تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ من جملة أقوال المسألة قول بالوضع (١) للفور شرعا وإن كان لمطلق طلب الطبيعة لغة ، حكاه بعض الأعاظم مع حكايته الاحتجاج له بإجماع السيّدين في الذريعة والغنية ، فأجاب عنه : بأنّه مردود لا لأنّ المسألة ما يطلب فيها العلم بل لوهنه بمخالفة المعظم ، مع أنّ الوجدان يحكم بأنّها ليست محلّ الإجماع ، ثمّ استعجب عن الفاضل التوني في استظهاره بعد نقل الإجماع عن الذريعة كون أخباره هنا مفيدا للقطع.

ثمّ قال : « ونزيد على بطلانه أنّ المطلوب ما يعمّ به البلوى جدّا مع عدم مانع من اشتهاره ، فلو كان كما ذكراه لشاع وذاع » انتهى.

وظاهر ما ذكر كون ذلك خيرة الفاضل التوني ، مع أنّ ما صرّح به بعض الأجلّة خلاف ذلك كما عرفت في نقل الأقوال ، حيث اسند إليه القول بقيام الدلالة الخارجيّة على إرادة الفور شرعا.

وكيف كان فحكى له الاحتجاج بأنّه : لو جاز التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معيّن واللازم منتف ، أمّا الملازمة : فللزوم التكليف بما لا يطاق لولاه ، فإنّه يجب حينئذ أن لا يؤخّر الفعل عن وقته مع أنّه غير معلوم.

وأمّا انتفاء اللازم فلعدم إشعار في الأمر بتعيين الوقت.

وبإجماعي الذريعة والغنية.

والأمر بالمسارعة والاستباق.

وإنّ التأخير بما ينافي الفوريّة يعدّ في العرف تهاونا ومعصية فيكون حراما ، فيكون واجبا إذا كان الأمر ممّن يثبت وجوب امتثاله.

والجواب عن الأوّل والثالث : قد تقدّم في ردّ أدلّة القول بالفور.

وأمّا عن الثاني : فأجاب عنه بما مرّ في ردّ الاستدلال به على الوضع الشرعي ، وبأنّه ينافي ما ادّعاه المستدلّ لأنّه مبنيّ على ثبوت الحقيقة الشرعيّة في الأمر للفور ، وما بنى عليه هنا هو المبادرة في الأوامر ومغايرتهما في نهاية الوضوح ، وإنكار ظهور كلام المرتضى فيما ذكر من دعوى الحقيقة الشرعيّة ظاهر الفساد.

وعن الرابع : أجاب بأنّه مخالف للعرف لو أراد ثبوت التهاون بترك الفور كما أنّ غيره لا يجدي ، مع أنّ ذلك لو ثبت لدلّ على كونه موضوعا له وهو ظاهر ، مع أنّه لا يقول به.

ثمّ ذكر أنّ فروعه لا تحصى ، منها : جواز الاستيجار بعد الاستيجار المطلق بالصلاة

__________________

(١) والظاهر أنّه مذهب الفاضل التوني. ( منه عفي عنه ).

٢٦١

فائدة *

إذا قلنا : بأنّ الأمر للفور ، ولم يأت المكلّف بالمأمور به في أوّل أوقات الإمكان ؛ فهل يجب عليه الإتيان به في الثاني أم لا؟ ذهب إلى كلّ فريق.

احتجّوا للأوّل : بأنّ الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق * ، وذلك

__________________

ونحوها وعدمه ، والضمان على التأخير لو وكّله في بيع شيء ولو لقبضه فأخّر مع القدرة عليه فتلف ، ونحوه في الوصاية.

وأنت خبير بأنّ الكلّ محلّ نظر لا يخفى وجهه على المتأمّل.

