تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

فمرجع هذا البحث إلى البحث المتقدّم ، لكون المقصود به الإشارة إلى الخلاف الواقع في اعتبار إرادة المطلوب حسبما زعمه الأشاعرة من عدم الحاجة إليها في تحقّق « الأمر » وبنائهم على المغايرة بين الطلب والإرادة ، خلافا لغيرهم الباني على اتّحاد الأمرين فلا يمكن تحقّق « الأمر » من دون حصولها.

وأنت خبير بوهن هذا الاعتراض وابتنائه على قلّة التدبّر.

فإنّ مرادهم بالإرادة على ما يساعده ظواهر عباراتهم ـ بل صريح كلماتهم ـ إنّما هو إرادة المأمور به ، ولا يعود النزاع إلى النزاع المتقدّم.

فإنّ نزاعهم ثمّة إنّما هو في مفهوم الصيغة أو « الأمر » من حيث هو باعتبار الوضع كالنزاع الواقع في مفهومي « الغناء » و « الصعيد » ونظائرهما.

فمنهم من ذهب إلى أنّه الإرادة لا ما يغائرها.

ومنهم من قال بأنّه الطلب المغائر للإرادة ، وها هنا إنّما هو في مصاديق « الأمر » بحسب الاستعمالات الشخصيّة الطارئة للصيغة.

فمنهم من زعم الإرادة من مشخّصات الصيغة الصادرة عن المستعمل ومخصّصاتها بالأمر.

ومنهم من اكتفى في ذلك بمجرّد الوضع فإنّها « أمر » سواء اريد بها المأمور أو الطلب أولا.

ولا يفرق حينئذ بين كون مفهومها الّذي وضعت بإزائه هو الإرادة أو الطلب المغائر لها.

ولا ريب أنّ ذلك نزاع في أمر معنوي قابل لوقوعه بين أهل العلم ، كما لو فرض النزاع في صدق الكلام على قولنا : « زيد قائم » في اعتبار إرادة مدلوله الموضوع له فيه وعدمه ، ليظهر الثمرة في اللفظ الصادر عن النائم أو الغافل ونحوه ، فإنّه على الأوّل لا يكون كلاما ، فلذا ترى بعض محقّقي النحاة أنّه اعتبر في حدّ الكلام كونه مقصودا.

وعلى الثاني يكون كلاما ، فمن هنا ترى حدود الأكثرين منهم خالية عن القيد المذكور.

وممّا يشهد بذلك ما عن جماعة من الفقهاء من القول الآخر من أنّ الصيغة بجنسها وفصلها (١) تصير أمرا بشرط تجرّدها عن القرائن الصارفة لها عن جهة « الأمر » إلى التهديد أو الإباحة ، مع زعمهم لو صدرت من النائم والمجنون لم تكن أمرا لقيام القرينة ، وأقوى من ذلك أكثر حدودهم المتقدّمة للأمر.

__________________

(١) في الأصل : « ونفسها » والصواب ما أثبتناه.

٤١

منها : أنّه صيغة « افعل » مع تجرّدها عن القرائن الصارفة لها عن جهة « الأمر » إلى جهة التهديد وغيره.

ومنها : ما عن بعض المعتزلة : من أنّه صيغة « افعل » بإرادات ثلاث ، إرادة وجود اللفظ ، وإرادة دلالتها على « الأمر » وإرادة الامتثال.

وأقوى من ذلك أيضا كون ذلك ممّا عدّه العلاّمة في النهاية قولا آخر مسندا له إلى بعض المعتزلة ، حيث يقول : وربّما قال بعضهم إنّما تصير أمرا بإرادات ثلاث إرادة المأمور ، وإحداث الصيغة والدلالة بالصيغة على الأمر.

فمع هذه الشواهد القويّة كيف يعدّ النزاع لفظيّا أو راجعا إلى النزاع المتقدّم ، مع أنّه لو صحّ ذلك لكان ينبغي أن يكون العلاّمة مخالفا للأشاعرة هاهنا كما خالفهم ثمّة وقد عرفت في العنوان خلافه.

فمن جميع ما قرّرناه تبيّن لك أنّ هذا النزاع متفرّع على جعل « الأمر » من مقولة الأقوال والألفاظ ، وتفسيره بالقول أو اللفظ أو الصيغة كما تقدّم في أكثر تعاريفهم ، وأمّا على ما رجّحناه من كونه من مقولة المعاني وهو الطلب مع سائر قيوده المتقدّمة بأيّ آلة حصل فجريان النزاع حينئذ لا يساعده ظاهر عنواناتهم بل صريح عباراتهم إستدلالا وتمثيلا ونقضا ، إلاّ أنّ لنا إجراء الكلام على ذلك التقدير أيضا كما لا يخفى.

فالنظر في تحقيق الحال في ذلك المقال يقع في مرحلتين :

المرحلة الاولى : في تحقيق الحال في ذلك على التقدير الأوّل.

فنقول : إن كان المتنازع فيه كون العلم بإرادة مدلول الصيغة عنها من خارج شرطا في صدق « الأمر » عليها وعدمه ، فالحقّ مع النافين لكفاية ظاهر اللفظ في الحكم بذلك ، نظرا إلى ظهوره مجرّدا عن جميع القرائن في إرادة الطلب والامتثال بالمأمور كما هو الحال في سائر الحقائق ، ولا ينافيه ورود الصيغة في بعض الأحيان للتهديد والإباحة كما لا ينافي ورود الجملة الخبريّة في بعض الإبّان ، لصدق الخبر عليها عند تجرّدها عن القرينة الصارفة لها عن الجهة الخبريّة ، فإنّ احتمال التجوّز لا يعارض ظهور الحقيقة بلا خلاف.

وإن كان المتنازع فيه كون العلم بعدم إرادة ذلك كما في الصيغة إذا صدرت عن النائم ونحوه ، أو العلم بإرادة غيره كما فيها أيضا إذا وردت تهديدا أو إباحة مانعا عن صدق « الأمر » عليها فالحقّ مع المثبتين ، ضرورة مانعيّة أحد العلمين عن ذلك ، كما في الجملة

٤٢

الخبريّة إذا صدرت عن نائم أو مريد للإنشاء كقوله تعالى ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ )(١) إذ لا يصدق عليها حينئذ أنّها خبر جزما.

المرحلة الثانية : في تحقيق الحال على التقدير الثاني ، فقد اتّضح حكمها ممّا سبق أيضا ، فإنّ صدق « الأمر » حينئذ يتوقّف على تحقّق الطلب المستلزم لإرادة المطلوب مع سائر القيود المعتبرة فيه ممّا تقدّم بيانها مفصّلا ، ولكن يكفي في الحكم بتحقّقه ظهور ما يستعمل لإفادته من فعل أو قول ولو بمعونة قرينة حال أو مقال أو نحوه ، فمفاد قوله تعالى ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ )(٢) و ( الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ )(٣) أمر حقيقة وإن لم يصدق « الأمر » على لفظه ، إذ ليس مدار الصدق عندنا وجودا وعدما على لفظ دون آخر كما تقدّم.

وقضيّة ذلك عدم صدقه على مدلول ما هو خاصّ بالطلب من الألفاظ باعتبار الهيئة أو المادّة أو هما معا ، فيما لو قام قرينة على عدم إرادته وعدم تحقّق شيء من سائر قيوده المعتبرة معه في صدق الأمريّة.

[ الأمر ] الرابع

ذكر بعض الأعاظم هاهنا نزاعا آخر في أنّ « الأمر » هل له صيغة تخصّه أو لا؟ نظير ما سيأتي إن شاء الله في بحث العمومات من نزاعهم في أنّ العامّ هل له صيغة تخصّه أو لا؟ فنقل أقوالا ، ثالثها : ما عن بعضهم من أنّ هذه الترجمة خطأ ، فإنّ « أمرتك » و « أنت مأمور » صيغة خاصّة بالأمر من غير منازعة.

