تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

الحدوث والبقاء ، فكما أنّ الحدوث مانع عن حدوث الضدّ الآخر كذلك البقاء أيضا مانع عن حدوث ذلك ، وذلك الضدّ أيضا كما أنّ حدوثه مانع عن حدوث الضدّ الموجود فكذلك مانع عن بقائه ، فيكون البقاء مانعا عن الحدوث والحدوث مانعا عن البقاء فعاد المحذور من توقّف البقاء على عدم الحدوث وتوقّف عدم الحدوث على البقاء.

واعتبار واسطة قابليّة المحلّ في المقام لا يفيد إلاّ خروج الدور عن التصريح إلى الإضمار ، إذ يقال حينئذ : إنّ وجود الضدّ المعدوم يتوقّف على قابليّة المحلّ ، وهي تتوقّف على ارتفاع الضدّ الموجود ، وهو يتوقّف على وجود الضدّ المعدوم لأنّه مانع عن بقائه والمانع علّة للعدم.

وبذلك يبطل ما يقال أيضا في تقرير هذا الكلام : من أنّا نفرض ثلاثة امور متضادّة يكون أحدها موجودا في المحلّ والآخران معدومين ولكن اريد إيجاد واحد من هذين في المحلّ الّذي كان مشغولا بما هو موجود فيه ، كما لو كان البياض موجودا والسواد والحمرة معدومين مع إرادة إيجاد الحمرة في محلّ البياض ، وظاهر أنّ وجود الحمرة في ذلك المحلّ لا يمكن إلاّ بعد ارتفاع البياض عنه مع عدم وجود السواد فيه ، فحينئذ إن كان كلّ من الأمرين ممّا يتوقّف عليه وجود الحمرة يبطل مذهب الخوانساري ويثبت التوقّف في كلا الجانبين الموجب للدور.

ولكنّا نقول : إنّ وجود الحمرة في هذا الفرض لا يتوقّف إلاّ على ارتفاع البياض لأنّه شاغل للمحلّ ومع ارتفاعه يحصل للمحلّ قابليّة لوجودها.

غاية الأمر كونه قابلا لوجود السواد أيضا ولكنّه لا يقضي بأنّه أيضا ممّا يتوقّف عليه ، إذ أقصى مراتب المقام أن يحصل التزاحم فيما بين الحمرة والسواد بالقياس إلى المحلّ فوجود كلّ يفتقر إلى مرجّح لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح ، وإذا حصل المرجّح لأحدهما يتقدّم ويوجد من غير توقّف له على شيء آخر ، فترك الضدّ ليس بمقدّمة بل المقدّمة ارتفاعه ، فيندفع به الدور المتوهّم فيما بين فعل أحد الضدّين وترك الآخر.

وظنّي أنّه لم لا يجعلون المرجّح المفروض علّة للوجود والارتفاع والعدم بكونها امورا ثلاث معلولات لعلة خارجة عنها من غير توقّف للبعض على البعض الآخر ، مع أنّ الضرورة قاضية بأنّه لولا وجود المرجّح للحمرة في المثال المذكور لامتنع ارتفاع البياض الموجود ، والتزاحم المذكور يحصل بينها وبين السواد قبل ارتفاع البياض بالنسبة إلى محلّ

٦٤١

شأني قابل لكلّ منهما حاصل قابليّته بتفريغه عن البياض بعد ترجيح أحدهما على الآخر ، فكما أنّ وجود ما يترجّح وانعدام ما يترجّح عليه يتوقّف على حصول ذلك المرجّح وتعيّن الرجحان للراجح ، فكذلك ارتفاع البياض يتوقّف عليه على حدّ سواء.

غاية الأمر حصول الجميع في آن واحد من دون ترتّب في البين ، وهو من آيات عدم مقدّمية البعض لغيره وكون تحقّق كلّ مع الآخرين من باب المقارنات والتلازم المحض الناشئ عن أمر خارج عن الجميع.

وأمّا أصحاب القول بالتمانع بين الضدّين القاضي بكون ترك كلّ مقدّمة لفعل الآخر فليس لهم إلاّ بعض المصادرات وغيرها من الوجوه الواهية وأقوى ما يذكر في الباب ما استفدناه عن بعض مشايخنا من حكم الضرورة وقضاء الوجدان بتمانع الأضداد الوجوديّة ، ضرورة أنّه لو فرضنا وجود أحد الضدّين في محلّ استحال معه وجود الضدّ الآخر في ذلك المحلّ ، وليس ذلك إلاّ من جهة كون الأوّل مانعا من دون أن يعقل له مانع آخر من الامور الوجوديّة والعدميّة ، ولو مع غضّ البصر عن كلّ أمر وجودي وكلّ أمر عدمي.

فلو قيل : لعلّ الاستحالة مستندة إلى عدم وجود علّة ذلك الضدّ ، لنقلنا الكلام إلى تلك العلّة فنسأل عن إمكان وجودها ، فلو قيل : بالإمكان ، منعناه بكونه خلاف بديهة العقل ، ولو قيل بالاستحالة سألنا عن مستندها فلابدّ حينئذ إمّا من انتهائه إلى أمر وجودي أو ذهاب الأعدام إلى ما لا نهاية له ، والثاني باطل بحكم العقل فتعيّن الأوّل ويثبت به المدّعى لكون الأمر الوجودي المفروض هو المانع.

فلو قيل : لعلّ مستند الاستحالة عدم بقاء محلّ لوجود ذلك الضدّ وهو من شرائط الوجود وانتفاؤه يفضي إلى انتفاء المشروط ، نقلنا الكلام إليه ونسأل عن مستند عدم بقاء المحلّ ، فإن اجيب : بأنّ المستند وجود الضدّ الموجود لاكتفينا به لكونه هو المانع إذ لا نعني به إلاّ ما يكون منشأ للعدم ، وإن اجيب : بأنّه غير ذلك فلابدّ من بيانه لننظر فيه.

ولو قيل : لعلّ مستند الاستحالة علّة ثالثة لا نعلمها بالخصوص.

لقلنا : بأنّ العلّة إن كان أمرا وجوديّا فهو المانع ، وإن كان أمرا عدميّا فإمّا أن ينتهي إلى أمر وجودي فهو المانع أيضا ، أو يذهب الأعدام إلى ما لا نهاية له وهو باطل ، والأوّل هو المتعيّن وهو المطلوب ، إذ لا نعني بالمانع إلاّ ما كان مستندا لعدم الشيء سواء فرضه ضدّا لذلك الشيء أو غيره من الامور الوجوديّة الّتي هي من لوازم ضدّه.

٦٤٢

ولو قيل : بأنّ المستند لعلّه عدم وجود شيء من مقدّمات وجوده.

لقلنا : نفرض الكلام فيما يتحقّق جميع ما له دخل في وجوده من مقدّماته مقرونة مع الضدّ الموجود ، ومعه يستحيل وجوده أيضا ولا يكون إلاّ لأجل مانعيّة ضدّه.

فإن قلت : إنّ هذا الفرض محال.

قلنا : ما الداعي إلى استحالة ذلك فهل هو إلاّ أمر وجودي؟ وإن التزموا به فاعترفت بمطلوبنا ، لأنّ ما فرضته من الأمر الوجودي هو المانع.

فبالجملة لا وجه لانكار التضادّ فيما بين المتضادّين وكونه من مقتضيات ذاتيهما ، فيكون وجود كلّ مانعا عن وجود الآخر إذ أحقّ ما يستند إليه امتناع وجود الطرف المقابل للضدّ الموجود إنّما هو وجود ذلك الضدّ ، وأمّا غيره من لوازمه وخواصّه فهو أيضا وإن كان يضادّ الطرف الآخر ويمنع عن وجوده إلاّ أنّ التضادّ حينئذ ليس من مقتضيات الذات لأنّه مع قطع النظر عن معروضه ومحلّه ربّما يمكن فرض اجتماعه مع ذلك الضدّ ، وإنّما يستحيل اجتماعه بالإضافة إلى موضوعه ، كما أنّ التضادّ فيما بين خاصّة كلّ مع خاصّة الآخر من هذا الباب لعدم كونه قائما بهما لذاتهما ، بل إنّما هو لأجل موضوعيها فإذا ثبت أنّ الضدّ مانع فتبيّن أنّ عدمه شرط لأنّ عدم المانع من جملة الشروط والشرط من المقدّمات.

