تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

ثمّ أخذ في الاحتجاج لما صار إليه ، وقال في جملته : « إنّ الأمر ورد في الشريعة على ضربين : أحدهما يقتضي إيجاب الفعل دون مقدّماته * ، كالزكاة والحجّ ، فإنّه لا يجب علينا أن نكتسب المال ، ونحصّل النصاب ، ونتمكّن من الزاد والراحلة. والضرب الآخر يجب فيه مقدّمات الفعل ** كما يجب هو في نفسه ، وهو الصلاة وما جرى مجراها بالنسبة إلى الوضوء.

__________________

الفاضل البحراني ـ في رسالته المعمولة في هذا الباب بعد نقل هذا القول ـ : وربّما لاح منه بعد تسليم الإجماع على وجوب الأسباب وجه خامس هو القول بوجوب السبب والشرط الشرعي.

واعترض عليه : بأنّه لا يخفى ما في هذه العبارة من الخفاء ، والأولى أن يقال : إنّه إن سلّم الإجماع على وجوب الأسباب فيكون هذا القول قولا بوجوب الشرط الشرعي والسبب دون غيرهما ويكون الأقوال ثلاثة ، وإن لم يسلّم الإجماع فيحتمل وجهين وجوب الشرط خاصّة دون غيره مطلقا ، ووجوب الشرط والسبب معا دون غيرهما ، وحينئذ يمكن ارتقاء الأقوال إلى خمسة » انتهى.

وذكر بعض الأجلّة مكان ذلك قولا آخر وهو ـ على ما حكي ـ كون الأمر بالمسبّب عين الأمر بالسبب ، مذيّلا له : بأنّ هذا في الحقيقة خارج عن المبحث.

وهذا ممّا يظهر حكايته عن المصنّف أيضا ، وكأنّ وجه خروجه أنّ النزاع في وجوب المقدّمة تبعا لوجوب ذيها ، والقول بأنّ وجوب المقدّمة هو المقصود بالأصالة من الأمر بذيها إذا كان مسببا لا مدخل له في هذا العنوان كما لا يخفى.

نعم ، القول الخامس المحقّق ما عثرنا عليه في كلام ابن إدريس في سرائره وإن لم نقف على من عدّه هنا من أقوال المسألة ، وهو التفصيل فيما لا يتمّ الواجب إلاّ به بين الغسل لصوم شهر رمضان الواقع قبل الفجر فيكون مندوبا ، وبين غيره مطلقا فيكون واجبا.

* بيان لما يكون من أوامر الشريعة مشروطا ، فإنّ الأمر المشروط ليس أمرا بمقدّماته إجماعا مقدورة كانت أو غيرها.

ولا يذهب عليك أنّ مراده بالمقدّمات ما يرجع إلى الوجوب فقط بقرينة قوله : « لا يجب علينا أن نكتسب المال ونحصّل النصاب » وفي حكمها ما يرجع إليه وإلى الوجود معا كما تقدّم.

** مراده بمقدّمات الفعل بقرينة المقابلة للضرب الأوّل ما يرجع إلى الوجود فقط ،

٤٨١

فإذا انقسم الأمر في الشرع إلى قسمين ، فكيف نجعلهما قسما واحدا »؟ *

__________________

وهي الّتي لا يتوقّف عليها وجوب الفعل أصلا ، فهو صريح في إطلاق القول بوجوب مقدّمات الواجب المطلق كما عليه الأكثر ، فيفسد به ما هو المعروف منه في القول بالوجوب من مصيره إلى الفرق بين السبب وغيره.

نعم ربّما يتدافع كلامه هذا لما سبق حكايته في كلام المصنّف أوّلا من قوله : « وإن كان غير سبب وإنّما هو مقدّمة للفعل وشرط له لم يجب أن يعقل من مجرّد الأمر أنّه أمر به ».

ووجه التدافع : إنّ الّذي لا يتمّ الشيء إلاّ به إذا كان مقدّمة للفعل وشرطا له هو الّذي يعبّر عنه بمقدّمة الوجود ، فالحكم بعدم تعقّل وجوبه مع تعقّبه بعد ذلك بالحكم بوجوب مقدّمات الفعل فيما ذكره من الضرب الثاني من أوامر الشريعة تدافع ظاهر.

ويمكن دفعه : بأنّ المراد بمقدّمات الفعل هنا ما يكون مقدّمة للوجود الصرف وهو المقابل لما يكون مقدّمة للوجوب الصرف ، وبمقدّمة الفعل فيما سبق ما احتمل مع كونه مقدّمة للوجود كونه شرطا للوجوب أيضا وهو الأمر المجمل المردّد بين كونه ممّا يجب من المقدّمات وما لا يجب منها ، فإذا كان الشأن فيه هذا فلا يعقل من مجرّد الأمر الحكم بوجوبه من غير دلالة على عدم كونه مقدّمة للوجوب ، مع احتمال كونه في الواقع مقدّمة للوجوب أيضا الّذي لا يعقل وجوب مقدّمته.

فصار المحصّل : أنّ المقدّمة إمّا مقدّمة للوجود فقط ، أو مقدّمة للوجوب فقط ، أو مقدّمة لهما معا ، أو مردّدة بين كونها من الأوّل أو من الثالث ، وهاهنا احتمالات اخر تظهر بأدنى تأمّل.

والّذي يحكم عليه بكونه واجبا هو الأوّل ، والّذي يحكم عليه بعدم تعقّل وجوبه بمجرّد الأمر هو الرابع ، لدورانه بين ما هو واجب جزما وما ليس بواجب جزما وهو الثالث فلا تدافع بينهما لتعدّد موضوعيهما.

* اعتراض على بعض العامّة في إطلاق قوله : « بأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلاّ به ».

وحاصله : أنّ الأمر الوارد في الشرع إنّما احتمل كونه من القسم الأوّل الّذي لا يجب مقدّمته جزما والقسم الثاني الّذي يجب مقدّمته جزما ، فكيف يحكم بمجرّده إنّه أمر بمقدّمته مع قيام احتمال كونه من القسم الأوّل.

وأنت خبير بأنّه اعتراض في غير محلّه.

٤٨٢

وفرّق في ذلك بين السبب وغيره ، بأنّه محال أن يوجب علينا المسبّب بشرط اتّفاق وجود السبب ؛ إذ مع وجود السبب لابدّ من وجود المسبّب ، إلاّ أن يمنع مانع *. ومحال أن يكلّفنا الفعل بشرط وجود الفعل ، بخلاف مقدّمات

__________________

أمّا أوّلا : فلأنّه إشكال يرد في موضع الاشتباه ، والعنوان المشتمل على إطلاق القول بوجوب المقدّمة مخصوص بما كان من القسم الثاني الّذي اعترف المعترض بوجوب المقدّمة فيه ، نظرا إلى عود ضمير « ما لا يتمّ إلاّ به » إلى الشيء.

فالعنوان صريح في أنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ ذلك الشيء إلاّ به ، ولا يكون ذلك إلاّ مقدّمة للفعل لا لوجوبه ، إلاّ أن يعتبر في الشيء وصفه العنواني الحاصل فيه باعتبار تعلّق الأمر به ، ويرجع ذلك الشيء إلى ما ذكرناه من الأمر المردّد.

بأن يقال : إنّ ما لا يتمّ الشيء المأمور به بعنوان أنّه مأمور به إلاّ به ما يعمّ كلاّ من مقدّمات الفعل ومقدّمات وجوبه ، بدعوى : أن يكون المراد « بما لا يتمّ المأمور به إلاّ به » ما لا يتمّ إلاّ به من جهة الأمر المتعلّق به ، أو من جهة حصوله في الخارج فيكون الوصف المعتبر فيه واردا بحال الموصوف وبحال متعلّقه معا ولكنّه بعيد عن العنوان ولا يساعده سوق العبارة بحسب ظاهر الفهم ، ولا سيّما مع ملاحظة استلزامه الاستعمال في أكثر من معنى من باب الاشتراك أو الحقيقة والمجاز.

