مصباح الفقيه - ج ٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

فيعتزلها زوجها» قال : وقال : «لم تفعله امرأة قطّ احتساباً إلّا عُوفيت من ذلك» (١).

قال في المدارك : وهي مطلقة في وجوب الأغسال الثلاثة ، خرج منها مَنْ لم يثقب دمها الكرسف بالنصوص المتقدّمة يعني صحيحتي زرارة ومعاوية بن عمّار الدالّة على أنّ المستحاضة تصلّي كلّ صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم ، فيبقى الباقي مندرجاً تحت العموم (٢).

ومثلها صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه‌السلام «تغتسل وتستدخل قطنة بعد قطنة وتجمع بين صلاتين بغسلٍ ويأتيها زوجها إذا أراد» (٣).

احتجّ المفصّلون بأخبار كثيرة لا يسلم جلّها أو كلّها من الخدشة.

منها : صحيحة الحسين بن نعيم الصحّاف ، المتقدّمة (٤) ، وفيها «ثمّ لتنظر فإن كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضّأ ولتصلّ عند وقت كلّ صلاة ما لم تطرح الكرسف ، فإن طرحت الكرسف عنها وسال الدم وجب عليها الغسل ، وإن طرحت الكرسف ولم يسل الدم فلتتوضّأ ولتصلّ ولا غسل عليها» قال : «وإن كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف الكرسف صبيباً لا يرقأ فإنّ عليها أن تغتسل في كلّ يوم وليلة ثلاث مرّات».

__________________

(١) الكافي ٣ : ٩٠ / ٥ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الاستحاضة ، الحديث ٤.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٢.

(٣) الكافي ٣ : ٩٠ / ٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الاستحاضة ، الحديث ٣.

(٤) في ص ٢٨٦ ، وانظر أيضاً : الكافي ٣ : ٩٥ ٩٦ / ١ ، والتهذيب ١ : ١٦٨ ١٦٩ / ٤٨٢ ، و ٣٨٨ ٣٨٩ / ١١٩٧ ، والاستبصار ١ : ١٤٠ ١٤١ / ٤٨٢ ، والوسائل ، الباب ١ من أبواب الاستحاضة ، الحديث ٧.

٣٠١

تقريب الاستدلال : أنّه عليه‌السلام علّق الأغسال الثلاثة على سيلان الدم من خلف الكرسف صبيباً لا يرقأ ، فإطلاق الغسل فيما إذا طرحت الكرسف وسال الدم محمول على الغسل الواحد.

قال شيخنا المرتضى قدس‌سره : وفيه : أنّه لم يظهر من الرواية كون قوله : «إذا أمسكت الكرسف» إلى آخره ، قسيماً لقوله : «فإن طرحت الكرسف وسال» بل الظاهر أنّه قسيم لقوله : «فإن كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف» فقسّم كلّاً من صورتي طرح الكرسف وإمساكه إلى قسمين في أحدهما الوضوء وفي الآخر الغسل.

فالإنصاف أنّ الرواية لو لم تكن ظاهرةً في خلاف المطلوب من جهة أنّ الظاهر من لفظ الغسل في قوله عليه‌السلام : «فإن طرحت الكرسف وسال الدم [وجب عليها الغسل]» هو جنس الغسل نظير التوضّؤ في مقابله فلا دلالة على المطلوب (١). انتهى.

أقول : الظاهر أنّ المفروض في قوله عليه‌السلام : «فإن طرحت الكرسف» إلى آخره ، أنّها لو لم تكن تطرح الكرسف ، لم يكن دمها سائلاً ، كما يدلّ عليه ما قبله وما بعده ، وكونه كذلك من لوازم عدم كونه كثيرةً بناءً على إناطة الكثرة بسيلانه من خلف الكرسف تحقيقاً أو تقديراً ، كما هو ظاهر النصوص والفتاوى.

اللهمّ إلّا أن يدّعي الخصم أنّ المناط إنّما هو ظهور الدم ، سواء كان باستيلائه على القطنة أو سيلانه وخروجه بلا قطنة.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٢٤٨. وما بين المعقوفين أضفناه من الكافي والوسائل لأجل السياق.

٣٠٢

وظهور الرواية في إرادة الغسل الواحد كما يدّعيه المستدلّ ليس بضائر للخصم في مثل الفرض ؛ لأنّه يجب عليها الاستظهار بعد الاغتسال بإدخال القطنة ، والمفروض أنّ الدم لا يستولي على القطنة في حدّ ذاته ، ولا يسيل ما لم تطرح ، فيكون بعد الاستظهار ووضع القطنة بمنزلة ما لو عادت الكثيرة قليلةً ، وسيأتي أنّ الأظهر في مثل الفرض أنّه لا يجب عليها إلّا غسل واحد.

ويؤيّد ذلك : رواية الجعفي ، المتقدّمة (١) ، وفيها : «ولا تزال تصلّي بذلك الغسل حتى يظهر الدم على الكرسف ، فإذا ظهر أعادت الغسل وأعادت الكرسف» فإنّ ظاهرها كونها مسوقةً لبيان تكليفها مطلقاً ، وأنّه مهما ظهر الدم على الكرسف أعادت الغسل وأعادت الكرسف.

ودعوى إعمالها إلّا بالنسبة إلى المرّة الأُولى التي يظهر فيها الدم بعد غسل الحيض ، مجازفة.