ثمّ أورد عليه : بأنّ هذا أولى بالتخطئة بل خطأ قطعا ، تعليلا بأنّ المقصود بالعنوان أنّ في لغة العرب هل يجد لفظ يكون مصداقا للأمر بالوضع.

ولا ريب أنّه ممّا يقبل النزاع بل محلّ خلاف بالفعل ـ إلى أن قال ـ : فالأظهر نعم ، لكون المتبادر من الصيغة كونها أمرا ، وسائر ما يستعمل فيه ممّا يأتي غير ما وضع هو له ، فضلا عمّا قال السكّاكي من أنّ إطباق أئمّة اللغة على إضافة نحو « قم » و « ليقم » إلى « الأمر » بقولهم : « صيغة الأمر » و « مثال للأمر » و « لام الأمر » دون أن يقولوا : « صيغة

__________________

(١) الواقعة : ٧٩.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

(٣) البقرة : ٢٢٨.

٤٣

الإباحة » و « لام الإباحة » مثلا يمدّ كونها حقيقة في الطلب على سبيل الاستعلاء لأنّه حقيقة « الأمر ».

ثمّ قال قدّس الله سرّه : وممّا يؤيّد ما قلناه استناد محقّقي الأصوليّين في إثبات الوجوب في الصيغة بقوله تعالى ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ )(١) و ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )(٢) ولو لا ما ذكرنا لما صّح ذلك (٣) انتهى.

وأنت خبير بأنّ ظاهر النظر يعطي رجوع هذا النزاع إلى النزاع الآتي في حكم الصيغة ، بدعوى كون غرض القائلين بكونها حقيقة في الوجوب إثبات المطابقة بينها وبين المادّة ، كما أنّ مقصد أصحاب الأقوال الاخر نفي هذا المعنى وإبداء كونها أعّم منها ، فعلى هذا لا وجه لجعل ذلك عنوانا آخر وعدّه نزاعا مغائرا لما يأتي ، إلاّ أن يوجّه ذلك بتخصيص ما يأتي من النزاع بالصيغة من حيث كونها للوجوب وعدمه من دون نظر إلى سائر القيود المعتبرة في لفظ « الأمر » من العلوّ والاستعلاء ، فلا يفرق حينئذ بينها في جريان النزاع إذا صدرت عن العالي أو المساوي أو السافل ، بخلاف ما ها هنا فإنّه نزاع في أنّ الصيغ المتداولة في لغة العرب هل يجد فيها صيغة تكون مختصّة بالوضع بما صدق عليه لفظ « الأمر » مع جميع القيود المعتبرة فيه أو لا؟

أو يقال : إنّه نزاع في أنّ ما يصدق عليه « الأمر » حقيقة هل هو عبارة عن نفس الصيغة أو ما يدلّ عليه الصيغة وهو الطلب مع سائر قيوده؟ أو نزاع في أنّ « الأمر » هل هو طلب بالقول أو مطلقا.

ولقد عرفت في ضمن الحدود المتقدّمة « للأمر » أنّ كلّ ذلك خلافيّ عندهم بخلاف ما يأتي ، فإنّه نزاع في حكم الصيغة على جميع التقادير.

وعلى أيّ حال فلا ريب أنّ ما اعتمد عليه قدّس الله روحه من الاستدلال في غاية الوهن وليس إلاّ خبطا عظيما ، فإنّ تبادر « الأمر » عن الصيغة على فرض تسليمه إنّما ينشأ عن الانس التامّ بمصطلح العلماء من الادباء وغيرهم ، فإنّ لفظ « الأمر » في لسانهم يطلق تارة على المعنى العرفي المتقدّم ذكره مفصّلا ، كما ينظر إلى ذلك ما سيأتي من العناوين كقولهم : « هل الأمر بالشيء مطلقا يقتضي إيجاب مقدّماته أو لا؟ » و « إنّه هل يقتضي النهي

__________________

(١) النور : ٦٣.

(٢) الأعراف : ١٢.

(٣) إشارات الاصول للكلباسي : ص ٤٠.

٤٤

عن ضدّه أو لا؟ »

واخرى على الصيغة الشاملة لـ « افعل » و « ليفعل » وغيرهما من صيغ الأمر حاضرا أو غائبا مجرّدة أو مزيدة ، كما ينظر إلى ذلك تقسيمهم الكلام إلى الخبري والإنشائي ، ثمّ الإنشائي إلى الطلبي وغيره ، ثمّ الطلبي إلى الأمر والنهي والاستفهام وأكثر موارد إطلاقه على هذا المعنى إنّما هو من المعاني كما لا يخفى.

وثالثة على ما لا يشمل إلاّ « افعل » ونحوه من صيغ الأمر الحاضر مطلقا ، كما يطلق عليه في لسان النحاة قبالا لفعلي الماضي والمستقبل ، ولا شبهة أنّ الانس بهذه الإطلاقات ربّما يوجب تبادر الصيغة من « الأمر » أو تبادر « الأمر » من الصيغة فيتوهّم أنّ ذلك إنّما هو من جهة الأصل ، وإلاّ فعند العرف العامّ الّذي يدور العبرة على تبادره خاصّة دون غيره لا يكون لهذا التبادر أثر ، بل المتبادر عندهم من « الأمر » عند الإطلاق إنّما هو الطلب الإلزامي مع سائر قيوده المتقدّمة.

نعم لو كان الغرض بتبادر الصيغة من « الأمر » إثبات أمر اصطلاحي فلا مشاحّة إلاّ أنّه خلاف الظاهر.

ومن هنا يظهر ما في كلام السكّاكي ، فإنّه بعد ما بيّنّاه من الاصطلاح لا ينهض شاهدا بما اختاره رحمه‌الله ، ولا يصلح سندا لما رامه السكّاكي من إثبات كون الصيغة للوجوب ، فإنّ صدق « الأمر » على مثل « قم » و « ليقم » في اصطلاح أهل العلم لا يقضي بصدقه عليهما لغة وعرفا ، وأصالة عدم تغائر الاصطلاحين الراجعة إلى أصل عدم الوضع الجديد إنّما تصلح سندا إذا لم ينهض ما يقضي بالخروج عنها.

وما ذكرناه من تبادر الغير وعدم تبادر الصيغة عن « الأمر » في العرف العامّ مع ضميمة تبادرها في العرف الخاصّ صالح لذلك ، مع أنّ قضيّة الاستشهاد مع الاستدلال بما ذكر إنّما توجب المطلوب ـ بعد الغضّ عمّا ذكرنا ـ إذا فرضت الإضافة في « فعل الأمر » بيانيّة ، وأمّا إذا فرضت لاميّة فلا ، لجواز إرادة الحصر الإضافي في مقابلة فعلي الماضي والمضارع ، تنبيها على أنّ هذه الصيغة لا تأتي بهذين المعنيين ، وأمّا انحصار مدلولها في « الأمر » فلا يستفاد عن ذلك لجواز أن يكون لها مدلول آخر ممّا ادّعي ويتبيّن لك بعد ذلك.

ومن هنا يتّضح أيضا ما في التأييد من ابتنائه على الخلط والاشتباه بنحو ما مرّ ، ولا يبعّده صدور الاستدلال من المحقّقين لكثرة ما وقع منهم نظير ذلك في غاية الكثرة.