فصار محصّل كلام السيّد دعوى : أنّ سببيّة ما كان من المقدّمات سببا قرينة على كون الأمر الوارد على المسبّب مطلقا فيكون أمرا بالسبب أيضا.

وأمّا غيره فلا يحكم من مجرّد ذلك الأمر بكونه أمرا به أيضا ، لا لأنّ المقدّمة حينئذ ليست بواجبة كما زعموه بل لعدم تعيّن كون الأمر حينئذ مطلقا ، فهو توقّف منه في الأمر لتردّده في نظره بين المطلق والمشروط لا في المقدّمة بتردّدها بين الوجوب والعدم بعد الفراغ في الأمر بفرض كونه مطلقا.

والفرق بينه وبين المشهور أنّهم يجعلون الأمر في موضع الاشتباه مطلقا للأصل من جهة الانصراف أو الحقيقيّة دونه لبنائه على الاشتراك فيتوقّف وإلاّ فهو على تقدير زوال هذا الاشتباه موافق لهم نعلا بنعل من جهة المقدّمة.

* وربّما يستظهر عن السيّد في تلك العبارة إطلاق السبب على العلّة التامّة فيورد عليه :

٤٨٣

الأفعال. فإنّه يجوز أن يكلّفنا الصلاة بشرط أن يكون قد تكلّفنا الطهارة ، كما في الزكاة والحجّ *.

__________________

بأنّه مع خروجه عن المصطلح خال عن الوجه ، تعليلا بأنّ المراد بالمقدّمة هاهنا ما يكون من مقولة فعل المكلّف ، وليس شيء منه يكون علّة تامّة للخطاب لكثرة ما في كلّ فعل يكون سببا عندهم من القيود والشرائط الّتي لا يكون الشيء علّة تامّة إلاّ مع انضمامها إليه.

وهو كما ترى بعد ملاحظة قوله : « إلاّ أن يمنع مانع » وارد على خلاف التحقيق ، إذ العلّة التامّة ما لا يجامع منع المانع والّذي يجامعه إنّما هو السبب بالمعنى المصطلح.

ولو اريد بإطلاقه عليها اندراجها فيما اطلق عليه فلا خروج فيه عن المصطلح ، لأنّ السبب عندهم عبارة عمّا يعمّها والمقتضي كما يفصح عنه تعريفه بما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته.

نعم يبقى الكلام معه حينئذ في أنّ هذا المعنى العامّ باعتبار أحد فرديه لا مصداق له في أفعال المكلّف ، وهو مع أنّه مشترك الورود عليه وعلى غيره ممّن عممّ المقدّمة في المقام بالنسبة إلى السبب وغيره مناقشة في غير محلّها ، إذ الكلام مبنيّ على الفرض وفرض المحال على تقدير تسليمه ليس بمحال ، فلو فرض في أفعال المكلّف ما يكون بنفسه علّة تامّة للحكم أو موضوعه فلا إشكال في اندراجه في العنوان ودخوله في التعريف ، فتكون من موضع النزاع في أحد تقديريها وخارجا عنها في تقديرها الآخر كما لا يخفى.

* وأنت خبير بوهن هذا الكلام ، فإنّ مجرّد الجواز العقلي لا يوجب اشتباه المقدّمة بين كونها وجوديّة أو وجوبيّة ، ولا تردّد الأمر بين كونه مطلقا أو مشروطا ، إذ ما يكون من المقدّمات مقدورا للمكلّف فهو بحسب الشرع إمّا مقدّمة وجوديّة صرفة كالطهارة للصلاة ، أو وجوبيّة صرفة كاستطاعة الحجّ ونصاب الزكاة ، وما يكون متردّدا بينهما لا مورد له إلاّ في فرض نادر ، كما لو فرض في إقامة المسافر للصوم الواجب بدعوى تردّدها بين كونها شرطا للوجود أو شرطا للوجوب والفروض النادرة لا تزاحم القواعد الكلّيّة المبنيّة على الغالب.

ولا ريب أنّ كلام من أطلق في العنوان بوجوب ما لا يتمّ الشيء إلاّ به ناظرا إلى الغالب ، مع أنّ له طريقا في الفروض النادرة أيضا إلى رفع الاشتباه وإلحاق المشتبه بما لا اشتباه فيه أصلا كما عرفت مرارا ، فلا وجه للتوقّف من هذه الجهة أصلا.

٤٨٤

وبنى على هذا في الشافي نقض استدلال المعتزلة لوجوب نصب الإمام على الرعيّة ، بأنّ إقامة الحدود واجبة ، ولا يتمّ إلاّ به *.

__________________

* قيل في بعض الحواشي : « وليعلم أنّ صاحب المغني في الإمامة احتجّ على وجوب نصب الإمام على الرعيّة بما حاصله :

أنّ إقامة الحدود واجبة ، وقد ثبت أنّ ذلك من واجبات الإمام ، وتعيين الإمام إمّا بالنصّ وهو مفقود ، وإمّا بنصب الامّة فهو واجب ، لأنّه ممّا لا يتمّ إقامة الحدود الواجبة إلاّ به ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.

ثمّ اعترض على نفسه بما حاصله : أنّه كما يحتمل أن يكون النصب من مقدّمات الوجود فيكون الإقامة واجبة مطلقة ، كذلك يحتمل أن يكون من مقدّمات الوجوب فيكون وجوب الإقامة مقيّدا به فلم يجب الإقامة إلاّ بعد حصول الإمام ونصبه ، كما لم يجب إخراج الزكاة إلاّ بعد حصول النصاب.

فأجاب : بأنّ الأصل أن يكون الواجب مطلقا ، ولم يك وجوبه مشروطا بشيء من مقدّماته ، فإذا أمر به يجب تحصيل ما لابدّ في وجوده منه » انتهى.

وبما ذكر علم محصّل مراد السيّد في نقض الاستدلال مع جوابه ـ وهو الّذي أجاب به كلّ من لا يرى التوقّف في الأمر الدائر بين كونه مطلقا أو مشروطا ـ جيّدا فلا حاجة إلى إعادة الكلام في بيان النقض وجوابه.

وربّما يجاب عن الاستدلال أيضا بمنع المقدّمة الثانية وهو كون إقامة الحدود من واجبات الإمام أوّلا ، إذ لا دليل على انحصار صلاحيّة إقامة الحدود في الإمام وعدم صلاحيّة غيره ، سواء اريد بها خصوص السياسات الشرعيّة أو ما يعمّها وإجراء سائر الأحكام أيضا ، فإنّ التوقّف عليه إن كان عقليّا أو عاديّا فهما لا يقضيان به أصلا ، وإن كان شرعيّا فالدلالة الشرعيّة عليه أيضا مفقود والأصل عدم الاشتراط.

مضافا إلى إطلاق قوله تعالى : ( وأقيموا حدود الله ) (١) الّذي هو دليل وجوب الإقامة ، ولا ينافيه قوله تعالى ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ )(٢) لأنّ كون قيام الغير بإقامة الحدود إن كان أهلا

__________________

(١) لا توجد العبارة في المصحف الشريف ، وهو قدس‌سره اعتمد على الذهن.

(٢) البقرة : ٢٢٩.

٤٨٥

وهذا كما تراه ، ينادي بالمغايرة للمعنى المعروف في كتب الاصول المشهورة لهذا الأصل *. وما اختاره السيّد فيه محلّ تأمّل ، وليس التعرّض لتحقيق حاله هنا بمهمّ.

__________________

له تعدّيّا أوّل الكلام ، وينفيه الإطلاق المقتضي لصلاحية كلّ من له أهليّة لذلك.

