تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

ـ تعليقة ـ

بعد ما اتّفقوا على أنّ الأمر له مدلول باعتبار الهيئة الموضوعة له بالنوع وهو الوجوب على المختار ، ومدلول باعتبار المادّة الموضوعة له بالشخص وهو الحدث ، إختلفوا في أنّ ذلك المدلول باعتبار تعلّق المدلول الأوّل به هل هو طبيعة الحدث أو فرد منها وقد يعبّر بالجزئي المطابق لها ، وربّما يوصف بالحقيقي؟ على قولين فعن الأكثر مصيرهم إلى الأوّل.

وعن جماعة منهم التوني والحاجبي ذهابهم إلى الثاني ، وعليه المصنّف على ما يوهمه كلامه في بحثي اجتماع الأمر والنهي والمفرد المعرّف باللام.

وعن القطب الشيرازي كونه المشتهر بين العامّة.

وربّما يوجّه الخلاف بما يقضي بخروجه لفظيّا من حمل القول الأوّل على إرادة كون المتعلّق أوّلا وبالذات هو الطبيعة لا بشرط.

والقول الثاني على إرادة كونه ثانيا وبالعرض هو الفرد.

وربّما يقال بتفرّع النزاع على وجود الكلّي الطبيعي في الخارج وعدمه ، وقيل أيضا بأنّ النزاع إنّما نشأ عن عدم التميّز بين الماهيّة لا بشرط والماهيّة بشرط لا ، على ما فهمه شارح الشرح من عبارة العضدي وقرّره.

والظاهر رجوع النزاع إلى متعلّق الأمر في المراد لا في الوضع واللغة ، كما تنبّه عليه بعض الأعلام مصرّحا : « بأنّ القائل بكون المطلوب هو الفرد لا ينكر كون المطلوب هو الماهيّة لا بشرط بحسب اللغة والعرف ، إلاّ أنّه يزعم قيام القرينة على خلاف ذلك من جهة العقل » لا لما استشهد به ـ وقررّه بعض الأجلّة ـ من أنّهم لا ينكرون ذلك في شيء من الموارد ، مثل قولهم في بحث المرّة والتكرار والفور والتراخي : « بأنّ الأمر لا يقتضي إلاّ طلب الماهيّة » فإنّ ذلك قابل للتوجيه بما لا ينافي إرادة الفرديّة ، كما تقدّم في بحث المرّة

٣٠١

من جواز حمل الماهيّة على ذات الشيء وحقيقته ، فيشمل الحقيقة الشخصيّة أيضا ، وإنّما اطلقت عليها لقبولها كلاّ من وصفي المرّة والتكرار ووصفي الفور والتراخي كالكلّيّة.

بل لاحتجاجهم على هذا القول باستحالة الطلب لولا تعلّقه بالفرد ـ على ما سيأتي تقريره مفصّلا ـ ولا ريب أنّه يوجب تعيّن المراد لا الموضوع له كما لا يخفى.

مضافا إلى اتّفاقهم على كون موادّ الأفعال وغيرها من المشتقّات وضعا للطبائع على ما ادّعاه السكّاكي في كلام محكيّ عنه ـ من أنّ الخلاف في أنّ اسم الجنس هل هو موضوع للماهيّة أو للفرد المنتشر في غير المصادر الغير المنوّنة ، وأمّا فيها فالإجماع واقع على أنّها الطبيعة من حيث هي ، والوضع الطارئ للصيغة لا يوجب تبدّل المعنى المادّي وإلاّ لعرى وضع المادّة عن الفائدة ، ولو فرض ذلك راجعا إلى المادّة مع قطع النظر عن الهيئة العارضة لها للزم النقل أو الاشتراك ، بدعوى وضعها تارة للطبيعة إذا تحقّقت في ضمن صيغ سائر الأفعال ، وللمفرد منها إذا تحقّقت في ضمن فعل الأمر والكلّ بعيد لا يصغى إليها مع مخالفتها الاصول.

فعلى هذا يتناول النزاع لمثل « يجب كذا » و « أمرتك بكذا » و « أنت تفعل كذا » بل لما ثبت الحكم الشرعي لموضوعه بالإجماع ونحوه ، فلذا يعبّر عن العنوان في كثير من المواضع بتعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد.

فاحتجاج الأكثر لمختارهم بالتبادر ونحوه ، وما حكى عن السكّاكي من الاتفاق على وضع المصادر ليس على ما ينبغي كما لا يخفى.

وعلى أيّ حال كان فمرادهم بالماهيّة هي الأمر المشترك بين الأفراد وبالجزئي المقابل لها فردّ مّا من الأفراد الممكنة لها على ما فسّره شارح الشرح ، فيرجع العنوان حسبما قرّرناه إلى أنّ الأمر بأيّ صيغة أطلق فهل يراد منه نفس الماهيّة أو فرد مّا منها؟

وتحقيق القول في المسألة مبنيّ على النظر في وجود الكلّي الطبيعي وعدمه ، لما عرفت من القول بتفرّع النزاع على الخلاف في تلك المسألة.

قال الشيخ البهائي : ومنشأ النزاع الاختلاف في وجودها لا بشرط ، وقضيّة ذلك أنّ من قال بوجودها في الأعيان قال بالأوّل ، ومن قال بالعدم قال بالثاني.

فنقول : لا خلاف في عدم وجود الماهيّة بنفسها وهي الّتي يعرضها الكلّي المنطقي ـ وهو عدم امتناع فرض صدق الشيء على الكثيرين ـ المعبّر عنها مجرّدة بالكلّي الطبيعي

٣٠٢

ومقيّدة بالكلّي العقلي (١).

وأمّا وجودها بعين وجود الأفراد بحيث يكون الفرد الموجود الخارجي عين الماهيّة الكلّية ، أو في ضمن وجود الأفراد بحيث يكون جزءا من الأفراد الخارجيّة ، وعدم وجودها مطلقا ، ففيه خلاف ، يظهر الأوّل عن المصنّف في كلام محكيّ عنه (٢) في الحاشية على حكمه بكون الاستعمال في اللفظ الموضوع للمعنى الكلّي في خصوص الجزئي مجازا ، عند ردّ احتجاج من يزعم صيغة « افعل » للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، فقال : « هذا الحكم واضح عند من لا يقول بأنّ الكلّي الطبيعي موجود بعين وجود أفراده ، وأمّا على هذا القول ـ وهو الأظهر ـ فوجه المجازيّة » ... إلى آخره.

ويستفاد ذلك عن شارح الشرح أيضا حيث قال : « والحقّ وجودها في الأعيان لكن لا من حيث كونها جزءا من الجزئيّات المحقّقة على ما هو رأي الأكثرين ، بل من حيث إنّه يوجد شيء يصدق هي عليه ، وقد تكون عينه بحسب الخارج وإن تغايرا بحسب المفهوم ».

والثاني منسوب إلى المحقّقين ويستفاد عن كلام محكيّ عن الشيخ في الشفاء ، وهو ـ على ما في حاشية الزبدة من مؤلّفها ـ قوله : « والحيوان بشرط أن لا يكون معه شيء آخر لا وجود له في الخارج ، وأمّا الحيوان لا بشرط فله وجود في الأعيان ، فإنّه في حقيقته بلا شرط وإن كان معه ألف شرط يقارنه من الخارج ، فالحيوان بمجرّد الحيوانيّة موجود في الأعيان وليس ذلك يوجب عليه أن يكون مفارقا ، بل الّذي هو في نفسه خال عن الشرائط اللاحقة موجود في الأعيان وقد اكتنفه من خارج شرائط وأحوال ، فهو في حدّ وحدته الّتي هو بها واحد من تلك الجهة هو حيوان مجرّد بلا شرط شيء آخر » انتهى.

