مصباح الفقيه - ج ٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

ومرسلة حريز عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في الحبلى ترى الدم ، قال : «تدع الصلاة فإنّه ربما بقي في الرحم الدم ولم يخرج ، وتلك الهراقة» (١).

ومضمرة سماعة ، قال : سألته عن امرأة ترى الدم في الحبل ، قال : «تقعد أيّامها التي كانت تحيض ، فإذا زاد الدم على الأيّام التي كانت تقعد استظهرت بثلاثة أيّام ثمّ هي مستحاضة» (٢).

وقد تقدّم بعض ما يدلّ عليه أيضاً في الفرع السابق.

واستدلّ للقول الأوّل : برواية السكوني عن جعفر عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام أنّه قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كان الله ليجعل حيضاً مع حبل يعني أنّها إذا رأت الدم وهي حامل لا تدع الصلاة إلّا أن ترى على رأس الولد إذا ضربها الطلق ورأت الدم تركت الصلاة» (٣).

ورواية مقرن ، المحكيّة عن علل الصدوق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سأل سلمان رحمه‌الله عليّاً عليه‌السلام عن رزق الولد في بطن امّه ، فقال : إنّ الله تبارك وتعالى حبس عليه الحيضة فجعلها رزقه في بطن امّه» (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٨٦ / ١١٨٦ ، الإستبصار ١ : ١٣٨ / ٤٧٣ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ٩.

(٢) التهذيب ١ : ٣٨٦ ٣٨٧ / ١١٩٠ ، الإستبصار ١ : ١٣٩ / ٤٧٧ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ١١.

(٣) التهذيب ١ : ٣٨٧ ٣٨٨ / ١١٩٦ ، الإستبصار ١ : ١٤٠ / ٤٨١ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ١٢.

(٤) علل الشرائع : ٢٩١ ٢٩٢ (الباب ٢١٩) الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ١٣.

٢٠١

وصحيحة حميد بن المثنّى عن أبي الحسن [الأوّل (١)] عليه‌السلام : عن الحبلى ترى الدفقة والدفقتين من الدم في الأيّام وفي الشهر والشهرين ، قال : «تلك الهراقة ليس تمسك هذه عن الصلاة» (٢).

وأُجيب عن الرواية الأُولى : بضعف السند ، وعدم صلاحيتها لتخصيص العمومات فضلاً عن مكافئتها للأدلّة الخاصّة المتقدّمة المعتضدة بالشهرة والإجماع المحكي وشهادة النسوان (٣).

هذا ، مع موافقة الرواية لما هو المشهور بين العامّة على ما نُسب (٤) إليهم ، فلا يبعد صدورها تقيّةً.

وأمّا الروايتان الأخيرتان فلا دلالة فيهما على مطلوبهم.

أمّا الأُولى منهما فإنّما تدلّ على حبس الحيضة عن أن يدفع مجموعها ، فلا ينافي بقاء مقدار الكفاية ودفع الزائد ، كما صرّح به في حسنة سليمان بن خالد ، المتقدّمة (٥).

وأمّا الأخيرة فإنّما تنفي حيضيّة الدفقة والدفقتين ، وهذا ممّا يلتزم به كلّ أحد.

نعم ، على القول بعدم اعتبار التوالي في الحيض إلى الثلاثة ينبغي تقييد الرواية بما إذا لم يكن مجموع الدفقات التي تراها في ضمن عشرة

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) التهذيب ١ : ٣٨٧ / ١١٩٥ ، الإستبصار ١ : ١٣٩ / ٤٨٠ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ٨.

(٣) المجيب هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٤٥.

(٤) الناسب هو البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ١٧٩.

(٥) في ص ١٩٩.

٢٠٢

أيّام ما يتمّ به الثلاثة ، والأمر فيه سهل بعد مساعدة الدليل ، بل إمكان دعوى انصراف الرواية عن مثل الفرض.

والعجب من نسبة المصنّف رحمه‌الله القولَ بمنع الحمل عن الحيض إلى أشهر الروايات (١).

وكيف كان فربما استدلّ لهم : بالأخبار (٢) المستفيضة بل المتواترة ، الواردة في استبراء السبايا بحيضة ، وكذا الجواري (٣) المنتقلة ببيع أو غيره والموطوءة بالزنا (٤) والأمة المحلّلة للغير (٥).

وفيه أوّلاً : أنّه يكفي حكمةً لمشروعيّة الاستبراء غلبةُ عدم الاجتماع ، فالحيض أمارة عدم الحمل ، فاحتاط الشارع للأنساب تارة بثلاث حيضات ، وأُخرى خفّف الاحتياط لبعض الحِكَم ، مثل تسهيل الأمر على الرجل أو المرأة ، فاكتفى بحيضة واحدة ، ولو امتنع اجتماع الحيض والحمل ، لاكتفى في الكلّ بواحدة.

وثانياً : أنّه لا أثر للقول بالاجتماع وعدمه في هذا المقام ؛ لأنّها بعد أن رأت دماً مستمرّاً صالحاً لأن يكون حيضاً يجب عليها ترتيب آثار الحيضيّة ، ويتحقّق به الاستبراء في مرحلة الظاهر ، غاية الأمر أنّه يظهر أثر

__________________

(١) المختصر النافع : ١١.