وبمنع المقدّمة الثالثة ـ وهو كون مقدّمة الواجب واجبة على الإطلاق ـ ثانيا ، فإنّ مقدّمة الواجب واجبة إذا كانت مقدورة وأمّا إذا لم يعلم كونها مقدورة فلا ، كما أنّ تحصيل الطهارة بالماء المطلق مقدور قطعا وبالمضاف مشكوك فيه لاحتمال كونه حراما ، فلا يقال حينئذ : إنّه يجب الوضوء بالماء المضاف تحصيلا للطهارة.

ومحلّ البحث أيضا من هذا الباب إذ لا يعلم أنّ نصب الإمام هل هو من وظيفة الشارع لا غير حتّى لا يكون مقدورا لنا لقيام المنع الشرعي الّذي هو كالمنع العقلي وهو الحرمة ، أو من وظيفة الرعيّة حتّى يكون مقدورا لهم ، فلا يقال حينئذ : إنّه يجب عليهم النصب لاحتمال كونه مقدورا كما في الوضوء ، كيف وأنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط.

والأولى في الجواب أن يقال : إنّ إقامة الحدود إذا كان ـ باعترافكم ـ من واجبات الإمام خاصّة فكيف يعقل وجوب مقدّمتها على الرعيّة ، مع أنّ الكلام في وجوب المقدّمة إنّما هو فيما لو كانت المقدّمة من فعل المكلّف بذي المقدّمة بأن يكون المخاطب بفعل المقدّمة هو الّذي خوطب بفعل ذيها لا غيره.

فإذا ثبت وجوب شيء على أحد لا يقال : إنّ مقدّمته واجبة على غيره ، كيف والمراد بوجوب المقدّمة عند قائليه ما نشأ عن وجوب ذيها تبعا له ، فلا يعقل تعلّق وجوب المقدّمة بغير من تعلّق به وجوب ذيها.

نعم ربّما يصلح فعل الغير مسقطا للمقدّمة الواجبة على المكلّف كما في الطهارة الخبثيّة.

ولا ريب أنّ الإسقاط لا يلازم الإيجاب ، مع أنّ المطلوب بالاستدلال إحراز الإيجاب لا مجرّد الإسقاط.

* وجه المغايرة ما عرفته إجمالا ، وتفصيله : أنّ في المقام نزاعين :

أحدهما : صغروي واقع بين السيّد وغيره ، وهو أنّه إذا ثبت مع الأمر مقدّمة ودارت بين كونها شرطا لنفس الأمر أيضا حتّى يكون المأمور به واجبا مشروطا أو لا حتّى يكون

٤٨٦

فلنعد إلى البحث في المعنى المعروف ، والحجّة لحكم السبب فيه : أنّه ليس محلّ خلاف يعرف * ، بل ادّعى بعضهم فيه الإجماع ، وأنّ القدرة غير حاصلة مع المسبّبات فيبعد تعلّق التكليف بها وحدها.

__________________

الأمر به مطلقا ، فهل الأصل فيه كون الأمر مطلقا والمقدّمة قيدا في المأمور به أو لا؟ فغير السيّد على الأوّل ، وهو على الثاني حيث بنى على الوقف.

وثانيهما : كبروي واقع بين أصحاب الأقوال في تلك المسألة ، وهو أنّ مقدّمات الواجب المطلق هل تجب بوجوبه مطلقا أو لا مطلقا أو يفصّل ، والمعنى المعروف في الكتب المشهورة قول في النزاع الكبروي ، وما اختاره السيّد في العبارة المزبورة قول في النزاع الصغروي وبينهما بون بعيد ، فهو في الحقيقة موافق للمشهور في الكبرى ، وهو إطلاق القول بوجوب المقدّمة إذا ثبت كونها مقدّمة وجوديّة ، والأمر بالنسبة إليها مطلقا.

ولا ينافيه مصيره إلى التوقّف في الصغرى لشبهة عرضت له فلا وجه لإسناد القول بالفرق بين السبب وغيره في الوجوب إليه كما هو المعنى المعروف في الكتب.

* والمراد بالمعنى المعروف ما عرفت من وجوب المقدّمة إذا كانت سببا دون غيره ، والضميران عائدان إلى الحكم وهو وجوب السبب ، والعبارة تتضمّن وجهين بل وجوها من الأدلّة على وجوب السبب.

الأوّل : عدم معروفيّة الخلاف في وجوبه.

الثاني : الإجماع الّذي نقله جماعة منهم الآمدي.

الثالث : أنّ القدرة غير حاصلة مع المسبّبات فيبعد تعلّق التكليف بها وحدها.

وفي كلام الأكثر تقرير هذا الدليل : بأنّ وجود المسبّب عند وجود السبب ضروري وعند عدمه ممتنع ، فلا يمكن تعلّق التكليف به لكونه غير مقدور ، وقيل : بأنّ ذلك هو العمدة فيما بينهم وعليه تعويل الأكثر.

وربّما يستدلّ له بوجه رابع وهو : أنّ التوصّل إلى الواجب واجب إجماعا وليس بشرط لما دلّ على عدم وجوبه ، فتعيّن السبب فيكون واجبا.

ووجه خامس : وهو أنّ الطلب إنّما يتعلّق بفعل المكلّف وهو الحركة الإراديّة الصادرة عنه التابعة لتحريك القوى المنبثّة في العضلات.

وأمّا الامور التابعة لتلك الحركات المعلولة لها فليست فعلا للمكلّف ، بل فعل المكلّف

٤٨٧

مستتبع لها استتباع العلل للمعلول واستتباع الأشياء للامور المقارنة لها اقترانا عاديّا فلا يمكن تعلّق التكليف به.

والظاهر أنّ مراد هذا القائل بالسبب ما يعمّ العلّة التامّة والمقتضي معا ، كما يساعده قضيّة الاصطلاح.

نعم من جملة أدلّته المذكورة ما لا ينطبق إلاّ على العلّة التامّة كما لا يخفى.

فيرد عليه : عند الاستناد إلى عدم وفائه بتمام مطلوبه.

وأمّا ما يقال ـ في نفي احتمال إرادة العلّة التامّة ـ : من أنّ المراد بالمقدّمة الّتي يبحث في وجوبها ما كان فعلا من أفعال المكلّف ليصحّ وقوعه متعلّقا للحكم الشرعي الّذي هو من عوارض الفعل ، فالّذي يكون علّة تامّة لآخر ساقط عمّا بين الأفعال لكثرة ما في كلّ فعل من الشروط والأجزاء.

ففيه : ما أشرنا إليه سابقا ، مضافا إلى أنّه يوجب سقوط السبب والشرط أيضا عمّا بين الأفعال ، لما في كلّما يعدّ عندهم من الأسباب والشروط من الشروط والأجزاء ونحوها وهو كما ترى.

وربّما يحتمل أن يراد بالسبب هنا مجموع الأفعال الوجوديّة الّتي تدخل تحت قدرة المكلّف ، ووهنه أيضا واضح إذ لو اريد بمجموع الأفعال الوجوديّة ما يتركّب عن الأسباب والشروط وغيرها ممّا له مدخل في التوصّل إلى الواجب ، ففيه : أنّه توجيه بما لم يرض صاحبه لابتنائه على العدول عن تخصيص الوجوب بالمقدّمة السببيّة.

ولو اريد به جميع ما له دخل في سببيّة السبب ولو على تقدير إرادة العلّة التامّة منه فلا كلام ، ولكن مقابلة هذا الاحتمال حينئذ لاحتمال أن يراد بالسبب المقتضي الّذي ينطبق عليه تفسيره بكونه ممّا يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، ممّا لا وجه له كما لا يخفى.

وكيف كان فالجواب عن الوجه الأوّل : بأنّ دعوى عدم معروفيّة الخلاف في وجوب السبب مع معروفيّة إطلاق القول بنفي وجوب المقدّمة كما ترى.