والثالث معروف ، وأوسط الأقوال أوسطها ، فإنّ الكلّي الطبيعي ـ على ما يساعده التحقيق ـ موجود في الأعيان وفي ضمن الجزئيّات.

لنا على ذلك : قضاء الوجدان بأنّ كلّ شخص فيه من الماهيّة ما لو قطع (٣) النظر عن

__________________

(١) وإن شئت تصوير هذه الأقسام فقسها على مفهوم لفظة « قائم » مثلا فإنّ هنا وصفا وذاتا ، والذات قد تلاحظ مجرّدة عن عروض ذلك الوصف وقد تلاحظ معروضة لذلك الوصف بحيث يكون التقيّد داخلا والقيد خارجا ( منه ).

(٢) حكاه ابنه والمدقّق الشيرواني ( منه ).

(٣) وبعبارة اخرى : قضاء الحسّ والعيان بوجود حصّة من الماهيّة الكلّيّة في ضمن الشخص الّذي لو قطع النظر عن جميع مشخّصاته لكانت تلك الحصّة مطابقة لتلك الماهيّة ولا نعني من وجود الكلّي الطبيعي إلاّ هذا ( منه عفى عنه ).

٣٠٣

جميع مشخّصاته وعوارضه لكان منطبقا على الماهيّة الكلّية القابلة لصدقها عليه وعلى غيره بالسويّة.

وبذلك يندفع ما عساه يورد من أنّ الماهيّة لكونها معروضة للكلّي المنطقي فيجب أن لا يمتنع فرض صدقها على كثيرين ، والموجود الخارجي كيف يعقل صدقه على الكثيرين ، فإنّ الممتنع صدقه على الكثيرين إنّما هو الماهيّة المقيّدة بالتشخّصات وأمّا هي مع قطع النظر عنها فقابلة للصدق على الكثيرين.

لا يقال : فيلزم سقوط الجزئي الّذي أطبق على وجوده ـ قبالا للكلّي ـ جميع أهل الملل والأديان عمّا في البين ، لتضمّن كلّ شخص يقال لها الجزئي لتلك الماهيّة الّتي تكون كلّيّا ، إذ الفرق بين الكلّي والجزئي اعتباري منوط باعتباري التجرّد والتقيّد في الماهيّة المذكورة ، فإنّها لو اخذت مقيّدة يقال لها : « الجزئي » لامتناع فرض صدقها حينئذ على الكثيرين ، ولو اخذت مطلقة يقال لها : « الكلّي » لعدم امتناع فرض صدقها حينئذ على كثيرين.

وبالجملة : قضيّة ما ذكرنا من حكم الضرورة والوجدان كون كلّ شخص مركّبا عن الماهيّة والتشخّصات العارضة لها ، فلذا قيل في وجه تسمية الكلّي والجزئي بهما : أنّ الكلّي منسوب إلى الكلّ الّذي هو الجزئي ، لاشتماله عليه مع شيء زائد وهو التشخّص والمنسوب إلى الكلّ كلّي ، والجزئي منسوب إلى الجزء الّذي هو الكلّي والمنسوب إلى الجزء جزئي ، وظاهر أنّ المعدوم ممّا لا يعقل تركّب الموجود معه.

مع أنّ الضرورة قد قضت باشتمال كلّ جزئي على ما يمتاز به عمّا عداه وما يشاركه فيه ما عداه ، والمشاركة مع عدم وجود ما به الاشتراك غير معقولة.

مع انّه لا يستريب أحد في تعقّل الماهيّات وتصوّرها ووجودها في الذهن ، وتعقّل الشيء مع عدم وجود ذلك الشيء ممّا لا يتعقّل ، فلذا لا نتعقّل في مفهوم « العنقاء » شيئا.

لا يقال : إنّ ذلك من جهة أنّ العقل ينتزع من الأفراد صورا كلّيّة وهو لا يستلزم الوجود كمفهوم فرد مّا ونحوه ، لأنّه إمّا ينتزعها عمّا به الامتياز أو ما به الاشتراك ، والأوّل محال والثاني غير المطلوب ، ضرورة امتناع الانتزاع عمّا لا وجود له.

مع أنّ الجزئي ممّا لا يوجد في الخارج إلاّ بعد تحقّق جميع مشخّصاته ، لأنّ الشيء ما لم يتشخّص بجميع مشخّصاته لم يوجد ، وهي امور خارجة عن ذاته فلابدّ له من ذاتي وإلاّ لانحصر في المشخّصات ، ولا يعقل له ذات سوى الماهيّة الكلّية فلابدّ من وجودها ، وإلاّ

٣٠٤

لكان المعدوم ذاتا للموجود وهو كما ترى.

مع أنّ المشخّصات بأسرها أعراض له فلابدّ لها من موضوع يقوّمها ولا يصلح له إلاّ الماهيّة الكلّيّة فلابدّ من وجودها ، وإلاّ للزم قيام العرض بالعرض أو بالمعدوم.

مع أنّا نجد فرقا بيّنا بين قولنا : « هذا زيد » و « هذا إنسان » ولا يتصوّر ذلك إلاّ بكون محمول الثاني أعمّ من موضوعه وموضوع الأوّل مساويا لمحموله ، وقضيّة عموم المحمول كون الأعمّ جزءا من الموضوع ، إذ لا يراد منه إلاّ تحقّقه في ضمنه وضمن كلّ ما هو واقع في عداده.

لا يقال : لو اريد بكون الأعمّ جزءا للأخصّ أنّه جزؤه الخارجي فممنوع ، ولو اريد أنّه جزؤه الذهني فمسلّم ولكنّه غير مجد ، لأنّ الأخصّ إذا كان موجودا في الخارج فيجب أن يكون جزؤه أيضا كذلك ، وإلاّ للزم تركّب الشيء من موجود ومعدوم ، أو تركّبه ممّا هو موجود في الذهن وما هو موجود في الخارج.

مع أنّ الكلّي ممّا لا ريب في صحّة حمله على الجزئي وهو ممّا يقتضي الاتّحاد بين الموضوع والمحمول في الوجود الخارجي ، لا بمعنى كونهما موجودا واحدا كما في « هذا زيد » وغيره ممّا كان حمله بطريق المواطاة ، بل بمعنى كونهما موجودين بوجود واحد ، وظاهر أنّ الاتّحاد بين الموجود والمعدوم بهذا المعنى ممّا لا يكاد يعقل وإلاّ للزم التناقض.

مع أنّ الموضوع والمحمول في قولنا : « زيد إنسان » إمّا متّحدان ذهنا وخارجا أو متغايران ذهنا وخارجا ، أو متّحدان ذهنا ومتغايران خارجا ، أو متغايران ذهنا ومتّحدان خارجا.

والأوّل باطل وإلاّ لكان مثل قولنا : « زيد زيد » في عراه عن الفائدة الموجب لتوجّه التقبيح والاستهجان ، وكذلك الثاني وإلاّ لكان نظير قولنا : « زيد عمرو أو حجر » والثالث غير معقول ، والرابع صحيح باتّفاق جميع العقول ، وعليه لابدّ من وجود المحمول وإلاّ لعاد إلى القسم الثاني في لزوم حمل المغائر بمثله ، ضرورة مغايرة المعدوم للموجود.

لا يقال : إنّ الوجود الذهني في المحمول كاف في صحّة الحمل ولا يقدح الانعدام الخارجي ، وإنّما القادح المغايرة بين الموجودين كما في « زيد » و « عمرو » لا ما كان بين موجود ومعدوم ، إذ لو صحّ ذلك لصحّ حمل « الحجر » على « زيد » لاشتراكه مع الإنسان في الانعدام الخارجي على ما هو المفروض والوجود الذهني.