* بعد الفراغ عن أصل المسألة ينبغي التنبيه على بعض ما يرتبط بها ، ويتفرّع على بعض أقوالها ، وهو أمران :

ـ أحدهما ـ

ما أشار إليه المصنّف من الخلاف المبنيّ على القول بأنّ الأمر للفور في أنّه هل يجب على المكلّف إذا لم يأت بالفعل في الوقت الأوّل أن يأتي به في الوقت الثاني وهكذا أم لا؟

والمعروف عندهم في محلّ الخلاف قولان ، صرّح به المصنّف ووافقه بعض الفضلاء ، وهو الظاهر عن بعض الأجلّة أيضا ، إلاّ أنّ بعض الأعاظم جعله رباعي الأقوال ، ثالثها : التفصيل بين أن يقول بدلالة الأمر عليه بنفسه فلا ، وأن يقول بدلالته لما دلّ على وجوب المبادرة إلى امتثال الأوامر ـ كما في الآيتين ـ فنعم ، ورابعها : التوقّف ، وهو الأنسب فإنّ من الأصحاب من صرّح بالتفصيل المذكور كالمصنّف ووافقه على ذلك بعض الأعاظم ، ومنهم من يظهر منه الخلاف كالفاضلين لنقلهما الوجهين فيما يبنى عليه الخلاف من دون ترجيح شيء ، ومثلهما الفخر على ما حكاه بعض الأجلّة.

وأمّا القولان الأوّلان ، فالأوّل منهما محكيّ عن أبي بكر الرازي وأبي الحسين البصري والقاضي عبد الجبّار ، والثاني منهما عن الكرخي وأبي عبدا البصري على ما في كلام بعض الأفاضل.

* ويرد عليه : لو تمّ لدلّ على عدم وجوب الفور (١) رأسا ، وهو كما ترى.

__________________

(١) لأنّ أصحاب القول به يدّعون أنّ الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على سبيل الفور لا على سبيل الإطلاق ، فيكون الدليل منافيا لمذهب المستدلّ كما تنبّه عليه بعض الأفاضل. ( منه عفي عنه ).

٢٦٢

يوجب استمرار الأمر. وللثاني : بأنّ قوله : إفعل يجري مجرى قوله : إفعل في الآن الثاني من الأمر * ، ولو صرّح بذلك ، لما وجب الإتيان به فيما بعد. هكذا نقل المحقّق والعلاّمة الاحتجاج ، ولم يرجّحا شيئا.

__________________

ويمكن دفعه : بأنّ المراد بالإطلاق ما يقابل التقييد بالفور الّذي يدّعيه أصحاب القول الثاني ، تعليلا بظهور الأمر في التقييد القاضي بارتفاع الحكم عند ارتفاع القيد كما هو من مقتضى القاعدة.

فصار حاصل الاستدلال ـ بناء على هذا التوجيه ـ : أنّ الأمر وإنّ دلّ على وجوب الفور ولكنّه لا يوجب خروج المأمور عن إطلاقه بحيث لم يكن له الإتيان بالمأمور به فيما بعد زمان الفور ، وذلك لأنّه لا يقتضي كون المأمور به مقيّدا بزمان الفور حتّى يلزم منه فواته بفوات الفور ، وإنّما يقتضي وجوب الفعل مع وجوب المبادرة إليه ، فإذا انتفى الثاني بقى الأوّل في كونه مطلوبا باقتضاء أصل الأمر.

نعم يمكن المناقشة فيه بكونه من باب المصادرة على المطلوب ، إلاّ أن يرجع قوله : « باقتضاء الأمر لإطلاق كون المأمور فاعلا » إلى دعوى تبادر الإطلاق من الأمر وليس ببعيد.

* ولا يخفى كون ذلك مصادرة ، إذ كون « افعل » جاريا مجرى « افعل في الآن الثاني » أوّل الكلام بل عين المتنازع فيه ، مع أنّ كونه من هذا الباب لا يقضي بالمطلوب لمنع الحكم في المثال ، بدعوى : كون الآن الثاني المصرّح به في العبارة مطلوبا برأسه للآمر لا قيدا للمأمور به حتّى لا يجب الإتيان به فيما بعده.

وبما قرّرنا مع ملاحظة ما قدّمنا تحقيقه من كون النزاع في وضع الصيغة يظهر ما هو منشأ للخلاف وهو الاشتباه في جهة جزئيّة الفور لما وضع له الصيغة على تقدير كونه جزءا كما يدّعيه القائل بالفور ، لجواز كون جزئيّته بعنوان كونه ممّا أخذه الواضع قيدا للطلب المأخوذ فيه أو للمطلوب المستلزم لئلاّ يتحقّق في المقام إلاّ طلب واحد مقيّد أو طلب واحد متعلّق بشيء مقيّد.

والفرق بين الوجهين اعتباري والمعنى واحد.

