسألة ٨٤.

(٣) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٣٢٥ ، وانظر : المهذّب للشيرازي ـ ١ : ٤٨ ، والمجموع ٢ : ٤١٧ ، وحلية العلماء ١ : ٢٨٨ ، والعزيز شرح الوجيز ١ : ٣١٦ ، والمغني ١ : ٣٦٣ ، والشرح الكبير ١ : ٣٥٨.

(٤) كما في جواهر الكلام ٣ : ١٧١.

٧٥

ويستكشف ذلك استكشافاً ظنّيّاً برؤيتها مرّة واحدة ، فتأمّل.

وكيف كان فلا شبهة في بطلانه بعد مخالفته للنصّ والفتوى.

ويدلّ على صيرورتها ذات عادة برؤية الدم مرّتين بالتفصيل المتقدّم مضافاً إلى الإجماع موثّقةُ سماعة ، المتقدّمة (١) ، قال فيها : «فإذا اتّفق شهران عدّة أيّام سواء فتلك أيّامها».

ومرسلة يونس الطويلة التي سيأتي نقلها بطولها في بيان أقسام المستحاضة إن شاء الله ، وفيها : «وإن انقطع الدم في أقلّ من سبع أو أكثر من سبع فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر وتصلّي ، فلا تزال كذلك حتى تنظر ما يكون في الشهر الثاني ، فإن انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل حتى توالى عليها حيضتان أو ثلاث فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتاً وخلقاً معروفاً تعمل عليه وتدع ما سواه ، وتكون سنّتها فيما يستقبل إن استحاضت ، فقد صارت سنّةً إلى أن تجلس أقراءها ، وإنّما جعل الوقت إن توالى عليها حيضتان أو ثلاث ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للّتي تعرف أيّامها : دعي الصلاة أيّام أقرائك ، فعلمنا أنّه لم يجعل القرء الواحد سنّةً لها فيقول لها : دعي الصلاة أيّام قرئك ، ولكن سنّ لها الأقراء ، وأدناه حيضتان فصاعداً» (٢). الحديث.

وهي كما تراها تدلّ على أنّ المرأة تصير عارفةً بوقتها وخلقها إذا توالى عليها حيضتان متساويتان من حيث الوقت والعدد بأن رأت

__________________

(١) في ص ٧٢.

(٢) الكافي ٣ : ٨٣ ٨٨ / ١ ، التهذيب ١ : ٣٨١ ٣٨٤ / ١١٨٣ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

٧٦

ـ مثلاً في أوّل الشهر الأوّل سبعة ، وفي أوّل الشهر الثاني أيضاً كذلك.

وتقييد الحيضتين في الرواية وكذا في موثّقة سماعة بكونهما في شهرين بحسب الظاهر على ما يشهد به سوق قوله عليه‌السلام : «تنظر إلى ما يكون في الشهر الثاني» إنّما هو للجري مجرى المتعارف ، فكما أنّ المرأة تعلم وقتها وخلقها بما لو رأت الدم في الشهر الثاني مثل ما رأته في الشهر الأوّل ، كذلك تعلم وقتها وخلقها بما لو لم تر الدم في الشهر الثاني ورأته في الشهر الثالث مثل ما رأته في الشهر الأوّل وقتاً وعدداً.

وكذا تعرف عددها لو رأتهما في شهرٍ واحد ، كأن رأت مثلاً في أوّل الشهر أربعة وفي وسطه أيضاً كذلك ، وتعرف وقتها أيضاً لو رأت مثلهما في الشهر الثاني ، بل الظاهر ثبوت عادتها برؤية الدم في أوّل الشهر الثاني في الفرض ؛ فإنّها تعرف بسبب استواء الطهرين الواقعين بين الحيضات الثلاثة وقتها أيضاً كعددها.

وما يتوهّم من أنّ العادة لا تستقرّ عرفاً بمرّتين وإنّما نلتزم في مورد النصّ بها تعبّداً ، وأمّا في سائر الموارد فلا بدّ من حصول الحيض مرّات عديدة متوافقة حتى تستقرّ لها العادة عرفاً ، مدفوع ـ مضافاً إلى مخالفته للإجماع ظاهراً أوّلاً : بما عرفت من أنّ التقييد على الظاهر جارٍ مجرى الغالب ، فالمدار على استواء الحيضتين وقتاً وعدداً ، بل عدداً فقط ، كما هو مقتضى إطلاق الرواية الأُولى ، أو وقتاً فقط ، كما سيتّضح لك فيما بعدُ إن شاء الله.

وثانياً : بأنّ سياق الروايتين يأبى عن التعبّد ، بل ظاهرهما كون مساواة الحيضتين ضابطةً لتحديد العادة العرفيّة التي يستكشف بها وقت

٧٧

الحيض وعدده.

وثالثاً : أنّ الأحكام المترتّبة على كونها ذات عادة ليست دائرةً مدار إطلاق ذات العادة عليها حتى يتوقّف إثباتها على إحراز الصدق العرفي أو التعبّد الشرعيّ ، وإنّما المناط معرفتها أيّام أقرائها سواء سمّيت ذات العادة عرفاً أم لا.

والمراد من الأقراء نصّاً وإجماعاً ما يصدق على الحيضتين فصاعداً ، وقد صرّح الإمام عليه‌السلام في ذيل الرواية الثانية بعدم كفاية حيضة واحدة في الرجوع إلى أيّامها لأجل أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجعل القرء الواحد سنّةً لها ، ولكن سنّ لها الأقراء ، وأدناه حيضتان.