٣٠٥

وبالجملة لا إشكال في وجود الماهيّة الكلّيّة في ضمن الفرد وكونها جزءا منه في ظرف الخارج وإنكاره مكابرة ، فهي إن لوحظت مجرّدة فكلّي وإن لوحظت مقيّدة فجزئي ، فالفرق بينهما اعتباري من هذه الجهة.

وأمّا ما يقال أيضا : من أنّ (١) الشيء إذا لوحظ بلحاظ الذهن فهو كلّي وإذا لوحظ بلحاظ الخارج فهو جزئي فلا يساعده النظر ، ضرورة أنّ الملحوظ في الذهن غير ما هو ملحوظ في الخارج ، فإنّ الأوّل ماهيّة لا تشخّص معها أصلا والثاني ماهيّة مع التشخّص ، فكيف يعقل جعلهما أمرا واحدا يتعدّد باعتبار الذهن والخارج ، وإنّما هما أمر واحد خارجي يتعدّد باعتبار الإطلاق والتقييد.

فإن قلت : هذا خلاف ما صرّحوا به من أنّ الكلّية وصف للمفهوم والجزئيّة وصف للمصداق الّذي يعبّر عنه تارة بالفرد واخرى بالشخص ، فكلّ كلّي لا بدّ وأن يكون مفهوما وكلّ جزئي لابدّ وأن يكون مصداقا خارجيّا ، وهذا كما ترى ينادي بالتغاير بينهما مع أنّك جعلتهما أمرا واحدا خارجيّا.

قلت : المفهوميّة والمصداقيّة أيضا أمران اعتباريّان ، إذ الماهيّة إذا لو حظت في ظرف الذهن تسمّى بالمفهوم وإذا لوحظت في ظرف الخارج تسمّى بالمصداق وإلاّ فمع قطع النظر عن الاعتبار لا تغاير بينهما ، ويرشد إلى ذلك جعلهم المفهوم مقسما للكلّي والجزئي مع تصريحهم بكون الجزئي مصداقا خارجيّا ، فلو كان المفهوم مغايرا بالذات للمصداق لامتنع جعله مقسما له ، ضرورة استحالة كون الشيء مقسما لقسيمه.

فإن قلت : مرادهم بالمفهوم المأخوذ مقسما ما حصل عند العقل ـ على ما هو المصرّح به في كلامهم ـ وهو يغاير المصداق الخارجي.

قلت : مع أنّه يستلزم أن لا يكون الجزئي مصداقا ، لامتناع اتّصاف شيء واحد بالمتغايرين.

يدفعه : أنّ ما حصل عند العقل ليس إلاّ الماهيّة ، وهي قد تلاحظ في الذهن معرّاة عن الخصوصيّات العارضة لها في الخارج ، وقد تلاحظ مقيّدة بتلك الخصوصيّات ، غير أنّه قد جرت العادة بتسميتها بالاعتبار الثاني بملاحظة وجودها في ظرف الخارج بـ « المصداق » فلا منافاة.

__________________

(١) والظاهر كون معنى هذا الكلام أنّ الشيء باعتبار وجوده الذهني يسمّى كلّيّا وباعتبار وجوده الخارجي يسمّى جزئيّا.

ويشكل أنّ الموجود في الذهن أيضا جزئي ذهني والموجود في الخارج أيضا يوجد في الذهن مع أنّه ليس بكلّي جدّا. ( منه عفي عنه ).

٣٠٦

فإن قلت : قضيّة ما قرّرت سابقا من كون الكلّي أمرا موجودا في الخارج في ضمن الأشخاص أن يكون الكلّي متعدّدا بتعدّدها ، وهو مناف لما صرّحوا به من كونه أمرا واحدا بل هو خلاف البديهة ، ضرورة أنّ ماهيّة « الإنسان » أمر واحد ، وذلك لا ينطبق إلاّ على جعل الكلّي عبارة عن المفهوم المغاير للمصداق ، إذ لا يصلح للوحدة إلاّ المفهوم ، ومعه لا يمكن القول بعدم كونه مغايرا للمصداق لكونه متعدّدا.

قلت : يردّه أوّلا : النقض بذلك المفهوم الّذي جعلته كلّيّا مغايرا للمصداق ، لعدم انفكاكه عن التعدّد الناشي عن تعدّد العقول والأذهان ، نظرا إلى ما فسّرته بما حصل عند العقل.

وثانيا : المنع عن اعتبار قولهم إذا خالف الحسّ والعيان ، فإنّه ليس بحجّة إلهيّة ولا نزل لبيانه آية كتابيّة ولا سنّة نبويّة.

وثالثا : مرادهم بالوحدة هنا إنّما هي الوحدة الذهنيّة بمعنى كونه واحدا في الذهن ولا ينافيها عروض التعدّد باعتبار الخارج ، إذ لا استحالة في وجود الكلّي بتمامه في ضمن كلّ فرد كما نشاهده في المتماثلين كالبياضين ، فإنّهما متعدّدان في الخارج باعتبار التشخّص وفي الذهن بعد إلقاء الخصوصيّة يصيران واحدا ، ولذا قالوا بامتناع اجتماع المثلين تعليلا بعدم إمكان اتّحادهما مع التشخّص ومع عدمه يرتفع التعدّد ويزول الإثنينيّة.

أو أنّ المراد بها الوحدة النوعيّة أو الجنسيّة فلا ينافيها التعدّد باعتبار الأشخاص كما هو المصرّح به في كلامهم ، ويرشد إلى ذلك ما ذكروه في ردّ الاستدلال على عدم وجود الكلّي الطبيعي بلزوم اتّصاف شيء واحد بصفات متضادّة ، ووجوده في أمكنة متعدّدة وهو محال ، بأنّ ذلك إنّما يستحيل في أمر واحد شخصي كالجزئي الحقيقي ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لكونه واحدا بالنوع الغير المنافي لتعدّد أشخاصه ، فلا استحالة في اتّصافه بالصفات المتضادّة ووجوده في الأمكنة المتغايرة باعتبار ما يتضمّنه من تعدّد الأشخاص.

وبما قرّرنا تبيّن حجّة القول بعدم وجود الكلّي الطبيعي مع دفعها ، وأمّا القول بالعينيّة فلم نعثر له على حجّة وهو لوضوح فساده أحرى بالإعراض عن التعرّض لإبطاله.

وإذا تمهّدت تلك المقدّمة ، فاعلم : أنّه احتجّ أصحاب القول بتعلّق الأحكام بالأفراد دون الطبائع بأنّ الماهيّة يستحيل وجودها في الأعيان فيستحيل تعلّق الحكم بها.

أمّا الأوّل : فلاستلزام وجودها كونها كلّيّا وجزئيّا ، فإنّها من حيث هي كلّي ومن حيث تشخّصها بالمشخّصات الخارجيّة ـ كما هو شأن كلّ موجود في الخارج ـ تصير جزئيّا ، ويستحيل كون الشيء الواحد في حالة واحدة كلّيّا وجزئيّا لمكان التناقض.

٣٠٧

وأمّا الثاني : فلأنّ التكليف لابدّ وأن يتعلّق بالمقدور لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق ، والماهيّة إذا امتنع وجودها غير مقدورة فلا تصلح لأنّ يتعلّق التكليف بها.