أو كونها بعنوان أنّه مطلوب آخر مستقلّ في حدّ نفسه مستلزم لأن يكون هناك طلبان متعلّق أحدهما بأصل الفعل الملحوظ مطلقا والآخر بإيجاده فورا ، بدعوى : وضع الصيغة

٢٦٣

لنسبة الحدث إلى الفاعل من حيث كونه مطلوبا في نفسه مع مطلوبيّة المبادرة إلى إيجاده برأسه ، وهذا هو الظاهر من الأوامر عرفا حيثما يراد منها الفور.

ألا ترى أنّك إذا أمرت بالسقي ونحوه ممّا جرت العادة بإرادة الفور فيه فأنت قاصد للإتيان به والتعجيل في إتيانه ، بحيث لو لا أنّه عجّل فيه لما كنت معرضا عنه فاسخا لطلبك إيّاه ، وهو آية كون الفور مطلوبا آخر غير مأخوذ قيدا لما هو المطلوب الأصلي ، فبناء على ذلك لا يفرق بين كون دليل الفور نفس الصيغة أو أمر خارج عنها كالآيتين ونحوهما ، فإنّ الأمر الخارج لا يخلو كاشفا إمّا عن الوضع أو عن الإرادة ، فإذا كان اعتبار الفور في الأمر لا بعنوان القيديّة للطلب أو المطلوب لا يتفاوت الحال بين كونه مدلولا عليه بالصيغة أو بالخارج ، بل ولو كان اعتباره بهذا العنوان أيضا لا يتفاوت الحال بين الوجهين.

فمن هنا ينقدح ضعف ما تقدّم من التفصيل في المقام بنحو ما مرّ ، فلا وجه لما احتجّ به بعض الأعاظم على الطرف الأوّل من التفصيل بأنّ الظاهر من الأمر لو استعمل في الفور التقييد بأوّل الوقت فبرفع القيد يرتفع الحكم ، وعلى الطرف الثاني من أنّ الأمر اقتضى كون المأمور فاعلا على الإطلاق وإيجاب المسارعة والاستباق لم يصيّره موقّتا وإنّما اقتضى وجوب المبادرة ، فحيث يعصى بمخالفته يبقى مفاد الأوّل بحاله ، فإنّ ظهور الاستعمال في الفور في التقييد ممّا يكذّبه طريقة العرف في الأوامر الّتي يراد منها الفور كما عرفت في المثال.

فإنّ قضيّة ذلك عدم كون السقي بعد فوات زمان الفور مطلوبا للآمر وهو خلاف البديهة ، ولو سلّم فأيّ وجه دعا إلى الفرق بينه وبين ما لو ثبت الفور من الخارج ، فإنّ ما اقتضاه الأمر من الإطلاق إنّما كان ابتدائيّا ولا عبرة به لكون الدليل بعد قيامه ممّا كشف عن انتفاء الإطلاق في الواقع ، وتقيّد الطلب أو المطلوب بزمان الفور في إرادة المتكلّم نظير القرائن المنفصلة الموجبة لتقييد المطلقات الظاهرة بدونها في الإطلاق ، كما لو قال : « أعتق رقبة » ثمّ قال ـ بعد فاصلة زمان ـ : « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا تعتق كافرا ».

وأعجب من ذلك ما أفاده بعض الأجلّة في الاستدلال على ما اختاره من القول الثاني المصرّح بعدم الفرق في ذلك بين كون دليل الفوريّة هو الآيتان أو غيرهما ، من أنّ الأمر حينئذ يصير من قبيل الموقّت ولا فرق في الموقت بين أن يستفاد الوقت من نفس الخطاب أو من دليل خارج ، فإنّ قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) مطلق وقتها يستفاد من خطاب آخر ،

__________________

(١) الأنعام : ٧٢.

٢٦٤

وبنى العلاّمة الخلاف على أنّ قول القائل : إفعل * ، هل معناه : إفعل في الوقت الثاني ، فإن عصيت ففي الثالث؟ ، وهكذا. أو معناه : إفعل في الزمن

__________________

فإذا انقضى أوّل أوقات الإمكان في كلّ شيء بحسبه فات الأمر فلا يبقى الخطاب ، ولا أقلّ من الشكّ في بقائه وعدمه ويؤول إلى الشكّ في التكليف فيدفع بالأصل ، مع أنّه لا يجوز الإتيان بالمكلّف به بقصد التشريع ـ ولا سيّما إذا كان عبادة ـ إذ الأصل فيها الحرمة.