ومع الغضّ عن ذلك فالعبرة به في المسائل العقليّة محلّ نظر ، ولا سيّما على مذهب من لا يراه حجّة أصلا كالمصنّف.

وعن الثاني : بأنّ الإجماع غير ثابت ونقله مع ملاحظة حكاية القول بعدم وجوب المقدّمة مطلقا مستراب فيه.

ولو سلّم فهو إجماع منقول لا اعتداد عليه في خصوص المقام لعدم كون مورده من

٤٨٨

التوفيقيّات ، للجزم بأنّ مستنده ليس هو السماع من المعصوم ، بل هو من النظريّات المبنيّة هنا على بعض الامور المذكورة الّتي ستعرف ضعفها ، فلا يندرج تحت ما دلّ الشرع على وجوب التعبّد به ولا سيّما مع ملاحظة فساد مدركه ، بل وفساد أصله ومبناه حيث إنّ ناقله الآمدي من العامّة فلا ينقل إلاّ ما هو على طريقتهم الفاسدة عندنا.

ولو سلّم أنّ السيّد أيضا من جملة النقلة فالاعتماد عليه في المسائل العقليّة والمطالب النظريّة غير ثابت الوجه ، وكونه مفيدا للظنّ غير مجد بعد تطرّق القدح في اعتبار الظنون بالنسبة إلى أمثال المقام.

وعن الثالث : بأنّ قوله : « وأنّ القدرة غير حاصلة مع المسبّبات » ، يفسده : أنّ الّذي لا يحصل عليه القدرة ما إذا لوحظ المسبّب بشرط عدم السبب وأمّا إذا لوحظ لا بشرط فلا ، ضرورة كونه حينئذ مقدورا بواسطة القدرة على السبب ، فالمكلّف فيه بحيث إن شاء فعل بإيجاد سببه وإن شاء ترك بترك سببه.

ودعوى : أنّ القدرة لابدّ وأن تكون بغير واسطة ممّا يكذّبه العقل والنقل ، كيف ولو صحّ ذلك لجرى في الشروط أيضا ضرورة عدم القدرة على المشروط بلا واسطة الشرط فبطل الفرق جدّا.

وأمّا قوله : « فيبعد تعلّق التكليف بها وحدها » إن اريد به مجرّد الاستبعاد العقلي ، ففيه : مع أنّه ضروري المنع ، أنّه لا يصحّ الاستناد إليه أصلا ولا سيّما في نظائر المقام.

وإن اريد به الامتناع العقلي فقد اتّضح فساده ، فإنّ الامتناع إنّما يلزم إذا اعتبر الوحدة قيدا في المكلّف به حتّى يكون مفاده عدم تجويز الإتيان بغير المسبّبات ولو كان أسبابا لها ، وأمّا لو اعتبرت حالة لتعلّق التكليف فلا.

وعن التقرير الآخر : يظهر ممّا مرّ ، ونزيد هنا أيضا أنّه إن اريد به أنّ القدرة المعتبرة في التكليف لابدّ وأن تكون بلا واسطة ، فيردّه : أنّه خلاف بديهة العقل والنقل.

وإن اريد أنّ القدرة مع المسبّب منتفية بالمرّة حتّى ما كانت منها مع الواسطة ، ففيه : أنّ الوجوب والامتناع إنّما ينشآن عن اعتبار المسبّب بشرط شيء أو بشرط لا ، وأمّا إذا اعتبر لا بشرط فهو ممكن لتساوي طرفيه بالنسبة إلى الاختيار.

غاية الأمر أنّه في كلّ من طرفي وجوده وعدمه يفتقر إلى وسط ، ومعه يجب أو يمتنع ، وهو لا يوجب خروجه عن حيّز الاختيار ، لما قرّر في محلّه من أنّ الوجوب والامتناع بالاختيار لا ينافيان الاختيار ، مع أنّ المشروط أيضا ممّا يمتنع بدون شرطه فلا يكون مقدورا.

والفرق بينه وبين المسبّب بعدم وجوبه بوجود الشرط ممّا لا يلتفت إليه ، كيف وأنّ

٤٨٩

القدرة المعتبرة في تعلّق التكليف لا تتأتّى إلاّ بتساوي الطرفين في الاختيار ، ولو سلّم فالشرط إذا وقع جزء الأخير من العلّة يعامل معاملة السبب فينبغي أن يكون واجبا ، مع أنّه لو تمّ لقضى بوجوب السبب خاصّة ، ضرورة أنّ إيجاب السبب لا يؤثّر في القدرة على المسبّب ، فلو فرض أنّه مع عدم وجوب السبب غير مقدور فكذلك مع وجوبه ، وهو مع فساده بنفسه ممّا لا يرضى به هذا القائل.

وعن الرابع : بأنّه متشابه المقصود فإن اريد بوجوب التوصّل إلى الواجب وجوب إيجاد ما يتوصّل به إليه فهو أوّل الدعوى ، والإجماع عليه واضح المنع.

وعلى تقديره فتخصيص الحكم بالسبب تحكّم وإخراج الشرط استنادا إلى ما دلّ على عدم الوجوب تعسّف ، لأنّ ما دلّ على ذلك فقد دلّ في المقدّمة مطلقا لا في الشرط خاصّة إلاّ أن يكون المقصود بذلك الجمع بين المتعارضين ، وما ذكر من التفصيل طريق جمع.

وفيه : أنّ ذلك قاعدة تجري في التعبّديّات خاصّة ومحلّ البحث من النظريّات ، مع أنّه لا يستقيم إلاّ بارتكاب تخصيص في كلا المتعارضين والمقام غير قابل له في شيء من الطرفين ، ولو سلّم فالعكس أيضا ممكن.

ولذا تنبّه المحقّق على تعكيس الدليل : بأنّ الإجماع حاصل على وجوب التوصّل وليس بالسبب لما ذكر فيكون بالشرط.

وإن اريد به وجوب تحصيله وإيجاده في الخارج فهو مسلّم والإجماع عليه ثابت ، ولكنّه بالنسبة إلى محلّ البحث لا يجدي نفعا لبقاء الواسطة غير معلوم الحكم كما لا يخفى.

وعن الخامس : بأنّه لو تمّ لقضى بكون السبب هو المقصود بالطلب وإن تعلّق الأمر ظاهرا بالمسبّب وهو عدول عمّا هو من محلّ البحث إلى ما هو خارج عنه.

ومع الغضّ عن ذلك فمقتضاه التفصيل في الأسباب أيضا لا إطلاق القول بوجوبها ، لأنّ من المسبّبات ما يعدّ فعلا للمكلّف ويدخل في جملة حركاته الإراديّة كالكون على السطح المترتّب على الصعود من درجات السلّم ونحوه.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا فمورد الدليل خارج عن أصل عنوان المسألة ، وذلك لأنّ الكلام في وجوب مقدّمة الواجب ولا يكون واجبا إلاّ ما كان من مقولة فعل المكلّف ، واللوازم التابعة له الخارجة عن اختياره ليست منها وإن كانت تسند إليه في بعض الأحيان ، فإنّه إسناد مجازيّ لا عبرة به في الخطابات الشرعيّة ، كيف ولا يعقل تعلّقها بما لا يكون فعلا.

بل الّذي يساعده النظر الصحيح أنّ المقصود بالذات من الطلب إنّما هو إيجاد الأسباب ،

٤٩٠

بل قد قيل إنّ الوجوب في الحقيقة لا يتعلّق بالمسبّبات * ، لعدم تعلّق القدرة بها. أمّا بدون الأسباب فلامتناعها ، وأمّا معها فلكونها حينئذ لازمة لا يمكن تركها **. فحيث ما يرد أمر متعلّق ظاهرا بمسبّب فهو بحسب الحقيقة متعلّق بالسبب *** ؛ فالواجب حقيقة هو ، وإن كان في الظاهر وسيلة له.

