مصباح الفقيه - ج ٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

بالبيت وتصلّي ولم ينقطع منها الدم ، ففعلَتْ ذلك» (١).

وموثّقة زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل عن الباقر عليه‌السلام «أنّ أسماء بنت عميس نفست بمحمد بن أبي بكر ، فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أرادت الإحرام من ذي الحليفة أن تغتسل وتحتشي بالكرسف وتهلّ بالحجّ ، فلمّا قدموا ونسكوا المناسك سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الطواف بالبيت والصلاة ، فقال لها : منذ كم ولدت؟ فقالت : منذ ثمانية عشر يوماً ، فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تغتسل وتطوف بالبيت وتصلّي ولم ينقطع عنها الدم ، ففعلَت ذلك» (٢).

فإنّ هذه الروايات وإن كان ظاهرها أنّ الثمانية عشر يوماً حدّ للنفاس ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أسماء بنت عميس بالاغتسال بعد ثمانية عشر ؛ لانقضاء نفاسها في هذا الحين كما يؤيّد إرادة هذا الظاهر نقل هذه القصّة في الجواب عن حكم النفساء ، ويؤكّده قوله عليه‌السلام في ذيل صحيحة ابن مسلم : «ولا بأس أن تستظهر بيوم أو يومين» (٣) حيث يكشف عن أنّ أمرها بالاغتسال بعد مضيّ ثمانية عشر يوماً ليس أمرَ إلزام ، بل بيان الرخصة ، فيجوز لها التأخير أيضاً بيوم أو يومين لكن مرفوعة عليّ بن إبراهيم وموثّقة الجوهري ، المتقدّمتان (٤) حاكمتان على هذا الظاهر ؛ لما فيهما من التصريح بأنّ حدّ النفاس أقلّ من ثمانية عشر ، وسبب أمر

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٧٩ / ٥١٣ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، ذيل الحديث ١٩.

(٢) التهذيب ١ : ١٧٩ ١٨٠ / ٥١٤ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ١٩.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٣٧٣ ، الهامش (٢).

(٤) في ص ٤٦٣٩.

٣٨١

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الثمانية عشر إنّما هو تأخير سؤالها ، ولو سألته قبل ذلك ، لأمرها بالغسل ، فيستفاد من ذلك أنّ اقتصار الإمام عليه‌السلام في مقام بيان الحكم على نقل قضيّةٍ في واقعة يستظهر منها السائل ما يزعمه بياناً للحكم كان لمصلحة من تقيّة ونحوها ، فكأنّه عليه‌السلام قصد بهذه الروايات التوريةَ ، فالمقصود باستظهارها يوماً أو يومين على هذا التقدير هو الاستظهار الذي صرّح به أبو جعفر عليه‌السلام في موثّقة الجوهري.

وملخّص الكلام : أنّ معارضة هذه الروايات مع المرفوعة والموثّقة من قبيل معارضة النصّ والظاهر ، فلا بدّ من رفع اليد عن الظاهر لأجل النصّ خصوصاً في مثل المقام الذي يكون النصّ بمدلوله اللفظي قرينةً لطرح الظاهر ، ولا سيّما إذا لم يكن ظهور الظاهر مستنداً إلى الوضع ، بل إلى أصالة الإطلاق ، أو السكوت في مقام البيان ، أو الاقتصار على نقل قضيّة مجملة الوجه في مقام الجواب ، فإنّ رفع اليد عن مثل هذا الظاهر بمثل هذا النصّ من أهون التصرّفات في مقام الجمع ، فلا معارضة بينها بحيث يرجع فيها إلى المرجّحات الخارجيّة ، بل ربما يستفاد من مجموع هذه الأخبار مدلولٌ التزاميّ يصلح شاهداً لرفع اليد عن ظاهر بعض الأخبار الآتية ممّا كان ظاهره كون حدّ النفاس ثمانية عشر يوماً ، فإنّه يفهم من هذه الأخبار التي اقتصر فيها في الجواب عن حكم النفساء على نقل قضيّة الأسماء ، التي بيّن تفصيلها في ضمن الروايتين المتقدّمتين وجود المقتضي للتورية ، وإظهار هذا القول المخالف للواقع من تقيّة ونحوها.

كما يؤيّد ذلك إشعار كلام السائل في المرفوعة والموثّقة بمعروفيّة الفتوى بذلك بسبب الرواية المنقولة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصّة أسماء ،

٣٨٢

فلا يبعد أن تكون هذه الفتوى من العامّة ، فاتّقى منهم الإمام عليه‌السلام بإظهار الموافقة في الأخبار التي يستظهر منها التحديد بثمانية عشر.

مثل : ما عن الصدوق في العلل عن حنان بن سدير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : لأيّ علّة أعطيت النفساء ثمانية عشر يوماً ولم تعط الأقلّ ولا أكثر؟ قال : «لأنّ الحيض أقلّه ثلاثة أيّام ، وأوسطه خمسة ، وأكثره عشرة ، فأعطيت أقلّه وأوسطه وأكثره» (١).

وعن العيون فيما كتبه مولانا الرضا عليه‌السلام للمأمون ، قال : «والنفساء لا تقعد عن الصلاة أكثر من ثمانية عشر يوماً ، فإن طهرت قبل ذلك صلّت ، وإن لم تطهر حتى تجاوز ثمانية عشر يوماً اغتسلت وصلّت وعملت بما تعمل المستحاضة» (٢).

