تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

ذكرناه فيكون نقلها إلى هذا المعنى نقلا من العامّ إلى الخاصّ ، ضرورة أنّها لغة لما تقدّم مطلقا استحقّه أو لم يستحقّه ، بل كان قد تقدّم من باب المقارنات الاتّفاقيّة كتقدّم زيد على عمرو في الوجود مثلا ، وهذا بالقياس إلى المعنى العرفي أعمّ لشموله المتقدّم لا عن استحقاق دون العرفي الّذي لا يتناول سوى المتقدّم عن الاستحقاق.

ثمّ إنّها باعتبار ما يتوقّف عليها تنقسم إلى كونها مقدّمة للوجوب كالاستطاعة في وجوب الحجّ ، والنصاب في وجوب الزكاة ، أو مقدّمة للوجود كنصب السلّم للصعود على السطح ، وقد تكون مقدّمة للوجوب والوجود معا كالقدرة على الفعل ، فلذا قيل : بأنّ النسبة بينهما باعتبار المورد عموم من وجه وإن كان بينهما بحسب المفهوم تبائن.

وأمّا ما يضاف إليهما أيضا في هذا التقسيم من مقدّمتي العلم والصحّة والعلم ـ كما هو واقع في كلام الأكثرين ـ فكأنّه مبنيّ على الاعتبار أو لملاحظة جهة التوقّف ، وإلاّ فهما في الحقيقة راجعان إلى مقدّمة الوجود.

أمّا في الاولى : فلتوقّف حصول العلم الواجب على المكلّف ولو بإلزام من العقل تحصيلا للموافقة القطعيّة الّتي هي من مقتضيات حجّيّة العلم الإجمالي ـ بناء على ما هو التحقيق ـ عليه ، فإنّ الواجب أعمّ من الاعتقاد والعمل ، فلذا يعدّ النظر في معجزة المتنبّي من مقدّمات الواجب.

وأمّا في الثانية : فلتوقّف المأمور به في وجوده عليها كالطهارة للصلاة المأمور بها ، فإنّ الصحّة لا معنى له إلاّ موافقة الأمر ، فالمتوقّف حقيقة حصول العمل الموافق للأمر من غير فرق في ذلك بين القول بالصحيحة أو الأعمّ كما توهّم.

غاية الأمر أنّ جهة التوقّف على الأوّل تحقّق العمل باعتبار ذاته.

وعلى الثاني تحقّقه باعتبار وصفه.

وبالجملة : فرق واضح بين الذات المطلقة والذات الموصوفة ، والموقوف على المقدّمة في كليهما هو الوجود دون غيره.

فالحقّ أنّه لا ثالث لأقسام المقدّمة في تقسيمها من هذه الجهة.

نعم هي باعتبار أخذ التوقّف في مفهومها تنقسم إلى أقسام اخر ذكروها في كتبهم المدوّنة ، ولكنّهم اختلفوا في عددها ، فمنهم من اقتصر منها على ذكر السبب والشرط ، ومنهم من أضاف إليهما الجزء أيضا ، ومنهم من أسقطه وأضاف إليهما المعدّ والمانع ، مصرّحا بأنّ الأوّلين مأخوذان في حصول الواجب وجودا والأخير عدما وما قبله وجودا وعدما ، يعني

٣٦١

أنّ المعتبر فيه من السبب والشرط وجودهما ومن المانع عدمه ومن المعدّ وجوده وعدمه.

وفسّره بعض الفضلاء بما يعتبر وجوده وعدمه في حصول المطلوب مع بقاء الاختيار معه على الفعل ، كنقل الأقدام في الوصول إلى الحجّ ، ثمّ قال : « واحترزنا بالقيد الأخير عن الأسباب (١) الإعداديّة ، فإنّها داخلة في السبب » (٢) وليت شعري بما دعاه إلى عدم عدّه المعدّات من الشرط أيضا ، بل هو الأوفق إلى الذوق والوجدان فإنّ كلّ معدّ جزء للشرط من حيث كونه من الامور السيّالة ، وينطبق عليه ما سيأتي من تعريفه ، واعتبار انعدامه ليس من مقدّمات الفعل المشروط به وإنّما هو من لوازم وجود الجزء اللاحق حيث لا يمكن اجتماعهما في الوجود ، فيكون كلّ ممّا يلزم من عدمه المطلق عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط ، فإدراجها في الشرط تقليلا للأقسام أولى ، وأمّا عدم المانع فقد أسقطه أيضا بعض مشايخنا معتذرا برجوعه إلى الشرط فلا يكون قسما برأسه.

وفيه : أنّه إن كان المراد أنّه يرجع إليه بحسب المفهوم ، فيردّه : أنّ الشرط عندهم اصطلاح في الأمر الوجودي فكيف يدخل فيه ما هو أمر عدمي ، وإن كان المراد أنّه يرجع إليه بحسب الحكم ، فيوهنه : أنّه لا يقضي بتداخل الموضوعين.

ولكن ظاهر الأكثرين الإطباق على دخوله في الشرط حيث أسقطوه عن تقاسيمهم ، وكأنّه نشأ عن ملاحظة ما يغلب في الموانع من ثبوت ضدّ وجوديّ لها يقوم مقام عدمها فيجري عليه اسم الشرط وحكمه.

ألا ترى أنّ نجاسة الثوب أو البدن مانع في الصلاة ويقابله إزالة النجاسة ، والحدث مانع فيها ويقابله الطهارة ، والجنون والسفه ونحوها مانعة في العتق ويقابلها الكمال.

فالأولى إدراج ذلك أيضا في الشرط تبعا للقوم وتقليلا للأقسام ، فبقي من الأقسام ما كان جزءا وسببا وشرطا ، ووجه الانقسام إليها أنّ ما يتوقّف عليه الشيء إمّا داخل فيه فهو الجزء ، وإمّا خارج عنه فإن كان ممّا يلزم من وجوده الوجود فهو السبب ، أو ممّا يلزم من

__________________

(١) والظاهر أنّ مراده بالأسباب الإعداديّة أجزاء مرتّبة في الوجود يلتئم منها السبب ، كتحريكات المدّيّة لقطع الأوداج الأربعة في القتل الّذي هو من الأفعال التوليديّة ، فإنّ المعتبر في كلّ إنّما هو الوجود والعدم معا مع عدم بقاء الاختيار على الفعل لصيرورته واجبا ، كما أنّ المراد بالمعدّ ما يكون كذلك بالنسبة إلى الشرط إذا كان من المبادئ السيّالة كالمشي في قطع مسافة الحجّ ، فإنّ كلّ قدم وتخطّي منه معدّ لاعتبار وجوده وعدمه معا مع بقاء الاختيار على الفعل المشروط ولو بعد تمامها ، فإنّه لا يجب معه وإلاّ انقلب الشرط سببا وهو خلاف الفرض. ( منه ).

(٢) الفصول : ٨٣.

٣٦٢

عدمه العدم فهو الشرط.

ولو أردنا إدراج عدم المانع أيضا في التقسيم نقول : بأنّ ما يتوقّف عليه الشيء إمّا أمر عدمي أو وجودي ، والأوّل عدم المانع ، والثاني إمّا داخل في ذلك الشيء فهو الجزء ، وإمّا خارج عنه ، فإن كان مع ذلك بحيث يلزم من وجوده الوجود فهو السبب ، وإن كان بحيث يلزم من عدمه العدم فهو الشرط ، فالجزء على هذا التقسيم أيضا من المقدّمات ، وهو الداخل الّذي يتوقّف عليه وجود الكلّ ، ولكن كلام القوم خال عن إدراجه في التقسيم ، ولعلّه لبنائهم على خروجه عن محلّ النزاع فتأمّل (١).

وربّما يتأمّل في إطلاق المقدّمة عليه من حيث لزومها التقدّم على الموقوف وليس الجزء في شيء من تلك المثابة ، لعدم تأخّر الكلّ عن جزئه بحسب الوجود ، إلاّ أن يقال : بتعميم التقدّم ليشمل التقدّم الطبعي أيضا ، نظرا إلى أنّ الجزء وإن لم يتقدّم في الخارج غير أنّه متقدّم بالطبع الّذي هو عبارة عمّا لا وجود للمتأخّر إلاّ وهو معه من غير كونه علّة له ، وهو كما ترى ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ولعلّه شبهة ناشئة عن ملاحظة المركّبات العقليّة ، وإلاّ فالمركّبات الحسّيّة الاعتباريّة ـ ولا سيّما إذا كانت من مقولة الأفعال الّتي يناط بها نظر الاصولي ويتعلّق بها الأحكام الشرعيّة ـ إنّما يتحصّل في الخارج عقيب تحصّل أجزائها ، ولا سيّما الأفعال الّتي تلتئم عن أجزاء حاصلة على سبيل التدريج والترتّب.