وهذا الكلام عندي منظور فيه ؛ لأنّ المسبّبات وإن كانت القدرة لا تتعلّق بها ابتداء ، لكنّها تتعلّق بها بتوسّط الأسباب ، وهذا القدر كاف في جواز التكليف بها.

__________________

لأنّه الّذي يتصوّره الآمر عند إرادة الطلب دون ما يتولّد منها على ما يشهد به الوجدان السليم والذوق المستقيم ، كما في الإحراق والقتل والعتق والطهارة ونحوها ، ولا ينافيه تعلّق الخطاب بالمسبّبات لأنّه تعلّق ظاهريّ وارد على سبيل التجوّز من باب تسمية السبب باسم المسبّب ، ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك بعد كونه ممّا يحكم به الوجدان وضرورة العقل المغنية عن إقامة البرهان ، وسيأتي لذلك في ردّ مقالة من ينزّل الأمر بالمسبّب إلى السبب مزيد بيان.

* وهذا القول قد أشرنا إلى حكايته عن بعضهم ، وكلام الأكثر خال عن نقله وكأنّه وهم نشأ عن ملاحظة ما ذكرناه من أدلّة القول المتقدّم من التقرير الآخر للدليل الثالث ، لما أشرنا إليه من انطباقه على تلك المقالة ، وعلى تقدير ثبوته فيرد عليه أكثر ما سبق في جواب أدلّة القول المتقدّم ولا حاجة إلى إعادتها هنا.

** وقد عرفت أنّ المسبّب إذا لوحظ لا بشرط لا يخرج عن كونه مقدورا.

غاية الأمر أنّه قدرة مع الواسطة وهي كافية في تعلّق التكليف بالضرورة لو كان من مقولة الأفعال ، وأمّا ما كان من غيرها فعدم تعلّق التكليف به ليس من جهة عدم كفاية القدرة مع الواسطة بل لامتناع تعلّقه بما ليس من فعل المكلّف ، مع أنّه لو تمّ لجرى في الشرط أيضا إذا وقع آخر أجزاء العلّة التامّة فلا وجه لدعوى اختصاص الحكم بما دون الشرط مطلقا.

*** وفيه : أنّه لو كان الأمر بالمسبّب أمرا بالسبب بحسب الحقيقة لامتنع الذهول عنه حين الطلب ، والتالي باطل.

٤٩١

ثمّ إنّ انضمام الأسباب إليها في التكليف يرفع ذلك الاستبعاد المدّعى في حال الانفراد.

ومن ثمّ حكى بعض الاصوليّين القول بعدم الوجوب فيه أيضا عن بعض. ولكنّه غير معروف.

وعلى كلّ حال ، فالذي أراه : أنّ البحث في السبب قليل الجدوى ، لأنّ تعلّق الأمر بالمسبّب نادر * ، وأثر الشكّ في وجوبه هيّن.

__________________

أمّا الملازمة : فلأنّ المأمور به بحسب الحقيقة لا يعني به إلاّ ما كان مشعورا به للآمر على سبيل الاستقلال ، بل لا يعقل الأمر الحقيقي بما لا يشعر.

وأمّا بطلان التالي : فبحكم البديهة والعيان المغني عن إقامة البرهان ، إذ كثيرا ممّا يأمر الآمر بشيء له أسباب وهو غافل عنها وغير شاعر بها ومع ذلك فكيف يقال بأنّ الأمر به أمر بها.

وأمّا ما قد يرى من كون الأمر بالمسبّب أمرا بالسبب في بعض الأفعال المباشريّة كالقتل وبعض الأفعال التوليديّة كالإحراق ، حيث إنّ الأمر بهما أمر بجزّ الرقبة وإلقاء الشيء في النار أو إلقائها فيه ، فإنّما هو لأجل أنّ الآمر لا يتصوّر عند إرادة الأمر إلاّ السبب ، فلا يريد بالقتل والإحراق اللذين أمر بهما بقوله : « اقتل فلانا ، وأحرق الخشب » مثلا إلاّ الجزّ والإلقاء كما يشهد به طريقة العرف ومجرى العادة.

وأنت خبير بأنّ مجرّد ذلك لا يوجب ثبوت كلّيّة المدّعى ، لما عرفت من قضيّة الذهول عن الأسباب كثيرا عند الأمر بالمسبّبات ، وكأنّ الذاهب إلى هذا القول اختلط عليه الأمر حيث لاحظ بعض الموارد الّذي أشرنا إليه ووجد أنّ متعلّق الأمر فيه حقيقة هو الأسباب فساق الكلام إلى غيره وتوهّم أنّ جميع الأسباب من هذا الباب ، ولقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

* وأورد عليه : بأنّ التعليق بالمسبّبات أيضا كثير إن لم نقل بكونه أكثر ، كالأمر بالكفّارة والأمر بالعتق ونحوهما ، فإنّ الصيغة سبب للعتق والعتق سبب للكفّارة ، ولا حظ تعلّق التكليف بالكليّات مع أنّ الفرد إنّما هو السبب لوجود الكلّي.

ولا يخفى أنّ توهّم كون الفرد مقدّمة سببيّة للكلّي من جملة ما شاع غلطا بين الناس ،

٤٩٢

وترى أنّهم يرسلونه إرسال المسلّمات وقد أشرنا في بحث تعلّق الأوامر بالطبائع إلى ما يقضي بفساد هذا الكلام.

وقد تنبّه عليه جماعة من الأجلّة منهم بعض الفضلاء ولا بأس بأن نجدّد النظر في ذلك ونفصّل في تحقيق ما سبق.

فنقول : أنّ المقدّمة حسبما مرّت الإشارة إلى تفسيرها عبارة عمّا يتوقّف عليه الغير في الوجود الخارجي الّذي جرت العادة على تسميته بذي المقدّمة ، فلابدّ فيها من سبق زماني بحسب الوجود كالشروط أو تقدّم ذاتي ولو تقارنا زمانا ، كالأجزاء والأسباب ولو في ضمن أحد فرديها المعبّر عنه بالعلّة ، بل الشروط أيضا مع وصف الشرطيّة يعتبر فيها المقارنة مع المشروط بها بحسب الوجود إذ لا يعقل التأثير فيها مع عدم المقارنة والّذي يتراءى من تقدمّها في غالب الأحيان زمانا فإنّما هو بحسب الذات وإلاّ فوصف الشرطيّة الّتي هي مناط توقّف المشروط مقارن حصوله لحصول المشروط ، فالشرط على هذا التحقيق لابدّ وأن يكون آنيّ الحصول أو استمراري الوجود إلى آن وجود المشروط كالطهارة للصلاة.

وعلى أيّ تقدير كان فلابدّ في المقدّمة وذيها من وجودين مترتّب أحدهما على الآخر ، ويستحيل عند العقل اتّحادهما في الوجود الخارجي وإلاّ ارتفعت جهة التوقّف ، ضرورة استحالة توقّف الشيء على نفسه ، والكلّي الطبيعي إمّا أن يكون له وجود في الخارج أو لا.

وعلى الأوّل فهو إمّا عين فرده الموجود في الخارج أو في ضمنه.

وعلى جميع التقادير لا يعقل فيه كون الفرد مقدّمة له ، أمّا على الأوّلين فواضح وأمّا على الأخير فلأنّ الكلّي حينئذ جزء للفرد الّذي هو عبارة عن الماهيّة مع الخصوصيّات المشخّصة لها ، وظاهر أنّ الجزء لا وجود له يغاير وجود الكلّ بل ليس لهما إلاّ وجود واحد فكيف يعقل توقّف الأوّل على الثاني ، والمفروض أنّ موضع التوقّف في كلّ من الجانبين إنّما هو الوجود.