ولعلّه إلى ما يستفاد من هذه الأخبار يرجع ما سمعه ابن سنان في الصحيح ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه يقول : «تقعد النفساء تسع عشرة ليلة ، فإن رأت دماً تصنع كما تصنع المستحاضة» (٣).

كما أنّه يمكن تنزيل ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام على ما لا ينافيها.

قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كم تقعد النفساء؟ قال : «ثماني عشرة

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٩١ (الباب ٢١٧) الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ٢٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٥ ضمن حديث طويل ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ٢٤.

(٣) التهذيب ١ : ١٧٧ ١٧٨ / ٥١٠ ، الإستبصار ١ : ١٥٢ ١٥٣ / ٥٣٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ١٤.

٣٨٣

سبع عشرة ثمّ تغتسل وتحتشي وتصلّي» (١). لكن لا يخفى عليك أنّ الترديد واختلاف التعبير وعدم التنصيص في شي‌ء من الأخبار على حكم الثمانية عشر ممّا يؤيّد صدورها تقيّةً ، كما يشهد به الأخبار المتقدّمة بالتقريب الذي عرفته.

وإن أبيت إلّا عن عدم إمكان الجمع بينها بجعل بعضها قرينةً لصرف البعض ، لتحقّقت المعارضة بين هذه الأخبار الظاهرة في كون الحد ثمانية عشر وبين الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّه لا يكون دم نفاس زمانه أكثر من زمان حيض ، وأنّ حدّ النفساء أن تقعد أيّامها التي كانت تطمث فيها ، فإن هي طهرت وإلّا استظهرت بيومين أو ثلاثة ، فإن لم ينقطع الدم ، فهي بمنزلة المستحاضة ، والمتعيّن طرح هذه الأخبار ؛ لقصورها عن المكافئة من جهات ، كما لا يخفى.

نعم ، لو لا مخالفة الإجماع ، لأمكن الجمع بين بعض الأخبار المتقدّمة وهذه الروايات بالالتزام بكون الثمانية عشر حدّ النفاس ، فلو جاوزها الدم ، لرجعت إلى عادتها ، لكن يجوز لها بعد العادة أن تعمل عمل المستحاضة اعتناء باحتمال طهارتها ، كما أنّ لها ترك العبادة اعتناء باحتمال انقطاع الدم قبل بلوغ الحدّ.

لكن يتوجّه على هذا التوجيه مع ما فيه من البُعْد ، ومخالفته لفتاوى الأصحاب : عدم تطرّقه بالنسبة إلى جملة من الأخبار المتقدّمة التي منها موثّقة الجوهري ومرسلة المفيد ، التي لدينا أصحّ من الصحاح.

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٧٧ / ٥٠٨ ، الإستبصار ١ : ١٥٢ / ٥٢٨ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ١٢.

٣٨٤

وأوهن من هذه الأخبار مكافئةً للأخبار المتقدّمة روايةُ الأعمش ، المحكيّة عن الخصال عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «والنفساء لا تقعد أكثر من عشرين يوماً إلّا أن تطهر قبل ذلك ، فإن لم تطهر قبل (١) العشرين اغتسلت واحتشت وعملت عمل المستحاضة» (٢).

وهي مع شذوذها واضطراب متنها ، المشعر بصدورها تقيّةً لا تبلغ مرتبة الحجّيّة فضلاً عن أن يتصرّف بها في ظواهر الأخبار المتقدّمة أو تكافئها في مقام المعارضة.

ثمّ إنّ هاهنا أخباراً كثيرة قد أعرض عنها الأصحاب ، وحملوها على التقيّة.

منها : صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «تقعد النفساء إذا لم ينقطع عنها الدم ثلاثين أو أربعين يوماً إلى خمسين» (٣).

وصحيحة عليّ بن يقطين ، قال : سألت أبا الحسن الماضي عليه‌السلام عن النفساء وكم يجب عليها ترك الصلاة؟ قال : «تدع الصلاة ما دامت ترى الدم العبيط إلى ثلاثين يوماً ، فإذا رقّ وكانت صفرة اغتسلت وصلّت إن شاء الله تعالى» (٤).

وعن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه‌السلام قال : «النفساء تقعد أربعين يوماً ، فإن طهرت وإلّا اغتسلت وصلّت ، ويأتيها

__________________

(١) في الخصال : «بعد» بدل «قبل».

(٢) الخصال : ٦٠٩ / ٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ٢٥.

(٣) التهذيب ١ : ١٧٧ / ٥٠٩ ، الإستبصار ١ : ١٥٢ / ٥٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ١٣.

(٤) التهذيب ١ : ١٧٤ / ٤٩٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ١٦.

٣٨٥

زوجها ، وكانت بمنزلة المستحاضة تصوم وتصلّي» (١).

وعن الفقه الرضوي قال : «والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيّام حيضها وهي عشرة أيّام ، وتستظهر بثلاثة أيّام ثمّ تغتسل ، فإذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة» وقد روي «ثمانية عشر يوماً» وروى «ثلاثة وعشرون يوماً» وبأي هذه الأخبار من باب التسليم أُخذ جاز» (٢).