وبالتأمّل فيما قرّرناه عند ذكر الأدلّة يتبيّن دفع ذلك ، وإن شئت التصريح به فنقول : إنّ المانع على ما يقتضيه الضرورة والوجدان هو الّذي يستند إليه العدم استنادا حقيقيّا ، مضافا إلى أنّه الّذي يقتضيه قانون المشتقّ من كونه لحال التلبّس ولأجل ذلك جعل عدمه شرطا وموقوفا عليه لوجود المشروط ، وقيل في تحديده : « ما يلزم من وجوده العدم » بمعنى كون وجوده لذاته منشأ للعدم ، وإلاّ فعدّه مانعا وجعل عدمه شرطا مع قيام التأثير في الوجود أو العدم بغيره من خواصّه ولوازمه البعيدة يشبه بالأكل من القفاء وهو بعيد من أنظار العلماء مع مخالفته لما يظهر من اصطلاحهم.

ولا ريب أنّ الشيء في وجوده كائنا ما كان يفتقر إلى العلّة التامّة ، وهي أمر يتركّب من وجود المقتضي وفقد المانع ، فلو فرض وجود المقتضي مع وجود المانع كان العدم لازما لذلك الشيء مستندا إلى وجود المانع استنادا حقيقيّا في نظر العرف والعقل ، ولو فقد المقتضي استند إليه العدم كذلك سواء قارنه وجود المانع أو لا ، بحيث لا يستريب ذو مسكة في أنّه على تقدير وجوده حينئذ ليس له مدخليّة في العدم أصلا ، بل ولا يطلق عليه اسم

٦٤٣

« المانعيّة » ولو اطلق كان على سبيل المجاز.

ولا ريب أيضا أنّ الضدّين إذا وجد أحدهما في محلّ وانعدم الآخر كان انعدام ذلك المعدوم لا يستند إلاّ إلى فقد مقتضيه ، ويكون وجود الضدّ الموجود مقارنا لفقد ذلك المقتضي المقارن لوجود مقتضيه ، ولا ينبغي حينئذ السؤال عن ذلك المقتضي أو علّة فقده ، ولو كابر أحد وسأل نجيب بأنّ المقتضي للوجود هو الرجحان بمعنى اعتقاد النفع أو نفس النفع الّذي يعبّر عنه بـ « موافقة الغرض » وهو الغاية المطلوبة ، ولا شكّ أنّ الضدّ المعدوم فاقد لهذا المعنى ، إمّا لأنّه لا غرض أصلا ليوافقه أو الغرض شيء قائم بغيره من الضدّ الموجود ، وهذا هو الأمر الوجودي الّذي ينتهي إليه العدم وله في تأثيره نسبة إلى وجود الضدّ الموجود وعدم الضدّ المعدوم على حدّ سواء ، لقضاء الوجدان الضروري بكونه مؤثّرا في ذلك الوجود وهذا العدم في آن واحد ، فيكونان معلولين لعلّة واحدة من دون أن يتحقّق بينهما توقّف لأحدهما على الآخر ، ومجرّد قيام ذلك الغرض بالضدّ الموجود لا يقضي باستناد عدم الآخر إليه استنادا حقيقيّا حتّى يكون مانعا لخروجه عن ماهيّته بالمرّة ، ضرورة خروج غايات الأفعال عن حقائقها شطرا وشرطا ، ولو اطلق عليه اسم « المانعيّة » على المجاز أو جعله إصطلاحا فلا مشاحّة ، غير أنّه لا يترتّب عليه أثر من حيث إنّ الكلام إنّما هو في أمر معنوي ، وهو استناد العدم إلى ما اطلق عليه « المانع » ليكون عدمه شرطا ومقدّمة وقد عرفت أنّه ليس كذلك.

وبذلك يتبيّن أنّ ما [ في ] كلام بعض الأعلام ـ من الاستدلال على كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل المأمور به باستحالة وجود الضدّين في محلّ واحد ، فوجود أحدهما يتوقّف على انتفاء الآخر عقلا فالتوقّف عقلي وإن كان الضدّ شرعيّا ـ ليس على ما ينبغي ، لعدم خلوصه عن مصادرة ، واشتماله على ما هو أعمّ من مطلوبه ، فإنّ استحالة وجود الضدّين في محلّ واحد مسلّمة ولكنّها غير مجدية في إثبات المطلوب.

لأنّا نقول : بأنّها من جهة استلزام وجود أحدهما لعدم الآخر والاستلزام أعمّ من التوقّف.

ألا ترى أنّه لو كانا متلازمين لملزوم واحد ومعلولين لعلّة ثالثة خارجة عنهما لاستحال الانفكاك بينهما وامتنع الاجتماع أيضا ، لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة ومع ذلك فكيف يجعل مجرّد استحالة الاجتماع في محلّ واحد دليلا على التوقّف.

وقريب من ذلك في الضعف ما قرّره في الضوابط عند الاستدلال على مقدّميّة الترك

٦٤٤

من : « أنّ الضدّين لا يجتمعان عقلا والحاكم بامتناع الاجتماع هو العقل القاطع ، إذ الضدّ هو الأمر الوجودي المنافي للشيء في الوجود فكيف يجتمع الشيء مع ما ينافيه في الوجود ، فلا محالة يتوقّف وجود أحدهما على انتفاء الآخر توقّفا عقليّا ، وليس من باب الملازمة الاتّفاقيّة بحيث يكون ترك الضدّ ملازما لفعل الآخر من باب الاتّفاق ، وليس أيضا من باب المتلازمين عقلا بالعرض كالمعلولين لعلّة واحدة ، فإنّ امتناع أحدهما نشأ من امتناع الانفكاك عن العلّة بالنسبة إلى كليهما ، فلولا ذلك لم يكونا متلازمين عقلا بخلاف ما نحن فيه فإنّ التلازم فيه ذاتي لا عرضي ». انتهى.

ولا يخفى ما فيه ممّا هو من قبيل إظهار البديهي ثمّ الإتيان بما يكون مصادرة واضحة ثمّ الافتراء الواضح على العقل ، وليس شيء من ذلك ممّا ينبغي الالتفات إليه ، وإنّما نذكرها في المقام إعلاما بأنّ أصحاب هذا القول ليس لهم شيء يشبه بكونه دليلا ، وتوضيحا لفساد مذهبهم لمن كان في المسألة بعد متردّدا.

وأضعف من الجميع ما في كلام بعض الأعاظم حيث قال ـ في ردّ من أنكر كون ترك الضدّ ممّا يتوقّف عليه فعل المأمور به ، تعليلا بأنّه إنّما يحصل في الوجود بلا توقّف من الطرفين ـ : ويشكل بأنّهم إن أرادوا أنّ ترك الضد ممّا لا مدخليّة له في وجود الضدّ الآخر أصلا فهو خلاف مقتضى حكم العقل ، فإنّ التأثير من الفاعل في الضدّ لا يمكن إلاّ بعد عدم الضدّ ، فهو ممّا يتوقّف عليه قبول الأثر فيه فيكون من المقدّمة ، كيف لا واجتماع الضدّين محال فلا يمكن وجود أحدهما إلاّ مع عدم الآخر ، فوجود الضدّ من الموانع فعدمه ممّا يتوقّف عليه وشرط.

وإن أرادوا أنّ العلّة في ترك الضدّ عدم الداعي أو الصارف عنه ومع ذلك لا تأثير لفعل الضدّ في الترك فإنّه لو فعله أو تركه لا يؤثّر كما يشهد به الوجدان.