ولا ريب أنّ الكلّ عبارة عن مجموعها من حيث هو كذلك ، فيكون كلّ جزء متقدّمة على الكلّ في الوجود.

وأمّا السبب : فهو لغة ـ على ما نصّ عليه أئمّة اللغة ـ عبارة عمّا يتوصّل به إلى غيره.

وفي عرف العلماء يطلق على معان ، فعند أهل المعقول على العلّة التامّة ، أعني المركّب من وجود المقتضي وفقد المانع ، وعند الفقهاء والاصوليّين (٢) على المقتضي ، والظاهر أنّ

__________________

(١) وجهه : لو صحّ ذلك لكان عليهم أن لا يذكروا السبب أيضا في ذلك المقام لجريان العلّة المذكورة فيه أيضا. ( منه ).

(٢) ويطلق السبب عند الاصوليّين أيضا على العلامة كالدلوك والغروب والفجر الّتي هي علامات لوجوب الصلاة عندها ، إذ الضرورة قاضية بأنّ نفس الدلوك وغيره ليست مقتضية لوجوب الصلاة بل المقتضي لوجوبها شيء آخر من المصالح الكامنة المؤثّرة في تلك الأوقات ، وإنّما الامور المذكورة علامات لعروض الوجوب وحدوثه بتحقّق سببه ، والسبب حقيقة في اصطلاح المتكلّمين في العلّة التامّة خاصّة وفي عرف الاصوليّين مجاز فيها جزما ، وهل هو بين المقتضي والعلامة حقيقة ومجازا أو مشترك لفظا أو معنى وجوه وربّما يرجّح كما في الضوابط الاحتمال الأخير وليس ببعيد. ( منه عفي عنه ).

٣٦٣

تحديده بما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ناظر إلى الأوّل ، كما أنّ تحديده بما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته منطبق على الثاني وهو أعمّ من الأوّل.

وفائدة كلمة « من » الاحتراز عن المتلازمين ، فإنّ وجود كلّ وإن استلزم وجود الآخر إلاّ أنّه ليس من لوازمه بحيث يكون ناشئا منه مستندا إليه وإنّما يلزم وجود كلّ عند وجود الآخر بخلاف المسبّب الّذي وجوده لم ينشأ إلاّ عن السبب.

وبذلك يندفع ما أورد بعض الفضلاء (١) على طرد الحدّ بدخول اللوازم والجزء الأخير من المركّب والجزء الأخير من العلّة ، فإنّ شيئا من ذلك ليس ممّا ينشأ المسبّب عن وجوده خاصّة.

وفائدة القيدين خروج الشرط والمانع ـ على ما أفاده بعض الأعلام ـ إذ ليس الأوّل ممّا يلزم من وجوده الوجود ولا الثاني من عدمه العدم.

ويرد عليه : خروج الثاني مستدركا لحصول الاحتراز عن المانع بالأوّل ، إذ ليس شيء من الشرط والمانع ممّا يلزم من وجوده الوجود ، ولو قدّر القيد لبيان تمام الحقيقة لدفعناه بكفاية اعتبار الاستلزام من جانب الوجود عن ذلك ، ضرورة أنّ ما يلزم من وجوده الوجود يستلزم أن يلزم من عدمه العدم.

وما يقال في توجيهه : من أنّ الثاني بمنزلة الجنس لشموله كلاّ من السبب والشرط ، والأوّل بمنزلة الفصل لكونه مخرجا للشرط غير سديد ، لوروده على خلاف قانون الترتيب المعتبر فيما بين الجنس والفصل ، والاعتذار له بأنّ تقديم الفصل هاهنا على الجنس إنّما هو لمراعاة جانب الوجود الّذي يترجّح تقديمه على جانب العدم ، تعسّف غير خفيّ.

وفائدة القيد الأخير ـ على ما في كلام جماعة ـ صون عكس الحدّ بإدخال السبب الّذي لم يستلزم وجوده وجود المسبّب لمانع ، لفقدان شرط أو وجود مانع ، والسبب الّذي لم يستلزم عدمه عدم المسبّب لقيام سبب آخر مقامه ، فإنّ الاستلزام حاصل في كلّ من الطرفين حسبما يقتضيه الذات ، بمعنى أنّها لو خلّيت وطبعها لكان وجودها مقتضيا للوجود وعدمها مقتضيا للعدم ، وانتفاء الأمرين في الصور المفروضة إنّما هو لعارض ، فلا ينافي وجوده لاقتضاء الذات أثرها لولاه.

ومن هنا يتبيّن أنّ تفسير السبب بهذا المعنى المعتبر فيه القيد المذكور أعمّ منه على المعنى الأوّل المنطبق على اصطلاح أرباب المعقول ، فلا وقع لما ذكره بعض الأفاضل من

__________________

(١) الفصول : ٨٣.

٣٦٤

أنّ الحدّ يشمل العلّة التامّة الجامعة للمقتضي والشرائط وانتفاء الموانع ، إذ لا مانع عن كون السبب على أحد الاصطلاحين أخصّ منه على الاصطلاح الآخر.

وقد عرفت أنّ القيد معتبر في كلا المقامين على ما صرّح به بعض الأعلام.

ومن الفضلاء من ذكر أنّ ذلك صريح في أنّ المراد بالسبب ما يتناول السبب الناقص أيضا ، فقال : « وفيه نظر ، لأنّ الظاهر أنّ من قال بالاقتضاء في السبب لم يقصد به السبب الناقص ، أعني ما يصادف وجود المانع ولو مع العلم به ، إذ لا غرض للآمر في فعله ، وكذا من يجعل الأمر بالمسبّب راجعا إلى الأمر بالسبب لم يقصد به السبب الناقص كما يفصح عنه دليله ، مع أنّ إطلاق السبب على السبب الناقص مجاز ولا قرينة عليه في كلامه ، فلا يصحّ حمله عليه ».

ومن الأعاظم من أورد عليه أيضا : بأنّه غير مجد فيما أرادوه تعليلا بأنّ اللزوم إذا كان معلولا للذات فلا يختلف ، ولا يتخلّف فيكون مفاده عدم الانفكاك مطلقا ، فبذلك ينطبق على اصطلاح المتكلّمين وهو كون السبب عبارة عن العلّة التامّة.

ومن الأفاضل من أورد عليه أيضا : بأنّ أقصى ما يستفاد من القيد المذكور التحرّز عن التخلّف الحاصل من وجود المانع.

وأمّا ما يكون لفقدان الشرط فالاستلزام غير حاصل مع عدمه ، إذ ذات المقتضى مع قطع النظر عن وجود الشرط غير كاف في الوجود ، وأيضا فالتحرّز به عن قيام سبب مقام آخر غير ظاهر أيضا ، إذ لا اقتضاء لانتفاء السبب الخاصّ في انتفاء المسبّب حتّى يكون قيام السبب الآخر خروجا عن مقتضى ذلك السبب ، لوضوح أنّ اللازم قد يكون أعمّ. ومن المقرّر عدم اقتضاء انتفاء الملزوم انتفاء اللازم.

وبمثل ذلك أورد عليه بعض مشايخنا دام ظلّه ـ على ما سمعناه في مجلس الدرس ـ فقال : إنّ ذلك القيد بالنظر إلى القضيّة الاولى وإن كان له فائدة حينئذ على تقدير مصادفة السبب لوجود المانع ، ضرورة أنّ المقتضي أمر له أن يقتضي مقتضاه ، بمعنى أنّه لو خلّى وطبعه له ذلك ، ولكن عدم فعليّة حصول مقتضاه في الصورة المفروضة إنّما هو لوجود المانع وهو لا ينافي فعليّة الاقتضاء ، ولكن لا فائدة له أصلا على تقدير مصادفة عدم الشرط ، ضرورة أنّ المقتضي إنّما يقتضي عند مصادفة وجود الشرط وأمّا مع انتفائه فليس بحيث لو خلّي وطبعه لكان مقتضيا لذاته ، مع أنّه بالنسبة إلى القضيّة الثانية أيضا غير

٣٦٥

مستقيم ، إذ السبب إذا انتفى وخلّفه سبب آخر لا اقتضاء له في انتفاء المقتضى ، وإنّما يقتضي ذلك لذاته إذا لم يخلّفه سبب آخر.