ويمكن تطبيق صدرها على الطائفة الاولى من الأخبار على تكلّف.

وعن المقنع قال : روي أنّها تقعد ثمانية عشر يوماً.

قال : وروى عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ نساءكم ليس كالنساء الأُول ، إنّ نساءكم أكثر لحماً وأكثر دماً ، فلتقعد حتى تطهر».

قال : وروى أنّها تقعد ما بين أربعين يوماً إلى خمسين يوماً (٣). انتهى.

ولا يبعد أن يكون مراده من الرواية الأخيرة ما روي عن محمد بن يحيى الخثعمي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن النفساء ، فقال : «كما كانت تكون مع ما مضى من أولادها وما جرّبت» قلت : فلم تلد فيما مضى ، قال : «بين الأربعين والخمسين» (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٧٧ / ٥٠٦ ، الإستبصار ١ : ١٥٢ / ٥٢٦ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ١٧.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٩١ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣١٨.

(٣) المقنع : ٥١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الأحاديث ٢٦ ٢٨.

(٤) التهذيب ١ : ١٧٧ / ٥٠٧ ، الإستبصار ١ : ١٥٢ / ٥٢٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ١٨.

٣٨٦

أقول : احتمال التورية في هذه الرواية قويّ جدّاً حيث إنّه عليه‌السلام أجمل حكمها أوّلاً وقال : «كما كانت تكون مع ما مضى من أولادها» ولمّا قال السائل : لم تلد فيما مضى ، قال : «بين الأربعين والخمسين» فلا يبعد أن يكون مقصوده عليه‌السلام من التحديد بما بين الأربعين والخمسين التحديد بالعشرة الواقعة بينهما ، فمراده أنّ النفاس لا يتجاوز العشرة.

ونظير هذه الأخبار روايةُ ليث المرادي ، المتقدّمة في صدر المبحث (١) ، الدالّة على أنّه ليس للنفاس حدّ ، وقد عرفت بُعْد حملها على إرادة نفي الحدّ من طرف القلّة ؛ لمخالفته لظاهر السؤال ، اللهم إلّا أن يكون توريةً لأجل التقيّة.

وممّا يؤيّد كون هذه الأخبار بأسرها تقيّةً ما عدا الأخبار الآمرة بالرجوع إلى عادتها : شدّة الحاجة إلى التقيّة بالنسبة إلى النفساء التي لا يختفى أمرها غالباً ، بل يطّلع على عملها عادة لو عملت عمل المستحاضة أغلب نسائها.

وكيف كان فهذه الأخبار ممّا يجب ردّ علمها إلى أهله ، والمتعيّن في المقام هو الأخذ بمفاد الأخبار المتقدّمة الآمرة بالرجوع إلى عادتها ، التي عرفت دلالتها بواسطة جملة من القرائن الداخليّة والخارجيّة على كون النفاس كالحيض من حيث العدد ، كما صرّح به في مرسلة المفيد ، فيختصّ النفاس بأيّام العادة لو تجاوز العشرة ، وإلّا فالكلّ نفاس.

فما يظهر من بعضٍ (٢) من أنّ الدم المتجاوز عن العادة مطلقاً

__________________

(١) في ص ٣٥٧.

(٢) انظر : جواهر الكلام ٣ : ٣٨٦.

٣٨٧

استحاضة ، يردّه الأخبارُ الآمرة بالاستظهار ، وغيرها ممّا يستفاد منه كونه كالحيض ، مع أنّه لا يبعد مخالفته للإجماع ، كما يظهر ذلك من الشيخ في محكيّ الخلاف (١) والتهذيب.

فعن التهذيب أنّه قال بعد نقل عبارة المفيد ، المتقدّمة ـ : المعتمد في هذا أنّه قد ثبت أنّ ذمّة المرأة مرتهنة بالصلاة والصوم قبل نفاسها بلا خلاف ، فإذا طرأ عليها النفاس ، يجب أن لا يسقط عنها ما لزمها إلّا بدلالةٍ ، ولا خلاف بين المسلمين أنّ عشرة أيّام إذا رأت الدم من النفاس ، وما زاد على ذلك مختلف فيه ، فلا ينبغي أن تصير إليه إلّا بما يقطع العذر ، وكلّ ما ورد من الأخبار المتضمّنة لما زاد على عشرة أيّام فهي أخبار آحاد لا تقطع العذر أو خبر خرج عن سببٍ أو لتقيّة (٢). انتهى.

وعلى تقدير عدم كونه إجماعيّاً فالظاهر عدم القول بالفصل بين اليوم واليومين والثلاثة بعد العادة وما بعدها إلى العشرة بجعل اليوم واليومين والثلاثة نفاساً إن انقطع الدم عليها ، كما يدلّ عليه الأخبار الآمرة بالاستظهار دون ما عداها من الأيّام وإن لم يبلغ العشرة. وعلى تقدير وجود القول به فقد ظهر ضعفه فيما مرّ.

نعم ، ربما يقال في المقام : إنّه لا يستفاد من الأخبار المتقدّمة إلّا عدم مجاوزة نفاس ذات العادة العدديّة عن العشرة ؛ لكونها هي التي أُريدت من تلك الأخبار بقرينة الأمر بالرجوع إليها.