نعم ، هذه الرواية ساكتة عن حكم ما إذا لم يمكن استمساك الدم بالكرسف بأن يكون إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلفه صبيباً لا يرقأ ، فإنّها على هذا التقدير بمنزلة المسلوس والمبطون ، وحكمها الأغسال الثلاثة لا محالة ، لا للفرق بين الاستحاضة الكثيرة والمتوسّطة ؛ إذ لو فرض ظهور الدم في الفرض الأوّل ثانياً أو سيلانه بطرح الكرسف قبل سائر الصلوات أيضاً يجب عليها الغسل والاستظهار.

ويؤيّده رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : سألت

__________________

(١) في ص ٢٨٨.

٣٠٣

أبا عبد الله عليه‌السلام عن المستحاضة أيطؤها زوجها؟ وهل تطوف بالبيت؟ قال : «تقعد قرؤها الذي كانت تحيض فيه ، فإن كان قرؤها مستقيماً فلتأخذ به ، وإن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين ، ولتغتسل ولتستدخل كرسفاً ، فإن ظهر على الكرسف فلتغتسل ثمّ تضع كرسفاً آخر ثمّ تصلّي ، فإذا كان دماً سائلاً فلتؤخّر الصلاة إلى الصلاة ثمّ تصلّي صلاتين بغسلٍ واحد ، وكلّ شي‌ء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها ولتطف بالبيت» (١) فإنّ ظاهرها أنّ ظهور الدم على الكرسف حدث ، وأنّ سيلانه يجعلها بمنزلة المسلوس والمبطون.

وبما ذكر ظهر عدم إمكان الاستدلال للمطلوب بمفهوم القيد في رواية يونس بن يعقوب : «فإن رأت الدم دماً صبيباً فلتغتسل في وقت كلّ صلاة» (٢) وكذا بما في رواية محمد بن مسلم : «فإن صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كلّ صلاتين» (٣) ؛ لإمكان أن يكون التقييد لبيان أنّه يجب عليها الأغسال الثلاثة ، بخلاف ما لو لم يكن كذلك ، فإنّه لا يجب عليها إلّا على تقدير ظهوره على القطنة ، فيحب عليها حينئذٍ الغسل والتبديل.

وبهذا ظهر لك أنّ الأخبار التي علّق فيها الأغسال الثلاثة على سيلان الدم ومجاوزته ، الدالّة بمفهومها على العدم عند العدم لا تجدي المستدلّ ،

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤٠٠ / ١٣٩٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الاستحاضة ، الحديث ٨.

(٢) التهذيب ١ : ٤٠٢ / ١٢٥٩ ، الإستبصار ١ : ١٤٩ / ٥١٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الاستحاضة ، الحديث ١١.

(٣) المعتبر ١ : ٢١٥ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الاستحاضة ، الحديث ١٤.

٣٠٤

فإنّا نعترف بذلك ، بل نقول : إنّ الأخبار التي علّق فيها الأغسال على ثقب الكرسف لم يرد منها إلّا ذلك اعتماداً على الغلبة ؛ إذ لا نقول بالأغسال الثلاثة إلّا على تقدير استدامة الحدث ، وهي لا تكون إلّا في مثل الفرض ، وأمّا في غيره لا يجب عليها الغسل إلّا عند تحقّق سببه ، سواء كان في كلّ يوم مرّة أو مرّتين أو قبل كلّ صلاة ، كما سيأتي تحقيقه في حكم المستحاضة الكثيرة.

وملخّص الكلام : أنّ للخصم أن يدّعي أنّ دم الاستحاضة إنّما يكون حدثاً أكبر إذا ظهر بنفسه ، فعند وجود الكرسف يكون المناط ظهوره عليه وإن لم يجزه ، وعند عدمه سيلانه ووصوله إلى الخارج ، كما هو المتبادر من قوله : «إذا سال» فإن بقي ظاهراً بأن تعذّر أو تعسّر استمساكه بالكرسف ؛ لكونه صبيباً لا يرقأ ، فعليها الأغسال الثلاثة ، وإلّا فعليها الاستمساك بعد الاغتسال والصلاة بذلك الغسل ما لم يظهر الدم ، وإذا ظهر ، فعليها إعادة الغسل وإعادة الكرسف ، كما لو رأت دماً كثيراً قبل الظهر فعاد قليلاً ، فإنّ الأظهر أنّ عليها غسلاً واحداً عند إرادة الصلاة ، وإنّما يجب عليها الأغسال الثلاثة على تقدير تحقّق السبب لا مطلقاً ، كما سيأتي تحقيقه.

والإنصاف أنّه لو ادّعي ذلك ، لكان وجهاً وجيهاً للجمع بين شتات الأخبار ، ويؤيّده ظاهر جملة منها.

ولا يتوهّم مخالفته للإجماع وكونه إحداث قول جديد ؛ فإنّه من لوازم القول بمساواة القسمين أي المتوسّطة والكثيرة في الحكم بناءً على أنّ حدوث الكثيرة ولو في غير وقت الصلاة حدث موجب للغسل ،

٣٠٥

وأنّ استمرارها بوصف كثرتها شرط في الأغسال الثلاثة ، كما سيتّضح لك أنّ هذا هو الحقّ.