(٢) منها ما في التهذيب ٨ : ١٧٦ / ٦١٥ ، والوسائل ، الباب ١٧ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٥ : ٤٧٣ / ٥ ، التهذيب ٨ : ١٧٠ / ٥٩٣ ، الإستبصار ٣ : ٣٥٨ / ١٢٨٤ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٢.

(٤) نوادر الراوندي : ٥٣.

(٥) التهذيب ٨ : ١٩٨ ١٩٩ / ٦٩٦ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٢.

٢٠٣

القولين بعد استبانة الحمل بالنسبة إلى بعض عباداتها التي تركتها عند رؤية الدم ، وأمّا فيما نحن فيه فلا ؛ إذ بعد استبانة الحمل واستكشاف عدم براءة الرحم لا فرق بين أن يحكم بأنّ ما رأته كان حيضاً أو استحاضةً ، كما لا يخفى.

لا يقال : إنّه على القول بعدم الاجتماع لا يحكم بالحيضيّة إلّا بعد إحراز عدم الحمل الذي هو شرطه.

لأنّا نقول : فعلى هذا لا يعقل أن يستكشف براءة الرحم بالحيض ، وإلّا لدار.

والحاصل : أنّ الدم الذي تراه مستمرّاً إلى ثلاثة أيّام محكوم بالحيضيّة جزماً ، ويتحقّق به الاستبراء في مرحلة الظاهر ، واستكشاف كونه استحاضةً بعد استبانة الحمل ليس إلّا كاستكشاف كون الوطء أو العقد الواقع عليها بعد الاستبراء الظاهري مقارناً للحمل ، فليس المقصود بأخبار الاستبراء إلّا الاستكشاف الظنّي ، وهو حاصل على كلا القولين ، لكن على القول بالاجتماع يكون طريقه ظنّيّاً ، وعلى القول بالعدم يكون طريق طريقه كذلك.

ثمّ إنّ هنا قولين آخرين :

أحدهما : ما حكي عن الشيخ في النهاية وكتابي الأخبار من أنّ ما تجده المرأة الحامل في أيّام عادتها يحكم بكونه حيضاً ، وما تراه بعد عادتها بعشرين يوماً فليس بحيض (١).

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ١٠ ، وانظر : النهاية : ٢٥ ، والتهذيب ١ : ٣٨٨ ، والاستبصار ١ : ١٤٠ ذيل الحديث ٤٨١.

٢٠٤

والقول الآخر : ما حكي عنه أيضاً في الخلاف من أنّه حيض قبل أن يستبين الحمل لا بعده ، ونقل فيه الإجماع عليه (١).

احتجّ على القول الأوّل : بقوله عليه‌السلام في صحيحة الحسين بن نعيم الصحّاف ، المتقدّمة (٢) : «إذا رأت الحامل الدم بعد ما يمضي عشرون يوماً من الوقت الذي كانت ترى فيه الدم في الشهر الذي كانت تقعد فيه ، فإنّ ذلك ليس من الرحم ولا من الطمث ، فلتتوضّأ وتحتشي بكرسف وتصلّي ، فإذا رأت الحامل قبل الوقت الذي كانت ترى فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنّه من الحيضة».

قال في المدارك بعد نقل الاستدلال بالصحيحة لهذا القول : وهي مع صحّتها صريحة في المدّعى ، فيتعيّن العمل بها وإن كان القول الأوّل ـ أي المشهور لا يخلو من قرب أيضاً (٣). انتهى.

وفيه : أنّ الحكم بكون ما رأته بعد العادة بعشرين ليس بحيض كالحكم بأنّ ما رأته في العادة حيض ليس إلّا بياناً لتكليفها الظاهري في مقام العمل جرياً على ما تقتضيه العادات والأمارات ، لا أنّ ما تراه في العادة يجب أن يكون حيضاً في الواقع ، وما تراه بعدها يمتنع أن يكون كذلك في الواقع ، ولا ريب أنّ تقييد إطلاق نفي الحيضيّة في مرحلة الظاهر بما إذا لم يستمرّ ما رأته بعد العادة ولم يكن دماً كثيراً يصلح أن يكون حيضاً بقرينة تلك الأخبار أولى من تقييد قوله عليه‌السلام في رواية أبي

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ١٠ ، وانظر : الخلاف ١ : ٢٣٩ ، المسألة ٢٠٥.

(٢) في ص ١٩٣.

(٣) مدارك الأحكام ٢ : ١٢.

٢٠٥

المعزا : «إن كان دماً كثيراً فلا تصلّينّ» (١) وقوله عليه‌السلام في صحيحة ابن الحجّاج : «تترك الصلاة إذا دام» (٢) بخصوص ما في العادة.

والمعارضة بينها وبين مثل هذه المطلقات إنّما هي من قبيل تعارض الظاهرين لا النصّ والظاهر ، ولا تأمّل في أنّ ارتكاب التأويل في الصحيحة أولى من ارتكاب التقييد في معارضاتها ، المعتضد بعضها ببعض ، وبموافقة العمومات والقواعد المتقنة المعتضدة بالعمل.