ومحصّل كلامه ـ دام ظلّه ـ : أنّ هذا القيد لا يترتّب على اعتباره فائدة ، لعدم شمول الحدّ فاقد الشرط من الأسباب ولا الأسباب المتعدّدة المتعاقبة ، إذ معنى كون الشيء بحيث يلزم لذاته من وجوده الوجود أنّه لو خلّي وطبعه ـ مع قطع النظر عن الموجودات الاخر ـ يلزم من وجوده الوجود من غير مدخليّة لوجود شيء آخر فيه ، وظاهر أنّ فاقد الشرط من الأسباب ليس بهذه المثابة ، إذ لا يلزم من وجوده الوجود إلاّ بعد تحقّق أمر آخر وجوديّ معه ، فلا اقتضاء ولا تأثير له بدونه لكونه شرطا للتأثير ، والمشروط ينتفي عند انتفاء شرطه.

نعم هذا القيد له وجه في إدخال السبب المصادف لوجود المانع في الحدّ ، لأنّه على هذا التقدير لا توقّف له على تحقّق أمر وجوديّ آخر غيره ، لفرض وجود كلّ ما له مدخليّة في تأثيره واقتضائه معه ، وعدم فعليّة اقتضائه إنّما هو لأجل عروض عارض لولاه لكان اقتضاؤه حاصلا بالفعل فيصدق عليه : أنّه يلزم من وجوده الوجود لذاته.

وأيضا معنى كون الشيء بحيث يلزم من عدمه العدم لذاته : أنّه بحيث لو خلّي وطبعه لكان يلزم من عدمها العدم من دون توقّفه على عدم أمر آخر ، ومعدوم السبب مع قيام سبب آخر مقامه لا يكون من هذا القبيل ، إذ المفروض أنّ سبب الحكم عند تعدّد الأسباب ليس خصوص كلّ واحد بل القدر المشترك بينها الأعمّ من كلّ واحد ، وواضح أنّ انتفاء بعض تلك الخصوصيّات لا يستلزم انتفاء ذلك القدر المشترك الأعمّ ، بل الّذي ينتفي معه هو الحصّة المساوية له من ذلك وأمّا هو بنفسه فباق على حاله ، وغايته تقوّمه بما بقي من الأسباب نظير ما يقال : من أنّ العامّ لا ينتفي بانتفاء الخاصّ ، فإنّ معناه أنّه لا ينتفي بانتفائه بالمرّة بل غايته أن ينتفي معه منه ما يساويه ، وهو لا يوجب انتفاء أصل العامّ لجواز تقوّمه بخاصّ آخر ، ونظيره الحرارة الّتي لها أسباب متعدّدة كالحركة والنار والشمس ، حيث إنّ من انتفاء بعض تلك الأسباب ـ كالحركة مثلا ـ لا يلزم انتفاء أصل الحرارة لإمكان تحقّقها بعده في ضمن أحد الأخيرين ، فالحركة حينئذ ليست بما يلزم من عدمه لذاته عدم المسبّب ، لعدم كونها هي السبب خاصّة وإنّما السبب هو الجنس الأعمّ وهو غير منتف ، فلا يدخل في الحدّ بذلك القيد أيضا كما لا يدخل فاقد الشرط.

إلاّ أن يدّعى أنّ فاقد الشرط ليس عندهم من أفراد المحدود ليجب دخوله في الحدّ

٣٦٦

فلا خير في خروجه ، ولكنّه دعوى يشكل إثباتها.

وأنت خبير بورود كلّ ذلك على خلاف التحقيق ، فإنّ الغرض من اعتبار هذا القيد إفادة أنّ المعتبر في مفهوم السبب المرادف للمقتضي إنّما هو شأنيّة الاقتضاء لا فعليّته ليكون مرادفا للعلّة التامّة.

فحاصل الفرق بينهما أنّ العلّة التامّة ما يلزم من وجوده الوجود فعلا ومن عدمه العدم فعلا ، والسبب ما من شأنه أن يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، ومعلوم صدق هذه القضيّة على كلّ واحد من الأسباب المتعدّدة ، فإنّ له ذلك بمعنى أنّه بحيث لو لا قيام سبب آخر مقامه للزم من انتفائه انتفاء المسبّب.

غاية الأمر أنّ الفرض غير متحقّق ، وقد قرّر في محلّه أنّ كذب الشرط لا يستلزم كذب الشرطيّة.

والمناقشة إنّما يتّجه لو اريد بالاقتضاء حصوله فعلا.

وأمّا مناقشة فاقد الشرط فيدفعها : عدم الفرق بينه (١) وبين مصادف وجود المانع ، فإنّ مصادفة وجود المانع إذا لم تكن قادحة في صدق السببيّة فكذلك مصادفة عدم الشرط أيضا غير قادحة ، ولو فرض الثاني قادحا فلابدّ من كون الأوّل أيضا قادحا ، ولا سيّما على مذهبه ـ دام ظلّه ـ من إرجاع عدم المانع إلى الشرط ، المستلزم لفرضه وصفا وجوديّا ليصدق عليه عنوان الشرطيّة.

ألا ترى أنّ العلم بالمقدّمتين سبب عقلي للعلم بالمطلوب ، ولكنّه مشروط بكلّية الكبرى منهما فتكون الجزئيّة مانعة ، والنار سبب عادي لإحراق الخشب ولها شرط وهو يبوسة الخشب فتكون الرطوبة مانعة عنها ، والصيغة سبب شرعيّ لحصول الانتقال ولكنّها مشروطة بالتنجيز فيكون التعليق مانعا لها ، فإذا جاز دخول كلّ من ذلك مع مصادفة وجود المانع في حدّ « السبب » ولم يكن وجوده منافيا لما اعتبر فيه من لزوم الوجود بالوجود بحسب الذات لجاز ذلك بعينه في مصادفة عدم الشرط ، إذ لا معنى له إلاّ وجود المانع الغير القادح والفرق تحكّم صرف ، كما أنّه إذا لم يجز ذلك عند مصادفة عدم الشرط لكان الحال كذلك في مصادفة وجود المانع ، إذ [ المانع ] لا يكون إلاّ عبارة عن فقد الشرط والتفرقة بينهما مكابرة واضحة ، وكأنّه وهم (٢) نشأ عن الخلط بين ما يرجع من الشروط إلى نفس

__________________

(١) هذا جواب نقضي ( منه ).

(٢) هذا جواب حلّي ( منه ).

٣٦٧

السبب وما يرجع منها إلى تأثيره واقتضائه ، والقوم إنّما فرضوا عدم قدح مصادفة فقدان الشرط في صدق السببيّة في شروط التأثير وحصول الأثر لا في شروط السبب والمؤثّر ، كما أنّ فرض عدم قدح مصادفة وجود المانع في ذلك إنّما هو في موانع حصول الأثر لا في موانع تحقّق السبب والمؤثّر ، ولا يتمّ ذلك إلاّ عند تمام السبب بتحقّق جميع شرائطه وفقد جميع موانعه ، فحينئذ يصدق عليه أنّه ما يلزم من وجوده الوجود لذاته ، سواء صادف انتفاء بعض شرائط تأثيره أو وجود بعض موانعه أو لم يصادف.

وضابط ما قرّرناه من الفرق : أنّ كلّ شرط يرجع اعتباره إلى نفس السبب فهو من شرائط المؤثّر ، وكلّ شرط يرجع اعتباره إلى محلّ تأثير أو إلى من يباشر إيجاده فهو من شرائط التأثير وحصول الأثر.

وعلى هذا القياس الموانع عند إضافتها إلى السبب أو إلى تأثيره ، فالعربيّة في الصيغة والصراحة والتنجيز وغيرها من الخصوصيّات المقرّرة في محلّه شروط لنفس السبب ، كما أنّ مقابلات تلك الامور موانع في نفس السبب ، فلا يتمّ السبب بانتفاء بعض منها ، كما أنّه لا يتمّ عند وجود بعض مقابلاتها بل يكون سببا ناقصا ، فلا يصدق عليه حينئذ : أنّه ممّا يلزم من وجوده الوجود لذاته من غير فرق في ذلك بين صورتي انتفاء الشرط أو وجود المانع ، ومملوكيّة المحلّ وكمال المباشر بالبلوغ والعقل ونحوه شروط لتأثير السبب لا نفسه ، كما أنّ مقابلات هذه الامور موانع في التأثير وحصول الأثر لا في المؤثّر.