قلنا : هذا غير مضرّ إن أرادوا أنّه الجزء الأخير من العلّة ، وإن أرادوا عدم المدخليّة في الواقع فكلاّ ، فإنّ مدار كون الشيء مقدّمة ليس إلاّ على كون الشيء في الواقع بحيث لا يمكن تحقّق ذي المقدّمة إلاّ بحصوله وهو حاصل قطعا ، وإلاّ لزم إمكان وجود الضدّ مع وجود ضدّه وهو ضروريّ البطلان ، ولو كان الأمر على ما ذكروه لخرج عدم المانع عن كونه مقدّمة مطلقا وهو خلاف المشهور ، فإنّ وجود الصارف أو عدم الداعي مؤثّر في العدم من غير مدخليّة للموانع فيه بل الشرط أيضا ، فإنّ وجود السلّم ونصبه مثلا لا مدخليّة لهما

٦٤٥

أصل

الحقّ أنّ الأمر بالشيء على وجه الإيجاب لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ لفظا ولا معنى.

وأمّا العامّ * ؛ فقد يطلق ويراد به أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ، وهو

__________________

في وجود المأمور به كالكون على السطح بعد حصول الصارف أو عدم الداعي ، بل المانع وعدم الشرط في تلك الحال من المقارنات من دون تأثير لهما في العدم وهو في الشرط خلاف ما اتّفقوا إليه.

وبالجملة أقصى ما هناك عدم الشعور لا عدم التوقّف وهو حاصل في المقدّمات البعيدة ولا يضرّ لتوقّف وجود الشيء على وجود شرطه ورفع موانعه قريبا أو بعيدا في الواقع وإن لم يستشعر به.

وبالجملة يجد العقل ترتّبا بين وجود الضدّ وعدم الضدّ الآخر بلا مرية ، إلى آخره.

وأنت بالتأمّل فيما تقدّم تعرف ما في كلّ فقرة من هذا الكلام من وجوه الفساد ولا نطيل الكلام بتوضيحها ، هذا تمام الكلام في منع مقدّمية الترك للفعل ومنه يظهر منع مقدّمية الفعل للترك أيضا ، وأمّا دفع شبهة الكعبي مفصّلا فقد أوردنا بعض الكلام فيه في موضعين في بحث المقدّمة ولعلّنا نتكلّم معه أيضا في الجملة عند شرح عبارة المصنّف فيما بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

* واعلم أنّ « الضدّ » لغة المبائن ، وفي المجمع : ضادّه مضادّة إذا بائنه مخالف ، ومنه ، لا مضادّ له في ملكه ، والمتضادّان اللذان لا يجتمعان كالليل والنهار وفي اصطلاح أهل المعقول الضدّ الأمر الوجودي المقابل لمثله الّذي لا يجتمع معه بحسب الوجود الخارجي في محلّ واحد كالسواد والبياض في الصفات والقعود والقيام في الأفعال.

وأمّا في لسان الأصوليّين فيحتمل انطباقه على الأوّل فيخرج قيدي « الخاصّ » و « العامّ » حيثما يقيّد بهما مخرج القيود الاحترازيّة القاضية بكون اللفظ مرادا به معناه الحقيقي القدر المشترك بين القسمين ، كما يحتمل انطباقه على الثاني فيكون قيد « الخاصّ » من باب القرائن المؤكّدة وقيد « العامّ » من باب القرائن الصارفة على أحد الوجهين الآتيين.

وأمّا على الوجه الآخر فمن باب القرائن المؤكّدة أيضا على المشهور ، وإن كان مناقشة

٦٤٦

راجع إلى الخاصّ ، بل هو عينه في الحقيقة * ، فلا يقتضي النهي عنه أيضا.

__________________

بعض الفضلاء الآتية تقتضي خلافه ، أو يكونان من باب القرائن المفهمة المقرونة بالمجاز الّذي يراد منه القدر المشترك بين معنييه الحقيقي والمجازي المعبّر عنه بعموم المجاز على تقدير كون المراد به حيثما اطلق هو هذا المعنى ولكن بملاحظة هذا الاصطلاح لا اصطلاح أهل اللغة ، فيكون القيدان حيثما قيّد بهما جاريين مجرى القيود الاحترازيّة أيضا ولكن بالقياس إلى المعنى المجازي دون الحقيقي.

وهاهنا احتمال آخر وهو تجدّد اصطلاح آخر للاصوليّين في هذا اللفظ بإزاء ما يبائن المأمور به ولا يجامعه وإن كان تركا له ، أو ثبت مضادّته له بحسب الشرع وإن كان بحسب العقل ممّا لا يضادّه أصلا ويجتمع معه في الوجود الخارجي ، فيلزم أن يكون القيدان من باب القرائن المفهمة في المعنى الحقيقي القاضية بإرادة القسم على حدّ إطلاق الكلّي على الفرد كما في الاحتمال الأوّل ، وهذا المعنى على فرض ثبوته أخصّ من الأوّل حيث لا يتناول ما يبائن غير المأمور به.

وأعمّ من الثاني حيث يتناول ما ليس بأمر وجودي والوجودي الّذي لا يمتنع اجتماعه مع المأمور به عقلا ، فعلى هذا الاحتمال كالاحتمال الأوّل نستريح عمّا تكلّفوا في اعتبار العلاقة بالقياس إلى إطلاقه على الترك من ارتكاب بعض الوجوه الواهية الّتي سيأتي الإشارة إليها ، لابتنائه على الاحتمال الثاني غير أنّ إثبات هذا الاحتمال في غاية الإشكال ، ولا سيّما مع مخالفته الأصل وقاعدة أولويّة المجاز عند الدوران بينه وبين النقل أو الاشتراك ، فهو على أيّ حال ساقط عن البين على سبيل الجزم واليقين.

وأمّا غيره فتصدّى جماعة من الأعلام لاعتبار العلاقة يقضي بتعيينه في الاحتمال الثاني ، ولكن كلام غيرهم ممّن تقدّم خال عن ذلك فيكون الاحتمال الأوّل أقرب بالاعتبار ، ولا يبعد ترجيحه بحمل العنوانات المطلقة عليه فلا يلزم مجاز ولا إخراج القيد الّذي الأصل فيه كونه احترازيّا مخرج القيود التوضيحيّة ، والوجه في ذلك أنّ ورود هذا اللفظ في كلامهم مبنيّ على التبع لا محالة من باب الحقيقة التبعيّة في موضع الحقيقة والمجاز التبعي في موضع التجوّز ، فيدور بين كونه تبعا للعرف العامّ أو العرف الخاصّ والأوّل هو الأولى أخذا بالظاهر وموافقة الأصل والقواعد كما لا يخفى.

* وفي دعوى رجوع العامّ بهذا المعنى إلى الخاصّ وكونه في الحقيقة عينه وجوه :

٦٤٧

منها : رجوعه إليه بحسب القائل ، بمعنى أنّ من يجعل الضدّ الخاصّ منهيّا عنه لا يريد به فعلا خاصّا معيّنا في الواقع من حيث عدم تعلّق غرض بنفي الخصوصيّة والتعيين ، بل يريد به أحد الأفعال المضادّة للمأمور به وهو الّذي يزاحمه بوقوعه في محلّه سواء حصل التلبّس به حين الخطاب وقبله فيراد بالنهي عنه الحمل على العدول عنه إلى إيجاد المأمور به ، أو لم يحصل التلبّس بعد فيراد بالمنهيّ عنه المنع عن الإقدام على إيجاده قبل أداء المأمور به.

وظاهر أنّ هذا المعنى لا اختصاص له بفعل معيّن ، فمن يقول بالنهي عن الضدّ الخاصّ يريد به أحد الأضداد الوجوديّة ، ومن يقول بالنهي عن أحد الأضداد يريد به الضدّ الخاصّ.

ويؤيّد هذا المعنى ما في بعض حواشي شرح المختصر للعضدي من توجيه الاعتراض على استدلال الحاجبي على عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه بأنّه : لو كان الأمر نهيا عن الضدّ لم يحصل بدون تعقّل الضدّ والكفّ عنه لأنّه مطلوب بالنهي ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما.

فقال العضدي : « واعترض : بأنّ المراد الضدّ العامّ وتعقّله حاصل ».