ولا ينافيه ما في الصحيحة من التفصيل بين ما رأته في العادة وما رأته بعد العشرين من الحكم بالحيضيّة في الأوّل مطلقاً وبعدمه في الثاني كذلك مع اشتراكهما في الحيضيّة عند الكثرة والاستدامة والعدم عند العدم ؛ لجرى الإطلاقين مجرى العادة حسبما يقتضيه ظاهر الحال.

وكيف كان فلا يمكن التأويل في جميع تلك الأدلّة بمثل هذه الصحيحة التي أعرض أكثر الأصحاب عن ظاهرها مع قبولها للتوجيه القريب ، فالقول بالتفصيل ضعيف.

وأضعف منه التفصيلُ الآخر ، أعني الفرق بين قبل استبانة الحمل وبعدها.

واستدلّ له أيضاً : بالصحيحة المتقدّمة.

وفيه ما لا يخفى ، والله العالم.

تنبيه : الأظهر أنّ الحامل لا تتحيّض برؤية الدم في غير أيّامها إلّا بعد

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٨٧ / ١١٩١ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ٥.

(٢) التهذيب ١ : ٣٨٦ / ١١٨٩ ، الإستبصار ١ : ١٣٩ / ٤٧٦ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

٢٠٦

استقرار حيضها بمضيّ ثلاثة أيّام.

وهل تتحيّض برؤيته في أيّام عادتها وإن احتملت انقطاعه قبل مضيّ الثلاثة؟ وجهان : من إطلاق معاقد الإجماعات وبعض النصوص الدالّة على أنّها تتحيّض برؤية الدم في العادة من دون تفصيل ، كما يعضده التفصيل في صحيحة الحسين بن نعيم ، بناءً على كونها مسوقةً لبيان تكليفها الظاهري في مقام العمل عند رؤية الدم قبل استبانة الحال بالاستمرار وعدمه. ومن انصراف النصّ ومعاقد الإجماعات عن مثل الفرض مع ظهور جملة من الأخبار في أنّها لا تتحيّض مطلقاً إلّا بعد إحراز كونه دم الحيض.

مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن الحجّاج : «تترك الصلاة إذا دام» (١).

وفي رواية أبي المعزى : «إن كان دماً كثيراً فلا تصلّينّ» (٢).

وفي رواية ابن مسلم «إن كان دماً كثيراً أحمر فلا تصلّي ، وإن كان قليلاً أصفر فلتتوضّأ» (٣).

وفي رواية إسحاق بن عمّار «إن كان دماً عبيطاً فلا تصلّي ذينك اليومين ، وإن كان صفرة فلتغتسل عند كلّ صلاتين» (٤).

وأقرب التوجيهات في مقام الجمع بين الأخبار ليس إلّا الالتزام بأنّها

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٨٦ / ١١٨٩ ، الإستبصار ١ : ١٣٩ / ٤٧٦ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

(٢) التهذيب ١ : ٣٨٧ / ١١٩١ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ٥.

(٣) الكافي ٣ : ٩٦ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ١٦.

(٤) التهذيب ١ : ٣٨٧ / ١١٩٢ ، الإستبصار ١ : ١٤١ / ٤٨٣ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الحيض ، الحديث ٦.

٢٠٧

لا تتحيّض بمجرّد رؤية الدم في العادة إلّا إذا اعتضد حيضيّته بالأمارات ، مثل الكثرة والسواد والامتداد ونحوها ، فلا يبعد الالتزام به ، إلّا أن يكون مخالفاً للإجماع ولم يثبت ، وأمّا مخالفته لقاعدة الإمكان فلا ضير فيها بعد مساعدة الدليل.

هذا ، مع ما عرفت في محلّه من قصور القاعدة عن جريانها في مثل الفرض ، أي الموارد المحفوفة بأمارات مانعة من الحيضيّة ، والله العالم.

وحيث إنّك عرفت أنّ كلّ دم طبيعيّ امتنع أن يكون حيضاً أو نفاساً فهو استحاضة علمت أنّه لا فرق في ذلك بين ما لو رأته وهي في سنّ مَنْ تحيض ، كالفروض السابقة (أو) رأته وهي في سنّ مَنْ لا تحيض ، كما إذا كان (مع اليأس أو قبل البلوغ) والله العالم.

(وإذا تجاوز الدم) أكثر الحيض الذي هو (عشرة أيّام وهي ممّن تحيض فقد امتزج حيضها بطُهْرها فهي إمّا مبتدئة) بالكسر ، أي ابتدأت بالدم ، أو بالفتح ، أي ابتدأ بها الدم.

وهي بظاهرها مَنْ لم تسبق بحيض ، كما عن المعتبر (١) تفسيرها بذلك ، فتكون المضطربة حينئذٍ أعمّ من الناسية للعادة أو مَنْ لم تستقرّ لها عادة.

لكنّ الذي يظهر من المصنّف هنا حيث خصّ المضطربة بالناسية للعادة أنّ المراد بالمتبدئة مَنْ لم تستقرّ لها عادة ، سواء كان ذلك لابتداء الدم أو لعدم انضباط العادة ، كما نصّ عليه بعضهم (٢) ، بل في الروضة أنّه

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٣ : ٢٦٧ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٠٤.