لكن ينافيه صريح موثّقتي سماعة ، المعتضدتين بالرضوي ، المتقدّمات (١) ؛ فإنّ صريحها أنّ للاستحاضة قسماً لا يجب فيه الغسل إلّا في كلّ يوم مرّة في مقابل قسمها الآخر الذي يجب فيه الأغسال الثلاثة ، بل الرضويّ صريح في تثليث أقسامها على وجه يوافق المشهور ، فإن اكتفينا به ولو بسبب الانجبار ، فهو حجّة كافية للجمع بين الأخبار ، وإلّا فالعمدة هي الموثّقتان ، وقد عرفت أنّ مضمرتهما أيضاً صريحة في تثليث الأقسام وإن كان ظاهرها كظاهر موثّقته الأُخرى أنّ المستحاضة ما لم يتجاوز دمها الكرسف فعليها غسل واحد مطلقاً ما لم يكن دمها أصفر ، وإلّا فعليها الوضوء كما في موثّقته المضمرة ، فتكون الاستحاضة المتوسّطة أعمّ ممّا عليه المشهور ، إلّا أنّه لا بدّ من تقييد إطلاقهما بصحيحتي زرارة ومعاوية بن عمّار ، الدالّة أُولاهما على أنّ المستحاضة تصلّي كلّ صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم ، وثانيتهما أنّها صلّت كلّ صلاة بوضوء ما لم يثقب دمها الكرسف ، فيكون مفادهما بعد التقييد بالصحيحتين أنّ المستحاضة إذا نفذ أو ثقب دمها الكرسف ولم يتجاوزه فعليها الغسل في كلّ يوم مرّة.

وعدم تعيين زمان الغسل غير ضائر إمّا لانصرافه إلى كونه قبل جميع الصلوات وهي الغداة ؛ لكونه شرطاً فيها ، أو لأجل تعيّنه بالإجماع.

__________________

(١) في ص ٢٩٨.

٣٠٦

وكيف كان فالإهمال من هذه الجهة لا يضرّ بالاستدلال.

وتوهّم أنّ تقييد الموثّقتين بالصحيحتين ليس بأولى من تقييد الصحيحتين بما في ذيل المضمرة المصرّحة بأنّ الوضوء إنّما هو فيما إذا كان الدم أصفر ، وأمّا إذا كان عبيطاً ، فيجب عليها الغسل في كلّ يومٍ مرّة مطلقاً ما لم يتجاوز الكرسف ، مدفوع : باستلزامه مخالفة الأصحاب حيث لم ينقل القول بذلك من أحد.

لكنّ الإنصاف أنّ تقييد الموثّقتين بالصحيحتين أو عكسه في غاية الإشكال ؛ لاستلزامه على كلا التقديرين تنزيل الرواية الواردة في مقام البيان على الفرد النادر خصوصاً لو قيّدنا الموثّقتين بالصحيحتين ؛ فإنّ تقييد إطلاق قوله عليه‌السلام : «فإن لم يجز الدم الكرسف» بما إذا ثقبه ولم يتعدّه كما تراه.

وبهذا ظهر لك أنّ الاستدلال بما في ذيل صحيحة زرارة ، المضمرة المتقدّمة (١) في استدلال ابن أبي عقيل من قوله عليه‌السلام : «وإن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد» لا يخلو عن إشكال ، مضافاً إلى المناقشة التي عرفتها فيما تقدّم من احتمال إرادة غسل النفاس من الغسل الواحد.

هذا كلّه ، مع أنّ ارتكاب التقييد في الموثّقة المضمرة ولو مع قطع النظر عن كونه تقييداً بالفرد النادر متعذّر ؛ لما في صدرها من التنصيص على أنّ المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف ، اغتسلت لكلّ صلاتين وللفجر غسلاً ، وإن لم يجز الدم الكرسف ، فعليها الغسل كلّ يوم مرّة ؛

__________________

(١) في ص ٢٨٨.

٣٠٧

فإنّ المتبادر في مثل المقام كون الموضوع في القضيّة الثانية نقيض ما هو الموضوع في القضيّة الأُولى ، فيكون المراد من قوله عليه‌السلام : «إن لم يجز» إن لم يثقب ، والتعبير بـ «لم يجز» للجري مجرى الغالب. وادّعاء العكس لا يجدي في جواز ارتكاب التقييد ؛ فإنّه وإن أمكن أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام : «إذا ثقب» إذا جاز ؛ اعتماداً على الغلبة ، لكنّ التعبير به عنواناً للموضوع ولو بملاحظة الغلبة مانع من أن يكون المقصود من قوله عليه‌السلام : «وإن لم يجز» خصوص ما إذا ثقب ولم يجز ، خصوصاً مع ما في ذيلها من تأكيد مضمون الجملة ببيان مورد الحكم حيث قال : «هذا إذا كان دماً عبيطاً» إلى آخره.

فالإنصاف أنّ الأخذ بظاهر هذه الروايات غير ممكن ؛ لمخالفته للنصوص والفتاوى. وتنزيلها على إرادة خصوص ما إذا ثقب الدم ولم يجزه يستلزم قصر المطلق الوارد في مقام البيان على الفرد الذي لا يعلم بإرادته منه إلّا بأصالة الإطلاق لو لم نقل بانصرافه عنه خصوصاً مع ندرته وجوداً.