__________________

(١) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ١٧٩ ، وانظر : الخلاف ١ : ٢٤٣ ٢٤٤ ، المسألة ٢١٣.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٦٦ ، وانظر : التهذيب ١ : ١٧٤ ١٧٥.

٣٨٨

ودعوى أنّه يستفاد منها أنّ مدّة النفاس لا تزيد مطلقاً عن العشرة ولو في المبتدئة والمضطربة ، فمستندها ليس إلّا مجرّد استبعاد كون نفاس ذات العادة عشرةً فما دون ، وكون الثمانية عشر مثلاً حدّا لنفاس غيرها ، فلا يلتفت إليه في الأحكام الشرعيّة التوقيفيّة ، فينزّل الأخبار الدالّة على كون الحدّ ثمانية عشر على غير ذات العادة.

وأمّا مرسلة المفيد الدالّة على أنّه لا يكون دم النفاس زمانه أكثر من زمان حيض إمّا مطروحة ؛ لضعف سندها أو قصورها عن المكافئة ، أو محمولة على إرادة بيان الحكم في الأفراد الغالبة من كونها ذات العادة ، كما يشعر بكونها الأفراد الغالبة الأمرُ بالرجوع إليها في الأخبار المتقدّمة في الجواب عن السؤال عن حكم المستحاضة مطلقاً.

إن قلت : فعلى هذا كيف يحمل إطلاق ما دلّ على أنّها تقعد ثمانية عشر على إرادة تلك الأفراد مع ندرتها!؟

قلت : عمدة المستند لهذا القول روايتا العلل والعيون ، المتقدّمتان (١) ، وليس في شي‌ء منهما إطلاق حتى يستبعد تنزيله على الفرد النادر ؛ لأنّ مفاد أُولاهما ليس إلّا كون أكثر النفاس ثمانية عشر ككون أكثر الحيض عشرةً ، وثانيتهما صرّحت بأنّ النفساء لا تقعد أكثر من ثمانية عشر ، وليس فيها دلالة على أنّها تقعد ثمانية عشر مطلقاً.

وأمّا الأخبار المستفيضة الظاهرة في ذلك ؛ لاكتفاء الإمام عليه‌السلام عن بيان حكم النفساء بذكر قصّة أسماء فهي خارجة بسببٍ خاصّ أو لتقيّةٍ ، كما نبّه عليه الشيخ في العبارة المتقدّمة (٢) عن التهذيب.

__________________

(١) في ص ٣٧٦ وما بعدها.

(٢) في ص ٣٨١.

٣٨٩

ويشهد له الروايتان (١) الواردتان في الردع عن الاستشهاد بها ، فلا يصحّ الاستدلال بهذه الأخبار لهذا القول.

اللهم إلّا أن يقال بعدم التنافي بدعوى أنّ المقصود بالروايتين رفع توهّم الراوي بل أكثر الناس في ذلك الزمان بثبوت الثمانية عشر حتى للمعتادة ، فأجابه عليه‌السلام بعدم دلالة ذلك على ثبوت الثمانية عشر مطلقاً ، ولذا لمّا سأله الراوي في رواية المنتقى (٢) اقتصر على بيان أنّ المعتادة تأخذ عادتها ، فيكشف ذلك عن اهتمامه عليه‌السلام بردعهم عن العمل بقضيّة أسماء في المعتادة التي هي أغلب أفراد النفساوات.

والمحصّل من ذلك كلّه : أن ليس في روايات الردع عن العمل بقضيّة أسماء إلا رفع الإيجاب الكلّي ، والمتيقّن منه الردع بالنسبة إلى المعتادة دون غيرها التي يخصّص بها عموم ما دلّ على الثمانية عشر.

إن قلت : على هذا التقدير إن كانت الأسماء معتادةً ، فلا وجه للاستشهاد بقضيّتها لغير المعتادة ، وإن كانت غير معتادة ، كان ما دلّ على الردع عن العمل بقضيّة أسماء معارضاً لما دلّ على الثمانية عشر.

قلت : لنا أن نختار الأوّل ونقول : إنّ الاستشهاد بها لغير المعتادة لمجرّد اشتهارها بين الناس ، وكونها مستندةً مأثورةً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ مولانا أبا جعفر عليه‌السلام كثيراً ما يسند الحكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليقع الحكم في قلوب الخاصّة والعامّة ، ولذا كان عليه‌السلام قد يسند الحكم إلى جابر بن عبد الله الأنصاري (٣) ، فظهر بذلك كلّه صحّة التمسّك لهذا القول بأخبار

__________________

(١) أي : مرفوعة علي بن إبراهيم وموثّقة الجوهري ، المتقدّمتان في ص ٣٦٩.

(٢) المتقدّمة في ص ٣٧٠.

(٣) انظر : الكافي ٧ : ١١٣ / ٣ ، والتهذيب ٩ : ٣٠٩ / ١١٠٦.

٣٩٠

هذه القضيّة ، وعدم التنافي بينها.

هذا كلّه ، مضافاً إلى عموم أدلّة النفاس والنفساء بناءً على صدقه عرفاً بعد العشرة وعدم ثبوت حقيقة شرعيّة له.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تأييد هذا القول ، أعني التفصيل بين ذات العادة وغيرها.