ومع الغضّ عن ذلك فالعكس أولى بالإذعان ، مع أنّ الفرد إذا كان هو المجموع من الكلّي والخصوصيّات المكتنفة به فتوقّف الكلّي عليه في الوجود الخارجي توقّف على نفسه ، وهو كما ترى.

والعجب عن بعض الأعلام مع تصريحه باتّحاد الكلّي مع الفرد في الوجود ـ في غير واحد من مواضع كتابه ـ وإذعانه بكونه جزءا من الفرد كيف يصرّح بكون الفرد مقدّمة له ، وكأنّه اشتباه منه وممّن يزعم ذلك نشأ عن ملاحظة استحالة الوجود للكلّي بدون الفرد ، غفلة عن أنّ استحالة الانفكاك قد تكون بين المتلازمين وأنّه لا ملازمة بين التلازم والتوقّف ، بل

٤٩٣

التلازم ها هنا في الحقيقة إنّما هو بين الكلّي والخصوصيّات لا بينه وبين الفرد لئلاّ يلزم اللزوم بين الشيء ونفسه.

ويمكن توجيه كلامهم بحمله على إرادة كون الفرد مقدّمة علميّة للكلّي نظرا إلى أنّ العلم بحصوله في الخارج الّذي هو مناط الامتثال لا يحصل إلاّ بإيجاد الفرد المتضمّن له.

ولكن يزيّفه : خروج ذلك عن قانون المقدّمات العلميّة أيضا كيف والمقدّمة العلميّة اصطلاح لهم فيما أمكن لذي المقدّمة وجود في الواقع مع عدم انضمام وجود المقدّمة إليه كالصلاة إلى جهة القبلة عند الاشتباه الموجب لتردّدها بين الجوانب الأربع ، فإنّ الإتيان بها في جميع تلك الجوانب وإن كان مقدّمة علميّة إلاّ أنّها في الواقع ونفس الأمر يمكن تحقّقها في الجهة الاولى.

ويظهر الثمرة فيما لو لم ينضمّ إليها الجهات الاخر ثمّ انكشف بعد ذلك بأمارة حصلت من باب الاتّفاق ما هو حقيقة الحال ، بخلاف الكلّي بالنسبة إلى أفراده ، إذ لا يعقل له وجود بدون الفرد حتّى يجعل الفرد مقدّمة علميّة له ، إلاّ أن يفرض الواجب حينئذ تحصيل العلم بإتيان الواجب النفس الأمري ، ويقال : بأنّه موقوف على إيجاد المقدّمة المذكورة.

ولا ينافيه إمكانه بما فرضناه من الأمارة الاتّفاقيّة الحاصلة بعد ذلك ، لأنّها تصير حينئذ إحدى المقدّمتين فيثبت الوجوب لها على سبيل التخيير كما في سائر المقدّمات إذا تعدّدت ، أو يقال : إنّ الواجب إنّما هو هذه المقدّمة لكونها مقدورة.

وإلاّ الأمارة المفروضة حيثما حصلت مقدّمة غير مقدورة غير صالحة لأن يتعلّق بها وجوب غايتها كونها مسقطة عمّا هو الواجب من المقدّمة.

ولكن في النفس بالنسبة إلى ذلك أيضا شيء ، وهو أنّ هذا الواجب ليس من سنخ الواجبات الّتي يبحث في وجوب مقدّماتها وإنّما هو مجرّد إلزام عقلي يثبت من باب إرشاد العقل ، وكون مراد الجماعة في محلّ البحث هذا المعنى من الوجوب بعيد بل لا ينطبق عليه كلماتهم أصلا حيث يجعلون الفرد مقدّمة لوجود الكلّي في وجوبه الأصلي الثابت له بنفسه بأصل الشرع.

وبالجملة تصحيح كلامهم في دعوى كون الفرد مقدّمة للكلّي يحتاج إلى تكلّف واضح لا يصفى إليه النظر.

فالأولى إسقاط هذا الكلام عن درجة الاعتناء والإذعان بمنع مقدّميّة الفرد للكلّي بالمعنى المتقدّم المصطلح عليه وفاقا لغير واحد من الفحول.

٤٩٤

وأمّا غير السبب ، فالأقرب عندي فيه قول المفصّل. لنا : أنّه ليس لصيغة الأمر دلالة على إيجابه بواحدة من الثلاث * ، وهو ظاهر.

__________________

* وقد سبق منّا عند الكلام في تحرير موضع النزاع ما يكفيك في دفع هذا الكلام.

وإن شئت نزيدك هنا بيانا ونقول : هذا النزاع لا يمكن فرضه في دلالة الصيغة حتّى يستدلّ على عدم الوجوب بعدم دلالتها بشيء من الثلاث.

أمّا أوّلا : فلعدم انحصار وجوب الواجب فيما ثبت بالدلالة اللفظيّة ، فنفي دلالة الصيغة لا يوجب انتفاء الوجوب مطلقا فيكون الدليل أخصّ من المدّعى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم كون وجوب المقدّمة مدلولا مطابقيّا ولا مدلولا تضمّنيا للصيغة ممّا لا كلام لأحد فيه.

وأمّا كونه مدلولا التزاميّا فلا ينبغي التأمّل في عدمه أيضا إذ لا لزوم بينه وبين مدلول الصيغة مطابقة وهو الطلب الإلزامي المقرون بعدم الرضاء بالترك بشيء من معانيه حتّى الغير البيّن منها ، وذلك لعدم استلزام كلّ واجب لأن يكون له مقدّمة ، فمدلول الصيغة إنّما هو طبيعة الوجوب الوارد بحسب متعلّقه على قسمين ، ووجوب المقدّمة على تقديره من لوازم أحد القسمين.

ومن البيّن أنّ لازم الأخصّ من شيء لا يعدّ لازما لذلك الشيء وإلاّ للزم أن يكون الأخصّ لازما للأعمّ وهو محال ، فلا يعقل في الصيغة دلالة عليه بشيء من الوجوه ضرورة عدم دلالة الأعمّ على الأخصّ.

ألا ترى أنّ أصحاب القول بكون الصيغة حقيقة في الوجوب يذعنون بدلالتها مع التجرّد عن القرائن أو مع قطع النظر عنها عليه مطلقا حتّى فيما لو صدرت عن الداني أو المساوي ، ولا يجعل أحد منهم ولا غيرهم ممّن لا يرتضي بهذا المذهب ترتّب استحقاق الذمّ والعقاب على المخالفة مدلولا لها بحسب الوضع ولا العرف بشيء من أقسامه ، وذلك لعدم كونه جزء من مدلولها المطابقي ولا لازما له بشيء من الوجوه ، وإنّما هو لازم لأحد أقسامه وهو الإلزام الصادر من العالي ولزومه غير بيّن لافتقار الانتقال إليه إلى النظر في وسط.

وظاهر أنّ اللوازم الغير البيّنة لا يلزم كونها مقصودة لقاصد ملزوماتها ولا سيّما إذا كان اللزوم من جهة خصوصيّة المقام لا من جهة مدلول اللفظ بما هو مدلول ، بل إنّما هي لوازم

٤٩٥

ولا يمتنع عند العقل تصريح الآمر بأنّه غير واجب * ، والاعتبار الصحيح بذلك شاهد. ولو كان الأمر مقتضيا لوجوبه لامتنع التصريح بنفيه.

__________________

يعتبرها العقل بعد ملاحظة الطرفين مع ملاحظة حدّ الوسط ويرتّبها على ما هو ملزوم لها ، وإن لم تكن مقصودة لقاصد ذلك الملزوم ومثل ذلك يسمّونه بـ « الدلالة الالتزاميّة العقليّة » وحكمها في الاعتبار مثل ما هو في الدلالات اللفظيّة من غير فرق بينهما ولا تأمّل لأحد في ذلك ، وعباراتهم مشحونة على التصريح بذلك من غير حكاية إشكال عن أحد.