هذا فيما عدا مضمرة سماعة ، وأمّا المضمرة فقد عرفت تعذّر هذا الحمل فيها ، فتقييد الأخبار الآمرة بالوضوء ما لم يثقب الكرسف بما إذا كان قليلاً أصفر بقرينة ما في ذيل المضمرة لو لا مخالفته لفتاوى الأصحاب أولى من هذا الجمع وإن كان ذلك أيضاً بعيداً ، بل حمل الأمر بالغسل في كلّ يومٍ مرّة بعد تقييد موضوعه بما لم يثقب الكرسف وكان دماً عبيطاً على الاستحباب كما يؤيّده ترك التعرّض له في معظم الأخبار ، وإجمال ما وقع فيه التعرّض لبيانه أو عدّ الأخبار من

٣٠٨

المعارضات التي يرجع فيها إلى المرجّحات أولى من هذا النحو من التقييد.

ولا يخفى أنّ أخبار الوضوء أرجح ؛ لصحّة سندها وعدم حصول الإعراض عنها ، وأمّا أخبار الغسل فلم ينقل العمل بظاهرها من أحد عدا ابن الجنيد ، فتأمّل (١).

اللهم إلّا أن يعتضد التقييد على وجهٍ يوافق المشهور بموافقتهم ، وبالفقه الرضوي الكاشف عن معروفيّة المضمون من الصدر الأوّل ، فيورث الظنّ بوجود القرينة على إرادة المقيّد بالخصوص ، ومقتضاها ارتكاب التأويل في سائر الأخبار بما لا ينافيها وإن بَعُد.

لكنّك خبير بأنّ الاعتماد على مثل هذا الظنّ على تقدير تحقّقه في غاية الإشكال ، فالقول بعدم الفرق بين الكثيرة والمتوسّطة على الوجه الذي تقدّم تقريبه مع أنّه أحوط لا يخلو عن قوّة ، والله العالم.

ثمّ إنّه على القول المشهور من أنّه لا يجب في المتوسّطة إلّا الغسل في كلّ يومٍ مرّة فهل يختصّ ذلك بما إذا رأت الدم قبل صلاة الفجر ، كما عن ظاهر أكثر الفتاوى ، ومعقد إجماع الناصريّات (٢) حيث حكموا بوجوب الغسل في المتوسّطة كما في المتن لصلاة الغداة ، فلو رأته بعدها ، فلا غسل في ذلك اليوم للظهرين والعشاءين وإن احتمل وجوبه لصلاة غداة غدها أو صلاة غداة يومها لو فاتتها وقضتها في ذلك اليوم ،

__________________

(١) قوله : فتأمّل ، إشارة إلى أنّ ترك العمل بظاهرها عند العمل بمأوّلها لا يوهي السند بل يضده ، كما لا يخفى. (منه).

(٢) مسائل الناصريّات : ١٤٨ ، المسألة ٤٥.

٣٠٩

فلا تكون حدثاً أكبر إلّا بالنسبة إلى صلاة الغداة ، أو أنّها إنّما تكون حدثاً أكبر لو حدثت في وقت صلاة الصبح ، فلا تصحّ الصلاة بعدها مطلقاً ما لم تغتسل ، فلو تركت الاغتسال لصلاة الغداة بأن تركت الغداة عمداً أو سهواً أو صلّت قبل صيرورتها مستحاضةً متوسّطة ، فعليها الغسل لسائر صلواتها ، كما يؤيّد إرادة ذلك تصريح بعضهم به والتزامهم ظاهراً ببطلان صلاتها مطلقاً لو أخلّت بما عليها من الغسل ، كما أنّه يؤيّد إرادة الأوّل عدّ غير واحد منهم الاستحاضةَ المتوسّطة بالنسبة إلى ما عدا صلاة الصبح من موجبات الوضوء؟.

واختار شيخنا المرتضى رحمه‌الله كون حدوثها مطلقاً موجباً لغسلٍ واحد في كلّ يوم مرّة سواء حدث قبل صلاة الفجر أو قبل سائر الصلوات ، فلو اغتسلت بعد تحقّقها ، سواء كان لصلاة الفجر أو لصلاة الظهر مثلاً ، لا يجب عليها غسلٌ آخر في ذلك اليوم ، مستشهداً لذلك : بإطلاقات الأدلّة ، فإنّه ليس في شي‌ء منها ما يقتضي قصر حدثيّتها بما إذا حدثت في الصبح أو في خصوص صلاة الصبح ؛ فإنّ قوله عليه‌السلام في رواية الجعفي : «فإذا ظهر الدم على الكرسف أعادت الغسل وأعادت الكرسف» (١) وكذا غيرها من الروايات يعمّ ما لو كان ظهور الدم في أثناء اليوم قبل صلاة الظهر.

وأمّا ظهور فتاوى الأصحاب فيما ينافيه فقد وجّهها بما لا ينافيه بتنزيل كلماتهم على إرادة ما لو استمرّ بها الدم المتوسّط من أوّل اليوم

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصدرها في ص ٢٨٨ ، الهامش (٢).

٣١٠

بقرينة حكمهم بوجوب أغسال ثلاثة على ذات الدم الكثير ، مع أنّ من الواضح أنّها لو رأت قبل الظهر واستمرّ بها إلى الليل لا يجب عليها إلّا غسلان ، ولو رأت قبل العشاءين ، لا يجب عليها إلّا غسل واحد ، فكلماتهم المطلقة منزّلة على إرادة بيان حكم من استمرّ بها الدم (١).

والإنصاف أنّ ما ادّعاه من ظهور الأدلّة في الإطلاق حقٌّ صريح لا مجال لإنكاره ، فلا يجوز رفع اليد عنه إلّا بدليل معتبر ، فإن ثبت إجماعهم على خلافه على وجه علم بإرادة المجمعين ذلك ، فهو ، وإلّا فلا يجوز التخطّي عمّا تقتضيه إطلاقات الأدلّة.