٤٥

أصل

صيغة « افعل » *

__________________

المطلب الثاني

فيما يتعلّق بالصيغة

* وكأنّ في التعبير بها دون « الأمر » إشارة إلى عدم تناول هذا النزاع للفظ « الأمر » لما فيه من النزاع المتقدّم ، أو إلى أنّ « الأمر » ليس هو الصيغة كما توهّمه جماعة فعرّفوه بها حسبما عرفت ، أو لما قيل من أنّ أوامر الشارع في الأغلب وردت بالصيغة ضرورة ندرة « أمرت بكذا » أو « أنتم مأمورون بكذا » ونحو ذلك في خطابات الشرع ، كما أنّ في إضافة الصيغة إلى « افعل » دون « الأمر » ـ كما في كلام بعض الفضلاء ـ إشعارا بنفي الترادف بين لفظ « الأمر » والصيغة على ما توهّمه بعضهم كما عرفت ، نظرا منه إلى أنّهما وإن اشتركا معا في إفادة الوجوب ـ كما زعمه ـ إلاّ أنّها تفترق عنه بسائر قيوده المتقدّمة فلا يعتبر فيها علوّ القائل ولا استعلاؤه.

وقضيّة ذلك تناول النزاع للصيغة إذا صدرت عن المساوي والسافل أيضا ، فينهض شاهدا بضعف ما توهّمه بعض الأعلام في هذا المقام من كون محلّ النزاع هاهنا إفادة الصيغة للوجوب الاصطلاحي وعدمها ، بمعنى أنّها مجرّدة عن القرائن كلّها هل تدلّ على الإلزام وكون المتلفّظ بها عاليا ليثبت الوجوب الاصطلاحي الّذي يترتّب على مخالفته استحقاق الذمّ والعقاب ، بعد ما ذكر له احتمالين آخرين :

أحدهما : كون النزاع في الصيغة الصادرة عن العالي من حيث إفادتها للوجوب وعدمها.

وثانيهما : كون النزاع في أنّ هذه الصيغة بمجرّدها هل تفيد الإلزام مطلقا ، فيلزمه كونه إيجابا اصطلاحيّا بعد تعرّف حال المتلفّظ بها إن كان عاليا أو لا تفيده؟

كما ينهض شاهدا بوهن ما عن بعضهم من القول بكون محلّ النزاع خصوص الصادرة عن العالي.

وأنت خبير بخلوّ كلامهم عمّا يساعد على هاتين الدعويين تصريحا أو تلويحا ممّا يعتمد عليه.

نعم ربّما يوهم الثانية منهما استدلال القائلين بالوجوب بذمّ العقلاء العبد التارك لأمر

٤٦

سيّده تعليلا بمجرّد ترك الامتثال ، كما أنّه يوهمها أيضا استدلال المنكرين للوجوب بتنصيص أهل اللغة على عدم الفرق بين السؤال و « الأمر » إلاّ الرتبة القاضي باشتراكهما في جميع ما عدا ذلك ، منها عدم الدلالة على الإيجاب المنافي لدلالة « الأمر » عليه ، إذ السؤال لا دلالة له عليه ، ولكن يدفعه :

أوّلا : استدلال الفريقين أيضا بما يقتضي العموم كاستدلال القائلين بالوجوب بأنّ الوجوب معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب أن يوضع له لفظ مفرد يدلّ عليه ، لوجود القدرة على الوضع والداعي إليه مع انتفاء المانع ، ولا يصلح له إلاّ صيغة « افعل » لانتفاء غيرها بالإجماع.

ومثله استدلال المنكرين ممّن يقول بكونها للطلب مطلقا ، من أنّ الطلب معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه فوجب أن يوضع له لفظ يدلّ عليه ، وهو لفظة « افعل » إذ لا لفظ له سواها.

وثانيا : اعتراض الخصم على الأوّل بأنّ الكلام في الصيغة المجرّدة عن القرائن ، وعلوّ السيّد أو غيره ممّا يصلح قرينة على إرادة الوجوب فلا عبرة بما ذكر من فهم العقلاء.

وعلى الثاني بأنّ من يقول بدلالة الصيغة على الإيجاب في « الأمر » يقول بها في السؤال أيضا ، فدعوى أنّه لا يدلّ عليه مطلقا ممنوعة.

ولعلّ الّذي أو هم الاولى من الدعويين أيضا ما يوجد في كلامهم من شيوع إطلاق « الأمر » على الصيغة وإطلاقها عليه ، بل وتفسيره بها كما عرفت في كثير من الحدود.

ولكن يضعّفه :

أوّلا : ظهور الوفاق منهم على كون « الأمر » مفيدا للوجوب نظرا إلى شذوذ المخالف في ذلك ، فكيف يتصوّر معه اختلافهم في إفادة الصيغة له وعدمها لو كان نظرهم فيها إلى ما يستفاد من « الأمر » ولا يستقيم ذلك إلاّ إذا كان نزاعهم فيها على الوجه الأعمّ.

وثانيا : مصيرهم في الصيغة إلى أقوال اخر غير جارية في لفظ « الأمر » كما يأتي إليها الإشارة.

وثالثا : نزاعهم في « الأمر » باعتبار جنسه من حيث كونه القول على الإطلاق أو الصيغة بخصوصها ، أو الطلب بالقول أو الصيغة أو على الإطلاق ، حسبما عرفت في حدودهم المتقدّمة ، ولا يستقيم ذلك لو كان بحثهم في الصيغة باعتبار كونها أمرا.

ورابعا : نزاعهم أيضا ثمّة في اعتبار العلوّ أو الاستعلاء أو هما معا ، وعدم اعتبار شيء

٤٧

وما في معناها *

__________________

منهما في مفهوم « الأمر » فكيف ينطبق ذلك على نزاعهم هاهنا لو كان جهة النزاع خصوص الإلزام الصادر من العالي من حيث كونها واحدة من الجهات المذكورة ثمّة ، مضافا إلى إطلاق أدلتهم وتصريحهم بشمول النزاع للصيغة إذا صدرت عن السائل أيضا ، كما عرفت في ردّ احتجاج المنكرين لإفادتها الوجوب ، فلا إشكال جزما في كون محلّ النزاع مطلق الصيغة ، صدرت من العالي أو غيره ، والمتنازع فيه دلالتها بالوضع على الإلزام مطلقا من دون نظر إلى كونه من العالي أو غيره.

* لا خلاف عند الشرّاح وغيرهم في تناول هذه العبارة بضميمة ما تقدّم لجميع صيغ « الأمر » مجرّدة أو مزيدة حاضرة أو غائبة ، وإنّما الخلاف في أنّ ما عدا الأمر الحاضر من المجرّد هل هو مندرج في قوله : « صيغة افعل » أو فيما بعده؟

فمنهم من جزم بالأوّل ، فجعل الثاني مرادا به أسماء الأفعال كـ « نزال » و « صه » و « عليك » ونحوها.

ومنهم من جعل الأظهر دخوله مع أسماء الأفعال في الثاني ، ومن هؤلاء من تأمّل في دخول أسماء الأفعال واستشكل كابن المصنّف.

ومنهم من جعل الثاني عبارة عن مثل « ليفعل » وأسماء الأفعال والأخبار المتضمّنة لمعنى « الأمر » كقوله تعالى ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ )(١) و ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ )(٢) ولا ريب في فساد ذلك في فقرتها الأخيرة.

ومنهم من جزم بشمول الأوّل لكلّ أمر حاضر ، وأمّا الثاني فتردّد في كونه مرادا به صيغ الأمر الغائب نحو « ليفعل » و « ليفاعل » أو أسماء الأفعال أو الأعمّ منهما.

ومنهم من أورد على الثاني بأنّه يتناول كلّ ما دلّ على معنى « افعل » ولو مجازا مع أنّه خارج عن البحث قطعا ، إلاّ أن يراد بما في معناها وضعا ، وأيضا يتناول ما كان بمعنى « الأمر » من أسماء الأفعال مع أنّ الظاهر خروجها عن النزاع لفظا وإن دخلت فيه معنى.