وذكر المحشّي في توجيهه : أنّه لا نسلّم انتفاء اللازم وحصول القطع بطلب حصول الفعل مع الذهول عن الضدّ ، وإنّما يصحّ لو اريد الضدّ الخاصّ الّذي هو جزئيّ من جزئيّات ما لا يجامع المأمور به كالقعود بالنسبة إلى القيام.

أمّا لو اريد الضدّ العامّ أعني أحد الأضداد لا على التعيين فلا ، إذ الطالب إنّما يطلب الفعل إذا علم أنّ المأمور متلّبس بضدّه العامّ لا بالفعل نفسه ، والعلم بعدم تلبّسه بالضدّ مستلزم لتعقّل الضدّ » انتهى.

ومنها : رجوعه إليه بحسب الاسم والتسمية ، بمعنى أنّ أحد الأضداد وإن كان يسمّى بالضدّ العامّ لما فيه من الشيوع والانتشار غير أنّ ما اعتبر فيه من الكلّية أمر جعلي منتزع عن الخصوصيّات وليس له حقيقة في الظاهر والواقع سوى الخصوصيّات فالّذي لاحظه الآمر لإرادة النهي عنه إنّما هو ما يقع عليه اسم الضدّ الخاصّ ، غاية الأمر أنّه لمّا لم يكن متعيّنا ولا معتبرا فيه الخصوصيّة فوقع عليه اسم العامّ أيضا وعبّر عنه بأحد الأضداد الوجوديّة ، فالاختلاف بينهما اختلاف في التعبير وإلاّ فاللبّ المنوط بما في ضمير الآمر واحد.

ومنها : رجوعه إليه من حيث الحكم والثمرة ، بمعنى أنّ أحد الأضداد الوجوديّة وإن كان بمفهومه يغاير الضدّ الخاصّ لأنّه كلّي وهو جزئي ، إلاّ أنّ النهي المتعلّق به ظاهرا لابدّ

٦٤٨

من صرفه إلى مصاديقه ، لأنّه معدوم صرف والأحكام لا تتعلّق بالمعدومات ، ومصاديقه إنّما هو الأضداد الخاصّة فالنزاع بين من يدّعي النهي عن الضدّ العامّ بهذا المعنى ومن يقول به في الضدّ الخاصّ لفظيّ ، والّذي يدلّ على نفي الاقتضاء في الضدّ الخاصّ يدّعي على نفيه في الضدّ العامّ أيضا.

ومنها : رجوعه إليه بحسب المعنى ، وذلك لأنّ الضدّية للشيء إنّما هي من أوصاف وجوده الخارجي ، نظرا إلى أنّ ضدّ المأمور به عبارة عمّا لا يجامعه في محلّ واحد بحسب الوجود الخارجي ، فلابدّ وأن يكون الموصوف بها ما يصلح لأن يوجد في الخارج.

ولا ريب أنّ أحد الأضداد إن اعتبر مفهومه فهو أمر اعتباري صرف ولا محصّل له في الخارج أصلا فلا يصلح لأن يتّصف بالضدّية ، فلابدّ وأن يراد به مصاديقه.

ولا ريب أنّ مصاديقه هي الأضداد الوجوديّة بعينها وهذا هو الأوجه.

وقد يوجّه العبارة بما لا كرامة فيه وهو : أنّ النهي عن طبيعة الضدّ مستلزم للنهي عن كلّ الأفراد ، فيكون قولنا : « أزل النجاسة » بناء على اقتضائه النهي عن الضدّ العامّ بمعنى أحد الأضداد الوجوديّة بمنزلة : « لا تصلّ » لأنّ النهي عن طبيعة الضدّ مستلزم للنهي عن أفراده ، كما أنّ « أزل النجاسة » بناء على اقتضائه النهي عن الضدّ الخاصّ أيضا بمنزلة « لا تصلّ » فيكون مرجع النهي عن أحد الأضداد الوجوديّة إلى النهي عن الضدّ الخاصّ.

ثمّ يعترض عليه : بأنّا إن قلنا بأنّ « أزل النجاسة » يقتضي النهي عن الضدّ الخاصّ لكان خصوص الصلاة منهيّا عنه ، فيكون بمنزلة أن يقول الشارع : « أزل النجاسة ولا تصلّ » فلا تصحّ الصلاة حينئذ ، لأنّه نظير قوله : « صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة ».

وبعبارة اخرى : صار بمنزلة أن يقول : « افعل الصلاة ولا تفعل الصلاة حال كونها ضدّا للإزالة » فيكون الجهة تعليليّة والجمع آمريّا والصلاة باطلة.

وإن قلنا بأنّه يقتضي النهي عن ضدّه العامّ بمعنى أحد الأضداد الوجوديّة كان قول الشارع : « أزل النجاسة » بمنزلة قوله : « لا توجد ضدّا » فيكون صلاة تارك الإزالة صحيحة لأنّ قوله : « أزل النجاسة ولا توجد ضدّا مّا » نظير قوله : « صلّ ولا تغصب » وكما أنّ هذا لا يستلزم البطلان فكذا هذا ، لكون الجمع مأموريّا لرجوع النهي إلى الوصف الخارج أعني الضدّية والغصبيّة.

إلى أن قال : فظهر أنّ النهي عن أحد الأضداد لا يرجع إلى النهي عن الضدّ الخاصّ لما

٦٤٩

عرفت من الثمرة العظيمة من اجتماع الأمر والنهي في ذلك.

ولا يخفى ما في كلّ من التوجيه والاعتراض عليه.

أمّا الأوّل : فلأنّ أحد الأضداد الوجوديّة إن اريد به مفهوم ضدّ مّا فهو ليس من جملة الأعيان الخارجيّة ولا يكون من جملة الطبائع المتحصّلة في الخارج فلا وجه للقول بأنّ النهي عن طبيعة الضدّ يستلزم النهي عن كلّ الأفراد ، لا لأنّ هنا نهيا ولا تعلّق له بالأفراد بل لأنّه لا طبيعة هنا تكون صالحة لتعلّق النهي بها فيسري منها إلى أفرادها ، والحكم الشرعي يقتضي موضوعا يكون موجودا في الخارج ولو ضمنا كالطبائع المحقّقة الموجودة في ضمن الأفراد ، ضرورة قيام العرض بالموضوع لا بغيره ، وإن اريد به مصداق ضدّ مّا فهو نفس الضدّ الخاصّ والنهي المفروض متعلّق به بنفسه لا من حيث إنّه أحد أفراد طبيعة اخرى قد تعلّق النهي بها فسرى عنها إلى أفرادها ، كالنهي عن طبيعة الزنا السارية في جميع أفرادها.

وأمّا الثاني : فلأنّ أحد الأضداد الوجوديّة من حيث تعلّق النهي به على فرض صحّته محتمل لوجوه ثلاث :

الأوّل : أن يعتبر فيه من هذه الحيثيّة ترديد فيما بين مصاديقه ، بأن يقال : إنّ الّذي يأمر بشيء فهو يبغض أحد أضداده الوجوديّة ، إمّا هذا أو هذا أو هذا إلى آخر الأفراد ، وحيثما يقصد بخطابه النهي عنه فينهى عنه بهذا المنوال حتّى يكون المنهيّ عنه من أضداد الإزالة إمّا الصلاة أو القعود أو القيام لغرض آخر.

الثاني : أن يعتبر فيه اشتراط المزاحمة لفعل المأمور به دون الترديد ، بأن يقال : أنّ المبغوض في نظر الآمر والمنهيّ عنه عنده إنّما هو أحد الأضداد الوجوديّة بشرط كونه مزاحما للمأمور به.

الثالث : أن لا يعتبر فيه شيء من ذلك ، بأن يكون المبغوض والمنهيّ عنه أحد الأضداد الوجوديّة لا بشرط شيء ولا على نحو الترديد ، وهو أيضا يتصوّر على وجوه لا يخفى على المتأمّل.