نعم ، لو صحّحنا العمل بالرضويّ ولو بملاحظة انجباره بظاهر الفتاوى ومعقد إجماع الناصريّات ، لكان الأوجه عدم وجوب الغسل بها إلّا لصلاة الغداة. وارتكاب التأويل فيه بما ذكره قدس‌سره في توجيه كلمات الأصحاب وإن أمكن لكنّه خلاف ظاهر اللفظ ، والله العالم.

(وفي) القسم (الثالث) أي الاستحاضة الكثيرة (يلزمها مع ذلك) أي تغيير القطنة والخرقة والوضوء لكلّ صلاة والغسل لصلاة الغداة (غسلان) آخران : (غسل للظهر والعصر) أي لصلاتهما (تجمع بينهما ، وغسلٌ للمغرب والعشاء تجمع بينهما).

أمّا وجوب الأغسال الثلاثة على المستحاضة التي سأل دمها إجمالاً ممّا لا خلاف فيه نصّاً وفتوى ، بل لا يبعد دعوى تواتر النصوص عليه ، وقد تقدّم أكثرها في مطاوي المباحث السابقة.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٢٥٠.

٣١١

وإنّما الإشكال والخلاف في تشخيص ما هو المناط في وجوب الأغسال ؛ فإنّه ربما يدّعى أنّ ظاهر الأخبار أنّه متى تحقّقت كثرة الدم في وقتٍ ما ، كفى ذلك في وجوب الأغسال الثلاثة وإن انقطع بعد ذلك.

وفيه : ما لا يخفى.

وربما يقال : إنّ ظاهر الأخبار الواردة في الباب أنّ وظيفة كلّ حالة عند وجود تلك الحالة في وقت الصلاة ، الذي هو وقت الخطاب بتلك الوظيفة لا مطلقاً ، فلو رأت دماً كثيراً بعد الفجر ، يجب عليها غسلٌ للصبح ، ولو رأت بعد الظهر ، يجب غسلٌ للظهرين ، وبعد المغرب غسلٌ للعشاءين ، فلو رأت الدم الكثير في غير هذه الأوقات ، فلا شي‌ء عليها.

وهذا أوهن من سابقه ؛ إذ ليس في شي‌ء من الأخبار ما يشعر باختصاص سببيّة الاستحاضة للغسل بما إذا حدثت في أوقات الصلاة.

وقد يقال : إنّ الأظهر في معنى الأخبار أنّه متى تحقّق الدم الكثير لم تجز الصلاة معه إلّا بغسلٍ ، فإذا اغتسلت ، ارتفع أثره ، فلها أن تصلّي بعده ما شاءت لو لم تر الدم الكثير في أثناء الغسل أو بعده ، وإلّا فلا أثر لما تراه في الأثناء أو بعده بالنسبة أليما يغتسل له ، فإنّه معفوّ عنه بالنسبة إليه دون غيره من العبادات.

أقول : وهذا المعنى هو الأوفق بما استظهرناه من الروايات عند التكلّم في حكم المتوسّطة.

لكن قد تشتّتت كلمات الأعلام في المقام ، بل في جملة من أحكام المستحاضة ، ولا أرى أوثق في مثل المقام من الرجوع أوّلاً إلى أخبار الباب بعد الإغماض عن كلمات القوم ، والأخذ بمفادها بعد الجمع

٣١٢

والترجيح ، ثمّ عَرْض المحصّل على كلمات الأصحاب وأفهامهم ، فإن ساعده شي‌ء منها ، فهو ، وإلّا فسبيل الاحتياط أوضح سبيل ، وقد اتّضح لك في مطاوي كلماتنا السابقة ما ظهر لدينا من الأخبار الواصلة إلينا.

وملخّصه : أنّ دم الاستحاضة ما لم يظهر على الكرسف أو لم يسل بنفسه عند عدم الكرسف بحيث يظهر في الخارج ظهوراً مسبّباً عن كثرة الدم وتدافعه حدثٌ أصغر موجب للوضوء ، كغيره من الأحداث الموجبة له ، فلو استمرّ ، فهي مستمرّة الحدث ، كالمسلوس والمبطون ، عليها أن تتوضّأ عند كلّ صلاة ، وإن ظهر على الكرسف أو سال الدم بنفسه من كثرته بعد أن طرحت الكرسف ، فعليها الغسل ، فظهوره على الكرسف وكذا سيلانه وخروجه بنفسه لو لم يكن ثمّة كرسف يمنعه من الخروج حدثٌ أكبر موجب للغسل مطلقاً ، كالمنيّ ودم الحيض ، فيجب عليها حينئذٍ مقدّمةً للصلاة التحفّظُ والاغتسال والاحتشاء بكرسف ونحوه ، فإذا اغتسلت واحتشت ، تصلّي ما لم يظهر الدم على الكرسف كلّ صلاة بوضوء بلا تأمّل فيما عدا ما اغتسلت له من الصلوات ، أمّا بالنسبة إليه أيضاً فكذلك على تأمّل يأتي التكلّم فيه ، فإذا ظهر الدم ، أعادت الغسل وأعادت الكرسف.