(٢) كما في جواهر الكلام ٣ : ٢٦٧.

٢٠٨

أشهر (١) ، وفي المسالك أنّه المشهور (٢).

وكيف كان فلا يترتّب على هذا الاختلاف ثمرة معتدّ بها ؛ لأنّ الأحكام الآتية لا يتوقّف تشخيص موضوعها على تحقيق مفهوم المبتدئة ، كما لا يخفى.

(أو ذات عادة مستقرّة) وقتاً وعدداً أو أحدهما (أو مضطربة) القلب لنسيانها العادة وقتاً أو عدداً أو معاً ، وقد أشرنا فيما سبق أنّه ربما تطلق المضطربة على الأعمّ منها وممّن لم تستقرّ لها عادة.

وكيف كان (فالمبتدئة) بالمعنى الأعمّ أي مَنْ لم تستقرّ لها عادة (ترجع) أوّلاً (إلى اعتبار الدم) وتمييز كلٍّ من دمي الحيض والاستحاضة بالأوصاف (فما شابه دم الحيض) في صفاته الثابتة (فهو حيض ، وما شابه دم الاستحاضة فهو استحاضة) بلا خلاف فيه ظاهراً ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه ، لكن المتيقّن من معقده هي المبتدئة بالمعنى الأخصّ.

ويدلّ عليه مطلقاً : المعتبرة المستفيضة الآمرة بالرجوع إلى الصفات عند الاختلاط.

منها : حسنة حفص بن البختري ، قال : دخلَتْ على الصادق عليه‌السلام امرأة فسألَتْه عن المرأة يستمرّ بها الدم فلا تدري أحيض هو أو غيره ، قال : فقال : «إنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود له دفع وحرارة ، ودم الاستحاضة أصفر بارد ، فإذا كان للدم حرارة ودفع وسواء فلتدع الصلاة»

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٣٧٨.

(٢) مسالك الأفهام ١ : ٦٧.

٢٠٩

قال : فخرجَتْ وهي تقول : والله أن لو كان امرأةً ما زاد على هذا (١).

ومنها : خبر إسحاق بن جرير (٢) ، قال : سألتني امرأة منّا أن أدخلها على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فاستأذنت لها فأذن لها ، فدخلتْ إلى أن قال ـ : قالت : فإنّ الدم يستمرّ بها الشهر والشهرين والثلاثة كيف تصنع بالصلاة؟ قال : «تجلس أيّام حيضها ثمّ تغتسل لكلّ صلاتين» قالت له : إنّ أيّام حيضها تختلف عليها وكان يتقدّم الحيض اليوم واليومين والثلاثة ويتأخّر مثل ذلك فما علمها به؟ قال : «دم الحيض ليس به خفاء ، هو دم حارّ تجد له حرقة ، ودم الاستحاضة دم فاسد بارد» (٣).

ومنها : خبر معاوية بن عمّار قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ دم الاستحاضة والحيض ليس يخرجان من مكان واحد ، إنّ دم المستحاضة بارد ، وإنّ دم الحيض حارّ» (٤).

والمستفاد من مجموع الأخبار بعد حمل مطلقها على مقيّدها أنّ مَنْ لم تستقرّ لها عادة فسنّتها عند اختلاف حيضها بالاستحاضة الرجوع إلى التميز بأوصاف الدم ، كما هو المطلوب.

ولا ينافيها عدا ما يتراءى من مرسلة يونس الطويلة من اختصاص الرجوع الى التميز بالمضطربة التي لها أيّام متقدّمة وأنّ المبتدئة

__________________

(١) الكافي ٣ : ٩١ / ١ ، التهذيب ١ : ١٥١ / ٤٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

(٢) في التهذيب : إسحاق بن جرير عن حريز.

(٣) الكافي ٣ : ٩١ ٩٢ / ٣ ، التهذيب ١ : ١٥١ ١٥٢ / ٤٣١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ٣.

(٤) الكافي ٣ : ٩١ / ٢ ، التهذيب ١ : ١٥١ / ٤٣٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ١.

٢١٠

التي لم تسبق بدم فسنّتها ليست إلّا التحيّض في كلّ شهرٍ ستّة أو سبعة.

وهي ما رواه الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن عيسى عن يونس عن غير واحد أنّهم سألوا أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحائض والسنّة في وقته ، فقال عليه‌السلام : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سنّ في الحيض ثلاث سنن بيّن فيها كلّ مشكل لمن سمعها وفهمها حتى لا يدع لأحد فيه مقالاً بالرأي».

«أمّا إحدى السنن فالحائض التي لها أيّام معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها ثمّ استحاضت فاستمرّ بها الدم وهي في ذلك تعرف أيّامها ومبلغ عددها ، فإنّ امرأة يقال لها : فاطمة بنت أبي حبيش استحاضت فأتت أُمّ سلمة فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك ، فقال : تدع الصلاة قدر أقرائها أو قدر حيضها ، وقال : إنّما هو عزف (١). فأمرها أن تغتسل وتستثفر بثوب وتصلّي».