واستدلّ الأوّل بما حكي عن النحاة من أنّ « افعل » علم جنس لكلّ صيغة يطلب بها الفعل ، كما أنّ « فعل » و « يفعل » علمان لكلّ ماض ومضارع مبنيّ للمفعول.

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

٤٨

واعترض عليه تارة : بأنّ ذلك مبني على حدوث النقل في تلك الصيغة وهو غير ثابت.

واخرى بأنّ الاصطلاح المذكور إن ثبت فإنّما يثبت في عرف علماء الصرف أو وسائر علماء العربيّة ، وثبوته في عرف علماء الاصول غير معلوم بل الظاهر خلافه ، وليس من الاصطلاحات الشائعة الدائرة بين سائر الناس من غير أهل تلك الاصطلاحات كلفظ « الفاعل » و « المفعول » وفيهما الجزم بثبوت النقل وظهور عموم الاصطلاح ، فإنّ علماء الاصول أيضا يتداول في لسانهم صيغة « افعل » في مواضع غير محصورة لا تكاد تخفى على المتتبّع ، ولا ريب أنّه لا يراد به إلاّ المعنى الأعمّ.

وأقوى ما يشهد بذلك تحديد بعضهم « الأمر » بصيغة « افعل » كما تقدّم ، مع أنّه لا يفتقر عموم الاصطلاح إلى استبداد كلّ طائفة إلى الوضع الجديد عندهم ، لجواز الجري على اصطلاح طائفة من باب التبعيّة كما هو الحال في غالب الامور الاصطلاحيّة.

ألا ترى أنّ الاصوليّين يطلقون لفظ « الاسم » و « الفعل » و « الحرف » و « الجملة » و « الخبر » و « المبتدأ » ونحوها ممّا لا يعدّ ولا يحصى على معان اصطلحها النحاة أو علماء العربيّة من دون أن يكون لهم فيها اصطلاح خاصّ ، ولا أن يكون تلك الإطلاقات من باب التجوّز كما لا يخفى.

ثمّ إنّه ينبغي القطع بخروج مثل قوله تعالى ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )(١) من الجمل الخبريّة المؤوّلة إلى الإنشاء ، وقوله : « أوجبت عليك الفعل » و « الصلاة واجبة » و « أمرتك بكذا » عن المراد بتلك العبارة ، وإن كان إطلاقها يتناولها على أحد الوجهين ، لعدم كون شيء من ذلك قابلا للنزاع كما لا يخفى.

وأمّا مثل « صه » و « آمين » من أسماء الأفعال فدخولها تحت العبارة محلّ تأمّل.

وأمّا دخولها في محلّ النزاع ففيه وجهان ، من عدم ظهور العناوين بل وظهورها في عدم الشمول ، لعدم كونها أمرا أو صيغة « افعل » أو صيغة أمر عندهم ، ومن اتّحاد المناط من حيث إنّ مدلولها مدلول « الأمر » أو الصيغة اتّفاقا.

ثمّ إنّ ظاهرهم عنوانا ودليلا بل وصريحهم يعطي عدم اختصاص البحث بالصيغ الواردة في الكتاب والسنّة ، فيرد عليهم حينئذ إشكال من وجهين :

الأوّل : أنّ هذا البحث لا يظهر له فائدة في غير تلك الصيغ فكيف يجعل محلّه على الوجه الأعمّ.

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٤٩

الثاني : أنّ هذا الفنّ يبحث عن أحوال الأدلّة من حيث دليليّتها وابتناء الأحكام عليها ، والمفروض أنّ موضوعات المسائل إمّا موضوع العلم أو أجزاؤه أو جزئيّاته أو غير ذلك ممّا هو مقرّر في مظانّه ، فكيف يفرض البحث على الوجه الأعمّ مع أنّ الحيثيّة قائمة بالخاصّ.

ويندفع : بأنّ ذلك لو صلح إشكالا لكان مطّردا في جميع المباحث المتعلّقة بالمبادئ اللغويّة ، ولكنّهم فرضوا البحث على الوجه الأعمّ للتوصّل عن معرفة حكم العامّ إلى معرفة حكم الخاصّ ، لما بلغهم من أنّ الله ورسوله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كانوا يخاطبون الناس على طريقة عرفهم ولسانهم كما يصرّح به قوله عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(١) ويعطيه أيضا قوله عليه‌السلام : « إنّ الله أجلّ من أن يخاطب قوما ويريد منهم خلاف ما يفهمونه » ويومئ إليه أيضا قوله : « كلّم الناس على قدر عقولهم » ولأنّ ألفاظ الكتاب والسنّة لا طريق إلى معرفة أحكامها في الغالب إلاّ طريقة العرف وبناء أهل اللسان ، فلابدّ من فرض المباحث على الوجه الأعمّ ليتأتّى بذلك ما هو الغرض الأصلي منها كما لا يخفى.

نعم يبقى في المقام إشكال آخر وهو : أنّ البحث عن تلك الألفاظ على الوجه الأعمّ نقض للقاعدة المقرّرة في فنّ الميزان ـ الّتي قد سبق منّا تحقيق فيها في أوائل الكتاب ـ من أنّ العلم لا يبحث فيه عن الأحوال اللاحقة لما هو أعمّ ولا ما هو أخصّ من موضوعه ، لأنّ الغرض الأصلي من البحث فيه معرفة الآثار المطلوبة عن موضوعه الّتي هي عبارة عن الأحوال المختصّة به الشاملة لجميع أفراده الغير الشاملة لغيرها ، وأمّا الأحوال الغير الشاملة لجميعها أو الشاملة لها ولغيرها فلا تطلب عن ذلك العلم لعدم كونه من الأحوال المختصّة بموضوعه ، بل من الأحوال المختصّة بأمر أخصّ تحته أو أمر أعمّ فوقه فتطلب عن علم يكون موضوعه ذلك الأمر الأخصّ أو الأعمّ ، والأحوال العارضة لألفاظ الكتاب والسنّة على التقدير المتقدّم من هذا الباب ، لأنّها يعرضها بواسطة أمر أعمّ وهو نوع اللفظ ، مع أنّ الموضوع قسم خاصّ منه لأنّه الدليل لا مطلقا.

ويمكن دفعه : بالتزام اعتبار الحيثيّة في ذلك ، بأن يقال : إنّ موضوع تلك المباحث إنّما هو نوع اللفظ من حيث وروده في الكتاب والسنّة على نحو يكون التقييد داخلا والقيد خارجا ، وعليه ينزّل عدّهم الكتاب والسنّة موضوعين لهذا الفنّ ودليلين للأحكام ، فلا يكون الموضوع هو الكتاب أو السنّة من حيث هما مع قيد الخصوصيّة لئلاّ ينافي دأبهم من

__________________

(١) إبراهيم : ٤.

٥٠

حقيقة في الوجوب فقط بحسب اللّغة على الأقوى *

__________________

النظر في اللفظ على الوجه الأعمّ ، ولا نوع اللفظ من حيث هو لئلاّ ينتقض القاعدة المذكورة فليتدبّر.

* وكثيرا مّا يعبّر عنه بالإيجاب ، وظاهر الأصحاب عدم الفرق بينهما إلاّ بالاعتبار ، فإنّ الصادر من الآمر واحد إلاّ أنّه إن قيس إليه باعتبار صدوره عنه كان إيجابا ، وإن قيس إليه باعتبار الفعل من جهة قيامه به كان وجوبا ، فهما متّحدان ذاتا متغائران اعتبارا ـ كما صرّح به بعض الأفاضل وكذلك أخوه في كتابيهما (١) ـ وعلى هذا القياس اللزوم والإلزام كما في الثاني ، وربّما يفرّق بينهما باختصاص الأوّل بما لو صدرت الصيغة من العالي بخلاف الثاني ، ولعلّه مبنيّ على تفسير الوجوب بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب وتاركه الذمّ والعقاب ، والإيجاب بطلب الفعل مع عدم الرضا بتركه ، وإلاّ فعلى تفسير الثاني أيضا بالأوّل أو الأوّل بالثاني لا يستقيم ذلك جزما.