واجيب : بأنّ الماهيّة قد تؤخذ بشرط أن يكون مع بعض العوارض كالإنسان بقيد الوحدة فلا يصدق على المتعدّد ، وبقيد هذا الشخص فلا يصدق على فرد آخر ويسمّى الماهيّة المحلوظة والماهيّة بشرط شيء ولا ريب في وجودها في الأعيان ، وقد تؤخذ بشرط التجرّد عن جميع العوارض وتسمّى الماهيّة بشرط لا ، ولا خفاء في أنّها لا توجد في الأعيان بل في الأذهان ، وقد تؤخذ لا بشرط أن تكون مقارنة أو مجرّدة بل مع تجويز أن يقارنها العوارض وأن لا يقارنها ويسمّى بالماهيّة من حيث هي والماهيّة لا بشرط ، وهي بهذا المعنى ممّا يمكن وجودها في الأعيان ، فيجوز أن يكون المطلوب هو الماهيّة من حيث هي لا بقيد الكلّيّة ولا بقيد الجزئيّة ، وإن كانت لا تنفكّ في الوجود عن أحدهما وهذه لا يستحيل وجودها ، لأنّ الكلّيّة المنافية للوجود العيني ليست قيدا فيها وشرطا لها ، فلا يلزم أن يكون المطلوب هو الجزئي من حيث هو جزئي كما ذكروه.

فإن قيل : الكلّيّة والجزئيّة متنافيان ، فعدم اعتبار أحدهما يوجب اعتبار الآخر لئلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

قلنا : عدم اعتبار النقيضين غير ارتفاعهما واللازم هو الأوّل ، والمحال هو الثاني.

أقول : الأولى في الجواب منع المقدّمة الاولى ـ لأنّها الّتي أوجبت الشبهة ـ بمنع لزوم التناقض لو اتّصفت الماهيّة بالكلّيّة والجزئيّة ، فإنّ الحيثيّة إذا تعدّدت وكانت تقييديّة أوجبت تعدّد الموضوع ، فالمتّصف بالكلّيّة إنّما هي الماهيّة المجرّدة والمتّصف بالجزئيّة هي الماهيّة المقيّدة فلا يلزم التناقض ، كما لا يلزم تعلّق الحكم بغير المقدور ، لإمكان الامتثال بإيجاد الفرد المحصّل لها ، كما لا يلزم اعتبار الوجود في متعلّقه ليكون جزئيّا.

وقد يجاب أيضا : بأنّهم لو أرادوا بالجزئي فردا معيّنا فهو باطل قطعا ، لعدم دلالة اللفظ عليه رأسا ، وإن أرادوا جزئيّا غير معيّن فوقعوا في المحذور الّذي فرّوا عنه فإنّه أيضا كلّي ، وأيضا يلزم المجاز في كلّ الأوامر بل النواهي وغيرهما أيضا وفيهما ما لا يخفى من الوهن (١) كوهن ما لو أورد عليهم : بأنّ الفعل قبل الأمر إمّا حاصل من المكلّف وموجود في

__________________

(١) ذكرها بعض الأعاظم تبعا لبعض الأعلام ، والوجه في وهن الأوّل : أنّ لزوم المحذور على إرادة احتماله الثاني إن

٣٠٨

الخارج أو لا ، والأوّل محال لكونه طلبا للحاصل ، وكذلك الثاني لكونه طلبا للمعدوم فيعود المحذور ، فلا يجديهم التزام تعلّق الحكم بالفرد.

لأنّهم زعموا أنّ وجود المتعلّق مصحّح لتعلّق الحكم به ، وهو أعمّ من الفعلي كما في أفراد الأعيان الخارجيّة ، والشأني كما في أفراد الأفعال الّتي تصدر عن المكلّف ، فالفرد من شأنه أن يوجد وإن لم يكن موجودا بالفعل ، فيصحّ تعلّق الحكم به بخلاف الكلّي ، على ما زعموه من امتناع وجود الكلّي الطبيعي.

وأجاب عنه بعض الأعلام ـ بعد تسليم أنّ الكلّي الطبيعي غير موجود ـ بما يرجع محصّله إلى : أنّ خطابات الشرع إنّما تجري على متفاهمات العرف ، والعقل ينتزع من الأفراد صورا كلّيّة والعرف يزعمها موجودة ، وعدم وجودها إنّما يظهر على حسب الدقّة الفلسفيّة الّتي لا تنوط بها الخطابات ، فيصحّ تعلّقها بها بهذا الاعتبار ، ولا يضرّ في ذلك عدم مطابقة الاعتقاد للواقع.

واعترض عليه بعض الأعاظم : « بأنّ الامتثال إمّا بالطبيعة وهو مفروض العدم ، وإمّا بالفرد والمفروض عدم تعلّق الأمر به ، مع أنّ الطبيعة على هذا لا تحقّق لها إلاّ بالوهم فكيف يصحّ من الحكيم الأمر بإيجادها ، ففي الحقيقة يبقى الأمر بلا متعلّق ، وأيضا فهم العرف لا يجعل ما لا يصحّ تعلّق الحكم به متعلّقه وهو ظاهر.

__________________

كان من جهة عدم تعيين الفرد ، فيدفعه : أنّه يلزم إذ اعتبر عدم التعيين قيدا في الامتثال لعدم تحقّقه إلاّ في المعيّن الّذي ينشأ تعيينه عن اختيار المكلّف.

وأمّا إذا اعتبر قيدا في الطلب فلا.

وفي وهن الثانى : اندفاعه بإرادة الفرد من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، بأن يراد من اللفظ نفس الطبيعة واحيل فهم الخصوصيّة الّتي تعلّق بها الطلب إلى الخارج ، وهو الطلب الّذي لا يتعلّق إلاّ بالممكن.

وأمّا ما يقال في دفع ذلك ـ كما في كلام بعض الفضلاء ـ من أنّ هذا إنّما يتمّ على القول بوجود الطبايع في الخارج ، وأمّا على القول بعدمه كما يراه الخصم فلا ، إذ لا تحقّق للطبيعة حينئذ في ضمن الأفراد حتّى يطلق عليه اللفظ باعتباره.

فيدفعه : أنّ مبنى كلام الخصم على أنّ التكليف لا يتعلّق إلاّ بالمقدور ولا قدرة إلاّ مع الوجود ولا وجود إلاّ للفرد ، ومن البيّن أنّ القدرة من شرايط التكليف فيلزمه اشتراط الوجود في المكلّف به لا من شرايط مطلق الإطلاق والاستعمال ، إذ لم يقل أحد بأنّ الاستعمال في معنى مشروط بوجود ذلك المعنى ، فلذا لا يجري الخلاف في الكليّات الواقعة في غير مقام الطلب ، فلا ضير في أنّ يتعلق الاستعمال بغير الموجود واريد معه تعلّق الطلب بالموجود ولا يستلزم ذلك إرادة ذلك الموجود من اللفظ بالخصوص كما لا يخفى ( منه عفي عنه ).

٣٠٩

وفيه أيضا تقرير على الباطل ، وهو اعتقادهم الفاسد وقبحه ظاهر ».

وفي كلام بعض الفضلاء أيضا : « لا خفاء عند اولي الأنظار المستقيمة أنّ تكاليف الشرع إنّما تتعلّق بما يصحّ تعلّقها به في زعم أهل العرف ، فالطبيعة من حيث هي إذا امتنع في الواقع تحقّقها في الخارج امتنع تعلّق التكليف بها ، لأنّه تكليف بالممتنع وهو ممّا يقبح صدوره عن الحكيم العالم.

وزعم أهل العرف إمكان حصولها في ضمن الفرد لا يؤثّر في رفع الاستحالة والقبح بعد علم الآمر بخلافه ، وهل ذلك إلاّ كطلب إبصار الجسم حقيقة إذا زعم أهل العرف أنّه ممّا يمكن إبصاره مع أنّه قد تقرّر في محلّه أنّه محال.

نعم يجوز أن يكلّف بإيجاد ما يزعم أنّ الطبيعة موجودة فيه ، أو يزعم أنّه إبصار للجسم ، لكنّه لا يرجع في الحقيقة إلى الأمر بالفرد لا بالطبيعة ، وبإبصار اللون والشكل لا الجسم » (١).