هذا إذا أمكن استمساك الدم بكرسف ونحوه ، وأمّا إن كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف الكرسف صبيباً لا يرقأ بأن تعذّر أو تعسّر عليها ضبطه وحفظه من الخروج في زمانٍ يعتدّ به ، تغتسل للفجر غسلاً ، وللظهرين غسلاً ، وتجمع بينهما ، وللعشاءين أيضاً كذلك ، فإن لم يظهر الدم ما دامت متشاغلة بشأنها من الطهارة والصلاة ، فهو ، وإلّا فقد

٣١٣

عفي عن ذلك بشرط الجمع بين الصلاتين ، وعدم فَصْلٍ يعتدّ به بين الأغسال والصلوات الواقعة عقيبها ، كما ستعرف ، فهي حينئذٍ بمنزلة المسلوس والمبطون في العفو عمّا يحدث في خلال الطهارة والصلوات ، ولكنّ الشارع اجتزأ في المقام بغسلٍ واحد للصلاتين من باب التسهيل.

والأولى لها عند إرادة الجمع بين صلاتين أن تؤخّر الأُولى وتعجّل بالثانية ؛ كي تقعا كلتاهما في وقت الفضيلة ، كما ورد التنصيص عليه في بعض الأخبار.

هذا هو الذي يستفاد من مجموع الأخبار بعد تقييد بعضها ببعض على وجه يساعد عليه الفهم العرفي بحيث لا يعدّ الكلمات على تقدير صدورها من متكلّمٍ واحد متنافية ، ولا ينافيه شي‌ء من الروايات بحيث يتعذّر إرجاعه إليه عدا موثّقتي سماعة وما في ذيل صحيحة زرارة ، المضمرة على أظهر الاحتمالين.

لكنّك عرفت عدم إمكان الجمع بينها وبين غيرها من الروايات إلّا بحمل الغسل في كلّ يومٍ مرّة ما لم يجز الدم الكرسف على الاستحباب بعد البناء على جريها مجرى الغالب من إرادة عدم الثقب من عدم التجاوز ، كما يشهد له بعض القرائن الموجودة في الموثّقة المضمرة وغيرها ، وعلى تقدير تعذّر الالتزام بمثل هذا التأويل فيها فالمتعيّن طرحها ؛ لقصورها عن مكافئة سائر الروايات ، كما تقدّم الكلام فيها مفصّلاً.

نعم ، ينافي ما استفدناه من الروايات كلمات الأصحاب والفقه الرضوي الذي لا يبعد أن يكون من جملتها ، فإنّها كادت أن تكون متّفقةً ،

٣١٤

بل متّفقة في خلاف ما استفدناه بالنسبة إلى المتوسّطة من سببيّتها للغسل مطلقاً ، وعدم الفرق بينها وبين الكثيرة ، وأنّ الأغسال الثلاثة إنّما تجب عند استدامة هذا الحدث وتعذّر استمساك الدم وضبطه في زمانٍ يعتّد به ، فيشكل الأمر حينئذٍ في مثل الفرض ؛ فإنّ رفع اليد عن ظواهر الأخبار بمجرّد ذلك ما لم يحصل القطع من كلماتهم بعثورهم على دليلٍ معتبر غير ما بأيدينا من الأدلّة أو اطّلاعهم على قرينةٍ داخليّة أو خارجيّة حاليّة أو مقاليّة مقتضية لذلك في غاية الإشكال ، بل لا ينطبق على أُصولنا.

ودعوى حصول القطع بذلك من كلماتهم ، لا تنهض حجّةً على غير مدّعيها.

لكنّ الإعراض عن كلمات هؤلاء الجمّ الغفير الذين هم أرباب الخبرة والبصيرة في معالم الدين ، المطّلعين على غثّ الأخبار وسمينها وما فيها من المعاني الخفيّة والقرائن الحاليّة والمقاليّة أشكل.

والذي يهوّن الخطب فيما استفدناه من الروايات أوفقيّتها للاحتياط ، فهو المعوّل عليه ، ولا يجوز التخطّي عنه.

نعم ، قد يخالف ذلك الاحتياط في الاستحاضة الكثيرة بناءً على إناطة الكثرة الموجبة للأغسال الثلاثة بالسيلان التقديري لا الفعلي ، كما لو اغتسلت للظهرين في آخر وقتهما وصلّت الظهرين فدخل المغرب ولمّا يظهر الدم على الكرسف ؛ لقصر الزمان ، لا لقلّة الدم ، فصلّت العشاءين أيضاً بذلك الغسل قبل ظهور الدم.

ولكنّ الالتزام به هيّن حيث لم يعلم مخالفته للمشهور ؛ إذ لا يبعد أن تكون مجاوزة الدم بالفعل شرطاً في وجوب إعادة الغسل لدى كثيرٍ

٣١٥

منهم حيث لا يأبى عن ذلك عبائرهم ، بل لعلّه هو الذي تقتضيه ظواهرها ، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط في مثل الفرض بإعادة الغسل ، والله العالم بحقائق أحكامه.

وقد ظهر لك ممّا تقدّم أنّ الاستحاضة الموجبة للغسل لا تنفكّ عمّا هو سبب للوضوء ، لا لما ربما يدّعى من أنّ موجبات الغسل أي الحدث الأكبر نواقض للوضوء نصّاً وإجماعاً حتى يمكن أن يتطرّق فيه بعض المناقشات ، بل لأنّ ظهور الدم على القطنة الذي هو سبب للغسل مسبوق بعدمه الموجب للوضوء ، وحينئذٍ يقع الكلام في أنّه هل يجزئ غسلها بالنسبة إلى الصلاة التي اغتسلت لها عن الوضوء لأجل تلك الصلاة أم لا بدّ معه من الوضوء كما هو قضيّة الأصل من تأثير كلّ سبب في إيجاب ما يقتضيه ، وعدم الاجتزاء بأحد المسبّبين عن الآخر؟.