وربّما يذكر بينهما فرق آخر وهو أنّ الإيجاب دلالة « الأمر » على أنّ الآمر أوجب الفعل المأمور به والوجوب دلالة « الأمر » على أنّ المأمور به له صفة الوجوب كما في النهاية والمنية ، حتّى أنّهما جعلا كون الصيغة للإيجاب أو للوجوب خلافا آخر وعدّا كلاّ منهما قولا برأسه.

وفي الأوّل أنّ الخلاف في ذلك بين الأشاعرة والمعتزلة ، ولعلّه مبنيّ على الخلاف المشهور بينهما في حسن الأشياء وقبحها باعتبار كونهما شرعيّين أو عقليّين.

فعلى الأوّل ـ كما عليه الأشاعرة ـ لا يكون في الواجب صفة يدركها العقل ولو شأنا مقتضية للوجوب ، وإنّما هو إيجاب حصل من حكم الشارع الّذي لولاه لما كان الفعل بالذات صالحا له.

وعلى الثاني ـ كما عليه المعتزلة ـ يكون في الواجب صفة مقتضية للوجوب يدركها العقل ولو بكشف الشرع عنها في غير مستقلاّته.

وأنت خبير بما في جميع ذلك ، أمّا في الأخيرين فواضح ، وأمّا في الأوّل فلأنّ الفعل والكيف عرضان متغايران بالذات والاعتبار معا.

__________________

(١) وهما الشيخ محمّد تقي صاحب هداية المسترشدين وأخيه الشيخ محمّد حسين الإصفهاني صاحب الفصول رحمهما الله تعالى ، راجع هداية المسترشدين ١ : ٦٠٣ والفصول الغرويّة : ٦٩.

٥١

ومن البيّن أنّ الإيجاب عرض من مقولة الفعل قائم بالآمر ، والوجوب عرض من مقولة الكيف قائم بالفعل المأمور به ، فكيف لا يفرّق بينهما ذاتا.

نعم لا فائدة تترتّب على ذلك الفرق لكونهما متلازمين ، استحالة انفكاك الأثر عن المؤثّر ، وكلّ إيجاب يلزمه ترتّب الوجوب عليه وكلّ وجوب يلزمه كونه حاصلا من إيجاب.

نعم لابدّ في ثبوت تلك الملازمة من مراعاة التناسب بين مفهوميهما ، فإن فسّر الوجوب (١) بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب وتاركه الذمّ والعقاب فلابدّ من تفسير الإيجاب بجعل الفعل على هذه الحيثيّة.

وإن فسّر الإيجاب بطلب الفعل مع عدم الرضا بالترك فلا بدّ من تفسير الوجوب بكون الفعل مطلوب الحصول ممنوع الترك.

وأمّا لو فسّر الأوّل بالأوّل والثاني بالثاني لكان الفرق بينهما ذاتا واعتبارا في غاية الوضوح.

وممّا قرّرنا تبيّن لك أنّ ما اعترض على عبارة المصنّف وكلّ من وافقه في التعبير بأنّ المستفاد من الصيغة ـ بناء على القول المذكور ـ إنّما هو إيجاب الفعل على المأمور وإلزامه به ، ووجوب الفعل عليه متفرّع على الإيجاب تابع له ، فلا يتّجه جعله موضوعا له للصيغة بل ينبغي جعلها للإيجاب ، في محلّه.

فلا يرد عليه ما أفاده بعض الأفاضل في ردّه من أنّ الإيجاب والوجوب بمعنى واحد ، ولا فارق بينهما بحسب الحقيقة ، فإنّ ذلك مفهوم اخذ واسطة في انتساب الحدث إلى فاعله ومرآة لملاحظة حال ذلك المنسوب بالنظر إلى ما نسب إليه ، فإن لوحظ بالنسبة إلى ذلك الحدث سمّي وجوبا ويوصف معه الفعل بالوجوب ، وإن لوحظ بالنسبة إلى الآمر من حيث

__________________

(١) واعلم أنّ الوجوب في اللغة ـ على ما في النهاية ـ هو السقوط ، يقال : « وجبت الشمس والحائط » أي سقطا ، والثبوت والاستقرار ، وأمّا في العرف الشرعي فعند المعتزلة أنّ الواجب : « ما يستحقّ تاركه الذمّ ، أو ما يكون على صفة باعتبارها يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، أو ما يكون تركه في جميع وقته سببا للذمّ » وأمّا الأشاعرة فقد رسمه القاضى أبو بكر بأنّه : « ما يذمّ تاركه شرعا على بعض الوجوه » فقولنا : « يذمّ » خير من قولنا : « يعاقب » لأنّ الله تعالى قد يعفو عن العقاب ولا يقدح ذلك في وجوب الفعل ومن قولنا : « يتوعّد بالعقاب على تركه » لأنّ الخلف في خبر الله تعالى محال فكان ينتفي العفو ، ومن قولنا : « ما يخاف العقاب على تركه » فإنّ المشكوك في وجوبه وحرمته يخاف من العقاب على تركه مع أنّه غير واجب ، وقولنا : « شرعا » ليخرج منه الواجب على مذهب من يوجب الأحكام عقلا وقولنا : « على بعض الوجوه » ليدخل فيه المخيّر فإنّه يلام على تركه إذا ترك معه بدله ، والموسّع لأنّه يذمّ إذا أخلّ به في جميع الوقت ، والواجب على الكفاية لأنّه يذمّ إذا أخلّ به الجميع ( منه ).

٥٢

صدوره عنه سمّي إيجابا وتكليفا بمعناه الحدثي ، فإنّ ذلك مع أنّه تكلّف بحت ممّا يكذّبه الوجدان القاضي بكون الوجوب وصفا للفعل أثرا للإيجاب الّذي هو وصف في الآمر عبارة عن إسناد ذلك الفعل المعبّر عنه بالحدث المدلول عليه بالمادّة إلى الفاعل بعنوان أنّه مطلوب منه ولا يرضى بتركه ، والضرورة قاضية بكون الصيغة على القول المذكور موضوعة لهذا المعنى لا للأثر الحاصل منه في الحدث المطلوب ، ولعلّ حمل العبارة على المسامحة في التعبير نظرا إلى كون المعبّر به من لوازم المعبّر عنه أولى وأسدّ ، ولا بأس بذلك التعبير في أمثال المقام بعد وضوح المرام.

وبما ذكرناه من معنى الإيجاب يظهر الجواب عمّا اعترض على الحكم بكون الصيغة حقيقة في الوجوب أو الإيجاب من أنّه ليس إلاّ بعض مفاد الصيغة فكيف يحكم بكونها حقيقة فيه مع أنّ الحقيقة هو اللفظ المستعمل في تمام ما وضع له ، لجواز أن يكون المراد بالإيجاب في أمثال هذه العبارة إسناد الحدث المدلول عليه بالمادّة إلى الفاعل على وجه يكون مطلوبا منه بعنوان عدم الرضا بالترك.

ومن المعلوم أنّ ذلك تمام الموضوع له ، ومن يقول بأنّها للطلب يسقط عنه القيد الأخير ، كما أنّ من يقول بكونها للندب يبدّله بعنوان الرضا بالترك وهكذا.