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «هذه سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في التي تعرف أيّام أقرائها ولم تختلط عليها ، ألا ترى أنّه لم يسألها كم يوم هي ولم يقل : إذا زادت على كذا يوماً فأنت مستحاضة ، وإنّما سنّ لها أيّاماً معلومة كانت لها من قليل أو كثير بعد أن تعرفها».

«وكذا أفتى أبي عليه‌السلام وسُئل عن المستحاضة فقال : إنّما ذلك عزف عامر (٢) أو ركضة من الشيطان فلتدع الصلاة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل وتتوضّأ

__________________

(١) في المصدر : «عرق» بدل «عزف» وفي بعض نسخ الكافي كما في المتن. والعزف : اللعب. الصحاح ٤ : ١٤٠٣ «عزف».

(٢) في المصدر : عرق عامر.

٢١١

لكلّ صلاة ، قيل : وإن سال؟ قال : وإن سال مثل المثعب (١)».

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «هذا تفسير حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو موافق له ، فهذه سنّة التي تعرف أيّام أقرائها ولا وقت لها إلّا أيّامها قلّت أو كثرت».

«وأمّا سنّة التي قد كانت لها أيّام متقدّمة ثمّ اختلط عليها من طول الدم وزادت ونقصت حتى أغفلت عددها وموضعها من الشهر ، فإنّ سنّتها غير ذلك ، وذلك أنّ فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : إنّي أُستحاض ولا أطهر ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس ذلك بحيض وإنّما هو عزف (٢) ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلّى ، فكانت تغتسل في وقت كلّ صلاة ، وكانت تجلس في مِركن (٣) لأُختها ، فكانت صفرة الدم تعلو الماء».

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أما تسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر هذه بغير ما أمر به تلك ، ألا ترى أنّه لم يقل لها : دعي الصلاة أيّام أقرائك ، ولكن قال لها : إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلّى ، فهذا يبيّن أنّ هذه امرأة قد اختلط عليها أيّامها لم تعرف عددها ولا وقتها ، ألا تسمعها تقول : إنّي استحاض ولا أطهر ، وكان أبي عليه‌السلام يقول : إنّها استحيضت سبع سنين ففي أقلّ من ذلك تكون الريبة والاختلاط ، فلهذا احتاجت إلى أن تعرف إقبال الدم من إدباره ، وتغيّر لونه من السواد إلى

__________________

(١) ثعبت الماء ثعباً : فجّرته والمثعب بالفتح واحد مثاعب الحياض. الصحاح ١ : ٩٢ «ثعب».

(٢) في المصدر : عرق.

(٣) المِرْكن بكسر الميم ـ : الإجّانة التي تغسل فيها الثياب. الصحاح ٥ : ٢١٢٦ «ركن».

٢١٢

غيره ، وذلك أنّ دم الحيض أسود يعرف ، ولو كانت تعرف أيّامها ما احتاجت إلى معرفة لون الدم ، لأنّ السنّة في الحيض أن تكون الصفرة والكدرة فما فوقها في أيّام الحيض إذا عرفت حيضاً كلّه إن كان الدم أسود أو غير ذلك ، فهذا يبيّن لك أنّ قليل الدم وكثيره أيّام الحيض حيض كلّه إذا كانت الأيّام معلومةً ، فإذا جهلت الأيّام وعددها احتاجت إلى النظر حينئذٍ إلى إقبال الدم وإدباره وتغيّر لونه من السواد ثمّ تدع الصلاة على قدر ذلك ، ولا أرى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : اجلسي كذا وكذا يوماً فما زادت فأنت مستحاضة ، كما لم يأمر الأُولى بذلك».

«وكذلك أبي عليه‌السلام أفتى في مثل هذا ، وذلك أنّ امرأة من أهلنا استحاضت ، فسألت أبي عليه‌السلام عن ذلك ، فقال : إذا رأيت الدم البحرانيّ فدعي الصلاة ، وإذا رأيت الطهر ولو ساعة من نهار فاغتسلي وصلّى».

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «وأرى جواب أبي ها هنا غير جوابه في المستحاضة الأُولى ، ألا ترى أنّه قال : تدع الصلاة أيّام أقرائها ، لأنّه نظر إلى عدد الأيّام ، وقال ها هنا : إذا رأيت الدم البحرانيّ فدعي الصلاة ، وأمرها هنا أن تنظر إلى الدم إذا أقبل إذا أدبر وتغيّر».

«وقوله : البحرانيّ ، شبه [معنى (١)] قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ دم الحيض أسود يعرف ، وإنّما سمّاه أبي بحرانيّاً ؛ لكثرته ولونه ، فهذه سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في التي اختلط أيّامها حتى لا تعرفها ، وإنّما تعرفها بالدم ما كان من قليل الأيّام وكثيره».