وليعلم أنّ النزاع في هذه المسألة لا يتفرّع على الخلاف في عموم الاجتزاء بكلّ غسل عن الوضوء أو اختصاصه بغسل الجنابة ؛ لمكان القول بالفصل ؛ فإنّ بعض مَنْ قال بالاجتزاء أنكره في خصوص المقام كما عن السيّد في الجُمل (١) ؛ نظراً إلى ما في جملة من أخبار الباب من الأمر بالوضوء مع الغسل ، كقوله عليه‌السلام في موثّقتي سماعة : «وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كلّ يوم مرّة والوضوء لكلّ صلاة» (٢) وفي

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٣ : ٣٢٧ ، وانظر : جُمل العلم والعمل (ضمن رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٢٧.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠ / ٢ ، و ٨٩ ٩٠ / ٤ ، التهذيب ١ : ١٠٤ / ٢٧٠ ، و ١٧٠ / ٤٨٥ ، الاستبصار ١ : ٩٧ ٩٨ / ٣١٥ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣ ، والباب ١ من أبواب الاستحاضة ، الحديث ٦.

٣١٦

مرسلة يونس ، الطويلة «فلتدع الصلاة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل وتتوضّأ لكلّ صلاة ، قيل : وإن سال؟ قال : وإن سال مثل المثعب» (١) فإنّه وإن قلنا : إنّ المتبادر من قوله : «فلتغتسل» غسل الحيض إلّا أنّه يفهم من تعميم الحكم بالنسبة إلى الاستحاضة الكثيرة كما يدلّ عليه صريح الرواية عدم الاجتزاء بغسلها عن الوضوء.

وفي ذيل رواية إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله عليه‌السلام بعد أن سأله عن أنّه يواقعها زوجها؟ قال عليه‌السلام : «إذا طال بها ذلك فلتغتسل ولتتوضّأ ثمّ يواقعها إن أراد» (٢).

وعن جملة من الأساطين كالشيخ والصدوقين والقاضي والحلبي وابن زهرة وغيرهم (٣) عكس القول السابق ، أي القول بكفاية غسل الاستحاضة عن الوضوء كغسل الجنابة ، دون سائر الأغسال ، بل عن المصنّف في المعتبر اختياره ، والمبالغة في تضعيف القول بعدم الاجتزاء حيث قال : وظنّ غالطٌ من المتأخّرين أنّه يجب مع هذه الأغسال الوضوء لكلّ صلاة ، ولم يذهب إلى ذلك أحد من طائفتنا.

ويمكن أن يكون غلطه لما ذكره الشيخ في المبسوط والخلاف : أنّ المستحاضة لا تجمع بين فرضين بوضوء ، فظنّ انسحابه على مواضعها ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨٣ ٨٥ / ١ ، التهذيب ١ : ٣٨١ ٣٨٢ / ١١٨٣ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الحيض ، الحديث ١.

(٢) قرب الإسناد : ١٢٧ ١٢٨ / ٤٤٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الاستحاضة ، الحديث ١٥.

(٣) الحاكي عنهم هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٥١ ، وانظر : النهاية : ٢٨ ٢٩ ، والمبسوط ١ : ٦٧ ، والاقتصاد : ٢٤٦ ، والجمل والعقود (ضمن الرسائل العشر) : ١٦٤ ، والفقيه ١ : ٥٠ ، والمقنع : ٤٨ ، والهداية : ٩٩ ، والمهذّب ١ : ٣٧ ٣٨ ، والكافي في الفقه : ١٢٩ ، والغنية : ٣٩ ٤٠ ، والمراسم : ٤٤ ، وذخيرة المعاد : ٧٥.

٣١٧

وليس على ما ظنّ ، بل ذلك مختصّ بالموضع الذي يقتصر فيه على الوضوء (١). انتهى.

وهذا منه عجيب مع أنّه هو مختاره في المتن وفي النافع (٢) ، بل عن ظاهر المختلف نسبته إلى المشهور (٣) ، بل عن المنتهي أنّه لا خلاف فيه (٤).

وكيف كان فممّا يمكن أن يستدلّ به للاجتزاء مضافاً إلى الأدلّة العامّة التي يستدلّ بها للقول بالاجتزاء مطلقاً ، كما تقدّم تفصيلها في غسل الحيض الأخبار المستفيضة التي كادت تكون متواترةً ، الواردة في مقام بيان تكليف المستحاضة ، الدالّة على أنّه إذا جاز دمها الكرسف ، تعصّبت واغتسلت ثمّ صلّت الغداة بغسلٍ والظهرين بغسلٍ وتجمع بينهما ، والعشاءين بغسلٍ وتجمع بينهما ، والالتزام بإهمال هذه الروايات بأسرها من هذه الجهة في غاية الإشكال ، ورفع اليد عن ظاهر هذه الأخبار ليس بأهون من حمل الأمر بالوضوء في الأخبار السابقة على الاستحباب ونحوه ، بل العكس أولى.

هذا ، مع أنّ دلالة الأخبار السابقة على المطلوب لا تخلو عن تأمّل.