وربّما يجاب عنه أيضا : بأن ليس المراد من كونها حقيقة في الوجوب أنّ ذلك تمام ما وضعت له ، بل المقصود كونها حقيقة فيه مع انضمام غيره إليه ممّا اخذ في معناها الموضوع له ، وتخصيص هذا الجزء بالذكر هاهنا من جهة أنّه محلّ الخلاف في المقام لكون اعتبار غيره فيه معلوما من الخارج.

ويتبيّن بالتأمّل فيما قرّرناه أنّ الطلب مطلقا أو مقيّدا بكونه وجوبيّا في مدلول الصيغة إنّما هو من المعاني الحرفيّة الرابطيّة ، فلوحظ في المقام آلة لملاحظة الغير وهو الإسناد المذكور ، ومرآة لتعرّف حال ذلك الغير.

فبذلك يندفع ما اورد على كلام المصنّف أيضا : بأنّ كون الوجوب مدلول الصيغة وضعا لا ينطبق على كونها من الأفعال المسندة إلى فاعليها بحسب الوضع ، لأنّه من حيث الصدور من لواحق المتكلّم ومن حيث القيام من لواحق الفعل المأمور به ، ـ أعني مدلول المادّة الّتي تعلّق بها الهيئة ـ لأنّه إن فسّر الوجوب بطلب الفعل على سبيل المنع من الترك كان مسندا إلى الآمر فكان ينبغي أن يسند الفعل إلى المتكلّم دون المخاطب أو الغائب.

٥٣

وإن فسّر بالصفة القائمة بالفعل فهو من لواحق الحدث الّذي اخذ مبدءا للأمر فلا يصحّ إسناده إلى المخاطب أو غيره.

فإنّ كون الوجوب مدلولا للصيغة ليس على سبيل الاستقلال وفاقا لبعض الأفاضل ولا يكون مستقلاّ بذاته ليمكن استناده في المقام إلى شيء ، فإنّ الإسناد في الأفعال لا يصلح له إلاّ معانيها الحدثيّة لأنّها المعاني التامّة المستقلّة القابلة لذلك ، فالمستفاد بحسب الوضع واللغة عن الأفعال بأسرها إنّما هو إسناد الحدث المدلول عليه بالمادّة إلى فاعله ، إلاّ أنّه في الطلبيّات منها مقيّد بكونه على سبيل أنّه مطلوب منه بعنوان اللزوم أو غيره ، فالطلب الملحوظ في المقام ليس إلاّ معنى حرفيّا غير مستقلّ اخذ في مفهومها آلة لملاحظة الغير وهو الإسناد ومرآة لتعرّف حاله ، حتّى أنّ الزمان الّذي يقال بدخوله في مفاهيم الأفعال مطلقا أو في غير الطلبيّات خاصّة ليس مستقلاّ بنفسه ، بل جعل آلة لملاحظة ما فيها من الإسناد ومرآة لتعرّف حاله ، فوضع الهيئة بإزاء الطلب المذكور ليس إلاّ كوضع الحروف بإزاء سائر الطلبيّات من التمنّي والترجّي والاستفهام ، فكما أنّ ذلك معنى حرفيّ غير مستقلّ بذاته جعل آلة لملاحظة الغير ومرآة لتعرّف حاله فكذلك الوجوب في محلّ البحث.

فلذا يقال : بأنّ وضع المشتقّات كوضع الحروف ، فعلى ما يراه المتأخّرون حقّا في الحروف من كون كلّ من الوضع منها عامّا والموضوع له خاصّا يكون الحال في المشتقّات الّتي منها محلّ البحث كذلك ، لا بمعنى أنّ الصيغة موضوعة لجزئيّات الطلب أو الوجوب ، بل بمعنى أنّها موضوعة لجزئيّات إسناد الحدث المدلول عليه بالمادّة إلى فاعل مّا من حيث كونها مطلوبة من ذلك الفاعل على سبيل الإلزام وعدم الرضا بالترك ، فكون الوجوب مدلول الصيغة وضعا بذلك المعنى لا ينافي كون مدلولها وضعا إسناد الحدث المدلول عليه بالمادّة إلى الفاعل ، لكون كلّ منهما جزء من الموضوع له على التقدير المذكور.

والمفروض أنّ المراد بكونها حقيقة فيه ليس بيان أنّه تمام مدلولها.

ومن هنا ينقدح فساد ما صرّح به بعض الأعلام من كون الطلب القائم بنفس المتكلّم معنى اسميّا مستقلاّ يكون كلّ من الوضع والموضوع له فيه عامّا ، كيف مع أنّه لا ينضبط إلاّ بالتزام تعدّد الوضع في الهيئة أو إنكار وضعها بإزاء النسبة ، لامتناع اجتماعهما في وضع واحد ، وهو كما ترى ممّا لا يتفوّه به أحد ، وفساده أوضح من أن يوضح.

ثمّ إنّه قد اتّضح من جميع ما قرّرناه : أنّ المستفاد من كلامهم لكلّ من الإيجاب

٥٤

والوجوب معنيان :

أحدهما : طلب الفعل مع عدم الرضا بالترك ، أو كون الفعل مطلوب الحصول ممنوع الترك.

وثانيهما : جعل الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب وتاركه الذمّ والعقاب ، أو كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب وتاركه الذمّ والعقاب.

والظاهر بقرينة ما سبق في تحرير محلّ النزاع ـ مضافة إلى شهادة عبائرهم تصريحا وتلويحا ـ كون المراد هاهنا هو المعنى الثاني لا المعنى الأوّل (١) لأنّه من لوازم الشرع إن كان العبرة في مفهومه بتحقّق استحقاق الثواب والعقاب ، أو من لوازم العلوّ وغيره من سائر خصوصيّات المقام إن كان العبرة باستحقاق المدح والذمّ وليس ذلك من ما يناسب الوضع اللغوي ، وإنّما المناسب له هو المعنى الأوّل عرفا واعتبارا.

والمفروض أنّ المقصود بالبحث في المسألة إنّما هو إثبات الوضع للصيغة لغة ـ كما تقدّم بيانه مشروحا ـ ويشهد بذلك زيادة على ما مرّ قول المصنّف : « بحسب اللغة » فإنّ ذلك صريح في أنّ النزاع إنّما هو في وضع الصيغة بحسب اللغة من دون نظر إلى الخصوصيّات الملحوظة في موارد الإطلاقات من جهة المتكلّم أو المخاطب أو مقام التخاطب ، كما يشهد به أيضا ما عن العدّة من أنّ هذه الصيغة الّتي هي قول القائل « افعل » وضعها أهل اللغة لاستدعاء الفعل ، وخالفوا بين معانيها باعتبار الرتبة فسمّوها إذا كان القائل فوق المقول له « أمرا » وإذا كان دونه « سؤالا » و « طلبا » و « دعاء » ومتى استعملوها في غير استدعاء الفعل كما في التهديد نحو ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ )(٢) وقوله : ( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ )(٣) وفي الإباحة نحو ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا )(٤) و ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا )(٥) ـ إلى قوله ـ : وما أشبه ذلك من الوجوه كانت مجازا خارجة عن باب ما وضعت له.

فبما قرّرناه يندفع ما يعترض على قوله : « حقيقة في الوجوب بحسب اللغة » بأنّ الوجوب عبارة عن كون الفعل ممّا يترتّب على تركه استحقاق الذمّ أو العقاب كما هو المعنى المصطلح ، وهو من الامور العقليّة أو الشرعيّة التابعة لملاحظة حال الآمر مع المأمور في وجوب طاعته واستحقاق الذمّ أو العقاب على مخالفته ، فهو من اللواحق الطارئة على

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولكن ينبغي أن تكون العبارة هكذا : « كون المراد هاهنا هو المعنى الأوّل دون الثاني » نظرا إلى السياق.

(٢) الإسراء : ٦٤. (٣) فصّلت : ٤٠.

(٤) المائدة : ٢.

(٥) الجمعة : ١٠.