ومن البيّن أنّ مصادفة السبب لانتفاء بعض تلك الشروط أو وجود بعض هذه الموانع لا تنافي تماميّته بتحقّق الشرائط الراجعة إليه وانتفاء الموانع المضافة إليه بأسرهما ، وغرض المعرّف باعتبار القيد المذكور إنّما هو إدخال مثل ذلك في الحدّ.

ومن المعلوم أنّ السبب التامّ قد يجامع انتفاء شرط تأثيره أو وجود مانع تأثيره ، فيصدق عليه : أنّه بحيث لو خلّي وطبعه لكان مقتضيا للتأثير ، وإنّما عدم فعليّة اقتضائه لأجل عارض لولاه لكان التأثير حاصلا بالفعل ، من غير فرق بين أن يكون العارض عدم شرط ممّا ذكر أو وجود مانع كما عرفت ، وإلاّ فلا يستريب أحد في أنّ السبب إذا كان فاقدا لبعض الامور المعتبرة في تحقّقه وانعقاد نفسه من وجود شرط أو فقد مانع لم يكن سببا ، وإلاّ لما كان ذلك المفقود شرطا ولا هذا الموجود مانعا فيه وهذا خلف ، فلم يكن يتوهّم أحد أنّ هذا ممّا يصدق عليه عنوان السببيّة حتّى يطلب إدراجه في حدّه بالقيد المذكور.

٣٦٨

وبما قرّرنا ظهر وجه الخلط والاشتباه ، فإنّ نظره ـ دام ظلّه ـ بالنسبة إلى مصادفة وجود المانع إلى موانع التأثير وحصول الأثر ، وبالنسبة إلى مصادفة عدم الشرط إلى شروط نفس المؤثّر ، فأبدى الفرق في فائدة القيد بحصولها على الأوّل وعدم حصولها على الثاني غفلة عن عدم الفرق في حصول الفائدة على الأوّل بينه وبين عدم الشرط لو كان من شروط التأثير ، وفي عدم حصولها على الثاني بينه وبين وجود المانع لو كان من موانع نفس المؤثّر.

كما ظهر اشتباه بعض الأفاضل أيضا فيما نقلناه عنه ، فإنّه أيضا مبنيّ على الخلط المذكور.

كما ظهر اندفاع ما نقلناه عن بعض الأعاظم فإنّ المراد بقيد « لذاته » ليس إفادة كون الذات علّة تامّة ليتوجّه إليه : أنّ ما كان معلولا للذات لا يختلف ولا يتخلّف ، بل إفادة أنّ الكلام في التحديد إنّما هو في تامّ السببيّة ، والسبب التامّ في مصطلحهم أعمّ من العلّة التامّة ، فلذلك نراهم يطلقون السبب التامّ في باب العقود وغيرها من الإيقاعات على ما جامع جميع الشرائط الراجعة إلى الصيغة وتجرّد عن الموانع الراجعة إليها ، سواء جامع المحلّ أو المباشر معه لشرائط التأثير وفقد موانعه أو لا؟ بل يحكمون بنفي مدخليّة ما يشكّ في مدخليّته في التأثير ولم يقم عليها من الشرع ما يوجب الاطمئنان بمجرّد تحقّق السبب التامّ الموجب لتناول عمومات الصحّة وإطلاقاتها ، ويقولون : إنّه سبب تامّ وقع عن أهله في محلّه فيؤثّر.

أمّا الأوّل : فلاجتماع شرائطه وفقد موانعه.

وأمّا الثاني : فلقضاء العمومات والإطلاقات بذلك ، إذ المفروض فقد ما ينافي مقتضاها.

ومن هنا تبيّن فساد إيراد بعض الفضلاء أيضا ، فإنّ كلام بعض الأعلام غير مشعر بما نسب إليه من إرادة السبب الناقص فضلا عن كونه صريحا ، إلاّ إذا اريد بالسبب ما هو من مصطلح أرباب المعقول وكلامه خال عمّا يرشد إلى ذلك ، بل ظاهره بقرينة الأمثلة الّتي ذكرها ـ من الصيغة في العتق الواجب والوضوء والغسل للطهارة من الحدث والغسل بالنسبة إلى إزالة الخبث في السبب الشرعي ، والنظر المحصّل للعلم الواجب في السبب العقلي وجزّ الرقبة للقتل الواجب في السبب العادي ـ الجري على مصطلح القوم ، ضرورة أنّ الامور المذكورة بمجرّدها ليست علل تامّة وإنّما هي أسباب لما يطلب منها من الآثار ، ولا ملازمة بينها وبين نقصانها حتّى يستظهر من كلامه أنّه أراد من السبب باعتبار القيد المذكور ما يتناول السبب الناقص.

٣٦٩

فلو سلّم فالمناقشة المذكورة مناقشة في المراد من السبب في محلّ النزاع لا المراد منه في التحديد وبينهما بون بعيد ، فلا تعلّق لها بما اعتبر في الحدّ أصلا لجواز أن يكون حدّ السبب مأخوذا فيه ذلك ، ولكن لم يكن هذا المعنى من السبب محلاّ لكلامهم.

والمفروض أنّ ما ذكر من الحدّ تحديد له من حيث كونه سببا مصطلحا عند القوم ، لا من حيث كونه محلاّ لكلامهم في تلك المسألة كما لا يخفى (١).

ومن هنا يندفع أيضا ما أورده عليه في آخر هذا الكلام من أنّه إن أراد بالاستلزام دوام الاستلزام لم يتناول السبب الناقص ، وكذا إن أراد الاستلزام من حيث الذات كما هو الظاهر من لفظ الحدّ ، لامتناع تخلّف ما بالذات عن الذات على ما حقّق في محلّه.

وإن أراد الاستلزام في الجملة دخل الشرائط أيضا ، لأنّها قد تستلزم ذلك إذا اخذت بشرط المقارنة لغيرها من تتمّة العلّة.

فإنّ المراد من الاستلزام دوامه شأنا لا فعلا ، فيشمل ما رامه من السبب ـ وهو الناقض على مصطلح أرباب المعقول والتامّ على مصطلح الأصحاب ـ مع أنّه لو أراد الاستلزام في الجملة لما دخل الشرائط أيضا بقرينة لفظة « من » الواقعة في الحدّ ، فإنّها ظاهرة في الاستناد على سبيل الاستبداد ولا شيء من الشروط بهذه المثابة ولو كان هو الشرط الأخير ، وإنّما يستند لزوم الوجود إلى وجود المجموع من حيث المجموع.

فالأولى في تحديد السبب ـ على مصطلحهم ـ الاقتصار على القضيّة الاولى مع اعتبار قيد « لذاته » فيها ، ولو ابدل ذلك بالشأن واعتبر في جنس الحدّ فيقال : « ما من شأنه أن يلزم من وجوده الوجود » لكان أسدّ ، هذا كلّه في تحديد السبب بحسب عموم اصطلاحهم.

وبقى الكلام في بيان مرادهم منه في ذلك المقام ، ومراد من فصّل بينه وبين غيره من المقدّمات في اقتضاء الوجوب أو جعل الأمر بالمسبّب أمرا بالسبب ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ المراد به ليس إلاّ المقتضي وهو السبب التامّ الصالح لمجامعته مع الموانع ، ضرورة أنّ من قال بالوجوب في السبب دون غيره من المقدّمات لا يقصد به مجموع المقدّمات من حيث المجموع ، فلا يناسب إرادتها منه لمقابلته للشرط والجزء وكذلك عدم المانع ، لدخول الجميع على هذا التقدير في العلّة التامّة فلا معنى لجعله قسيما لها ، بل يكون ذلك قولا

__________________

(١) واعلم أنّ المراد بالسبب التامّ على مصطلح الأصحاب إنّما هو المقتضي التامّ ، ومن البيّن أنّه يجامع وجود المانع عن التأثير من انتفاء شرط من شروطهما ووجود مانع من موانعه كما لا يخفى. ( منه عفي عنه ).