وقد بالغ شيخنا المرتضى رحمه‌الله في تشييده إلى أن قال : فالإنصاف أنّ هذا القول لا يقصر في القوّة عن القول المشهور إلّا أنّ الشهرة المحقّقة ونقل الإجماع عليه خصوصاً مع ما قيل من رجوع السيّد والمفيد عنه تمنع من مخالفته ، فالعمل عليه ، والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه بالجمع بعد العشرة بين وظيفتي النفساء والمستحاضة (٤). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

لكنّ الإنصاف أنّ هذا القول أضعف الأقوال بل أوهن الاحتمالات ، ولا يبعد مخالفته للإجماع حيث لم ينقل ذلك من أحد عدا العلّامة في المختلف (٥) ، واستحسنه في التنقيح (٦).

وأمّا السيّد والمفيد فلم يذهبا إلى ذلك ، كما يظهر من عبارة الشيخ رحمه‌الله ؛ إذ القول المعروف عنهما هو القول بكون الحدّ ثمانية عشر مطلقاً. وقد قيل : إنّهما رجعا عن هذا القول ، لكن لمّا كان عمدة مستند هذا التفصيل على ما زعمه قدس‌سره هي روايتا العلل والعيون ، اللتين ادّعي انجبار ضعفهما بعمل مثل السيّد والمفيد كان رجوعهما عن قولهما موهناً للمستند ، فإسناد هذا القول إليهما إنّما هو باعتبار موافقتهما فيه في

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٢٦٨.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٢١٦ ، المسألة ١٥٧.

(٣) التنقيح الرائع ١ : ١١٤.

٣٩١

الجملة.

وكيف كان فيرد عليه أوّلاً : أنّه لم يعلم استناد السيّد وغيره ـ من القائلين بكون الحدّ ثمانية عشر إلى هاتين الروايتين ، بل العمدة لديهم ـ على الظاهر الأخبار المعتبرة الواردة في قضيّة أسماء ، كما يكشف عن ذلك استدلال العلماء بها لهذا القول ، ومجرّد مطابقة عملهم لمدلول الرواية لا يكفي في الانجبار.

وثانياً : أنّ مفاد هاتين الروايتين كغيرهما من الأخبار الواردة في قضيّة أسماء كون الثمانية عشر حدّا للنفساء مطلقاً ، وتنزيلهما على غير ذات العادة تنزيل على الفرد النادر باعتراف الخصم.

ودعوى أنّه لا إطلاق في الروايتين ، يدفعها : أنّ رواية العلل كادت أن تكون صريحةً في العموم فضلاً عن الإطلاق حيث قال الراوي : لأيّ علّة اعطيت النفساء ثمانية عشر يوماً لا أقلّ ولا أكثر؟ وقد قرّره الإمام عليه‌السلام فيما قال ، وعلّله بعلّةٍ تعبّديّة ظاهرة في عموم الإعطاء ، فلو كان هذا التفصيل حقّا ، لكان ما أُعطيت النفساء في الغالب أقلّ ، كما لا يخفى.

ورواية العيون أيضاً ظاهرها كونها مسوقةً لبيان حكم النفساء ، وأنّ مفهوم قوله عليه‌السلام : «لا تقعد النفساء أكثر من ثمانية عشر يوماً» أنّها تقعد هذا الحدّ مطلقاً.

ولو بنينا على إهمالها من حيث المفهوم ، لما تمّ الاستدلال بها لإثبات حدّ النفاس من حيث هو حتى يدّعى أنّ القدر المتيقّن من موردها غير المعتادة ؛ ضرورة أنّ مفهومها على هذا التقدير ليس إلّا أنّ النفساء يجوز لها القعود إلى الثمانية عشر في الجملة ، فمن الجائز أن يكون مورد الجواز ما إذا مسّت الحاجة إليها لأجل التقيّة ، وحيث إنّ التقيّة تتأدّى

٣٩٢

بثمانية عشر ولو لأجل القضيّة المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المعروفة بين الخاصّة والعامّة فلا تقعد أكثر من ثمانية عشر.

والحاصل : أنّ دعوى إهمال الروايتين بعد تسليم سندهما وسلامتهما عن المعارض ، ضعيفة جدّاً.

وأضعف منها دعوى عدم التنافي بين الاستدلال بالأخبار الواردة في قضيّة أسماء ، الظاهرة في كون الحدّ ثمانية عشر والروايتين المانعتين من الاستدلال بهذه القضيّة ؛ ضرورة أنّ الاستدلال بها يناقض الردع عنه والاهتمام ببيان عدم كونها دليلاً.

ودعوى : أنّ الاستدلال صوريّ لا حقيقة له ، فكأنّ الإمام عليه‌السلام أراد إثبات مدّعاه بدليلٍ باطل حتى يقع في قلوب الناس بعد تسليم جوازه يرد عليها :

أوّلاً : أنّ الالتزام به ليس بأولى من الالتزام بصدور هذه الأخبار تقيّةً.