فالّذي يقول بوجوب المقدّمة يدّعي كونه مدلولا التزاميّا بهذا المعنى (١) كما مرّ مرارا ويزعم كونه لازما غير بيّن ثابتا بحكم العقل مترتّبا على خصوصيّة المقام ، لا على الصيغة ولا مدلولها ولا على الوجوب المطلق كائنا ما كان حتّى ما لو لم يكن لمتعلّقه مقدّمة وإن ثبت بغير دليل اللفظ ، فالمصنّف وغيره ممّن تشبّت بهذا الدليل لنفي وجوب المقدّمة مطلقا أو إذا كانت شرطا إن أرادوا بالدلالة المنفيّة ما عدا الدلالة المذكورة فهو مسلّم ، بل ولا ينبغي لذي مسكة سليمة أن ينكره ، ولكنّه لا يجديهم نفعا ، إذ لا منافاة بين انتفاء هذا النوع من الدلالة وثبوت غيره ممّا هو معتبر جدّا.

وإن أرادوا بها مطلق الدلالة حتّى ما لو كانت التزاميّة عقليّة باللزوم الغير البيّن فهو ممنوع بما سيأتي من الأدلّة على الوجوب من باب الدلالة المذكورة.

* وهذه العبارة أو ما يقرب منها في كلام القوم دليل آخر على عدم [ كون ] وجوب المقدّمة مستقلاّ برأسه ، وأمّا في كلام المصنّف يحتمل كونها من تتمّة ما تمسّك به أوّلا من نفي دلالة الصيغة على الوجوب كما توهّمه بعض الأفاضل ، بدعوى : أنّه رام بها نفي ما عدا الدلالات اللفظيّة ممّا ذكرناه من الدلالة العقليّة التبعيّة بعد ما رام بالعبارة الاولى نفي الدلالات اللفظيّة وهو الأوفق بطريقة العبارة وظاهرها.

__________________

(١) قوله « يدّعى كونه مدلولا التزاميّا بهذا المعنى الخ » :

والوجه في ذلك : أنّ إثبات الملازمة بين إيجاب الشيء وإيجاب مقدّماته يحتاج إلى وسط وكلّ ما كان كذلك فالملازمة عقليّة غير بيّنة وذلك كما يقال في إثبات لزوم الحدوث للعالم : بأنّ العالم مستلزم للحدوث لأنّه متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث ، فيقال في محلّ الكلام : إنّ إيجاب الشيء يستلزم إيجاب مقدّماته لأنّها بحيث بينها وبين الآمر نسبة لو التفت إليها لطلبها حتما ، وأنّها بحيث لا يرضى الآمر بتركها ، ولا يجوز له التصريح بعدم وجوبها ، وكلّ ما كان كذلك فهو واجب ( منه ).

٤٩٦

ويحتمل كونها مرادا بها الاستدلال بوجه آخر غير ما ذكره أوّلا فيلزم أن يكون ذلك قاصرا عن إفادة تمام المدّعى.

وكيف كان فعن المصنّف في الحاشية « منه » أنّه مثّل لما ذكره من عدم امتناع تصريح الآمر بعدم وجوب غير السبب بأن يقول : « أوجبت عليك الحجّ فإن تركته استوجبت العقاب عليه لا على عدم قطع المسافة » و « كن على السطح فإن خالفت عوقبت على ترك الكون لا على عدم نصب السلّم ».

وأنت خبير بعدم انطباق المثال على الممثّل ، فإنّ ذلك تصريح بما هو من لوازم وجوب المقدّمة ، لما تقدّم من أنّ المقدّمة على تقدير وجوبها لا يترتّب على تركها استحقاق ذمّ ولا عقاب ، فالتصريح بذلك لا ينافي وجوبها.

نعم لو قال ـ في المثال المذكور ـ : « أوجبت عليك الحجّ وأرضى بترك قطع المسافة » و « كن على السطح ورخّصتك في ترك نصب السلّم » وصحّ ذلك عرفا وعقلا تمّ الاستدلال وانتهض الدليل ، ولكنّه بمكان من الفساد.

فإنّ ذلك التصريح بعد إيجاب ذي المقدّمة لا يعدّ في العرف والعادة إلاّ ناشئا عن السفاهة وسخافة الرأي ولا يعدّه العقل إلاّ تناقضا ، لإفضائه بالأخرة إلى الرضا بترك ذي المقدّمة والترخيص في مخالفة إيجابه وسيأتي عند ذكر الأدلّة على الوجوب زيادة بيان لذلك الوجوب.

وربّما يعترض على ما ذكره المصنّف أيضا بأنّ صحّة التصريح بعدم وجوب المقدّمة لا تنافي ظهور وجوبها عند عدم التصريح ، إذ يجوز التصريح بخلاف ما هو الظاهر كما في القرائن الصارفة في المجازات عن المعاني الحقيقيّة والخصم لا يدّعي إلاّ ظهور وجوب المقدّمة عند إيجاب ذي المقدّمة مع عدم دليل وقرينة انتهى.

وأنت خبير بأنّ ذلك أيضا بمكان من الوهن ، فإنّ الخصم يدّعي الضرورة والوجدان ويقيم عليه البرهان ، وظهور الوجوب لا يلائم شيئا من ذلك مع أنّ اللزوم بين طلب الشيء وطلب مقدّماته إذا كان عقليّا ـ على ما ادّعاه الخصم فكيف يمكن التفكيك بينهما بالدلالة على الملزوم مع انتفاء اللازم ، فإنّ اللازم لا يعقل انفكاكه عن الملزوم ، وقياس محلّ الفرض على قرائن المجازات الصارفة عن الحقيقة مع الفارق ، إذ لا يوجب فيها التصريح بخلاف الحقيقة ما يمتنع عقلا وينافي الحكمة اعتبارا بخلافه ، فإنّ انفكاك اللازم عن الملزوم ممتنع عقلا والتصريح بتحقّق الملزوم بدون اللازم ، كالإخبار بوجود النار من غير حرارة ، والأربعة

٤٩٧

من غير زوجيّة يجوّز تقبيح الحكيم وتسفيهه.

فإن قلت : الطلب أمر إرادي منوط بالاختيار ، فللمختار أن يريده في موضع وأن لا يريده في آخر ، فليس ذلك نظير ما ذكر من اللوازم.

قلت : بعد قيام الدليل على أنّ طلب المقدّمة لازم لطلب ذيها ولا ينفكّ عنه ما دام ثابتا فالتصريح بنفيه مع ثبوت ملزومه ينافي الحكمة ، لأنّه بضابطة أنّ انتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم يؤدّي إلى نفي الملزوم أيضا وهو مع التصريح بثبوته أوّلا لا ينشأ إلاّ عن قلّة العقل وسفاهة الرأي.

ثمّ إنّ هذا الوجه وسابقه وإن ذكرهما المصنّف لنفي وجوب المقدّمة الشرطيّة إلاّ أنّ غيره من نفاة الوجوب مطلقا تمسّكوا بهما للنفي المطلق.

وقد حكي عنهم في المقام وجوه اخر لا بأس بأن نشير إليها وإلى ما يرد عليها فمنها : الأصل.

وفيه : إن اريد به أصالة البراءة فقد تقدّم أنّها غير جارية حتّى على القول بعدم الوجوب ، فإنّ الوجوب العقلي المعبّر عنه باللابدّية ثابت للمقدّمة على التقديرين ، فالذمّة مشغولة بايجادها كائنا ما كان للوصلة إلى امتثال الأمر بإتيان المأمور به. نعم لو فرض أنّ الوجوب الشرعي فيها ملزوم لاستحقاق العقاب على المخالفة لصحّ تقرير الأصل بحيث ينفي ذلك اللازم فيلزم منه نفي الوجوب أيضا ، ولكنّه بعد قيام البرهان على الملزوم نظرا إلى الأدلّة على الوجوب مع فرض استلزامه الاستحقاق المذكور في غير مجراه فلا تأثير له أصلا.