٥٥

الفعل المأمور به في بعض الأحوال وأين ذلك من وضع الصيغة له بحسب اللغة.

وأمّا ما يجاب عنه أيضا من نفي البأس عن كون مفاد الصيغة هو الوجوب المصطلح ، بمعنى دلالتها على الإلزام الحاصل من العالي الّذي يستحقّ في مخالفته الذّم أو العقاب ، بأن تدلّ على الإلزام وعلى كون القائل بها شخص عال أوجب الفعل على المخاطب ، لجواز كونها بحسب اللغة موضوعة لخصوص « الأمر » وهو الطلب الصادر من العالي المستعلي ، فلا يكون الطلب الصادر من غيره ممّا وضع له اللفظ ، وقضيّة ذلك كون الاستعمال فيه مجازا ، ولعلّه مبتن على ما حكيناه عن بعض الأعلام من تحريره لمحلّ النزاع ، فبما قدّمنا في توهين هذه الدعوى يظهر الوهن في الجواب المذكور.

وإلى ذلك ينظر ما أورد عليه بعض الأفاضل من منع انحصار مدلول الصيغة حقيقة في ذلك ، كيف مع أنّ معظم استعمالاتها اللغويّة والعرفيّة على خلاف ذلك ، فدعوى دلالتها على كون المتكلّم بها ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا موهونة جدّا ، بل دعوى كونها موضوعة لخصوص « الأمر » غير ظاهرة أيضا ، بل الظاهر وضعها للأعمّ من « الأمر » و « الالتماس » و « الدعاء » فليس العلوّ والاستعلاء معتبرا في وضعها أصلا ، وإنّما يعتبر ذلك في كونها أمرا ، كما يعتبر خلافه في كونها التماسا أو دعاء ، وذلك ظاهر بعد ملاحظة الاستعمالات المتداولة كمال الظهور.

كيف ولو لا ذلك لم يكن للطلب الالتماسي والدعائي صيغة موضوعة يكون استعمالها فيهما حقيقة ، مع أنّ الحاجة إليهما في الاستعمالات ودورانهما في المخاطبات إن لم يكن أكثر من « الأمر » فليس بأقلّ منه ، فكيف يتصوّر تخصيص الواضع لوضع صيغة الطلب بالأمر وإهماله لهما.

ثمّ أجاب ذلك الفاضل عن أصل الاعتراض بنحو ما أشرنا إليه ، فقال : بمنع كون المراد بالوجوب هاهنا هو المعنى المصطلح ، بل المراد به الطلب الحتمي بمعنى طلب الفعل على وجه لا يرضى بتركه ، فالصيغة موضوعة له لغة ، فهو إن صدر من العالي أو المستعلي كان أمرا ، وإن صدر من غيره كان التماسا أو دعاءا ، ومدلول الصيغة وضعا شيء واحد في الجميع ، فخصوصيّة « الأمر » و « الالتماس » و « الدعاء » تعرف من ملاحظة حال القائل وليست تلك الخصوصيّات ممّا يستعمل اللفظ فيه ، واستحقاق الذمّ والعقاب على الترك بحسب الواقع إنّما يجيء بعد ثبوت وجوب الإتيان بما يطلبه المتكلّم من الخارج من العقل

٥٦

أو الشرع ، وليس ذلك من مدلول اللفظ بحسب الوضع أصلا.

وربّما اعترض على القول بكون الصيغة حقيقة في الوجوب : بأنّ صيغة « الأمر » من جملة الإنشاءات الغير المحتملة للصدق والكذب ، فلو كان مدلولها بحسب الوضع هو وجوب الفعل على المأمور كانت محتملة للصدق والكذب ، لإمكان مطابقة المدلول المذكور للواقع وعدمها.

والحاصل المعنى المفروض من المعاني الخبريّة الّتي لها مطابق في الواقع فلا وجه لجعله مدلولا للإنشاء.

ويردّه : أنّ الفرق بين الإنشاء والإخبار إنّما هو بملاحظة النسبة المعتبرة في مدلول الأفعال وضعا باعتبار الهيئة ، فإن اعتبرت تلك النسبة حكاية عمّا هو في الواقع بين عقدي القضيّة تطابقه أو لا تطابقه كانت إخبارا وإلاّ كانت إنشاءا ، فلذا يعرّف الخبر بأنّه كلام لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، فإنّ المراد بالخارج إنّما هو الخارج عن مدلول اللفظ المعبّر عنه بـ « الواقع » و « نفس الأمر » مرادا به ما قطع النظر فيه عن وعائي الوجودين ، كما أنّ المراد بالمطابقة والعدم ليس هو مجرّد الموافقة واللا موافقة ليرد النقض بالإنشاءات كلّها باعتبار نسبها الطلبيّة وغيرها لاحتمال موافقتها لما هو في نفس المتكلّم وعدم موافقتها ، بل باعتبار نسبها الفاعليّة أيضا ، بأن يقاس قولك : « اضرب » على قولك : « ستضرب » فإنّه كما يحتمل صدور الضرب من مخاطبك في الثاني فيلزم المطابقة وعدم صدوره فيلزم عدم المطابقة فكذلك في الأوّل من غير فرق بينهما في ذلك أصلا ، بل المراد بها كون النسبة ممّا يقصد بها المتكلّم الحكاية عمّا هو خارج عن مدلول كلامه ، فإن طابقته حينئذ يكون صدقا وإلاّ كذبا ، ومن البديهي انتفاء هذا المعنى في الإنشاءات ، فإنّ القائل : بـ « اضرب » أو « لا تضرب » أو « ليت زيدا قائم » لا يقصد بالنسب المقصودة فيها الحكاية اصلا ، فلا يطرؤها حينئذ احتمالا الصدق والكذب.

وبالجملة : الصدق والكذب من الأوصاف الطارئة للنسبة ، والمعيار في طريانهما أنّما هو صدور النسبة في مقام الحكاية والبيان ، ولا حكاية في الإنشاءات أبدا ، ولا عبرة بمجرّد موافقة ما يستفاد عنها من الطلب لما هو في نفس الأمر ولا موافقتها ، كما لا عبرة بمجرّد موافقة نسبها الحدثيّة ولا موافقتها للواقع بالمعنى المذكور.

ثمّ إنّهم ذكروا في المقام ألفاظا مترادفة للواجب كـ « اللازم » و « المحتوم » و « الفرض »

٥٧

وفاقا لجمهور الاصوليّين *

__________________

ولم ينقلوا خلافا إلاّ في الأخير باعتبار كونه مرادفا للواجب وعدمه.

والمحكيّ فيهما ـ على ما في كلام بعضهم ـ أقوال ثلاث :

أحدها : ما ذهب إليه في النهاية والتهذيب وشرحه من كونهما مترادفين ، وعزي أيضا إلى المبادئ وشرحه ، والزبدة ، والمختصر وشرحه ، والإحكام ، وعن شرح المختصر التصريح بكون هذا القول ما صار إليه الجمهور.

وثانيهما : ما عن الحنفيّة من أنّ « الفرض » ما علم بدليل قطعي ، و « الواجب » : ما علم بدليل ظنّي ، وحجّتهم على ما في النهاية : أنّ « الفرض » لغة التقدير ، قال الله تعالى ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ )(١) أي ما قدّرتم ، و « الوجوب » السقوط ، فخصّصنا « الفرض » بما عرف وجوبه بدليل قطعي لأنّه الّذي علم منه تعالى أنّه قدّره علينا.

وأمّا الّذي عرف بدليل ظنّي فإنّه الواجب لأنّه الساقط علينا ، ولا نسمّيه فرضا لعدم علمنا بأنّه تعالى قدّره علينا.