ثمّ إنّه يمكن تقرير الاستدلال على هذا القول بطريق يجامع القول بوجود الكلّي الطبيعي أيضا ، وذلك من وجوه ثلاث :

الأوّل : أنّ التكليف بالمسبّبات تكليف بأسبابها ، لئلاّ يلزم طلب الحاصل إن توجّه الخطاب حال وجود الأسباب ، أو التكليف بغير المقدور إن توجّه حال انعدامها.

الثاني : أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للحسن والقبح النفس الأمرييّن كما عليه العدليّة ، خلافا للأشاعرة المنكرين لذلك ، وحسن الأشياء وقبحها إنّما هما بالوجوه والاعتبارات ، خلافا لمن توهّم كونهما بالذات أو بالوصف اللازم كما عليه جماعة ، فالصدق حسن لا لكونه كلاما مطابقا للواقع على طريق دخول التقييد وخروج القيد ، ولا لأجل المطابقة للواقع ، بل إذا كان نافعا ، فيكون قبيحا إذا كان ضارّا ، وكذلك الكذب فيتّصف بالحسن باعتبار النفع والقبح باعتبار الضرر.

وقضيّة ذلك تعلّق الأحكام بالأفراد ، لأنّها الّتي تعرضها الوجوه والاعتبارات الموجبة لتشخّص الماهيّات بعروضها.

والثالث : أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بأفعال المكلّفين ، فلذا عرّف الحكم : « بخطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين » وهي ظاهرة فيها إذا صدرت من المكلّف بلا واسطة ، والّتي

__________________

(١) الفصول : ١٠٨.

٣١٠

تصدر بلا واسطة إنّما هي الأفراد فهي الّتي تتعلّق بها الأحكام.

والجواب عن الأوّل : منع كون الكلّي وفرده من باب المسبّب وسببه وإلاّ لامتنع الحمل فيما بينهما امتناعه فيما بين السبب والمسبّب ، لتغايرهما ذهنا وخارجا بخلاف الكلّي وفرده ، مع أنّ المسبّب مرتّب في وجوده الخارجي على سببه ولا ترتّب فيما بين الفرد والكلّي بل يتّحدان معا بحسب الخارج ويوجدان بوجود واحد ، وكون الفرد مقدّمة للكلّي وإن كان ممّا يتكرّر ذكره في كلام الاصوليّين ولكنّه يأباه النظر ويكذبه الوجدان ، كيف والمعهود عندهم كون الجزء مقدّمة للكلّ ففرض الكلّ أيضا مقدّمة للجزء ـ كما عليه مبنى كلامهم ـ يؤدّي إلى الدور الصريح.

إلاّ أن يفرّق في ذلك بين الأجزاء العقليّة والأجزاء الخارجيّة ، بدعوى : تخصيص مقدميّة الجزء بما لو كان الكلّ مركّبا خارجيّا ، نظرا إلى الترتّب الطبيعي فيما بين الأجزاء حينئذ بحسب الوجدان الخارجي ، فلا يوجد الكلّ إلاّ مؤخّرا عن إيجاد كلّ جزء منه ، فيكون ذلك حينئذ اعترافا بما قرّرناه من انتفاء السببيّة عمّا بين الكلّي وفرده للزومها الترتّب فيما بين طرفيها بحسب الوجود ، وهو منتف فيما بين الكلّي وفرده لكون تركّب الفرد من الماهيّة والتشخّص عقليّا كما لا يخفى.

فتحقيق القول فيهما : أنّهما من باب المتلازمين في الوجود ، فلا يوجد أحدهما في الخارج إلاّ مع انضمام الآخر إليه ، فهما معلولان لعلّة ثالثة من غير أن يكون بينهما ترتّب بحسب الزمان ولا توقّف بحسب الذات ، فإيجاد الماهيّة يلازم انضمام التشخّصات الناشئة عن خصوصيّة الموجد وزمان الإيجاد ومكانه وغير ذلك من لوازم الوجود إليها ، كما أنّ تحقّق تلك التشخّصات يلازم تحقّق الطبيعة ، ومن المعلوم أنّ الأمر بأحد المتلازمين لا يلازم الأمر بالمتلازم الآخر ولا طلب المجموع من حيث المجموع.

ولو سلّم التوقّف والسببيّة يختار الشقّ الثاني من طرفي الترديد ، ويمنع لزوم التكليف بغير المقدور ، فإنّ المقدور بالواسطة مقدور كما في الأفعال التوليديّة والقدرة على السبب كافية في القدرة المصحّحة للتكليف بالمسبّب ، والمحذور إنّما يلزم لو كان الأمر بشرط عدم السبب وليس كذلك الأمر في محلّ البحث ونظائره ، لكون الأمر في حال عدم السبب لا بشرط عدمه.

وعن الثاني : منع كون الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات ، على ما سنحقّقه في محلّه إن شاء الله.

٣١١

ولو سلّم فلا يجدي نفعا في ثبوت المطلوب ، لأنّ الصدق النافع أيضا أمر كلّي بل الحسن حينئذ إنّما هو في النافع وهو أعمّ من الصدق ، فلذا يتّصف به كلّ ما قام به النفع وهو موافقة الغرض وإن لم يكن صدقا ولا من مقولة الكلام.

لا يقال : إنّ مرجع هذا القول إلى أنّ الكلام الصادق لا يترتّب عليه حسن إلاّ بعد تلبّسه بالفرديّة والوجود الخارجي ، كما لو كان موجبا لإحياء نفس محترمة ولا سيّما إذا كانت مؤمنة ، فلا حسن في نفس الكلام الصادق ولا في الإحياء في نفسه بل الحسن إنّما هو في هذا الجزئي الخارجي ، فيكون متعلّق الحكم أيضا هذا الجزئي.

لأنّا نقول : كما يتّصف هذا الجزئي بالحسن فكذلك يتّصف به الجزئي الآخر مثله ، واتّصافهما به حينئذ إمّا لأمر مشترك بينهما وهو الوجه العارض لهما معا ، أو لأمر مختصّ بكلّ منهما ، والثاني خلاف الفرض والأوّل موجب لفساد الدعوى ، لأنّ الحسن حينئذ صفة كامنة في ذلك الأمر المشترك لأنّه الّذي أوجب فيهما الاتّصاف بالحسن وهو أمر كلّي ، واتّصاف الفرد به تبعي لا عبرة به.

وعن الثالث : منع كون ايجاد الماهيّة فعلا للمكلّف مع الواسطة ، لما عرفت من التلازم بينها وبين التشخّصات المعتبرة في الفرد ، فإيجاده إيجاد لها بلا واسطة.

غاية الأمر أنّها في تعلّق الأمر بها لوحظت لا بشرط وفي تحقّقها في الخارج ينضمّ إليها شروط خارجة عنها.

ولو سلّم فيتوجّه المنع إلى اعتبار كون المراد بالأفعال في تعريف الحكم ما كان فعلا للمكلّف بلا واسطة ، وإلاّ لخرجت الأفعال التوليديّة عن الحدّ ، والواسطة المعتبر انتفاؤها في تعريف الفقه وموضوعه إنّما هي الواسطة في الإثبات لا الواسطة في الإيجاد كما لا يخفى.

واعلم : أنّ المعروف من المصنّف في الألسنة والكتب الاصوليّة أنّه ممّن يقول بتعلّق الأحكام بالأفراد دون الطبائع.