ولا ريب أنّ تنظير النهي عنه على النهي عن الغصب في مقابلة الأمر بالصلاة الّذي يكون بالنسبة إلى الصلاة راجعا إلى وصفها الخارج الموجب لصحّة الصلاة في الدار المغصوبة لكون الجمع بينهما مأموريّا لا آمريّا ، إنّما يصحّ بعد فرض صحّة مبنى هذا الكلام على الوجه الأخير لا مطلقا ، بل إذا لوحظ أحد الأضداد اللابشرط غير مقيّد بالإطلاق مع ملاحظة الضدّية بينه وبين المأمور به باعتبار وصفه العنواني لا لذاته ، لوضوح بطلان

٦٥٠

الاحتمالين الآخرين بحيث لا يكاد أحد يتوهّمه في المقام.

فحينئذ يكون أحد الأضداد المنهيّ عنه في مقابلة الصلاة المأمور بها من باب الغصب والصلاة فيكون النهي في مادّة الاجتماع راجعا إلى الوصف الخارج والجمع مأموريّا والصلاة صحيحة.

ولعلّ الّذي يجعل المنهيّ عنه أحد الأضداد لا يريد به هذا المعنى حتّى يلتزم بالفرق بينه وبين القول بالنهي عن الضدّ الخاصّ ، بل يريد أحد المعنيين الأوليين وعليه ينتفي الفرق ويصير الجمع أيضا آمريّا والعلّة تعليليّة ومفاد الأمر بالصلاة والنهي الضمني عنها راجعا إلى قوله : « صلّ ولا تصلّ صلاة تزاحم الإزالة المأمور بها ، أو تضادّها في محلّ وقوعها » فيلزم أن يكون الصلاة باطلة لامتناع اجتماع الأمر والنهي في تلك الصورة على مذهب المعترض ، ضرورة أنّ الصلاة في موضع المزاحمة عين ما تعلّق به النهي وهو أحد الأضداد بشرط المزاحمة لكونها مصداقا له وعين ما لوحظ في القضيّة الترديديّة وتعلّق به النهي بنفسه.

مع أنّ هذه الدعوى على فرض جريانها في الضدّ العامّ بهذا المعنى يمكن جريانها في الضدّ الخاصّ أيضا ، لأنّ المراد به إمّا أن يكون كلّ واحد من الأفعال الخاصّة المضادّة للمأمور به على طريق العام الاصولي ، أو بعضا منها معيّنا في الواقع وفي نظر الآمر ، أو بعضا منها لا على التعيين ، أو طبيعة الضدّ بما هي طبيعة وهي الأمر الوجودي الّذي لا يجامع المأمور به مع قطع النظر عن أفراده وهي الأفعال الخاصّة ، فالّذي يصحّ في كلام القائل بالنهي عن الضدّ الخاصّ هو الأوّل والأخير لوضوح فساد كلّ من المتوسّطين ، والفرق المذكور إنّما يتّجه على الأوّل من الصحيحين للزومه كون الصلاة بعينه منهيّا عنها لعلّة تعليليّة.

ولعلّ مراد هذا القائل هو الثاني وهو الوجه الأخير فحينئذ يرجع النهي عنه بالقياس إلى الصلاة المأمور بها إلى كونه نظير النهي عن الغصب في مقابلة الصلاة فيرجع النهي إلى وصفها الخارج ولا يقضي بالفساد على ما توهّمه المعترض ، فإبداء الفرق حينئذ تحكّم ولا ينبغي الالتفات إليه.

وقد يعلّل عبارة المصنّف فيما تقدّم : بأنّه (١) مفهوم كلّي لا يوجد إلاّ في ضمنه بل هو عينه ، لأنّ الكلّي متّحد مع الأفراد في الوجود وهو أيضا بعيد عن الصواب ، لكونه تنزيلا لها إلى ما يراه المصنّف في الكلّيات المحقّقة من وجودها في الخارج وكون وجودها عين

__________________

(١) أي الضدّ العامّ بذلك المعنى مفهوم كلّي لا يوجد إلاّ في ضمن الضدّ الخاصّ. ( منه عفي عنه ).

٦٥١

وقد يطلق ويراد به الترك *. وهذا يدلّ الأمر على النهي عنه بالتضمّن.

وقد كثر الخلاف في هذا الأصل ، واضطرب كلامهم في بيان محلّه من المعاني المذكورة للضدّ ؛ فمنهم : من جعل النزاع في الضدّ العامّ بمعناه المشهور ـ أعني الترك ـ وسكت عن الخاصّ. ومنهم : من أطلق لفظ الضدّ ولم يبيّن المراد منه. ومنهم : من قال : إنّ النّزاع إنّما هو في الضدّ الخاصّ. وأمّا العامّ بمعنى الترك فلا خلاف فيه ، إذ لو لم يدلّ الأمر بالشيء على النهي عنه ، لخرج الواجب عن كونه واجبا.

__________________

وجود الأفراد ، مع أنّه قول لا يتفرّع على هذا المذهب بل يقول به أهل جميع المذاهب حتّى القائلين بوجود الكلّي في ضمن الأفراد ، لأنّه كلّي ليس على حدّ سائر الكلّيّات كما عرفت ، فالنهي عنه نهي عمّا هو مصداق له وهو الضدّ الخاصّ لا محالة ، والأسدّ بل الموافق للصواب ما ذكرناه من الوجوه وإن كان مفاد الجميع فيما عدا الأخير واحد.

* وهذا هو الّذي يجعل الضدّ بناءا على اصطلاح أهل المعقول مجازا فيه على أحد وجهيه ، وهو أن يراد بالترك مجرّد عدم الإتيان بالمأمور به ، واختلفت كلمتهم في اعتبار العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي وهو الأمر الوجودي الّذي لا يجتمع مع المأمور به في محلّ واحد ، وجملة ما ذكروه في الباب لا تزيد على ثلاثة أوجه ، المشابهة والمجاورة والكلّية والجزئيّة.

أمّا الأوّل : فلمشابهة الترك للضدّ الوجودي في وصف المنافاة.

وأمّا الثاني : فلمجاورة ترك الشيء لفعل ضدّه الوجودي.

وأمّا الثالث : فلكون الضدّ الوجودي جزئيّا من جزئيّات ما ينافي المأمور به أو ما لا يجامعه على الإطلاق ، فاستعمل اللفظ الموضوع للجزئي في الكلّي مجازا في موضع إرادة الترك منه من باب إطلاق الكلّي على الفرد.

ولا يخفى ما في الكلّ من التعسّف الواضح ، وليت شعري بأنّهم لم لم يعتبروا علاقة السببيّة والمسبّبيّة مع كونها من أظهر العلائق وأقربها اعتبارا ، ولا سيّما على مذهب المشهور من تمانع الأضداد الوجوديّة نظرا إلى أنّ كلّ ضدّ وجودي إذا كان مانعا عن الآخر

٦٥٢

فهو سبب لتركه وعدم دخوله في حيّز الوجود ، فيكون إطلاق اللفظ الموضوع له على الترك من باب تسمية المسبّب باسم السبب.

وعلى ما قرّرناه من منع التمانع يكون العلاقة الظاهريّة علاقة اللزوم من باب ذكر الملزوم وإرادة لازمه نظير « النطق » في قولهم : « نطقت الحال » للدلالة ، نظرا إلى أنّ ترك الضدّ حينئذ من لوازم فعل الضدّ الآخر بل كونه لازما هو المصرّح به في كلام أهل الاصطلاح ، كما يرشد إليه التأمّل في الوجه الرابع من أدلّتنا الناهضة على نفي التمانع فيما بين الأضداد الوجوديّة المشتمل على كلام من أهل المعقول.

وأمّا إذا اريد بالترك الكفّ عن المأمور به فقد صرّح بعض الأعلام بكون الإطلاق فيه حقيقة لبنائهم في الكفّ ـ على ما سيأتي في باب النهي ـ على كونه أمرا وجوديّا كالمعنى الحقيقي فليس اللفظ مستعملا في خلاف ما وضع له.