وأجاب عنه : بأنّ « الفرض » هو التقدير سواء استند إلى علم أو ظنّ ، كما أنّ « الواجب » هو الساقط من غير اعتبار سببه ، وكما أنّ اختلاف طرق النوافل غير موجب لاختلاف حقائقها ، وكذا طرق الحرام فكذلك طرق الواجب ، مع أنّه تعالى قد أطلق « الفرض » على الواجب في قوله : ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ )(٢) أي أوجب ، والإجماع منعقد على أنّه يقال ـ لمن أدّى صلاة مختلفا فيها ـ : أنّه قد أدّى فرض الله تعالى ، والأصل في الإطلاق الحقيقة.

وثالثها : ما نقل عمّا حكي عن صاحب الحدائق من أنّ « الفرض » ما يجب إعادة الصلاة بتركه عمدا أو نسيانا وهو ما ثبت وجوبه بالكتاب ، وأمّا ما ثبت وجوبه بالسنّة فهو واجب لا تبطل بتركه سهوا ، وبذلك صرّح الأصحاب وإليه يشير صحاح زرارة ومحمّد بن مسلم ، وعنه أيضا ويدلّ على المشهور ما رواه الكليني في الكافي في الصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « إنّ الله تعالى فرض الركوع والسجود والقراءة سنّة فمن ترك القراءة متعمّدا أعاد الصلاة ، ومن نسي القراءة فقد تمّت صلاته ولا شيء عليه » انتهى.

* وعن العضدي أيضا أنّه عزاه إلى الجمهور ، وعزاه في النهاية إلى جماعة من المتكلّمين

__________________

(١) البقرة : ٢٣٧.

(٢) البقرة : ١٩٧.

٥٨

وقال قوم : إنّها حقيقة في الندب فقط *. وقيل : في الطلب ، وهو قدر المشترك بين الوجوب والندب **

__________________

والفقهاء ، وفي المنية إلى الشافعي وأكثر الفقهاء ، وجماعة من المتكلّمين كأبى علي الجبّائي في أحد قوليه ، وأبى الحسين البصري ، وفخر الدين الرازى ، وعن التحصيل إلى أكثر الفقهاء والمتكلّمين ، وعن التمهيد عن أكثر المحقّقين ، وحكى بعض الأفاضل حكاية القول به عن كثير من العامّة والخاصّة منهم الشيخ والفاضلان والشهيدان وكثير من المتأخّرين والشافعي في إحدى النسبتين إليه وأبو الحسين البصري والحاجبي والعضدي والرازي والغزالي في إحدى الحكايتين عنه وغيرهم ، وعن الشيخ إلى جلّ الفقهاء ، وذهب إليه العلاّمة في التهذيب ، وقال في النهاية : والوجه عندي أنّها من حيث اللغة موضوعة للطلب مطلقا ومن حيث الشرع للوجوب ، واختاره جماعة من أعاظم المتأخّرين.

* حكاه في النهاية والمنية عن جماعة من المتكلّمين والفقهاء ، وفي النهاية : وهو منقول عن الشافعي أيضا ونقله قوم عن أبي هاشم.

** ويعبّر عنه بترجيح الفعل مطلقا ، إليه ذهب العميدي واختاره صاحب الهداية ووافقه أخوه في الفصول ، إلاّ أنّهما جعلاه منصرفا إلى الوجوب ، وفي الهداية : وكأنّه لانصراف المطلق إلى فرده الكامل ، وعزاه أيضا إلى جماعة من العامّة منهم الجويني والخطيب القزويني وبعض الحنفيّة على ما حكي عنهم ، وحكاه عن صاحب الوافية أيضا مع ذهابه إلى حمل الأوامر الشرعيّة كتابا وسنّة على الوجوب لا لدلالة الصيغة بل لقيام قرائن عامّة شرعا.

ثمّ إنّ المعروف فيما بينهم كون الطلب عبارة عن الجامع بين الوجوب والندب على ما صرّح به النهاية والمنية ، ولكن في المنية ـ عند تعداد معاني الصيغة ـ جعله شاملا للإرشاد أيضا ، حيث قال : وهذه الثلاثة ـ يعني بها الوجوب والندب والإرشاد ـ مشتركة في طلب تحصيل المصلحة إلاّ أنّ المصلحة في الأوّلين اخرويّة وفي الثالث دنيويّة كما في قوله تعالى : ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ )(١) تعليلا : بأنّ الثواب لا يزيد ولا ينقص بالإشهاد ولا بعدمه ، ولكنّه لم ينقله قولا في المسألة.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

٥٩

وفي كلام بعض الأفاضل : وقد يجعل أعمّ من الإرشاد أيضا حسبما يستفاد من الإحكام ، حيث جعل مفهوم الطلب شاملا للثلاثة وفرّق بين الندب والإرشاد بأنّ الندب ما كان الرجحان فيه لأجل مصلحة اخرويّة والإرشاد ما كانت المصلحة فيه دنيويّة.

ثمّ جعل الأظهر كونه قدرا مشتركا بين الوجوب والندب كما هو المعروف ، تعليلا بظهور أنّ المقصود من الإرشاد هو بيان المصلحة المترتّبة من دون حصول اقتضاء هناك على سبيل الحقيقة ، فهو إبراز للمصلحة المترتّبة على الفعل بصورة الاقتضاء.

ألا ترى أنّه قد يكون ما يأمره به على سبيل الإرشاد مبغوضا عنده ولا يريد حصوله أصلا ، كما إذا استشاره أحد في إكرام زيد أو عمرو وهو يبغضهما ويريد إهانتهما ومع ذلك إذا كانت مصلحة المستشير في إكرام زيد مثلا يقول له : « أكرم زيدا » مريدا بذلك إظهار المصلحة المترتّبة عليه من غير أن يكون هناك اقتضاء منه للإكرام ، وهذا بخلاف الندب لحصول الاقتضاء هناك قطعا ألاّ ترى أنّه غير بالغ إلى حدّ الحتم ، من غير فرق بين ما يكون السبب فيه المصلحة الدنيويّة أو الأخرويّة ، كما أنّه لا فرق في الإرشاد بين ما إذا كان الغرض إبداء المصلحة الدنيويّة أو الاخرويّة ، كيف ولو لا ما قلنا لم يكن ندب في أغلب الأوامر العرفيّة لعدم ابتنائها على المصالح الاخرويّة في الغالب.

ومع الغضّ عن جميع ما ذكر فقد يكون المصلحة الدنيويّة المتفرّعة على الفعل عائدة إلى غير المأمور وليس ذلك إذن الإرشاد ، فلا يتمّ ما ذكر من الفرق إلى آخر ما ذكره.

أقول : وكأنّ النزاع بين هذا الفاضل والّذي اشير إليه لفظيّ ، فإنّ الطلب له نسبة إلى أصل الفعل ونسبة إلى المصلحة المترتّبة عليه ، وانتفاؤه في الإرشاد بالقياس إلى الفعل لا يقضي بانتفائه بالقياس إلى المصلحة.

ألا ترى أنّه لو توقّف انتظام أمر من امور دنياك على إكرام من تغضبه ولا تحبّه فأنت تكرمه طلبا لتلك المصلحة ، مع أنّ الإكرام ليس بمطلوب عندك أصلا بل كثيرا مّا يكون مبغوضا لك.

والظاهر إنّ من جعله مشتركا بين الثلاثة نظره إليه بالقياس إلى المصلحة ، فلذلك ترى السيّد في المنية عبّر بأنّ هذه الثلاث مشتركة في طلب تحصيل المصلحة ، كما أنّ نظر هذا الفاضل إلى الطلب بالقياس إلى الفعل المشتمل على تلك المصلحة.

ومن البيّن أنّ حصول الطلب بالنسبة إلى المصلحة لا ينافي انتفاءه بالنسبة إلى الفعل.

٦٠