٣٧٠

بالوجوب على الإطلاق فلا وجه لعدّه تفصيلا في المسألة ، هذا إذا اريد بالعلّة التامّة ما يكون مركّبا من الأجزاء والشروط وارتفاع الموانع ، وأمّا لو اريد بها ما يكون أمرا واحدا بسيطا فيردّه :

أنّه ليس في أفعال المكلّفين ما يكون علّة تامّة للحكم أو موضوعه ، لكثرة ما له من الشروط والموانع ، بحيث يخرج بانتفاء واحد من الاولى أو وجود شيء من الثاني عن كونه علّة تامّة مع أنّه مقدّمة عندهم وسبب في عرفهم ، كالبول في مقابلة وجوب الطهارة فإنّه سبب مع أنّه ربّما لا يوجب وجوب الوضوء إذا اقترن بوجود مانع كالسلس (١) ونحوه.

وممّا تقرّر تبيّن أن ليس المراد بالسبب هاهنا ما كان سببا لحكم شرعي كالملك ، والإتلاف ، واليد ، والزنا ، والدلوك ، والغروب ، والفجر ، والبلوغ ، والحدث والالتقاط ، والحيازة ، وإحياء الموات ، ونحو ذلك في سبب جواز الانتفاع ، ووجوب الضمان ، ووجوب الحدّ ، ووجوب الفريضة ، ووجوب الطهارة ، وحصول الملك ، بل المراد به ما كان سببا لموضوع الحكم الشرعي فلذا يعبّر عنه بمقدّمة الوجود كالصيغة والوضوء والغسل والتيمّم للعتق والطهارة الواجبين ، ومثله التدرّج من السلّم للكون على السطح إذا صار واجبا ، والنظر في المقدّمتين للعلم الواجب.

والفرق أنّ الامور الثلاث الاول أسباب شرعيّة والرابع سبب عاديّ والخامس سبب عقليّ.

ومن هنا تبيّن أنّ ما عن قواعد الشهيد من تحديد السبب بكلّ وصف ظاهر منضبط يناط به الحكم الشرعي وجودا وعدما ، أو كلّ وصف ظاهر منضبط دلّ الدليل على كونه معرّفا لإثبات حكم شرعي بحيث يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ـ على ما حكاه بعض الأعاظم ـ لا ينطبق على ما هو من موضوع بحث تلك المسألة.

ولو رام به تحديد مطلق السبب.

يرد عليه : مع اشتماله على قيد زائد وتطويل بلا طائل ، انتقاض عكسه بخروج ما هو سبب لموضوع الحكم بجميع أنواعه الثلاث ، كما تبيّن أنّه لا وقع لما عساه يورد من أنّ العلل الشرعيّة معرّفات ـ أي علل لحصول العلم بالشيء لا وجوده ، وبعبارة اخرى علل للإثبات والتصديق لا الثبوت والوجود فلا يصحّ أن يقال : هو ما يلزم من وجوده الوجود ، وإنّما يصحّ أن يقال : ما يلزم من وجوده العلم بالوجود ، لأنّ ذلك لو صحّ لتمّ في أسباب

__________________

(١) وفي الأصل : « كالسلل » وهو سهو ، والصواب ما أثبتناه ـ والله العالم.

٣٧١

الأحكام وأمّا الموضوعات فأسبابها ما يلزم من وجودها وجود المسبّبات.

نعم لو رام المعرّف بيان مطلق السبب لاتّجه إليه أنّه أخصّ من المعرّف لعدم تناوله ما يكون سببا لنفس الحكم كما لا يخفى.

وأمّا الشرط : فهو في اللغة متحرّكا العلامة وساكنا مجرّد الإلزام والالتزام ، نصّ عليه الجوهري على ما حكاه بعض الأعاظم.

وفي القاموس : إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه ، وكأنّه خصّه بالذكر توضيحا ومثالا وإلاّ فهو لا يختصّ بالبيع وأمثاله على ما يساعده فهم العرف وتبادر أهل اللسان ، ويشهد به الاستعمالات الواردة مورد إفادة المعنى الحقيقي من غير تأمّل ، فلذا جعله في المجمع معروفا.

وفي الاصطلاح فالمعروف من معناه : ما يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده ، وكأنّهما فصلان لجنس مقدّر مشترك بينه وبين السبب ـ المتقدّم ذكره ـ وهو « الخارج » ، على ما هو المعلوم من طريقتهم من جعلهم الفارق بينها وبين الجزء دخوله وخروجهما ، وإنّما لم يصرّحوا بذكره عند التحديد إحالة للأمر إلى وضوحه أو معلوميّته من اصطلاحهم مع كون الغرض في هذا المقام التفسير الإجمالي

المفيد لتصوّره إجمالا ، أو لأنّ الغرض بيان ما يتميّز به الشرط عن مشاركه في الجنس القريب وهو السبب ، لا كلّ مشاركاته ليعتبر فيه ما يعتبر في ماهيّته.

والمفروض أنّه حاصل بما ذكر كما يشهد به اكتفاؤهم في حدّ السبب أيضا بما يوجب امتيازه عن الشرط أو هو والمانع أيضا ، لا عن كلّ ما يشاركه ولو في الجنس البعيد كالجزء.

فلا يرد عليه : انتقاضه طردا ببعض أجزاء المقتضي ولا بعض أجزاء المشروط إن كان مركّبا ، فإنّ الجزء مطلقا وإن كان ممّا يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، إلاّ أنّه خارج بالجنس المطويّ في الكلام وهو « الخارج » الموصوف بالموصول المذكور صريحا.

وأمّا ما يورد أيضا على طرده بالمقتضي الجامع لعدم الشرط ولوجود المانع ، فلعلّه كلام ظاهريّ ناش عن قلّة التدبّر في مفهوم التعريف ، فإنّ كلمة « من » ـ على ما تقدّم الإشارة إليه ـ نشويّة قاضية بكون عدم المشروط ناشيا عمّا فرض انعدامه أوّلا من الشرط ، فإذا فرض الشرط في المقتضي معدوما فانعدام المشروط يستند إليه سواء فرض معه المقتضي منعدما أيضا أو لا ، ضرورة أنّ الأثر الواحد الشخصي لا يستند إلى علّتين

٣٧٢

ولا سيّما إذا كان عدميّا ، فإنّ الشيء ينعدم بمجرّد انتفاء بعض مقدّمات وجوده ، وليس العدم كالوجود حتّى يتوقّف على تحقّق جميع المقدّمات ، فإذا اختصّ الانتفاء ببعض فهو العلّة وإن فرض الجميع منتفيا ، فالعلّة انتفاء ما سبق انتفاؤه منها إن كان في البين ترتّب ، وإلاّ فالعلّة انتفاء علّة الوجود بجميع ما له مدخل فيها ، والمقتضي الجامع لعدم الشرط لا أثر لعدمه في العدم بعد فرض استناده إلى عدم الشرط ، بل هو حينئذ نظير الحجر في جنب الإنسان فلا يصلح موردا للنقض ، لعدم كونه ممّا يصدق عليه قولنا : « ما يلزم من عدمه العدم » وإنّما يصدق ذلك على الشرط المفروض عدمه معه وهو من المعرّف. ومثله الكلام في المقتضي الجامع لوجود المانع ، فإنّ العدم يستند حينئذ إلى وجود المانع لأنّه ما يلزم من وجوده العدم ، ولا فائدة معه لفرض المقتضي معدوما.

ومن هنا ينقدح فساد النقض بلوازم الشرط أو لوازم المشروط ، فإنّ عدم المشروط لا يستند إلى عدمها أصلا حتّى يكون مشمولا للحدّ.

وأمّا النقض بالشرط المتأخّر عن المقتضي كالإجازة في الفضولي ـ على القول بحصول الانتقال حين الإجازة ـ فغير مفهوم المراد.

فإن اريد به النقض على الاولى من قضيّتي الحدّ فلا وجه له.

وإن اريد به النقض على القضيّة الثانية من جهة أنّه شرط وقد استلزم وجوده الوجود.

ففيه : أنّه ليس من لوازم الشرط بل من لوازم تمام السبب ، والشرط متمّم له ، فالاستلزام واقع في الحقيقة بين المسبّب وسببه لا بين المشروط وشرطه.