واعترض عليه بعض الفضلاء : بأنّه يعتبر في الضدّين مع كونهما أمرين وجوديّين تواردهما على محلّ واحد كالسواد والبياض والقعود والقيام ، ولذا لا يطلق الضدّان على العلم والسواد مع كونهما وجوديّين لتعدّد محلّيهما ، ومحلّ البحث ليس من هذا الباب لكون المأمور به كالصلاة ـ مثلا ـ محلّه الجوارح والكفّ محلّه النفس فيكون الإطلاق عليه أيضا مجازيّا.

وردّ : بأنّ النفس إن اريد بها النفس الإنسانيّة فلا شكّ أنّ الصلاة أيضا محلّها النفس ، ضرورة كون الفاعل الحقيقي في جميع الأفعال هو النفس وأنّ الجوارح منها بمنزلة الآلات.

وإن اريد بها مورد الكفّ ومصدره ، فلا شكّ أنّ الكفّ أيضا محلّه الجوارح كالفعل لأنّه عبارة عن إمساك الجوارح عن الإتيان بالمأمور به كما لا يخفى.

أقول : ويرد عليه أيضا : أنّه لو كان منشأ الاشتباه إضافة الكفّ إلى النفس حيث يعبّر عنه بكفّ النفس كما هو الظاهر.

فيدفعه : أنّ فعل المأمور به أيضا كذلك لأنّه عبارة عن حمل النفس على إيجاد المأمور به.

غاية الأمر أنّ التعبير عنه بهذه اللفظة غير معهود ، وهو إن صلح فرقا يكون فرقا لفظيّا بين المقامين والفرق اللفظي لا يوجب الفرق المعنوي والمعتبر في أمثال المقام إنّما هو المعنى دون اللفظ.

نعم يقع الإشكال في جهة اخرى وهي أنّ الكفّ إن كان بحسب العنوان والتعبير أمرا وجوديّا غير أنّه متلبّس بالعدم وليس بأمر وجوديّ صرف ، لأنّ إمساك الجوارح عن إيجاد

٦٥٣

المأمور به عبارة عن حمل الجوارح على عدم إيجاده كما أنّ الفعل عبارة عن حمل الجوارح على إيجاده ، فلابدّ في معرفة كيفيّة هذا الإطلاق من ملاحظة كيفيّة الاصطلاح الجاري في هذا اللفظ الحاصل لأهله ، والنظر في أنّهم هل يخصّونه بالأمر الوجودي الصرف أو ما يعمّه والوجودي المتشبّث بالعدم.

وظاهر عباراتهم وإن كان يقضي بالأوّل ولكنّ الاصول ترشد إلى الثاني وكيف كان فلابدّ في ذلك من نوع تأمّل.

ثمّ إنّ من الأعاظم من فرّع احتمالي ترك المأمور به أو الكفّ عنه في المراد من الضدّ العام على الخلاف الآتي في باب النهي ، من كون المطلوب بالنهي هو الكفّ أو نفس « أن لا تفعل ».

حيث قال : « الضدّ هنا يراد به ما يعاند المأمور به وينافيه ولا يجتمع معه في الوجود وإن كان عدما كترك المأمور به أو الكفّ عنه على الخلاف الآتي في النهي » وهو كما ترى بظاهره وارد على خلاف التحقيق ، وذلك لأنّ الخلاف الآتي خلاف وقع في مدلول النهي الدائر بين كونه طلب الترك ـ بمعنى مجرّد عدم الإتيان ـ أو طلب الكفّ عن المنهيّ عنه ، ومحلّ البحث إنّما هو الترك الّذي هو متعلّق لمدلول النهي ولا مدخل له في الخلاف المذكور ، ضرورة أنّه لو ثبت ثمّة أنّ المطلوب بالنهي هو الكفّ لا يلزم منه أن يكون مراد الاصوليّين بترك المأمور به الّذي أطلقوا عليه اسم « الضدّ » هو الكفّ كما أنّه لو ثبت ثمّة خلاف ذلك لا يلزم منه كون مرادهم هنا أيضا خلاف ذلك.

غاية الأمر أن نقول هنا على المذهب الأوّل : إنّ الأمر بالشيء يدلّ على طلب الكفّ عن ترك المأمور به ، وعلى المذهب الثاني : إنّه يدلّ على طلب ترك ترك المأمور به ، فيبقى ترك المأمور به الّذي هو متعلّق النهي محتملا للوجهين أيضا ولم يتبيّن حاله فكيف يتوهّم تفرّع حاله على الخلاف الآتي ، إلاّ أن يقال : بجريان الدليل القاضي بحمل النهي على الكفّ في مطلق التروك.

وعلى أيّ حال كان فقد عرفت أنّهم يسمّون الترك أو الكفّ بالضدّ العامّ.

ووجهه : عدم اختصاص الترك أو الكفّ بفعل خاصّ من الأفعال المضادّة للمأمور به لتحقّقهما في ضمن خاصّ لا محالة ، فإنّ « الأكل » مكان « الصلاة » كفّ عنها أو ترك لها وكذلك الشرب أيضا وهكذا إلى آخر الأضداد الوجوديّة ، وهذا نظير أفعال العموم في اصطلاح النحاة كالوجود والثبوت والحصول ونحوه ، فإنّ عموم هذه الأفعال من جهة تحقّق

٦٥٤

وعندي في هذا نظر ؛ لأنّ النزاع ليس بمنحصر في إثبات الاقتضاء ونفيه * ، ليرتفع في الضدّ العامّ باعتبار استلزام نفي الاقتضاء فيه خروج الواجب عن كونه واجبا ، بل الخلاف واقع على القول بالاقتضاء في أنّه هل هو عينه أو مستلزمه كما ستسمعه. وهذا النزاع ليس ببعيد عن الضدّ العامّ ، بل هو إليه أقرب.

ثمّ إنّ محصّل الخلاف هنا ** : أنّه ذهب قوم إلى أنّ الأمر بالشيء عين

__________________

مفاهيمها في ضمن كلّ واحد من أفعال الخصوص ، فلذا يصير قولك : « ضرب » أو « قعد » أو « قام » في معنى أن يقال : « وجد » أو « ثبت » أو « حصل الضرب » أو « القعود » أو « النوم ».

* ولا يخفى أنّ الاعتراض على دعوى نفي الخلاف في الضدّ العامّ باعتبار الاقتضاء وعدمه إن كان ولابدّ فكان الأولى منعها بدعوى وقوعه في أصل الاقتضاء أيضا بالنسبة إلى الضدّ العامّ كوقوعه فيه بالنسبة إلى الخاصّ ، كما حكي القول بنفي الاقتضاء عن الأشاعرة تعليلا بجواز الأمر بما لا يطاق فلا استبعاد في أن يأمر الشارع بالوجود والعدم.

وعن السيّد استنادا إلى أنّ الآمر قد يكون غافلا فلا يتحقّق منه النهي عن الترك.

ونقل المحقّق السلطان حكاية هذا القول عنه وعن الغزالي وإمام الحرمين وأمثالهم ، مع أنّ معقد البحث وظاهر العنوانات والمصرّح به في كلام غير واحد كون الخلاف في أصل الاقتضاء ، كيف وصرفه إلى كيفيّته خاصّة يوجب خروجه عن وظيفة الاصولي الباحث عن القواعد الكلّية لأجل الاستنباط ، إذ كون الدلالة بطريق العينيّة أو التضمّن أو الالتزام لا يترتّب عليه فرع فقهي أصلا كما تنبّه عليه بعض الأعاظم وفاقا للمحقّق المذكور.

وإن كان النزاع في أصل الدلالة أيضا لا يتفرّع عليه ثمرة ، فإنّ وجوب أصل الفعل مسلّم عند الفريقين والنهي عن تركه على القول به لا يزيد عليه شيئا.

وما ذكره بعض الأعاظم ـ من أنّه يثمر في التعليقيّات كحنث من حلف أن لا ينهى زيدا فأمره بشيء ، وظهار زوجة من علّقه على مخالفة نهيه فأمرها بالقيام فقعدت ، فإنّهما يحصلان على القول باقتضاء الأمر النهي عن الضدّ العامّ بخلافه على القول الآخر ـ ليس بسديد ، لما ستعرفه فيما بعد ذلك إن شاء الله.