وقضيّة ما نقلنا عنه في الحاشية ـ على ما حكاه إبنه وجمع من المحشّين ـ من القول بوجود الكلّي الطبيعي بعين وجوده أن لا يجري شيء من الوجوه المتقدّمة في سند القول بتعلّق الأحكام بالأفراد عنده ، حتّى السند المشهور من عدم وجود الكلّي الطبيعي ، بل لا يصحّ حينئذ منه القول المذكور إلاّ إذا أراد بالطبائع ما تلاحظ بشرط لا ، ضرورة أنّ ما يتعلّق بالفرد على هذا المذهب متعلّق بعين الطبيعة الكلّيّة لأنّه عينها.

٣١٢

نعم يصحّ منه القول بذلك على ما يتوهّم من كلامه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من القول بعدم وجود الكلّي الطبيعي على ما في بعض الحواشي.

وأنت خبير بعدم منافاة كلامه ثمّة لما ذكره في الحاشية ممّا أشرنا إليه ، بل بعد التأمّل في أطراف هذا الكلام لا يستفاد منه إلاّ اختيار هذا القول.

وإن شئت فلاحظ ما ذكره في المبحث المذكور عند الجواب عن ثاني حجّتي القول بجواز اجتماع الأمر والنهي من قوله : « ضرورة أنّ الأحكام إنّما يتعلّق بالكلّيّات باعتبار وجودها ، فالفرد الّذي يتحقّق به الكلّي هو الّذي يتعلّق به الحكم حقيقة ، وهكذا يقال في جهة الصلاة ، فإنّ الكون المأمور به فيها وإن كان كلّيّا لكنّه إنّما يراد باعتبار الوجود ، فمتعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الّذي يوجد منه ولو باعتبار الحصّة الّتي في ضمنه من الحقيقة الكلّيّة على أبعد الرأيين في وجود الكلّي الطبيعي » انتهى.

ولا يخفى أنّ قوله : « ضرورة أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالكلّيّات باعتبار وجوده » وكذلك قوله : « فالفرد الّذي يتحقّق به الكلّي هو الّذي يتعلّق به الحكم » صريح في خلاف القول بعدم وجود الكلّي الطبيعي.

وبمثل ذلك صرّح في بحث المفرد المعرّف باللام بقوله : « إذ الأحكام الشرعيّة إنّما تجري على الكلّيّات باعتبار وجودها ».

فدعوى : أنّ قوله ـ في آخر كلامه المذكور ـ : « على أبعد الرأيين في وجود الكلّي الطبيعي » يدلّ على أنّ مذهب المصنّف عدم وجود الكلّي في الخارج بل أفراده موجودة ، فاسدة جزما بل مذهبه بقرينة ما ذكر إنّما هو وجود الكلّي في الخارج جدّا.

ولكن يبقى الكلام في أنّ مذهبه هذا هل هو الوجود الضمني أو العيني وظاهر عبارته المذكورة هو الثاني ، حيث جعل القول بوجود الحقيقة الكلّيّة باعتبار الحصّة الموجودة منها في ضمن الفرد أبعد الرأيين ، ولا يجوز أن يكون مراده بالرأي الآخر إنكار وجود الكلّي الطبيعي لما تقدّم ، مضافا إلى أنّه قال : « أبعد الرأيين في وجود الكلّي ».

ومن البيّن أنّ الرأيين في وجود الكلّي أحدهما : كونه في ضمن الفرد الموجود منه.

وثانيهما : كونه عينه.

فإذا كان الأوّل عنده أبعد يتعيّن كون الثاني هو الأقرب والمختار.

ويشهد به أيضا قوله : « فمتعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الّذي يوجد منه ولو

٣١٣

باعتبار الحصّة الّتي في ضمنه من الحقيقة الكلّيّة » فإنّ لفظة « لو » إذا كانت للوصل إنّما هي للترقّي عن الفرد الظاهر القويّ إلى الفرد النادر الخفيّ على ما هو الغالب فيها ، فإذا كان القول بوجود الحصّة خفيا عنده بقي كون القول بالعينيّة قويّا في نظره ، لأنّ القول بعدم الوجود بالمرّة إنّما ينفيه كلماته السابقة ، فعلى هذا يقع تهافت في قوله : « بأنّ متعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الّذي يوجد منه » لأنّ قضيّة ذلك أن لا يكون الكلّي متعلّقا للأمر مع أنّه عين الفرد الموجود عنده.

نعم لو أراد بالكلّي الّذي لا يتعلّق به الحكم الطبيعة الملحوظة بشرط لا ارتفع تلك الحزازة ، فيكون حينئذ لما أشرنا إليه في مفتتح العنوان من القول بأنّ الخلاف في تلك المسألة إنّما نشأ من عدم التمييز بين الماهيّة لا بشرط وبينها بشرط لا وجه في الجملة ، فلا يرد عليه : أنّه مع حمل كلام النافي على إرادة الثاني بعيد عن أنظار العلماء.

فمن هنا تبيّن أنّ تفريع هذا الخلاف على الخلاف في الكلّي الطبيعي على الإطلاق ممّا لا وجه له.

ثمّ إنّه بناء على ما حقّقناه من تعلّق الأحكام بالطبائع لا فرق بين القضايا التكليفيّة والقضايا الوضعيّة ، فيدخل طهارة الماء ونجاسة الكلب وغيرها ممّا لا يحصى ، ولا بين ما تعلّق به الحكم في حيّز الإنشاء أو الإخبار فيدخل مثل ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا )(١) ولا بين ما اريدت الطبيعة من مادّة الصيغة أو لفظها المستقلّ فيدخل مثل ( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(٢) ولا بين أن يتعلّق الحكم بنفس الطبيعة أو بما تعلّق بها فيدخل مثل « أعتق رقبة » و « لا تزوّج كافرة » ولا بين الإيجاب والتحريم وغيرهما من الخمسة التكليفيّة فيدخل الندب والكراهة والإباحة.

ثمّ إنّه قد يقال : بأنّ ممّا يتفرّع على الخلاف جواز اجتماع الأمر والنهي في محلّ واحد ، وكون الفرد مقدّمة على تقدير دون آخر إلى غير ذلك.

وتحقيق ذلك : أنّ المكلّف إذا أتى بالصلاة في مكان مغصوب فقد أوجد فردا محصّلا لطبيعتي الصلاة والغصب ، فيمتثل ويعاقب لجهتين على القول المختار دون القول الآخر ، إذ لا يعقل كون الأمر الواحد الشخصي محبوبا ومبغوضا.

ويمكن المناقشة فيه : بأنّ متعلّق الأمر على هذا التقدير أحد الأفراد لا بعينه الموكول

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) الحجّ : ٧٨.

٣١٤

تعيينه إلى اختيار المكلّف ، فإذا أتى بالصلاة في المكان المذكور فقد اختار التعيين الموكول إليه في ذلك ولازمه الامتثال.

ويدفعها : أنّ ذلك ـ لو سلّم ـ إنّما يستقيم لو لم يكن متعلّق النهي على هذا القول جميع الأفراد وأمّا معه فلا ، لقضاء عموم النهي بخروج الفرد المفروض من الصلاة مبغوضا فلا يمكن مع ذلك كونه محبوبا أيضا ، ولازمه إفادة النهي تقييدا في الأمر وهذا معنى عدم اجتماعهما في محلّ واحد ، وأمّا تفريع كون الفرد مقدّمة ، ففيه : ما تقدّم.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ متعلّق الأمر إذا كان هو الطبيعة الكلّيّة لا بشرط شيء فوجودها في الخارج موقوف على إيجاد الفرد ، وهذا معنى كون الفرد مقدّمة والتلازم المذكور سابقا ليس واقعا بينها وبين الفرد ، بل بينها وبين التشخّصات اللاحقة لها المعتبرة في فرديّة الفرد بعد دخوله في حيّز الوجود ، وهذا المعنى كما ترى إنّما يتمّ على القول المختار ، إذ إيجاد الفرد على القول الآخر إتيان بنفس الواجب لا مقدّمته.