«قال : وأمّا السنّة الثالثة ففي التي ليس لها أيّام متقدّمة ولم ترد الدم

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

٢١٣

قطّ ورأت أوّل ما أدركت واستمرّ بها ، فإنّ سنّة هذه غير سنّة الأُولى والثانية ، وذلك أنّ امرأةً يقال لها : حمنة بنت جحش أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : إنّي استحضت حيضة شديدة ، فقال لها : احتشي كرسفاً ، فقالت : إنّه أشدّ من ذلك إنّي أثجّه (١) ثجّاً ، فقال : تلجّمي وتحيّضي في كلّ شهر في علم الله ستّة أيّام أو سبعة أيّام ثمّ اغتسلي غسلاً وصومي ثلاثة وعشرين يوماً أو أربعة وعشرين واغتسلي للفجر غسلاً وأخّري الظهر وعجّلي العصر واغتسلي غسلاً وأخّري المغرب وعجّلي العشاء واغتسلي غسلاً».

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «فأراه قد سنّ في هذه غير ما سنّ في الأُولى والثانية ، وذلك أنّ أمرها مخالف لأمر تينك ، ألا ترى أنّ أيّامها لو كانت أقلّ من سبع وكانت خمساً أو أقلّ من ذلك ما قال لها : تحيّضي سبعاً فيكون قد أمرها بترك الصلاة وهي مستحاضة غير حائض ، وكذلك لو كان حيضها أكثر من سبع وكانت أيّامها عشراً أو أكثر لم يأمرها بالصلاة وهي حائض».

«ثمّ ممّا يزيد هذا بياناً قوله لها : تحيضي ، وليس يكون التحيّض إلّا للمرأة التي تريد أن تكلّف ما تعمل الحائض ؛ إلا تراه لم يقل لها : أيّاماً معلومة تحيّضي أيّام حيضك».

«وممّا يبيّن هذا قوله لها : في علم الله ، لأنّه قد كان لها وإن كانت الأشياء كلّها في علم الله ، فهذا بيّن واضح أنّ هذه لم يكن لها أيّام قبل

__________________

(١) الثجّ : إسالة الدماء من الذبح والنحر في الأضاحي. وفي حديث المستحاضة : «إنّي أثجّه ثجّاً» يعني الدم ، أي أصبّه صبّاً. مجمع البحرين ٢ : ٢٨٣ «ثجج».

٢١٤

ذلك قطّ ، وهذه سنّة التي استمرّ بها الدم أوّل ما تراه أقصى وقتها سبع وأقصى طهرها ثلاث وعشرون حتى يصير لها أيّام معلومة ، فتنتقل إليها ، فجميع حالات المستحاضة تدور على هذه السنن الثلاث لا تكاد أبداً تخلو من واحدة منهنّ ، إن كانت لها أيّام معلومة من قليل أو كثير فهي على أيّامها وخلقتها التي جرت عليها ليس فيها عدد معلوم موقّت غير أيّامها ، فإن اختلطت الأيّام عليها وتقدّمت وتأخّرت وتغيّر عليها الدم ألواناً ، فسنّتها إقبال الدم وإدباره وتغيّر حالاته ، وإن لم يكن لها أيّام قبل ذلك واستحاضت أوّل ما رأت فوقتها سبع وطهرها ثلاث وعشرون ، فإن استمرّ بها الدم أشهراً ، فعلت في كلّ شهر كما قال لها ، فإن انقطع الدم في أقلّ من سبع أو أكثر من سبع ، فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر وتصلّي ، ولا تزال كذلك حتى تنظر ما يكون في الشهر الثاني ، فإن انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل حتى توالى عليها حيضتان أو ثلاث ، فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتاً وخلقاً معروفاً تعمل عليه وتدع ما سواه ، وتكون سنّتها فيما يستقبل إن استحاضت فقد صارت سنّة إلى أن تجلس أقراءها ، وإنّما جعل الوقت إن توالى عليها حيضتان أو ثلاث ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للّتي تعرف أيّامها : دعي الصلاة أيّام أقرائك ، فعلمنا أنّه لم يجعل القرء الواحد سنّةً لها ، فيقول : دعي الصلاة أيّام قرئك ولكن سنّ لها الأقراء ، وأدناه حيضتان فصاعداً ، وإن اختلطت عليها أيّامها وزادت ونقصت حتى لا تقف منها على حدٍّ ولا من الدم على لون ، عملت بإقبال الدم وإدباره ، وليس لها سنّة غير هذا ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ دم الحيض أسود يعرف

٢١٥

كقول أبي عليه‌السلام : إذا رأيت الدم البحرانيّ ، فإن لم يكن الأمر كذلك ولكنّ الدم أطبق عليها ، فلم تزل الاستحاضة دارّة ، وكان الدم على لون واحد وحالة واحدة ، فسنّتها السبع والثلاث والعشرون ، لأنّ قصّتها كقصّة حمنة حين قالت : إنّي أثجّه ثجّاً» (١) انتهى الخبر الشريف.