أمّا الموثّقتان : فقد عرفت المناقشة في دلالتهما على إرادة الغسل الواجب على المستحاضة لصلاتها ، بل موردهما الاستحاضة القليلة ، والغسل المأمور به فيهما لا يمكن إلّا أن يكون مستحبّاً ، فيكون كسائر

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٤ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٤٧ ، والمبسوط ١ : ٦٨ ، والخلاف ١ : ٢٤٩ ، المسألة ٢٢١.

(٢) المختصر النافع : ٥٣ ٥٤.

(٣) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٣ : ٣٢٧ ، وانظر : مختلف الشيعة ١ : ٢١٢ ، المسألة ١٥٣ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٢٢.

(٤) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٣ : ٣٢٧ ، وانظر : مختلف الشيعة ١ : ٢١٢ ، المسألة ١٥٣ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٢٢.

٣١٨

الأغسال المستحبّة ، وليستا مسوقتين لبيان أنّه لو أوجدته قبل الصلاة ، يجزئ غسلها عن الوضوء أم لا ، غاية الأمر دلالتهما على عدم الاجتزاء في مثل الفرض بأصالة الإطلاق ، التي يرفع اليد عنها بأدنى ظهور في التقييد ، بل لو سلّم ظهورهما في إرادة الغسل الواحد في الاستحاضة المتوسّطة ، لا يدلّ عليه إلّا من باب أصالة الإطلاق ، التي يهوّن تقييده ؛ لما ستعرف من أنّه على تقدير القول بالاجتزاء إنّما يكون ذلك فيما لو اتي بالصلاة عقيب الغسل بلا فصل ، وتنزيل الرواية على غير هذا الفرض ـ بعد مساعدة الدليل ولو عموم ما يقتضي الاجتزاء فضلاً عن ظهور الأخبار الخاصّة في ذلك هيّن.

وأمّا مرسلة يونس : فالمراد من الأمر بالغسل فيها في هذا المورد هو غسل الحيض ، والمراد من تعميم الحكم إنّما هو في أنّها تصلّي في مقابل أيّام أقرائها ، لا أنّها تصلّي بعد غسل الحيض بالوضوء مطلقاً ، وليس الكلام في هذا المقام لبيان تكليف المستحاضة إلّا في الجملة ، فلا ينافيه الإهمال ، وإنّما يبيّن حكم المستحاضة الكثيرة في المرسلة في قضيّة حمنة بنت جحش حيث تعرّض أبو عبد الله عليه‌السلام لنقل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمره لها بالاغتسال للصوم ولصلاة الفجر وللظهر والعشاءين ، وأمرها بتأخير الظهر وتعجيل العصر ، ولم يأمرها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوضوء ، فلو كان واجباً عليها ، لأمرها بذلك خصوصاً عند الأمر بالجمع بين الصلاتين ، الموهم لعدم جواز الفصل بالوضوء خصوصاً في أوائل الإسلام ، التي لا يمكن ادّعاء كون مثل هذا الحكم معهوداً لديهم.

وأمّا الرواية الأخيرة : فأمرها بالوضوء قبل الجماع للاستحباب لا الوجوب ، كما ستعرفه ، بل وكذا الغسل على احتمال قويّ.

٣١٩

هذا ، مع إمكان أن يكون المراد من الغسل غسل الحيض ، والله العالم.

والأظهر تفريع هذه المسألة على ما هو المختار في المسألة العامّة ، وهي الاجتزاء بكلّ غسل عن الوضوء أو عدمه.

وما ذكرناه وجهاً لكلِّ من القولين في المقام ينهض مؤيّداً لما هو الراجح في تلك المسألة ، وقد عرفت في مبحث الحيض أنّ القول بالاجتزاء مطلقاً لا يخلو من قوّة ، لكنّ الاحتياط لا ينبغي تركه ، فالمقام أولى بمراعاة الاحتياط ؛ لما عرفت من أنّ القول بعدم الاجتزاء فيه بالخصوص لا يخلو عن وجه وإن كان الأوجه خلافه.

ثمّ لا يخفى عليك أنّا لو قلنا بالاجتزاء ، فإنّما يمكن الالتزام به فيما إذا صلّت عقيب الغسل بلا فصلٍ معتدٍّ به بحيث لو كان تكليفها الوضوء مكان الغسل ، لكان وضوؤها في زمان الغسل مبيحاً لتلك الصلاة ، فلو اغتسلت بعد صيرورة الكثيرة قليلةً لرفع حدثها الأكبر ، وأخّرت الصلاة عن غسلها ، عليها أن تتوضّأ لكلّ صلاة ؛ لأنّ ما يوجد بعد الغسل من الحدث الأصغر وهو الاستحاضة القليلة سبب مستقلّ للوضوء ، ولا معنى للاجتزاء عنه بالغسل السابق.

ومن هذا القبيل ما لو اغتسلت في الاستحاضة المتوسّطة بعد طلوع الفجر لصلاة الغداة واستبدلت الكرسف وأخّرت الصلاة ولم تأت بها إلّا بعد زمانٍ معتدٍّ به ، فعليها الوضوء لصلاة الغداة أيضاً كسائر صلواتها ، كما هو ظاهر.

ومن هنا ربما يتخيّل الفرق بين غسل الاستحاضة وسائر الأغسال لو قلنا بكفايتها عن الوضوء بمقتضى الأدلّة العامّة لا خصوص أخبار الباب ؛

٣٢٠