وأظهر ما يترتّب على المسألة اعتبار لوازم الوجود ـ ممّا يتبيّن في البحث الآتي ـ في المأمور به الزائدة على أصل الطبيعة على القول الغير المختار ، وعدمه على المختار وستعرف وجهه.

٣١٥

ـ تعليقة ـ

لا يخفى أنّ قضيّة ما حقّقناه من تعلّق الأحكام بالطبائع عدم اعتبار شيء من لوازم الوجود كالقدرة والقصد والاختيار ونيّة القربة وقصد الوجه ونحو ذلك في المأمور به بحسب الوضع المتعلّق بالأمر مادّة وهيئة.

أمّا الأوّل : فلما قرّرناه في محلّه من عدم مدخليّة الوجود في مداليل الألفاظ باعتبار الوضع.

وقضيّة ذلك عدم اعتبار شيء من لوازمه فيها حين الوضع ، مضافا إلى ما سنحقّقه من وضع أسماء الأجناس للماهيّات الملحوظة لا بشرط ، ولا يراد من ذلك إلاّ تعريتها عن الشروط الزائدة عليها ، وظاهر أنّ الوجود ولوازمه من الامور المذكورة امور زائدة عليها ، فلا ينبغي التأمّل في عدم اعتبار شيء منها في الوضع ولو بحكم الأصل الجاري هنا بلا إشكال.

وأمّا الثاني : فلوضوح أنّ الهيئة إنّما تلحق المادّة على حسب ما هي عليه من إطلاق أو تقييد ، فإذا فرضناها مطلقة فلابدّ من فرض الوضع للهيئة اللاحقة لها بهذا الاعتبار ، ضرورة أنّه لا يغيّر ما لها من مقتضيات الوضع الشخصي العارض لها ، فلا يوجب خروج المطلق مشروطا ولا انقلاب المشروط مطلقا ، فمقتضى الأصل اللفظي الناشئ عن الوضع بكلا اعتباريه أن لا يكون شيء من الامور المذكورة معتبرا في مداليل الأوامر حتّى يكون المأمور به مقيّدا.

ويرشدك إلى ذلك عدم خروج قول القائل : « طر إلى السماء » مخالفا لما يقتضيه الوضع واللغة ، وما يرى من عدم الصحّة الباعث على توجّه الذمّ والتقبيح فإنّما ينشأ عن حكم العقل بملاحظة حكمة القائل ، فهذا هو الأصل الأوّلي الثابت في جميع الأوامر المفيد في موارد الشكوك والشبهات بالنظر إلى الإطلاقات والأحوال الطارئة للمخاطبات.

٣١٦

ويبقى الكلام في أنّه هل يعتبر شيء من ذلك في الاستعمالات وإرادات المستعملين لتلك الأوامر أو لا؟

فلابدّ في استعلام ذلك من النظر في الأدلّة الخارجة الكاشفة عن المرادات والمقاصد فإن ثبت من الخارج دلالة من العقل أو العرف أو الشرع قاضية باعتبار شيء من ذلك كلاّ أم بعضا يؤخذ بها ، فينهض ذلك حينئذ أصلا ثانويّا واردا على الأصل الأوّلي ، وتلك الدلالة الخارجيّة حاكمة على الأوامر المطلقة ، كما أنّ الأدلّة القاضية بوجوب المبادرة والاستباق ومطلوبيّة الفور في فعل المأمور به ـ على فرض تماميّتها ـ حاكمة على صيغة الأمر القاضية بإطلاقها بعدم اعتبار ذلك على حسب الوضع.

ولمّا كانت الامور المذكورة في كونها لوازم للوجود ممّا يثبت لزوم بعضها بحكم العقل ، وبعضها بحكم العرف ، وبعضها بحكم الشرع ، فلابدّ في معرفة اعتبار كلّ واحد في المأمور به من المراجعة إلى العقل ومجاري العادات والأدلّة الشرعيّة ، فيقع الكلام لتحقيق ذلك من جهة تعدّد تلك الامور وترتّبها في

المرحلة الاولى

في القدرة

واعتبارها في المأمور به ثابت بضرورة العقل والعرف والشرع ، والإجماع عليه محصّل ، والمنقول منه متواتر ، والضرورة به قائمة ، فالأوامر المطلقة مقيّدة بها جزما غير أنّها بالنسبة إلى المأمور به قيد توضيحيّ وبالنسبة إلى الأمر قيد احترازي ، ولعلّه يأتي عند البحث عن شرائط التكليف فيها زيادة تحقيق ، فهي بالحقيقة خارجة عن معقد كلامنا هنا وإنّما ذكرناها استطرادا.

المرحلة الثانية

في اشتراط قصد العنوان وعدمه

واعلم ، أنّ قصد أصل الفعل من لوازم وجوده عادة لا عقلا ، لإمكان صدوره عن الغافل والساهي والنائم وغيره ممّن لا قصد له إلى الفعل ، وهل هو معتبر في امتثال الأمر والإتيان بالمأمور به؟ فلو أتى به على سبيل السهو والغفلة أو في حال النوم ونحوها لم يكن أداء للمأمور به ، ولا أنّ المأتيّ به متّصف بالوجوب أو لا؟ بل العبرة في صدق الامتثال ، بتحقّق

٣١٧

الفعل كيفما اتّفق ولو على الوجوه المذكورة ، فيه خلاف على قولين ، ذهب إلى أوّلهما بعض الأفاضل.

وحكى القول الآخر عن بعض الأفاضل تعليلا : بأنّ القدر المسلّم من عدم تعلّق التكليف بالغافل هو ما كان من أوّل الأمر ، وأمّا بعد تفطّنه بالتكليف وغفلته بعد ذلك وصدور الفعل منه حينئذ على سبيل الذهول والغفلة فلا مانع من اندراجه في المكلّف به.

وأورد عليه الفاضل المذكور : بأنّ السبب الباعث على عدم تعلّق التكليف به من أوّل الأمر قاض بعدم تعلّقه به بعد ذلك من غير فرق أصلا ، فلا داعي هناك إلى التفصيل ، واعتمد فيما اختاره على ما حكاه من الاحتجاج بوجهين :

الأوّل : أنّ متعلّق الطلب وإن كان مطلق الطبيعة من غير تقييدها بشيء بمقتضى ظاهر الأمر ، لكن تعلّق الطلب بها إنّما يكون مع تفطّن الفاعل به وعدم غفلته عنه ، لوضوح استحالة التكليف بالفعل مع غفلة المأمور وذهوله عن ذلك الفعل ، وحينئذ فقضيّة تعلّق الطلب بالطبيعة هو الإتيان بالفعل على وجه القصد إليه فلا يكون الصادر على سبيل الغفلة مندرجا في المأمور به.

الثاني : أنّ ظاهر ما يستفاد من الأمر في فهم العرف أنّ ما يتعلّق الطلب به هو ما يكون صادرا على وجه العمد دون الغفلة أو الالتباس بغيره كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات ، فلا يندرج فيه الأفعال الصادرة على غير ذلك الوجه وإن شملها الطبيعة المطلقة.

وفي الأوّل منهما نظر لا يخفى وجهه على الفطن العارف ، فإنّ حالة التفطّن من حيث هي لا تصلح مخصّصة للمأمور به ، ولا تفيد اعتبار القصد والإرادة في الامتثال وإلاّ للزم اعتبار امور كثيرة فيه كما لا يخفى ، وفساده غنيّ عن البيان.