ولا يخفى على مَنْ تأمّل فيه حقّ التأمّل أنّه لا منافاة بينه وبين الأخبار السابقة ، بل هذه الرواية بنفسها شاهدة على المدّعى ؛ فإنّ سوق الرواية يشهد بأنّه عليه‌السلام لم يقصد بهذه الرواية إلّا بيان ما يستفاد من الأحكام المختلفة الصادرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الوقائع الثلاث ، والتنبيه على أنّه يفهم منها سنن ثلاث يدور مدارها جميع أحكام المستحاضة ، وهي وجوب تشخيص دم الحيض عن الاستحاضة بمصادفة أيّام العادة إن أمكن بأن كانت المرأة معتادةً وعارفةً بعادتها ، وحينئذٍ لا يجوز لها الاعتناء بسائر الأمارات التي يعرف بها ، فإنّ مصادفة العادة أقوى الأمارات لا يزاحمها غيرها ، فإنّ الصفرة والكدرة مثلاً في أيّام الحيض حيض ، ولذا أمرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرجوع إلى العادة ، ولم يسنّ لها إلّا ذلك ، وهذه هي السنّة الأُولى ، وعند فقد هذه الأمارة احتاجت إلى أن تعرف إقبال الدم من إدباره باعتبار كثرته وقلّته وتغيير لونه من السواد أو اختلاف أحواله من حيث الحرارة والبرودة والخروج بحرقة وكونه عبيطاً ، فأمرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، أي تشخيص دم الحيض بالأمارات الظنّيّة عند حاجتها إليها بمعنى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل هذه الأمارات حجّةً في حقّها ، وهذه هي السنّة الثانية.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨٣ ٨٩ / ١ ، الوسائل ، الأبواب ٣ و ٥ و ٧ و ٨ من أبواب الحيض ، الأحاديث ٤ و ١ و ٢ و ٣.

٢١٦

ولا يبعد أن يدّعى أنّ سوق الرواية يشهد بأنّ المجعول في حقّها حجّيّة مطلق الظنّ الحاصل من الأوصاف المعهودة لدم الحيض ولو لم ينصّ عليها الشارع بالخصوص ، بل ولو عهدتها لشخصها بخصوصيّتها الشخصيّة ، كما لو استكشفت من عادتها المنسيّة أنّ لحيضها صفةً مخصوصةً ، فحصل لها الظنّ بأنّ واجد هذه الصفة هو حيضها ، فلا يبعد القول باستفادة حجّيّته من هذه الرواية ؛ إذ ليس معرفة إقبال الدم من إدباره مخصوصةً بالنظر إلى خصوص تغيّر لونه من السواد ، وإنّما نصّ الإمام عليه‌السلام عليه بالخصوص لكونه أظهر الأوصاف ، وإلّا فللحيض أوصاف عديدة يمتاز بها عن الاستحاضة ، كما ورد التنصيص عليها في عدّة من الروايات المتقدّمة ، فتلك الروايات شاهدة على أنّ المقصود ليس تمييز الدم بخصوص السواد.

وكيف كان فإذا فقدت هذه الأمارة أيضاً بأن لم يمكن معرفة الدم باللون ونحوه أيضاً ، فقد أمرها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حينئذٍ بأن تتحيّض في كلّ شهر في علم الله ستّة أو سبعة ، فهذه هي السنّة الثالثة.

والرواية صريحة في أنّ هذه السنّة هي تكليف ظاهريّ عمليّ ، فتكون بمنزلة الاصول العمليّة المجعولة للشاكّ ، التي يرجع إليها عند فقد الأمارة الشرعيّة ، فعلى هذا ليس للمبتدئة الرجوع إلى رواية الستّ أو السبع إلّا إذا تعذّر في حقّها التمييز بالأوصاف بأن استمرّ دمها على لونٍ واحد وحالةٍ واحدة ، كما هو الشأن في قصّة حمنة على ما استظهره الصادق عليه‌السلام من سؤالها ، وإلّا فعليها الرجوع حينئذٍ إلى ما سنّها للناسية ، كما أنّ للناسية الرجوع إلى ما سنّ للمبتدئة إذا كان قصّتها كقصّة حمنة ،

٢١٧

فعلى هذا تكون الناسية والمبتدئة متشاركتين في السنّتين ، فتخصيص الإمام عليه‌السلام الثانية بالناسية والثالثة بالمبتدئة لا يبعد أن يكون لعلمه عليه‌السلام بأنّ المبتدئة غالباً لا يختلف دمها لوناً والناسية عكسها.

وكيف كان فالرواية في غاية القوّة من حيث الدلالة على ما عرفت.

وتوهّم عدم كون الأوصاف كاشفةً عن الحيض في المبتدئة ، أو عدم اعتبار كشفها شرعاً ، فيكون وجودها كالعدم ، ولذا أطلق الإمام عليه‌السلام السنّة الثالثة التي هي بمنزلة أصل عمليّ للمبتدئة ، ولا ينافيه اتّحاد دم حمنة لوناً حيث إنّ خصوصيّة المورد لا توجب قصر الحكم عليه ، مدفوع : بأنّ قوله عليه‌السلام : «دم الحيض أسود يعرف» ظاهره أنّ السواد معرّف مطلقاً وأنّ الشارع اعتبره لذلك ، وإنّما رفعنا اليد عن هذا الظاهر بالنسبة إلى أيّام العادة ؛ لما ثبت بالنصّ والإجماع من أنّ الصفرة والكدرة في أيّام الحيض حيض كلّها.