وإن اريد به أصالة عدم تعلّق الخطاب بها أو أصالة عدم حدوث الطلب بالنسبة إليها أو عدم الإرادة الحتميّة المتعلّقة بها فهو وإن كان في مجراه على فرض عروض الشكّ إلاّ أنّه بعد الأدلّة على الوجوب لا تأثير له أيضا.

ومنها : أنّ المسألة ممّا تعمّ به البلوى وتشتدّ إليه الحاجة ، فلو أنّ الحكم فيها كان هو الوجوب لقضت العطوفة والشفقة ببيانه والتنبيه عليه ، كما أنّ العادة اقتضت كثرة السؤال عنه والفحص عن تفاصيله ، والتالي باطل حيث لم يوجد لذلك في الأخبار ولا غيرها شيء من الآثار.

وفيه أوّلا : المعارضة بالمثل ، فإنّ الّذي تعمّ به البلوى إنّما هو ذات المقدّمة لا وجوبها ، فكما أنّ العادة تقضي في مثله بكثرة السؤال عن وجوبها فكذلك تقضي بكثرة السؤال عن عدم وجوبها ، كيف واحتمال الوجوب للجاهل به ملازم لاحتمال عدمه ، فالسؤال لو كان ولابدّ منه وكان كثرته من مقتضيات العادة لكان واقعا لتحقيق أحد الاحتمالين.

٤٩٨

فلو قيل : إنّ انتفاء السؤال عن عدم الوجوب لعلّه من جهة البناء على أصالة النفي كما هو الأصل في كلّ شيء.

ليدفعه : مضافا إلى أنّ أصالة النفي قد لا يعبأ بها في مظانّ الاحتياط ، أنّه لو صحّ لكان متساوي النسبة إلى طرفي المسألة ، فلعلّ عدم السؤال عن الوجوب من جهة التعويل على الأصل المذكور وهو لا يلازم مصادفة الواقع.

ولو قيل : إنّه لو لا المصادفة للواقع لاقتضت قاعدة [ اللطف ] الردع عنه والتنبيه على خلافه ، فحيث ليس فليس.

لقلنا : قاعدة اللطف على تسليم صحّتها إنّما تجري في مظانّ العصيان الموجب للخذلان واستحقاق النيران ، وقد مرّ مرارا أنّ ترك المقدّمة من حيث هو كذلك لا يوجب استحقاق العقاب عليه مع قطع النظر عن ترك ذيها حتّى على تقدير وجوبها ، فتكون القاعدة أيضا متساوي النسبة إلى مصادفة الأصل وعدمها.

وثانيا : أنّ الحكم إذا كان من الواضحات الّتي يدركها العقول السليمة فلا قضاء للعادة بالسؤال عنه فضلا عن كثرته ، كما أنّ العطوفة لا تقتضي بيانه بخطاب مستقلّ اكتفاء منه بتبيّنه بلسان العقل.

ألا ترى أنّ المستقلاّت العقليّة ممّا لم يلتزم فيها أحد بلزوم وصول بيانها من الشارع بالخصوص ، فخلوّ الأخبار وغيرها عن التنبيه على الحكم في محلّ البحث لعلّه من جهة إحالة تبيّنه إلى حكم العقل.

وبالجملة : عدم البيان لو اريد به عدم وروده بلسان الشرع فهو مسلّم ، ولكنّه لا يوجب انتفاء الوجوب بالمرّة ، ولو اريد به العدم مطلقا فبطلان التالي ممنوع.

ومنها : أنّه لو استلزم إيجاب شيء إيجاب مقدّمته للزم تعقّل الموجب لها وإلاّ للزم الأمر بشيء وإيجابه مع عدم شعور الآمر به وهو بديهيّ الاستحالة ، واللازم باطل للقطع بإيجاب الفعل مع الذهول عمّا يلزمه.

وفيه : أنّ تعقّل الملزوم الّذي هو المقصود أصالة يغني عن تعقّل لازمه الّذي يستحيل بدونه الوجود في الخارج ، فيكون إيجابه كافيا في إفادة إيجابه وإن لم يكن مشعورا به وذهل عنه الموجب بالمرّة.

غاية الأمر خروجه مخرج التبعيّات وهو غير قادح في تحقّق أصل الحكم ، إذ ليس

٤٩٩

مدار البحث على الإيجاب الأصلي لينافيه الذهول وعدم شعور الآمر به فيترتّب عليه بداهة الاستحالة لما سبق تحقيقه في تحرير موضع النزاع ، والوجوب التبعي الّذي ينوط به البحث لا ينافيه عدم الشعور بموضوعه أو عدم قصد إيجابه لما سيأتي تحقيقه عند ذكر الأدلّة على الوجوب ، وكأنّ الاستناد إلى ذلك الوجه نشأ عن توهّم [ وقوع ] الوجوب الأصلي محلاّ للنزاع ، فعليه يتّضح فساده لما اتّضح آنفا من فساد مبناه.

فبالجملة لو اريد بإيجاب المقدّمة ما يلزم منه الوجوب الأصلي فالملازمة مسلّمة ، فيترتّب عليه صحّة الدليل على هذا التقدير لكون بطلان اللازم بديهيّا.

ولكن يبقى الكلام معهم في صحّة ذلك التقدير ولقد أفسدناه سابقا ، فيترتّب عليه فساد الدليل ، ولو اريد به ما يعمّ الوجوب التبعي أيضا فجوابه منع الملازمة.

وربما اجيب عنه أيضا : بأنّ عدم التعقّل فيما هو الغرض الأصلي من وضع المسألة من أوامر الله تعالى ممنوع.

وقد يقرّر ذلك : بأنّا لا ندّعي أنّ إيجاب المشروط إذا صدر عن أيّ آمر كان يستلزم إيجاب الشرط ، بل إنّه إذا صدر من الحكيم العالم الشاعر كان مستلزما للإرادة الحتميّة المتعلّقة بمقدّماته عند الشعور بكونها مقدّمة له ، وهذا نظير ما يقال إنّ إرادة الشيء تستلزم كراهة ضدّه عند ملاحظة كونه ضدّا وعلى هذا يندفع الاحتجاج.

وفيه : مع أنّه عدول عن إطلاق القول بوجوب المقدّمة وإحداث تفصيل لم يتفوّه به أحد ولا هو مذكور في عداد أقوال المسألة ، أنّ المراد بالإرادة الحتميّة المتعلّقة بالمقدّمات إن كان هو الإرادة الإجماليّة الغير المنافية لعدم استحضار شخص المقدّمة عند طلب ذيها تنزيلا للطلب والإرادة الإجماليّين منزلة التفصيليّين في الآثار المطلوبة منهما فهو صحيح لأنّ مرجعه إلى ما قرّرناه ، ولكن تخصيص ذلك بما صدر من الحكيم العالم الشاعر غير جيّد ، لاطّراد الحكم حينئذ في أوامر من لم يجامع تلك الصفات أيضا ، وإن كان خصوص الإرادة التفصيليّة المستلزمة لاستحضار الشخص المقدّمة الّذي هو من لوازم الوجوب الأصلي فهو سقيم مردود على مدّعيه ، لعدم اطّراد الحكم حينئذ حتّى في أوامر من جامع الصفات المذكورة.

وتوضيح ذلك : أنّ تعلّق الإرادة حتما بالمقدّمات فعلا إذا صدر الأمر بذي المقدّمة من الحكيم العالم الشاعر إمّا من لوازم الحكمة بحيث لولاه لخرج عن كونه حكيما ، أو من لوازم العلم بحيث لولاه لانقلب جهلا ، أو من لوازم الشعور بالمقدّمة أو وجوبها بحيث لولاه

٥٠٠