والعجب عن بعض الفضلاء كيف أعرض عن هذا الحدّ ـ وفسّر الشرط بالخارج الّذي يقتضي عدمه عدم المشروط مع عدم قيام البدل (١) ولا يقتضي وجوده وجوده ، فصرّح بخروج الجزء لدخوله ، ولوازم الشرط لعدم اقتضاء لها حقيقة ، والمعدّ لأنّ عدمه المقارن لا يقتضي العدم ، كيف وقد اعتبر في المقتضي! نعم عدمه مطلقا يقتضي ذلك ، لكن ظاهر لفظ الحدّ هو الأوّل ـ معترضا على الحدّ الأوّل بكونه منقوضا بالوجوه المذكورة ، مع وضوح سخافتها غفلة عن انتقاض ما اختاره أيضا في طرده بجزء ما يكون سببا محصّلا للشرط كأجزاء الوضوء أو الغسل أو التيمّم في أسباب ما هو شرط للصلاة.

__________________

(١) والظاهر أنّ فائدة قوله : « مع عدم قيام البدل » الاحتراز عن تخلّف شرط لشرط آخر فيما لو كان له شروط متعدّدة ، من جهة أنّ عدم الشرط الأوّل لم يستلزم العدم. ( منه ).

٣٧٣

ولا ينبغي دفعه بإبداء الفرق بين ما يترتّب من العدم على العدم بواسطة أو بلا واسطة. والمقصود من الحدّ هو الثاني والمفروض في مورد النقض هو الأوّل ، نظرا إلى أنّ اللازم أوّلا إنّما هو عدم الشرط وعدم المشروط مترتّب عليه لا على عدم جزء السبب لكونه تكلّفا.

وربّما يحكى عن القواعد الشهيديّة تعريف الشرط : بما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته ، ولا يشتمل على شيء من المناسبة في ذاته بل في غيره.

فأخرج بالأوّل المانع ، وبالثاني السبب ، كما احترز بالثالث عن مقارنة وجوده لوجود السبب أو قيام المانع فيلزم الوجود أو العدم لكن لا لذاته بل لأمر آخر ، وبالرابع عن جزء العلّة فإنّه يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، إلاّ أنّه اشتمل على جزء المناسب فإنّ جزء المناسب مناسب هكذا نقل بعض الأعاظم فعقّبه بإيرادات بعضها غير وارد ، وورود بعضها الآخر والعدم مبنيّ على ملاحظة عبارة القواعد بنفسها ولم تكن تحضرنا وما تيسّر لنا الوصول إليها بعد الفحص التامّ لنستعلم ما هو حقيقة المرام.

ثمّ إنّ المقدّمة سببا كانت أو شرطا لابدّ لها من حاكم بمقدّميتها ، فهي بهذا الاعتبار إمّا عقليّة أو عاديّة أو شرعيّة.

والاولى مقدمة يكون وجود ذيها بدونها محالا عند العقل ، كالنظر المحصّل للعلم الواجب في السبب ، وترك الضدّ الّذي يستحيل فعل الضدّ بدونه عقلا في الشرط.

والثانية مقدّمة يكون وجود ذيها بدونها محالا عادة ، كجزّ الرقبة للقتل الواجب في السبب ، ونصب السلّم للصعود على السطح في الشرط.

وأمّا التدرّج على درجات السلم فهو من السبب العادي ، فإنّ العادة في كلّ ذلك قاضية باستحالة القتل والصعود بدون الجزّ والنصب والتدرّج وإلاّ فالعقل لا يأبى عن ذلك ، لإمكانه بالخنق والطيران ونحوهما.

والثالثة مقدّمة بكون وجود ذيها بدونها محالا عند الشرع وفي نظر الشارع ، وهي في الأسباب كالصيغة للعتق ، والوضوء والغسل والتيمّم للطهارة ، وفي الشروط كالطهارة للصلاة.

وربّما يقال : بأنّ مرجع ذلك أيضا إلى المقدّمة العقليّة ، لأنّ الموقوف على الطهارة ليس ذات الصلاة بل الصلاة المصحوبة للطهارة ، ووجودها بدون الطهارة أو بدون الوضوء محال عقلا ، فإنّ العقل يحكم بتوقّف وجود الصلاة مع الطهارة على الطهارة والوضوء ، إلاّ أنّ منشأ ذلك التوقّف هو الشرع حيث جعل الواجب الصلاة مع الطهارة ، ولعلّه أوجب تسمية الطهارة والوضوء

٣٧٤

بالمقدّمة الشرعيّة لما في النسبة من كفاية أدنى الملابسة ككفاية أدنى المناسبة في التسمية.

وهو على التحقيق مبنيّ على ما هو الراجح في النظر من عدم كون الشرطيّة والسببيّة ونحوها من الوضعيّات مجعولة من الشارع بخصوصها ، وإنّما هي مفاهيم ينتزعها العقل عن الخطابات التكليفيّة المتعلّقة بالموضوعات الملحوظة مكيّفة بكيفيّات مخصوصة شرعيّة وغيرها ، وإلاّ فعلى القول الآخر لابدّ من كون التوقّف فيما بين السبب ومسبّبه والشرط ومشروطه حكما من الشارع ، لأنّ جعل السببيّة والشرطيّة في معنى الحكم بكون محلّهما ممّا يتوقّف عليه الغير الّذي يضاف إليه هذان الوصفان ، وحكم العقل حينئذ متأخّر تبعي لا يورث أثرا في المقام ، فإنّ حكمه بالتوقّف بملاحظة حكم الشرع بالسببيّة والشرطيّة لا يقضي برجوع هذه الامور إلى المقدّمات العقليّة ، كما أنّ حكمه بذلك بملاحظة قضاء العادة في العاديات لا يقضي بذلك ، وإلاّ لبطل التقسيم وانحصرت المقدّمة في العقليّة ، وكأنّ التسمية بالشرعيّة فيما ذكر نشأت عن أصحاب هذا القول فوافقهم الآخرون.

[ في تشخيص محلّ النزاع من أقسام المقدّمة ]

ثمّ إنّه بقي الكلام في تحرير موضع النزاع من أنواع المقدّمة ، فقد أشرنا سابقا إلى أنّها تنقسم إلى مقدّمة الوجوب ، ومقدّمة الوجود ، ومقدّمة الصحّة ، ومقدّمة العلم ، وإلى أنّ الأخيرين راجعان إلى الثاني من حيث المقدّمية ، ولكنّ النظر هنا إنّما هو في جريان النزاع الآتي في الكلّ وعدمه.

فنقول : لا ينبغي التأمّل في خروج المقدّمات الوجوبيّة عن هذا النزاع ، وعدم كون الأمر بالشيء أمرا بمقدّمات وجوبه ، من غير فرق بين ما كان منها مقدورا للمكلّف كتحصيل الاستطاعة في وجوب الحجّ وتحصيل النصاب في وجوب الزكاة ، وما لم يكن مقدورا كالقدرة والعقل والبلوغ ونحوه ، فإنّه ممّا لا يستريب فيه ذو مسكة وتصريحاتهم بذلك مملوّة في كتبهم الاصوليّة ، ونقل الاتّفاق عليه بالغ حدّ الاستفاضة.

وفي كلام المحقّق نفي الخلاف عن ذلك ، إلى أن قال : « فالتكليف بالحجّ مثلا ليس تكليفا بتحصيل الاستطاعة ، والتكليف بالزكاة ليس تكليفا بتحصيل للنصاب ... إلى آخره » وهو ظاهر أكثر عناوينهم حيث يعبّرون عن العنوان : « بأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ الواجب إلاّ به أو لا؟ » ولا يقولون : « أمر بما لا يتمّ الوجوب إلاّ به ».

وصريح العمدة من أدلة القائلين بالوجوب ـ الّتي اعتمد عليها كلّهم أو جلّهم ـ وهي

٣٧٥

لزوم أحد الأمرين من التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجبا لولاه ، لوضوح أنّ الشيء قبل حصول مقدّمة وجوبه لم يتعلّق به وجوب بعد حتّى يخرج عن كونه واجبا على تقدير عدم وجوب مقدّمته ، كيف والقول بوجوب مقدّمة الوجوب ممّا لا يكاد يتعقّل عن أحد ، فإنّ النظر في تلك المسألة في أنّ مقدّمات الواجب هل تصير واجبة بوجوب ذيها ، وبعبارة اخرى : وجوب الشيء هل يستلزم وجوب مقدّماته أو لا؟ وظاهر أنّ ذلك فرع تعلّق الوجوب بذي المقدّمة ، وهو فرع تحقّق مقدّمات الوجوب فيمتنع تعلّق الوجوب بها بدون وجوب ذيها.