وأمّا الثاني : فمتّجه جزما ، فإنّ الفعل الصادر لا عن قصد وإرادة ليس بواجب والواجب ليس بصادر ، لا لأنّ القصد معتبر في مفهومه كما توهّم لأنّه مقطوع بفساده بما تقدّم تحقيقه ، ولعلّه نشأ عن توهّم كون ما هو من لوازم الوجود دخيلا في الموضوع له ، بل لأنّ صدق الامتثال عرفا يدور مدار القصد فمع عدمه لا امتثال للأمر ، لا لأنّ الفعل غير صادق على الصادر ، ولا نقول بأنّ الغفلة حينئذ رافعة للتكليف ، حتّى يقال : بأنّ القدر المسلّم من عدم تعلّق التكليف بالغافل هو ما كان من أوّل الأمر ـ كما في الاستدلال ـ بل نقول : إنّ الإتيان بالفعل بعد تعلّق التكليف به مع الغفلة عنه بالمرّة موجب لعدم كونه ممتثلا ولا آتيا بالمأمور به.

٣١٨

والفرق بين المقامين واضح ، فظهر أنّ الاستدلال بما ذكر لا ينطبق على محلّ الكلام ، وما يلزم منه أمر لا دخل له في المقام.

ومن البيّن أنّ التفطّن بالتكليف عند تعلّقه لا يوجب التفطّن بالفعل عند صدوره ، كما أنّ الغفلة عن الفعل في بعض الأحوال لا تستلزم الغفلة عن التكليف في أوّل الحال ، والمدار في الامتثال على صدور الفعل عن قصد ورويّة وإن طرأه الغفلة عن التكليف الثابت حال التفطّن في أثناء العمل ، بل لا يقدح في ذلك عروض النوم أيضا كما في الصوم ونحوه لكفاية القصد إلى الفعل في أوّل الأمر في صدق الامتثال عرفا ، ولا يعتبر فيه استمرار القصد جزما ، ولا يوجب عروض الغفلة ونحوها في الأثناء خروج الفعل عن اتّصافه بالوجوب ، لأنّه قد تعلّق به عند تحقّق شرطه فيستمرّ بقاؤه حتّى لحقه الامتثال أو نحوه من المسقطات ، والغفلة الأثنائيّة ليست منها إجماعا ، وكونها منافية للتكليف بحكم العقل ما كانت ثابتة عن أوّل الأمر لا مطلقا ، فلا يلزم التخصيص في حكم العقل ، فلا وجه لما ذكر في ذلك المقام من أنّ التكليف يتوقّف على العلم فلا تكليف مع الغفلة ، ضرورة أنّ العلم شرط في حدوث التكليف وقد حصل.

غاية الأمر أنّه لا يحكم عليه بالوجوب مع طروّ الغفلة بحسب الظاهر ، ولا ينافيه ثبوت الوجوب بحسب الواقع.

وبالجملة : لا إشكال في اعتبار قصد أصل الفعل في الامتثال بشهادة العرف والعادة مع قضاء الاعتبار به أيضا ، وهل يعتبر فيه مع ذلك قصد العنوان الّذي أمر به على هذا العنوان ، فلو صدر عنه الفعل لا بقصد عنوانه المأمور به لا يعدّ امتثالا للأمر ولا إتيانا بالمأمور به ، ولو كان مقصودا بحسب جنسه أو نوعه؟ كما لو أمره السيّد بإكرام زيد بن عمرو فأتى بما يعدّ إكراما في نظر العرف ، ولكن لا بقصد أنّه إكرام أو أنّه إكرام لزيد أو أنّه إكرام لابن عمرو ، وإن كان قاصدا لكونه إكراما أو إكراما لزيد أو لا؟ بل المعتبر تعلّق القصد بأصل الفعل جنسا أو نوعا فالامتثال حاصل به وإن لم يكن عنوانه المأمور به مقصودا.

وبالجملة : فهل يشترط في صدق الامتثال قصد الوصف العنواني المعتبر في المأمور به أو لا؟ فيه أيضا خلاف على قولين ، أقواهما الثاني ، واحتجّوا للأوّل بوجوه :

أحدها : أنّ الطلب لا يتعلّق إلاّ بالمقدور ، والفعل بدون القصد غير مقدور ، وكما أنّه لا يصحّ طلب غير المقدور فكذلك لا يصحّ طلب القدر المشترك بينه وبين المقدور ، إذ القدر

٣١٩

المشترك لا يصير مقدورا إلاّ بمقدوريّة جميع أفراده ، ومفروض المقام خلافه لعدم مقدوريّة أحد فرديه هنا فيستحيل طلبه.

وقضيّة ذلك توجّهه إلى المقدور ، ولمّا كان المقدور في المقام هو الفعل مع النيّة فيكون هو المطلوب دون غيره ، فلا يحصل الإمتثال بغيره لأنّه ليس بمطلوب.

والجواب : منع اعتبار القصد إلى الفعل في القدرة عليه كما عرفت ، ولو سلّم فلا يجديه نفعا في المقام ، إذ لو أراد به القصد إلى أصل الفعل فانتفاؤه هنا خلاف الفرض ، ولو أراد به القصد إلى خصوصيّة العنوان فلا ينوط به القدرة على أصل الفعل كما لا يخفى ، والتكليف إنّما تعلّق بالمقدور لا بالمقصود ، ولو سلّم أنّ الطلب لم يتعلّق إلاّ بالمقصود فهو ليس من جهة اعتبار القصد في مقصود الآمر ، بل إنّما هو لأجل قصور نفس الطلب في تعلّقه به ، فلا ينافيه كون مقصود الطالب عند قصور الفعل أعمّ من المقصود وغيره ، فيكون المطلوب أخصّ من المقصود ولا ملازمة بينهما من حيث العموم والخصوص.

وبالجملة : نحن نعلم بالوجدان أنّ مقصود الآمر إنّما هو حصول أصل الفعل في الخارج كيفما اتّفق ، فيكفي في الامتثال تحقّق المصداق في الخارج مع كونه مقصودا ببعض عنواناته وإن لم يكن ذلك العنوان هو الوصف المعتبر في المأمور به ، لأنّه كاشف عن علّة الحكم لا أنّه علّة لاعتبار أمر زائد في موضوعه.

وبالجملة : نحن لا ننكر اشتراط التكليف بالقدرة ، وأنّ الطلب لا يتعلّق إلاّ بالمقدور.

ثمّ لو سلّم مدخليّة القصد في القدرة ، نقول : إنّ العبرة في الامتثال إنّما هو بالإطلاق والتقييد اللذين تصوّرهما الآمر عند إرادة الطلب ، فلو ظهر من دلالة خارجة إنّ ما تصوّره الآمر كان أمرا مطلقا يحصل الامتثال بما يقع من مصاديق ذلك المطلق وإن لم يكن بالعنوان الّذي تعلّق به الطلب بذلك العنوان ، كما لو ظهر أنّه إنّما تصوّر أمرا مقيّدا فطلبه ، فلا يحصل الامتثال إلاّ بذلك المقيّد ، فلذا لو ظهر أنّ طالب الماء إنّما تصوّر ماء باردا أو حلوا لا يحصل الامتثال بالحارّ أو الماء الملح.

ومن المعلوم في المقام بحكم البديهة والعرف والعادة أنّ ما يتصوّره الآمر إنّما هو حقيقة الفعل من غير ملاحظة شيء آخر معها من القيود الخارجة عنها كالقدرة والقصد ونحوهما ، إلاّ أنّ الطلب لقصوره في حدّ ذاته لا يتعلّق بحكم العقل إلاّ بما كان مقدورا (١) لئلاّ

__________________

(١) وحاصل هذا الكلام : أنّ القدرة إنّما تقيّد الطلب لا المطلوب ، فلذا تعدّ من شرائط التكليف لا المكلّف به ، فهو

٣٢٠