ثمّ إنّه إن اتّحدت أقراؤها وقتاً وعدداً ، فعليها إذا استمرّ بها الدم أن تترك الصلاة في ذلك الوقت بعدد أيّامها. وإن اتّحدت عدداً ، فعليها أن تتحيّض بعدد أيّامها ، وهي المسمّاة اصطلاحاً بذات العادة العدديّة. وإن اختلف عددها واتّحد وقتها ، فهي المسمّاة بذات العادة الوقتيّة ، فعليها أن تتحيّض في ذلك الوقت.

وهل هي من حيث العدد كالمضطربة أم لا؟ بل تستقرّ عادتها من حيث العدد أيضاً في الجملة بمعنى أنّه لا يجوز لها أن تتحيّض بأنقص من أقلّ الأقراء ولا بأزيد من أكثرها ، فلو رأت الدم مثلاً في أوّل شهر أربعة أيّام وفي أوّل الشهر الثاني ستّة وفي الثالث خمسة وفي الرابع ـ مثلاً سبعة وهكذا بحيث لا تقف منها على حدّ ، فلو استمرَّ بها الدم ، لم تقتصر في التحيّض على الثلاث وإن لم يكن الدم في اليوم الرابع بصفة الحيض ؛ لأنّ اليوم الرابع بمنزلة القدر المتيقّن من أيّام أقرائها ، وكذا لا يزيد على

٧٨

السبعة وإن وجدت الدم بأوصاف الحيض ؛ لما عرفت.

ولكن يشكل ذلك بما في ذيل الرواية حيث قال عليه‌السلام : «وإن اختلط عليها أيّامها وزادت ونقصت حتى لا تقف منها على حدٍّ ولا من الدم على لونٍ عملت بإقبال الدم وإدباره ، وليس لها سنّة غير هذا» فإنّ مفادها أنّ السنّة عند اختلاط الدم وزيادة الأيّام ونقصانها الرجوع إلى الأوصاف ، وعند التعذّر العمل بإقبال الدم وإدباره مطلقاً.

لكن يمكن التفصّي عنه بأنّ الرجوع إلى التميز إنّما هو بالنسبة إلى الأيّام التي لم تقف منها على حدٍّ ، وهي الأيّام الواقعة بين أقلّ حيضها وأكثره ، وأمّا بالنسبة إلى الأيّام التي علمت من عادتها أنّ حيضها لا ينقص عنها أو لا يزيد منها فلا ، بل هي من هذه الجهة بمنزلة ذات العادة العدديّة ، بل هي هي إن اتّحد وقت أقرائها السابقة ، فإنّها في اليوم الرابع من الشهر ـ مثلاً كاليوم الأوّل كانت حائضاً في الجميع ، وفي اليوم العاشر لم تكن حائضاً في شي‌ء منها ، فكما أنّ اختلاف عدّة الأقراء لا يمنع من معرفة عادتها بحسب الوقت كذلك ؛ لا يمنع من معرفتها بالنسبة إلى القدر المتيقّن من العدد.

وبما أشرنا إليه من إباء سياق الأخبار عن التعبّد وأنّ تقييد الحيضتين بكونهما في شهرين جارٍ مجرى العادة ، وأنّ المراد منها ليس إلّا بيان أنّ رؤية الدم مكرّراً على نهجٍ واحد طريق يستكشف به ما تقتضيه طبيعة المرأة من قذف الدم وقتاً وعدداً ظهر لك أنّه كما تستقرّ عادة المرأة برؤية الدم مرّتين على نهجٍ واحد ، كذلك تستقرّ عادتها برؤيتها مختلفةً مكرّرة على نحوٍ مضبوط ، كأن رأت في أوّل كلّ شهر مثلاً

٧٩

ثلاثة وفي وسطه أربعة ، فإنّه يثبت لها برؤية الدم بهذه الكيفيّة الخاصّة مكرّرةً عادتان ، فلو استمرّ بها الدم ، ترجع في أوّل الشهر إلى أيّام أقرائها في أوّل الشهور وفي وسطه أيضاً إلى ما اعتادته في وسط الشهور.

فالأظهر إناطة صيرورة المرأة ذات العادة باستكشاف ما تقتضيه طبيعتها من قذف الدم برؤيته مكرّراً على طريقةٍ واحدة من دون فرق بين أن تكون الأقراء المتماثلة متعاقبةً أو متخلّلة بما يخالفها لكن لا على وجه يكون ما في خلالها مخلّاً بطريقيّة الأقراء المتماثلة.

وكيف كان فالاحتياط فيما عدا مورد النصّ أعني إذا اتّفق شهران عدّة أيّام سواء ممّا لا ينبغي تركه ما لم يحصل لها وثوق من عادتها بوقت الحيض وعدده ، والله العالم.

ولا عبرة في استقرار العادة باختلاف لون الدم المنقطع على العشرة ، فإنّ مجموعة حيض ، كما عرفت فيما سبق ، فإذا تكرّر بمثل ذلك العدد ، تثبت عادتها ، توافقا في اللون أم تخالفا ؛ لإطلاق الأدلّة.

فلو حصل الفصل بالنقاء في خلال العشرة ، فهل يعتبر تكرّره بمثل مجموع المدّة التي حكم بكونها حيضاً وإن كان بعض أيّامها المتخلّلة نقاءً ، أو العبرة بتكرّره بمثل أيّام الدم ، أو الاعتبار بتكرّره بمثل الأيّام التي رأت الدم فيها مستمرّاً ، فلو رأت خمساً وانقطع ثمّ رأت في العاشر ، تستقرّ عادتها بما لو رأت في الشهر الثاني خمساً ، ولا عبرة بالعاشر؟ وجوه ، أوسطها أوفق بالاعتبار وأقرب بالنظر إلى ما يستفاد من رواية

٨٠