وإلى ذلك ينظر ما في كلام بعض الفضلاء من الاحتجاج بأنّ : وجوب المقدّمة ـ على القول به ـ يتوقّف على وجوب ذي المقدّمة فيمتنع بدونه ، كما ينظر إليه ما في الهداية من التعليل بأنّه : « لا يتعلّق الوجوب بذيها قبل حصولها وبعد حصولها لا يمكن تعلّق الوجوب بها ».

وأمّا ما يكون من المقدّمات الوجوبيّة مقدّمة للوجود أيضا فهي من تلك الجهة وإن كانت صالحة لجريان النزاع فيها ، غير أنّها باعتبار الجهة الاولى خارجة أيضا ، وإطلاق العنوانات ينصرف إلى الوجوديّة الصرفة ، بل هي من وجه آخر ممّا لا يتأمّل في عدم دخولها في النزاع ، حيث إنّها من المقدّمات الغير المقدورة واتّفاقهم قائم بخروجها عن المتنازع فيه وإن كانت وجوديّة صرفة ، على ما سيجيء تحقيقه.

وأمّا مقدّمة الصحّة : فقد عرفت أنّها راجعة إلى مقدّمة الوجود بل لا فرق بينهما بحسب الحقيقة إلاّ بالاعتبار ، فإنّ المأمور به إذا لوحظ بوصفه العنواني وهو كونه مأمورا به سمّي مقدّمته بمقدّمة الصحّة ، وإذا لوحظ بذاته وحقيقته سمّي مقدّمته بمقدّمة الوجود.

وهذان عبارتان مفادهما واحد ، ضرورة أنّ مقدّمة الصحّة لا يراد بها إلاّ ما يوجب حصول المأمور به في الخارج ، وكون ما يؤتى به موافقا لما امر به وهو ليس إلاّ معنى الوجود.

فقضيّة ذلك جريان الأقوال الآتية فيما يسمّونه بمقدّمة الصحّة جريانها فيما يسمّونه بمقدّمة الوجود.

وأمّا مقدّمة العلم : فعليّة كانت كالصلاة (١) إلى الجهات الأربع للعلم بإتيان الصلاة إلى جهة القبلة الواقعيّة عند الاشتباه ، أو تركيّة كالشبهة المحصورة التحريميّة الّتي يجب فيها

__________________

(١) ومثله غسل جزء من الرأس لحصول العلم بغسل الوجه ، وتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين ونحو ذلك ممّا لا يكاد يحصى. ( منه ).

٣٧٦

ترك جميع أطراف الشبهة لحصول العلم بترك المحرّم أو النجس الواقعيّين ، كما في الإنائين المشتبهين ونحوهما ، فهي أيضا ممّا ينبغي القطع بخروجها عن محلّ النزاع للقطع بعدم وجوبها على تقدير أو القطع بوجوبها على تقدير آخر.

وتوضيح ذلك : أنّ الوجوب الّذي يضاف إلى المقدّمة هاهنا إمّا أن يراد به الوجوب الشرعي وهو كون الشيء بحيث يستحقّ تاركه العقاب كما في سائر الواجبات التعبّديّة ، أو الوجوب العقلي الّذي هو مجرّد إلزام عقل وحكم منه بلا بدّية العمل.

فإن كان الأوّل فلا ينبغي التأمّل ولا الخلاف في عدم الوجوب ، نظرا إلى أنّ العلم الّذي هو أصل وذو مقدّمة ليس في الوجوب بهذه المثابة بحيث أوجب تركه استحقاق العقاب فضلا عن مقدّمته ، فإنّ العلم بإتيان المأمور به ليس بنفسه واجبا شرعيّا يستلزم مخالفته استحقاق العقاب ، بل هو ممّا يلزمنا العقل عليه لحصول الاطمئنان عن العقاب بترك المأمور به الّذي هو من فروع الإطاعة الّتي ليست مطلوبة لذاتها ، وإنّما الأمر بها ولو من الشرع ـ كقوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(١) ـ إرشادي ، وكذلك النواهي عن المعصية عقلا أو شرعا كقوله : « لا تعص » ونحوه نظير أوامر الطبيب ونواهيه.

خلافا لبعض من توهّم كونها مؤكّدات للأوامر الحقيقيّة المتعلّقة بالعناوين المخصوصة فقوله : « أطع » مثلا مؤكّد للأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحجّ ونحو ذلك ، وضعفه ظاهر بعد ملاحظة أنّ المؤكّد والمؤكّد لابدّ فيهما من اتّحاد الموضوع ولو معنى ، كما في « اضرب زيدا اضرب زيدا » أو « اضرب زيدا نفسه » وهو في أوامر الإطاعة والأوامر الحقيقيّة متعدّد بدليل ما بين الموضوعين من الترتّب ، لتأخّر موضوع الأوّل وهو الإطاعة عن موضوع الثاني وهو الصلاة وغيرها ، ضرورة أنّ محقّق موضوع الإطاعة إنّما هو العقل فإنّه بعد ما التفت إلى جانب الأوامر الحقيقيّة ينتزع عن متعلّقاتها باعتبار إيجادها في الخارج مفهوما كلّيا يسمّيه بالإطاعة فيرتّب عند نفسه مقدّمة معقولة وهي أنّ الإتيان بالمأمور به إطاعة.

ثمّ يلزم المكلّف بها إرشادا له إلى ما يدفع عنه المضرّة والندامة والوقوع في التهلكة ، فيتلوه أمر الشارع أيضا بقوله : ( أَطِيعُوا اللهَ )(٢).

ومن البيّن أنّ مخالفة الأمر بالإطاعة لا تترتّب عليها ما تترتّب على مخالفة الأمر بالصلاة وغيرها من العناوين الخاصّة من استحقاق العقاب ، وإلاّ لكان اللازم استحقاق

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) النساء : ٥٩.

٣٧٧

عقابين بل ثلاث عقابات إذا انضمّ إليهما مخالفة النهي عن المعصية ، فعلى هذا لو أنّ المكلّف أتى بالزنا بعد ما نهي عنه بالخصوص لاستحقّ عقابا بسبب مخالفته النهي المستفاد عن قوله : « لا تزن » وعقابا آخر بسبب مخالفته النهي عن المعصية في قوله : « لا تعص » وعقابا ثالثا بسبب مخالفته الأمر بالإطاعة وهو ضروريّ البطلان بل لم يقل به أحد ، بل غاية ما يترتّب على ترك الإطاعة إنّما هو فوات الخاصيّة الّتي كانت من شأنها أن تترتّب على فعلها وهي استحقاق الثواب ورفع العقاب المترتّبين على نفس الإطاعة لا الأمر بها بدليل ترتّبهما عليها بدون الأمر أيضا ، نظير ما يترتّب على أوامر الطبيب من الخواصّ والفوائد ، فإنّ ما يترتّب على أمر الطبيب بقوله : « برّد » مثلا من الخاصيّة وهي دفع الحرارة فإنّما يترتّب على نفس التبريد لا الأمر به وإلاّ للزم أن لا تترتّب عليه بدون الأمر ولو حصل في الخارج ، وهو ممّا يكذّبه الحسّ والوجدان.

فبما قرّرناه ينقدح الفرق بين الأمر الإرشادي والأمر الحقيقي ، فإنّ استحقاق الثواب بفعل المأمور به من خواصّ الإطاعة ، فهو جزاء يترتّب على المأمور به في الأوّل لا على الأمر بدليل حصوله بدونه أيضا ، وعلى الأمر دون المأمور به في الثاني بدليل عدم ترتّبه بفعل المأمور به بدون الأمر ، فإنّ حصول الثواب ليس خاصيّة للصلاة المأمور بها كما أنّها خاصيّة للإطاعة ، لأنّه إنّما يحصل ولو فرض الصلاة خالية عن جميع الخواصّ الكامنة كما زعمه الأشاعرة.