وثانياً : أنّ دلالة هذه الأخبار على التحديد بثمانية عشر إنّما هي لاستفادته من أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في القضيّة التي نقلها الإمام عليه‌السلام بياناً لحكم المستحاضة لا غير حيث لم يذكر الإمام عليه‌السلام في الجواب شيئاً وراء ذلك كي يفهم منه التحديد ، وقد منع عليه‌السلام في ضمن الروايتين المتقدّمتين دلالة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه القضيّة على التحديد ، فكيف يبقى له بعد المنع والمناقشة في دلالته ظهور في التحديد حتى يقتصر في تخصيصه على القدر المتيقّن!؟

نعم ، لو حدّده أوّلاً بثمانية عشر ثمّ علّله بذكر القضيّة ، لكان للتوهّم المذكور مجال بدعوى ظهور الحكم المعلّل له في ثبوت النسبة في

٣٩٣

الواقع ، واستكشاف عدم كون التعليل تعليلاً واقعياً بدليلٍ خارجيّ لا يمنع من ظهور الكلام المعلّل له في إرادة الحكم الواقعي ؛ لأنّ بطلان الدليل لا يستلزم فساد المدّعى وإن كانت هذه الدعوى أيضاً مدفوعة : بأنّ ظاهر التعليل كون العلّة هي السبب لإثبات الحكم المعلّل له ، فإذا تبيّن كونه تعليلاً صوريّاً ، لم يبق للمعلّل له ظهور في إرادة الواقع.

نعم ، لا ملازمة بين فساد الدليل وبطلان المدّعى ، لكنّ الكلام في بقائه على ظاهره بعد العلم بعدم إرادته من التعليل حقيقةً ، فليتأمّل.

وكيف كان فليس لهذا التوهّم مجال في مثل هذه الأخبار التي لم يتعرّض فيها إلّا لنقل القضيّة ، فكأنّه عليه‌السلام لم يرد في هذه الأخبار إلّا إثبات أنّ النفساء لا تقعد أكثر من ثمانية عشر كما يزعمه العامّة ، استشهاداً بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأسماء ، وأمّا إثبات أنّها تقعد ثمانية عشر فلم يقصده بذلك كي يتوجّه عليه النقض بعدم الدلالة على ما صرّح عليه‌السلام به في الروايتين المتقدّمتين ، فلا يبعد أن يكون إعراضه عن جواب السائل كما هو حقّه والاقتصار على بيان عدم قعودها أكثر من ثمانية عشر لمصلحةٍ من تقيّة ونحوها ، أو كان المعهود لديهم أنّ المقصود بالسؤال تعيين أحد الأعداد التي تشتّتت فيها أقوال المخالفين من ثلاثين وأربعين وخمسين وستّين ، فأراد الإمام عليه‌السلام أن يبيّن إجمالاً بطلان جميع هذه الأقوال بحيث يسلّمه الخصم بنقل قضيّة أسماء ، والله العالم.

وثالثاً : سلّمنا عدم صلاحيّة الروايتين لصرف ظهور هذه الروايات في إرادة التحديد بثمانية عشر واقعاً ، لكن نقول : كيف يجوز لنا الاعتماد على هذا الظاهر بعد العلم بخروج أغلب أفرادها الشائعة التي منها مورد القضيّة المعلّل بها!؟.

٣٩٤

وكيف كان فهذه الدعوى من الضعف بمكان.

ويتلوها في الضعف دعوى قصور الأدلّة السابقة عن إثبات الحكم في غير ذات العادة ؛ فإنّ منها مرسلة المفيد ، المصرّحة بأنّه لا يكون دم نفاسٍ زمانه أكثر من زمان حيض ، وقد عرفت أنّها أقوى من الصحيحة حيث إنّ ظاهر إرسال المفيد القول عن الصادق عليه‌السلام من دون إسناده إلى روايةٍ ثبوتُه لديه على سبيل القطع ، فيكون بمنزلة رواية ادّعى تواترها. ويؤيّد هذا الظاهر تقديمه على ما يعارضه من الأخبار المعتبرة.

وأمّا سائر الأخبار الآمرة بالأخذ بعادتها فلا تقصر أيضاً عن إفادة المطلوب ؛ فإنّه إذا قيل في الجواب عن السؤال عن مقدار قعود النفساء مطلقاً : تقعد قدر حيضها ، أو أيّامها التي كانت تحيض ، أو عدد أيّامها التي كانت تجلس في الحيض ، يفهم منه عرفاً ولو لأجل المناسبات المغروسة في الأذهان ارتباط النفاس بالحيض ، وأنّ عدد النفاس لا يزيد عن عدد الحيض ، وأنّها لو كانت مضطربةً ، فلا يزيد نفاسها عن أقصى أيّام حيضها ، وأنّ نفاس المبتدئة لا يزيد عن أقصى ما يمكن أن يكون حيضها ، فتخصيص الرجوع إلى العادة بالذكر في الروايات مع إطلاق السؤال ؛ للجري على الغالب.

وما قيل من أنّ إلحاق المبتدئة والمضطربة بذات العادة في الحكم المستفاد من الأخبار منشؤه مجرّد استبعاد الفرق بينهما ، مدفوع : بأنّ الاستبعاد المذكور أمر مغروس في ذهن كلّ أحد منشؤ لتعميم الحكم المستفاد من الدليل ، وعدم قصره على الموضوع المذكور في القضيّة خصوصاً مع إطلاق السؤال ، كما يكشف عن ذلك فهم المشهور ؛ إذ لولا الدلالة لما استفادوا منها ذلك ، وهل حال المخاطبين في فهم المراد من

٣٩٥

الألفاظ إلّا كحال هذه الأعلام؟ فلا ينبغي في مثل المقام الالتفات في تشخيص المفاهيم العرفيّة إلى الخدشات الطارئة من بعض المدقّقين من المتأخّرين.