** واعلم أنّ لهم في أصل الاقتضاء نفيا وإثباتا وكيفيّته في كلّ من قسمي الضدّ

٦٥٥

النهي عن ضدّه في المعنى. وآخرون إلى أنّه يستلزمه ، وهم : بين مطلق للاستلزام ، ومصرّح بثبوته لفظا. وفصّل بعضهم ، فنفى الدلالة لفظا وأثبت اللّزوم معنى ، مع تخصيصه لمحلّ النزاع بالضدّ الخاصّ.

__________________

أقوالا كثيرة جدّا ، وهي على ما ضبطه النراقي في المناهج القول بعدم الاقتضاء مطلقا ، والاقتضاء عينا وتضمّنا والتزاما لفظيّا ومعنويّا في كلّ من الضدّين ، والتفصيل بينهما فالاقتضاء في العامّ وعدمه في الخاصّ ، وعليه المصنّف غير أنّه جعله في العامّ تضمّنا وبعض الأعاظم غير أنّه زعمه في العامّ التزاما بيّنا بالمعنى الأعمّ ، وهو خيرة بعض الأعلام أيضا غير أنّه مع جعله الاقتضاء في العامّ التزاما بيّنا بالمعنى الأعمّ ، اعترف بثبوت النهي التبعي من باب دلالة الإشارة في الخاصّ.

ووافقه على جميع ذلك بعض الأجلّة في الضوابط والتفصيل بينهما أيضا ولكن في كيفيّة الاقتضاء ففي العامّ تضمّنا وفي الخاصّ التزاما ، والتفصيل الآخر أيضا في كيفيّة الاقتضاء ففي العامّ التزاما لفظيّا وفي الخاصّ معنويّا.

وعن أبيه تفصيلا آخر بين الموسّع والمضيّق ، ففي الأوّل لا يقتضيه وفي الثاني يقتضيه تضمّنا في العامّ والتزاما في الخاصّ إن لم يكن مثله وإلاّ فالترجيح أو التخيير.

واختار هو تفصيلا آخر في كيفيّة الاقتضاء بعد الاعتراف بثبوته في كلّ من الضدّين بطريق الالتزام ، فجعله في العامّ بيّنا بالمعنى الأعمّ وفي الخاصّ غير بيّن.

وعن البهائي القول بأنّه يقتضي في الضدّ الخاصّ عدم الأمر به ، إلاّ أنّ عبارته في الزبدة لا تقضي بكونه مختارا له على سبيل الجزم ، لأنّه قال ـ بعد ما زيّف أدلّة القولين باقتضاء النهي وعدمه ـ : « ولو أبدل النهي عن الضدّ الخاص بعدم الأمر به فيبطل لكان أقرب ».

نعم يظهر الجزم به من السيّد في الرياض في لباس المصلّي في مسألة كون اللباس مغصوبا.

وعن بعضهم ـ على ما حكاه بعض الأعاظم ـ التوقّف ، هذه أقوال المسألة حسبما عثرنا عليه محصّلا ومنقولا.

وبقي من مبادئ المسألة امور ينبغي الإشارة إليها :

الأوّل :

في أنّه إنّا وإن منعنا التمانع سابقا عمّا بين الأضداد الوجوديّة ولكن لا يذهب عليك

٦٥٦

توهّم أنّا نجوّز الأمر بالمتضادّين كالكتابة والنساجة في زمان واحد ، كيف وأنّ تجويز التكليف بالمحال من خواصّ الأشاعرة ونحن بريئون عن هذا المذهب ، والجمع بين المتضادّين محال لا من جهة التمانع ـ كما توهّم ـ بل من جهة استلزام وجود كلّ عدم الآخر ، فلو سوّغنا الجمع بينهما في الوجود لسوّغنا الجمع بين وجود كلّ مع عدمه لاستحالة انفكاك اللازم عن ملزومه ، ولمّا كان الجمع بين وجود شيء وعدمه محالا بالذات كان ما يستلزمه وهو الجمع بين وجوده ووجود ضدّه محالا ، ضرورة كون ملزوم المحال محالا ، غايته كون الاستحالة بالقياس إليه بالعرض لا بالذات كما في لازمه ، فيقبح بضرورة العقول من الحكيم العدل أن يلزم العبد بالجمع بينهما ، بأن يأمر بهما معا أمرا عينيّا وأراد الامتثال بهما في زمان واحد.

فلو صدر منه أمران بشيئين متضادّين لابدّ من الالتزام بالتفريق بينهما في الامتثال إن لم يعلم بإرادة الامتثال في زمان واحد ، وإلاّ فلا مناص من حمله على إرادة التخيير وإن كان الأمر بمجرّده ظاهرا في العيني ، لأنّ المصير إلى خلاف الظاهر مع قيام القرينة عليه ـ وإن كانت عقليّة ـ ممّا لا حزازة فيه أصلا ، ولذا صرنا سابقا في الواجبين المضيّقين إلى التخيير بينهما أو ترجيح ما هو الأهمّ منهما وفاقا لغير واحد من الأعلام.

ولكن يبقى في المقام إشكالان :

أحدهما : أنّ الجماعة أطلقوا في الحكم بترجيح ما هو الأهمّ منهما ، وهو إنّما يتمّ إذا كان تعلّق الأمر بالمتضادّين على سبيل الإجمال ، كما لو كان كلّ فردا من عامّ مأمور به اصولي كقوله : « أكرم العلماء » أو منطقي مع استفادة التكرار بمعونة الخارج كما في قوله : « أطع والديك » و « أنقذ الغريق » ونحوه ممّا علّق على وصف مستفاد منه العلّية عرفا لما ستعرفه ، وأمّا إذا تعلّق الأمر بهما على سبيل الاستقلال والتفصيل كما لو جمع بين الكتابة والنساجة وأمر بهما معا تفصيلا فلا ، لأنّه لو كان المتعيّن عنده ما هو الأهمّ عندنا لكان عليه الاقتصار به فقط في الخطاب لئلاّ يلغو الخطاب بغيره لعدم تعلّق غرضه به والحكيم منزّه عن ذلك ، فلابدّ حينئذ من إلغاء جهة الترجيح ويقال بالتخيير أيضا ، بدعوى عدم الملازمة بين كون الشيء أهمّ عند الله في نظرنا وكونه كذلك في الواقع ، لجواز الخطأ علينا في فهم الأهمّيّة وإنّما يكشف الجمع بين الخطاب به والخطاب بغيره عن تساويهما في الرتبة في نظره ، فلا يكون التخيير حينئذ تسوية بين الراجح وغيره.

٦٥٧

ولكن يبقى الإشكال فيما لو كان أحدهما أهمّ في الواقع أيضا وجعل الوجوب في غيره مشروطا بعدم التمكّن عنه ، بدعوى كون الأمر به مطلقا وبغيره مشروطا ، وإن كان يدفع الإشكال غير أنّه مبنيّ على ورودهما في كلام الغير العالم بالعواقب ، أو تجويز وقوع التعليق في خطاب العالم بها أيضا ، والأوّل خارج عن محطّ نظر الاصولي والثاني خلاف التحقيق على ما فصّلنا القول فيه في بحث المقدّمة ، إلاّ أن يحمل الأهميّة على الأفضليّة فيبقى الإشكال بحاله ، لكون الأهمّ حينئذ أفضل فردي الواجب التخييري وهو ينافي التعيين كما يقتضيه إطلاقهم.

ولكنّ الّذي يقتضيه الإنصاف : منع لزوم تعيين الأهمّ سواء ورد الخطاب به وبغيره على سبيل الإجمال أو التفصيل ، إذ لا دليل عليه من العقل والنقل وما تقدّم من التمسّك به من بناء العقلاء وقضاء القوّة العاقلة غير ثابت على إطلاقه.