وقضيّة ذلك أن لا يترتّب على ترك الإطاعة إلاّ فوات تلك الخاصيّة ، كما أنّه لا يترتّب على ترك التبريد في أمر الطبيب به إلاّ فوات خاصيّة التبريد وهو دفع الحرارة ، وهو كما ترى ليس من استحقاق العقاب في شيء لا مفهوما ولا مصداقا ، فإذا كان الإطاعة ممّا لا يترتّب على تركها استحقاق عقاب فترك الاطمئنان بها المسبّب عن ترك تحصيل العلم بإتيان المأمور به أولى بذلك ، فإذا اتّفق ترك المأمور به بترك تحصيل العلم به لا يلزم عقاب إلاّ على ترك المأمور به من دون عقاب على ترك الاطمئنان.

وإن كان الثاني (١) فلا ينبغي التأمّل ولا الخلاف في الوجوب بهذا المعنى ، لا من جهة أنّه مقدّمة فتجب حتّى يكون ذلك ممّا يتفرّع على القول بوجوب المقدّمة ، بل من جهة أنّه لا مغايرة بينه وبين ذي المقدّمة حقيقة بل هو عينه في الحقيقة وإنّما الاختلاف يحصل في التعبير.

__________________

(١) هذا ثاني شقّي الترديد ، وقد مرّ أوّلهما في ص ٣١ بقوله : « فإن كان الأوّل فلا ينبغي التأمّل ولا الخلاف في عدم الوجوب ».

٣٧٨

وبيان ذلك : أنّ مقدّمة العلم ما كان سببا لحصول العلم بإتيان المأمور به ، كتكرّر الصلاة في الجوانب الأربع أو في الثوبين المشتبهين ، وهو ليس كسائر الأسباب الّتي بينها وبين مسبّباتها ترتّب في الوجود الخارجي وتغاير بحسب المفهوم والمصداق ـ كنصب السلّم والتدرّج بدرجاته للصعود ، وتحصيل الدابّة للزيارة والحجّ ، نظرا إلى أنّ لكلّ منهما وجودا غير وجود الصعود والزيارة والحجّ بالمغايرة الحسّيّة الموجبة للتفكيك بينهما وبين ما يتوقّف عليهما ممّا ذكر ـ حتّى يمكن التفكيك بينه وبين العلم الّذي هو مسبّب عنه بتجويز كون العلم ممّا يلزمنا العقل عليه للتوصّل بحصول الاطمئنان بالإطاعة مع عدم إلزام على مقدّمته كما هو جائز في سائر المسبّبات بالقياس إلى أسبابها ، بل هو نظير الأسباب الّتي وجودها في الخارج عين وجود مسبّباتها ، بحيث لا تغاير بينها وبين المسبّبات إلاّ بحسب العنوان والمفهوم من دون ترتّب بينهما في الوجود الخارجي بالتقدّم والتأخّر ، كتواضع زيد لإكرامه أو ضيافته له أيضا ، فإنّ الأوّل سبب للثاني وهما بحسب المفهوم والعنوان وإن كانا أمرين متغايرين إلاّ أنّهما بحسب الوجود الخارجي أمر واحد ، ضرورة أنّ مجرّد تواضع زيد أو ضيافته إكرام له ، فإلزام السيّد عبده على إكرام زيد إلزام له على تواضعه وضيافته ، وقوله : « أكرم زيدا » بمنزلة قوله : « تواضع لزيد أو أضفه » بل هو عينه في الحقيقة.

فحينئذ لا يمكن التفكيك بينهما بإبداء القول بجواز الإلزام على الإكرام دون التواضع والضيافة ، كيف وأنّ الإلزام على الأوّل عين الإلزام على الثاني.

ومن هذا الباب مقدّمة العلم بعينها ، فإنّ (١) إلزام العقل على العلم بأداء المأمور به ـ كالصلاة إلى القبلة عند الاشتباه ـ عين الإلزام بمقدّمته الّتي هي عبارة عن تكرّر الصلاة إلى أكثر من جهة واحدة ممّا يحتمل في موضع الشبهة ، إذ لا تغاير بينهما في الوجود الخارجي ، ضرورة أنّ العلم بإتيان المأمور به في الواقع عين الإتيان بالصلاة في الجهات الأربع ، ومع ذلك كيف يتصوّر التفكيك بينهما بدعوى : أنّ الأوّل واجب بحكم العقل دون الثاني ، وكيف يمكن إنكار أنّ الأمر بتحصيل العلم أمر بتكرّر الصلاة ، وإبداء القول بأنّ الأوّل لا يستلزم الثاني. هذا على ما استفدناه عن الشيخ الاستاذ ـ دام ظلّه ـ ولكنّه عندي محلّ نظر يظهر

__________________

(١) وبعبارة اخرى : أنّ ذا المقدّمة هنا دفع الضرر المترتّب على ترك المأمور به ، ومقدّمته تكرير الصلاة في الجهات الأربع ومن المعلوم أنّ إلزام العقل على دفع الضرر عين إلزامه على تكرير الصلاة إذ لا تغاير بينهما بحسب الوجود الخارج أصلا ولو فرضت متغايرة فهي بحسب العنوان والحيثيّة كما لا يخفى. ( منه ).

٣٧٩

وجهه في ذيل المسألة.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ المقدّمة إمّا داخليّة أو خارجيّة ، والأوّل هو الجزء لتوقّف الكلّ عليه ، وفي وقوعه محلاّ للخلاف كغيره من سائر مقدّمات الوجود وعدمه خلاف بين الاصوليّين.

فعن بعضهم نفي الخلاف عن الوجوب في الجزء لدلالة الواجب عليه تضمّنا.

ومن الأعلام من صرّح بكون الكلام فيه كالكلام في سائر المقدّمات ، مصرّحا بأنّ القدر المسلّم من الدلالة على وجوبه هو التبعي إلاّ أن ينصّ عليه بالخصوص بعنوان الوجوب ، ومعترضا على القول الأوّل بمنع دلالة الواجب على وجوب الجزء تضمّنا.

ومن الفضلاء من صرّح بأنّ كلّ جزء من الأجزاء واجب بالوجوب النفسي والغيري باعتبارين ، فباعتبار كونه في ضمن المركّب واجب نفسي ، فإنّ المركّب عبارة عن نفس الأجزاء وإلاّ لم يكن مركّبا ، فوجوبه عبارة عن وجوبها ، لكن تعلّق الوجوب بكلّ جزء حينئذ ليس مستقلاّ بل في ضمن الكلّ ، فالدالّ على طلب الكلّ بالمطابقة دالّ على طلب الجزء بهذا الاعتبار أيضا بالمطابقة ، وإن كان الدالّ على متعلّقه الأوّل ـ وهو الكلّ ـ بالمطابقة دالاّ على متعلّقه الثاني ـ وهو الجزء ـ بالتضمّن ، وباعتبار كونه ممّا يتوصّل به إلى الكلّ واجب غيري لتوقّفه عليه ، ضرورة أنّ وجود المركّب مسبوق بوجود أجزائه فيدلّ الأمر به على الأمر بها بالاستلزام ، فيتعلّق الوجوب بها على الاستقلال وليس بالتضمّن لأنّ الوجوب النفسي بسيط وإن تعلّق بمركّب فلا يتركّب من وجوبات غيريّة.

وأفادنا بعض مشايخنا : دام ظلّه أنّ الجزء إذا لا حظناه في حدّ نفسه مع قطع النظر عن وجوده في ضمن الكلّ كان قابلا لوقوعه محلاّ للخلاف ، إلاّ أنّه مجرّد فرض لا يكاد يتعقّل ، لأنّ المراد بالجزء هاهنا ليس ذات الجزء حتّى يعقل انفكاكه عن الكلّ فيجري فيه الخلاف ، بل الجزء بعنوان الجزئيّة ـ أي مع اتّصاف كونه جزءا ـ وهو بهذا المعنى لا ينفكّ عن الكلّ ، لأنّ وجوده عين وجود الكلّ كما أنّ وجود الكلّ نفس وجوده ، فلا يعقل حينئذ عدم كونه واجبا مع وجوب الكلّ بل يصير واجبا بوجوبه في ضمنه ، فلا معنى للثمرة الّتي ذكرها بعض الأعلام عن العلاّمة من جواز الصلاة في الدار المغصوبة ، من جهة أنّ الكون الّذي هو جزء الصلاة واجب بسبب وجوب الواجب وهو الصلاة ، فلا يجوز أن يكون منهيّا عنه لاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد شخصي ، لضرورة أنّ الكون الّذي هو جزء الصلاة يستحيل وقوعه منهيّا عنه على القول بعدم وجوب المقدّمة أيضا ، لما هو المفروض من أنّ الأجزاء

٣٨٠