وكيف كان فلا يهمّنا الإطناب في هذا المقام بعد الاعتماد على مرسلة المفيد ، والله العالم بحقائق أحكامه.

وقد ظهر لك في مطاوي كلماتنا السابقة تلويحاً وتصريحاً أنّ النفساء حكمها حكم الحائض في الرجوع إلى عادتها وفي الاستظهار بعدها وجوباً أو جوازاً ، لكنّ الأحوط ترك الاستظهار بأزيد من الثلاثة وإن جوّزناه في الحائض ، والأولى اقتصارها على يومٍ إلّا أن يغلب على ظنّها الانقطاع فيما بعده ، فتستظهر بيومين أو ثلاثة.

وأمّا المبتدئة والمضطربة التي لم تستقرّ لها عادة ولو بالنسبة إلى أكثر حيضها من حيض القدر المتيقّن الذي لا يزيد عليه ، فتتنفّس إلى العشرة ، فإن انقطع الدم ، وإلّا فهي مستحاضة.

وقيل (١) برجوعهما إلى أوصاف الدم وإلى الروايات كالحائض.

وفيه : ما عرفت في محلّه من أنّ الرجوع إلى أوصاف الدم وإلى الروايات من الأحكام التعبّديّة التي يجب الاقتصار فيها على موردها. وكون النفاس حيضاً محتبساً لا يجدي في الرجوع إلى الأوصاف أو الروايات بعد انصراف أدلّتها عنه.

نعم ، لو استمرّ بها الدم بعد أيّام نفاسها إلى أن تجاوز أقلّ الطهر ، تعمل بما هو وظيفة المستحاضة من الرجوع إلى أوصاف الدم وغيرها ،

__________________

(١) القائل هو الشهيد في البيان : ٢٢.

٣٩٦

كما أنّ ذات العادة أيضاً بعد حصول الفصل بأقلّ الطهر ترجع إلى عادتها ، فتدع الصلاة أيّام أقرائها ، كما هو ظاهر.

لكن لو قيل برجوع المبتدئة والمضطربة في نفاسها إلى عادة نسائها بعد أن استظهرت إلى العشرة ولم ينقطع عنها الدم بأن تقضي ما فاتها من العبادات الواجبة عليها ؛ لكان أحوط ؛ نظراً إلى قول الصادق عليه‌السلام في موثّقة أبي بصير : «النفساء إذا ابتليت بأيّام كثيرة مكثت مثل أيّامها التي كانت تجلس قبل ذلك ، واستظهرت بمثل ثلثي أيّامها ثمّ تغتسل وتحتشي وتصنع كما تصنع المستحاضة ، وإن كانت لا تعرف أيّام نفاسها فابتليت جلست بمثل أيّام أمّها أو أُختها أو خالتها واستظهرت بثلثي ذلك ثمّ صنعت كما تصنع المستحاضة تحتشي وتغتسل» (١) بناءً على إرادة أيّام الحيض من أيّام نفاسها ، وكونه محمولاً على ما لم يتجاوز المجموع العشرة كي يخالف الإجماع ، وحيث لا وثوق بشي‌ء من البناءين ؛ لقوّة احتمال كونه كسائر الأخبار المتقدّمة صادراً عن سببٍ يشكل الاعتماد عليه في إثبات حكمٍ شرعيّ خصوصاً مع شذوذه ، والله العالم.

(ولو كانت حاملاً باثنين) مثلاً (وتراخت ولادة أحدهما ، كان ابتداء نفاسها من [وضع] الأوّل ، وعدد أيّامها من وضع الأخير) لأنّ كلّاً من الولادتين سبب تامّ لكون دمها إلى عشرة أيّام نفاساً ، ومقتضاه أن يدخل ما بقي من أيّام نفاس الأوّل في عدد الأخير إن لم يتخلّل بينهما عشرة أيّام ، وإلّا كان عدد كلٍّ مستوفى تامّاً مستقلا من غير تداخل ، فقد يكون

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٣ / ١٢٦٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث ٢٠.

٣٩٧

حينئذٍ جلوسها عشرين يوماً ، كما إذا وضعت الثاني عند انقضاء العشرة من يوم وضعت الأوّل ، ولا ينافيه كون أكثر النفاس عشرة ؛ لأنّهما نفاسان مستقلّان.

ولو تأخّرت ولادة الثاني عن العشرة ، كان ما بعدها إلى ولادة الثاني طهراً ، وبعد الولادة نفاساً.