نعم في ابتداء الأمر مع التردّد لا يبعد ثبوتها وأمّا بعد ثبوت الأمرين معا على التفصيل أو الإجمال لا أثر للأهمّيّة إلاّ في إفادة الأفضليّة ، سواء اريد بها ما لو كان المصلحة في أحد الواجبين أقوى منها في الآخر ، أو أنّه ما علم من الشارع الاهتمام في شأنه بتأكّدات كثيرة في حقّه إذ زيادة الثواب أو شدّة العقاب المترتّبتين عليه فعلا وتركا فالمحكّم حينئذ إنّما هو التخيير في الامتثال كما في المتساويين في الرتبة ، لأنّه لولاه لزم التخصيص في خطاب غير الأهمّ وهو ممّا لا داعي إليه في عقل ولا نقل ، وإن قلنا بثبوت التكليف في كلّ منهما على سبيل التعيين.

وثانيهما : ما أشرنا إليه سابقا من تعميم الحكم بالتخيير بالنسبة إلى الواجبين المتزاحمين اللذين استفيد وجوبهما ضمنا عن الخطاب الوارد بالعامّ الاصولي أو المنطقي بالوجه المتقدّم ، سواء كانا فردين من ماهيّة واحدة أو ماهيّتين مختلفتين ومن أمثلته إطاعة الوالدين المأمور بهما شرعا إذا اختلفا في الرأي ، كأن يأمر أحدهما بالكتابة والآخر بالنساجة ، أو يأمر أحدهما بالسفر وينهى عنه الآخر ، فإنّ البناء على التخيير حينئذ يوجب كون الخطاب مستعملا في أكثر من معنى ، إذ المفروض إرادة العيني في غير مورد التعارض وهو مرجوح أو غير جائز ، بخلاف ما لو بنى على التساقط حينئذ وطرحهما معا فإنّ غايته لزوم التخصيص وهو ليس بمنكر في الخطابات فيكون أولى أو المتعيّن ، فيلزم أن لا يكون ما عليه الأعلام في تزاحم الواجبين على ما ينبغي.

٦٥٨

ولكن يدفعه : أنّ هذا التخيير ليس كالتخيير في الواجبين المضيّقين المأمور بكلّ منهما صريحا مرادا من الخطاب ، بل هو تخيير يحكم به العقل بعد ملاحظة عدم إمكان الجمع بين المتعارضين ، ولا يلزم من ذلك تخصيص في الخطاب ولا استعماله الأمر في التخييري مع استعماله في العيني ، بل هو مستعمل في العيني فقط حتّى بالنسبة إلى المتعارضين ، ولا يلزم به التكليف بغير المقدور لكون كلّ منهما لو خلّي وطبعه ولا بشرط انضمام الآخر إليه مقدورا ، وإنّما يندرج في غير المقدور إذا لوحظ بشرط الانضمام ، وهو ليس بملحوظ في الخطاب جزما ولا معتبر في الامتثال قطعا ، غير أنّ قضيّة وجوب كلّ بعينه مسيس حاجة المكلّف إلى الجمع بينهما في الامتثال ، ولمّا كان ذلك غير ممكن له فالعقل الّذي يحكم عليه بوجوب الإطاعة بعينه في صورة الامكان يحكم عليه بالتخيير ويلزمه بامتثال الأمر في أحدهما لا بعينه لتمكّنه عنه ، حذرا عن الترجيح بلا مرجّح إن لم يكن أحدهما أهمّ في نظر الشارع وإلاّ فيلزمه بالأهمّ خاصّة لئلاّ يلزم التسوية بين الراجح والمرجوح ، وهو من أدلّة الشرع فيكون حكمه بالتخيير ممّا يمضيه الشارع أيضا فإذا حصل التلبّس بذلك الواحد على أحد الوجهين سقط التكليف عن الآخر المعارض له بطروّ الامتناع عليه حينئذ ، لأنّ بقاءه كحدوثه مشروط بالإمكان ، ولا يلزم بذلك خروج الواجب عن كونه واجبا لكونه من جهة انتفاء شرط وجوبه وهو ليس بمحذور ، وإلاّ لانتقض بما لو طرأه الامتناع بعد استقرار التكليف به ومضيّ زمان يسع وقوعه فيه في غير صورة المعارضة ، كما لو طرأه اختيارا أو اضطرارا ما سلب عنه الاختيار بعد كونه جامعا لجميع جهات الاختيار ، هذا إذا كان مضيّقا بالمعنى الأخصّ.

وأمّا لو كان مضيّقا بالمعنى الأعمّ كأداء الدين وردّ الوديعة عند المطالبة ونحوهما ، فلا يمتنع عليه بعد التلبّس بما يعارضه إلاّ التعجيل أو المبادرة فيسقط الأمر به خاصّة دون الأمر بأصل الفعل ، فيقع صحيحا لو أتى به بعد الفراغ عن الأوّل.

وبما قرّرنا بطل ما يقال ـ في الاستدلال على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ ـ : بأنّه لولاه وتلبّس به المكلّف كالصلاة بالنسبة إلى أداء الدين مثلا فإن بقى الخطاب بذلك الشيء لزم التكليف بالضدّين وهو محال ، وإلاّ خرج الواجب المضيّق عن كونه واجبا مضيّقا.

فإن قلت : فأيّ فائدة في ثبوت التكليف به مع كونه في معرض السقوط من غير

٦٥٩

امتثال ، بل يلزم المحذور الّذي ذكرته في أوّل الإشكالين من خروج الخطاب به لغوا وهو محال من الحكيم.

قلت : إنّما يلزم ذلك لو تعلّق الخطاب به صريحا على نحو التفصيل والمفروض ليس كذلك ، لتعلّق الخطاب به ضمنا من جهة كونه من جملة أفراد ما تعلّق به صريحا.

وقد ذكرنا أنّه في حدّ ذاته مع قطع النظر عن معارضه كان ممكنا ومقدورا للمكلّف ولا يلزم خروج الخطاب بلا فائدة ، لحصول الامتثال الّذي هو مقصود بالأصالة من الخطاب في ضمن غير هذا الفرد من أفراد متعلّقه ، ووقوع مثل ذلك غير عزيز في خطابات الحكماء ، ولا أنّه ينافي الحكمة ومقتضى العقل كما يرشد إليه التدبّر وقليل التأمّل.

فتبيّن من جميع ما ذكر : أنّ التخيير الّذي بنينا عليه في المضيّقين يختلف في المعنى بحسب اختلاف موارده من حيث تعلّق الأمر بها صريحا أو ضمنا ، فما عليه الأعلام أيضا إن كان هذا المعنى مع اختلافه فمرحبا بالوفاق وإلاّ لكان للإيراد عليهم مجال واسع.

الثاني :

في النظر في أنّ المسألة هل يجري فيها أصل يوافق بعض أقوالها أو لا؟ وظاهر أنّ الأصل لا يجري فيها ولا يجري في نظائرها ، أو لا يظهر له فائدة على فرض الجريان إلاّ إذا لم يكن هنا [ دليل ] اجتهادي رافع للشكّ الّذي هو موضوعه أو أحد أركانه ، والمفروض أنّه قلّما يتّفق مسألة لم يوجد فيها [ دليل ] اجتهادي موافق لأحد أقوالها ، فلابدّ للناظر فيه المتمكّن عن الدليل الاجتهادي من أن يقطع النظر عن كلّ دليل اجتهادي ويفرض المسألة مشكوكا في حكمها ونفسه شاكّا فاقدا للدليل ، فحينئذ يتمكّن عن إجراء كلّ أصل ينوط اعتباره بالشكّ من جهة كونه موضوعا له كأصل البراءة ، أو ركنا من أركانه كالاستصحاب وأصالة عدم التخصيص أو التقييد.

ولا ريب أنّ الكلّ جار على الفرض المذكور في تلك المسألة وموافق للقول بنفي اقتضاء النهي ولكن بالنسبة إلى الضدّ الخاصّ خاصّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ النهي المتضمّن لطلب ترك الضدّ على تقديره موجب لاشتغال الذمّة بالترك ، وهو موضع شكّ فأصل البراءة ينفيه ، لكون مفاده خلوّ الذمّة عن كلّ أمر وجوديّ أو عدميّ الزم به.

وأمّا الثاني : فلأنّ الطلب كائنا ما كان أمر حادث مسبوق بالعدم الأزلي ، ومن خواصّه

٦٦٠