هذا ، مع أنّ ظاهر ذيل الرواية بل كاد أن يكون صريحه أنّ علّته أمر حمنة بالتحيّض ستّة أو سبعة إنّما هو اتّحاد لون دمها ، المستكشف من قوله : أثجّه ثجّاً ، فيدور الحكم مداره ، كما يؤيّده أنّه ليس في كلام حمنة ولا في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إشعار بأنّها كانت مبتدئةً ، ولا في كلام الإمام عليه‌السلام دلالة على استفادة كونها مبتدئةً من كلامهما أو من الخارج ، فيمكن أن يكون التمثيل بها للمبتدئة ؛ لاشتراكهما فيما هو مناط الحكم.

هذا كلّه ، مضافاً إلى أنّ الأخبار المتقدّمة كافية في إثبات كون الأوصاف أمارةً معتبرة لغير ذات العادة مطلقاً ، فيكون ظهورها في ذلك دليلاً على أنّ المراد من الأمر بالتحيّض ستّة أو سبعة ليس إلّا فيما إذا أطبق

٢١٨

الدم عليها وكانت الاستحاضة دارّةً على لونٍ واحد.

وقد اتّضح لك ممّا ذكرنا اندفاع ما توهّمه صاحب الحدائق من تخصيص الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الأوصاف بالناسية دون المبتدئة ، جمعاً بينها وبين هذه الرواية (١).

وفيه مضافاً إلى ما عرفت من ظهور الرواية في خلافه أنّ غاية الأمر تسليم ظهور هذه الرواية فيما ينافي الأخبار المتقدّمة لا صراحتها فيه ، فتكون المعارضة بينهما من قبيل معارضة الظاهرين اللّذين يمكن الجمع بينهما بارتكاب التأويل في كلٍّ منهما ، ومن المعلوم أنّ ارتكاب التأويل في هذه الرواية بتقييد المبتدئة بما إذا استمرّ دمها على لونٍ واحد أولى من التصرّف في تلك الروايات المشهورة المعمول بها عند الأصحاب من وجوه.

ويؤيّد ما ذكرناه في توجيه الرواية ما حقّقه شيخنا المرتضى قدس‌سره.

والأولى نقل عبارته بطولها ؛ كي يفيدك مزيد بصيرة.

قال بعد نقل الخبر الشريف ـ : وهو مشتمل على أحكامٍ كثيرة للحائض والمستحاضة ، بل ظاهره حصر سنن المستحاضة في الثلاث ، لا حصر نفس المستحاضة في الثلاث كما في الروض حتى التجأ لذلك إلى إدخال مَنْ لم تستقرّ لها عادة في أحد القسمين الأخيرين ، ثمّ رجّح إدخالها في أوّلهما حيث قال : إنّه عليه‌السلام حصر الأقسام في الناسية والذاكرة والمبتدئة. ولا يخفى أنّ مَنْ لم تستقرّ لها عادة بعْدُ لا تدخل في الناسية ولا في الذاكرة لعادتها ، فلو لم تدخل في المبتدئة ، بطل الحصر الذي

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٣ : ١٨٦ و ١٩٤.

٢١٩

ذكره عليه‌السلام. انتهى.

ثمّ قال معترضاً على نفسه ـ : لا يقال : إنّ قوله عليه‌السلام في تعريفها ـ يعني تعريف المبتدئة ـ : «وإن لم يكن لها أيّام قبل ذلك واستحاضت أوّل ما رأت» يدلّ على خلاف مطلوبكم ؛ لأنّه فسّر المبتدئة بأنّها مَنْ تستحاض في أوّل الدور.

لأنّا نقول : إنّ أوّل التعريف صادق على المدّعى ، وإن اجري آخره ـ وهو «أنّها استحاضت أوّل ما رأت» على ظاهره ، بطل الحصر ، فلا بدّ من حمله على وجه يصحّ معه الحصر ، وهو أن يريد بالأوّليّة ما لا تستقرّ معها العادة بعدُ ، وهو أوّل إضافيّ يصحّ الحمل عليه ، وقد دلّ عليه مواضع من الحديث (١). انتهى.

وقد دعاه إلى التكلّف الذي ذكره في قوله : لأنّا نقول مع كونه مخالفاً لظاهر اللفظ بل صريح قوله عليه‌السلام : «لم تر الدم قطّ ورأت أوّل ما أدركت واستمرّ بها» ما زعمه من دلالة الرواية على حصر المستحاضة في الثلاث ، ولا يخفى أن ليس في موضعٍ منها دلالة على ذلك ، وإنّما تدلّ على حصر سنن المستحاضة في الثلاث.

وأضعف من ذلك ما ذكره المحقّق الخوانساري في حاشية الروضة من عدم ظهور الرواية في الناسية ، وإنّما المراد بذات السنّة الثانية هي مَنْ ليس لها عادة بالفعل وإن كانت لها سابقاً ، وأنّ المراد بقوله : «أغفلت» أي تركت ، لا نسيت (٢).

__________________

(١) روض الجنان : ٦٧.

(٢) حاشية الروضة البهيّة : ٦١.

٢٢٠