وما استشكله بعضٌ (١) لولا الإجماع في المسألة فيما لو كان الفصل بين النفاسين بأقلّ من عشرة أيّام ؛ نظراً إلى كون النفاس عندهم كالحيض في الأحكام فلا يكون الفصل بينهما بأقلّ منها ، بل مقتضى كون النفاس حيضاً محتبساً ـ كما يظهر من تصريحاتهم وتلويحاتهم عدم كون الطهر المتخلّل بين النفاسين أقلّ من عشرة أيّام ، كما يكشف عن ذلك حكمهم بلحوق أيّام النقاء المتخلّل بين نفاسٍ واحد بأيّام الدم كما في الحيض ؛ استناداً إلى أنّ الطهر لا يكون أقلّ من عشرة ، مدفوع : بأنّ عدم كون الطهر أقلّ من عشرة ليس من أحكام الحيض ، بل هو من شرائط إمكان كون الثاني حيضاً ، وقد عرفت فيما سبق اختصاص هذا الشرط بالحيض دون النفاس. وكونه حيضاً محتبساً لا يقتضي اشتراطه بسبق الطهر.

نعم ، مقتضى كون النفاس حيضاً محتبساً أن لا ترى المرأة بعد إطلاق هذا الدم وخروجه من الحبس وقذف الطبيعة إيّاه حيضاً آخر إلا بعد الفصل بأقلّ الطهر الذي هو أيّام اجتماع الدم في الرحم ، كما أنّ مقتضاه كون ما تقذفها من الدم بالطبع قبل انقضاء العشرة من الحيضة الأُولى ،

__________________

(١) راجع كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري ـ : ٢٧٢.

٣٩٨

وليس مقتضاه أن لا ترى نفاساً آخر ، فإنّ بقاء الولد الثاني سبب لحبس الدم لأجله كالأوّل ، فيخرج بخروجه ما كان محبوساً له ، فلا يتوقّف ذلك على مضيّ زمان الطهر.

وكيف كان فلا دليل على اشتراط هذا الشرط بين النفاسين.

وما يقال من أنّ إلغاء هذا الشرط بعد إجماعهم على مساواة الحائض والنفساء في الحكم يحتاج إلى الدليل لا اشتراطه ، مدفوع : بما عرفت من أنّ سبق أقلّ الطهر إنّما هو من شرائط تحقّق موضوع الحيض لا من الأحكام حتى يعمّه معقد إجماعهم على المساواة خصوصاً مع تصريح المجمعين في المقام بعدم الاشتراط.

نعم ، الحكم بكون النقاء المتخلّل بين حيضةٍ واحدة حيضاً من آثار حيضيّة الدم اللاحق ، وكونه من الحيضة الأُولى ، ولذا نلتزم بمثله في المقام ، وهذا بخلاف ما نحن فيه.

وكيف كان فلا ينبغي الاعتناء بمثل هذه الاستشكالات خصوصاً مع كون الحكم إجماعيّاً ، كما يظهر من غير واحد.

وأوهن من هذا الإشكال ما عن المصنّف في المعتبر من التردّد في نفاسيّة الأوّل ؛ لأنّها حامل ولا حيض ولا نفاس مع حَمْلٍ (١).

وفيه أوّلاً : ما عرفت من أنّ الأظهر إمكان اجتماع الحيض مع الحمل.

وثانياً : اختصاص ما دلّ على المنع بالحيض. وكونه حيضاً محتبساً

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٣ : ٣٩٢ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٥٧.

٣٩٩

لا يجدي في مدّعاه بعد انصراف الدليل عنه.

وهل يلحق بالتوأمين الولد الواحد إذا وضعته قطعةً قطعةً بأن انفصلت أعضاؤه فخرجت تدريجاً؟ فيه تردّد.

والأقرب : الإلحاق إذا كان خروج كلّ قطعة بنظر العرف بمنزلة ولادةٍ مستأنفة ، وإلّا فالمجموع نفاس واحد ابتداؤه من أوّل ظهور الجزء الأوّل ، كما لو طالت مدّة وضعها.

اللهم إلّا أن يقال في مثل الفرض أيضاً : إنّ استيفاء العدد إنّما هو من وضع الجزء الأخير وابتداءه من أوّل ظهور الجزء الأوّل ، كما ربما يؤيّده ظاهر تعبيراتهم في مثل المقام.

لكنّك خبير بما فيه بعد قضاء العرف بل العقل بكون المجموع نفاساً واحداً.

ثمّ إنّه حكي (١) عن شارح الروض (٢) وغيره أنّهم ذكروا أنّه تترتّب الثمرة على تعدّد النفاسين ما لو ولدت الثاني لدون عشرة من ولادة الأوّل ولم تر بعد ولادة الأوّل إلّا يوماً واحداً ، وانقطع في باقي الأيّام المتخلّلة بينهما ، فإنّه يحكم بكونها طهراً وإن رأت بعد ولادة الثاني في العشرة وانقطع عليها ، بخلاف ما لو كان نفاساً واحداً ، كما يوهمه ظاهر المتن وغيره ، فإنّه يلزم كون الدمين والنقاء المتخلّل بينهما نفاساً ، كما ستعرفه ، وظاهرهم أنّ اللازم من تعدّد النفاس كون الدم بعد ولادة الثاني محسوباً

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٧٢ ، وانظر : روض الجنان : ٩١ ، وذخيرة المعاد : ٧٩ ، والحدائق الناضرة ٣ : ٣٢٣ ، وحاشية الروضة : ٧٣.

(٢) في «ص ٦ ، ٨» والطبعة الحجريّة : الروضة. والصحيح ما أثبتناه.

٤٠٠