فإنّ التمسّك بالأصل مع كون المقام من مجاري الاستصحاب وأصالة الاشتغال كما ترى خروج عن طريقة أهل العلم ، كما أنّ جعله بعد الشكّ في بقاء الأمر وارتفاعه من أفراد قاعدة التشريع ممّا يومئ إلى عدم الخبرة بسرية أهل الفهم ، ضرورة أنّ استصحاب بقاء الأمر والاشتغال في موارده كاف في إثبات مشروعيّة العبادة ومعه لا يتصوّر التشريع المحرّم.

ثمّ أنّ دعوى كون الأمر على تقدير كونه للفور من قبيل الموقّت أوّل الكلام مع شهادة العرف بخلافه ، فإنّ ما ذكر لا يتمّ إلاّ على تقدير كون الفور مأخوذا في مدلول الأمر على طريق القيديّة ، وهو خلاف ما يساعده الشواهد العرفيّة.

* وأورد عليه (١) : بأنّ ابتناء المسألة على الأمرين غير ظاهر ، أمّا الأول : فلأنّ القول الأوّل محتمل في المعنى الثاني ، إذ لا خفاء في كونه ممّا يتصوّر فيه النزاع المذكور.

وأمّا الثاني : فلما عرفت من كونه قابلا للقول الأوّل ، فالقول الأوّل لا يتوقّف على المعنى الأوّل والمعنى الثاني لا يستلزم القول الثاني.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بأنّ مقصود العلاّمة كون الخلاف في المقام في مدلول الصيغة بحسب اللغة من جهة أنّها هل تفيد لفظا بقاء المطلوب بعد فوات الفور أو أنّها لا تفيد إلاّ وجوب الفعل فورا ولا دلالة فيها كذلك على وجوب الفعل بعد ذلك ، ولذا قال : « إنّ المسألة لغويّة » وحينئذ فالقول ببقاء الوجوب من جهة الاستصحاب كما هو مقتضى الاحتمال المذكور ممّا لا ربط له بمدلول الصيغة حسبما جعله محلّ الكلام.

وأنت خبير بأنّ المورد ليس غرضه الحكم ببقاء الوجوب من جهة الاستصحاب حتّى يتوجّه إليه كونه ممّا لا ربط له بمدلول الصيغة ، بل مقصوده : أنّ المعنى الثاني المتضمّن لوجوب الفور واعتباره في مدلول الصيغة الساكت عن بيان حكم ما بعده من حيث بقاء

__________________

(١) المورد المحقّق الشيرواني ( منه ).

٢٦٥

الثاني ، من غير بيان حال الزمن الثالث وما بعده؟ فإن قلنا بالأوّل اقتضى الأمر الفعل في جميع الأزمان ، وإن قلنا بالثاني لم يقتضه ، فالمسألة لغويّة. وقد سبقه إلى مثل هذا الكلام بعض العامّة *.

وهو وإن كان صحيحا ، إلاّ أنّه قليل الجدوى ** ، إذ الإشكال إنّما هو في مدرك الوجهين *** اللذين بنى عليهما الحكم ، لا فيهما. فكان الواجب أن يبحث عنه.

الأمر فيه وعدمه قابل لكونه موردا لكلّ من القولين ، من جهة تردّد الفور المعتبر فيه بين كونه قيدا للطلب أو المطلوب أو جزءا مستقلاّ في مدلول الصيغة غير مرتبط بطلب أصل الفعل.

* وكأنّ مراده ببعض العامّة فخر الدين الرازي على ما حكى بعض الأجلّة عنه من أنّه قال : منشأ الخلاف أنّ قول القائل « افعل » هل معناه : افعل في الزمان الثاني فإن عصيت ففي الثالث وإلاّ ففي الرابع وهكذا أبدا ، أو معناه : افعل في الزمان الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث وما بعده؟

فإن قلنا : بالأوّل اقتضى الأمر الفعل في جميع الأزمان ، وإن قلنا : بالثاني لم يقتضه ، فالمسألة لغويّة.

** وأورد عليه بعض الأفاضل : بمنع قلّة الجدوى بهذا الكلام ، فإنّ مقصود العلاّمة بذلك بيان كون النزاع في ذلك مبنيّا على تعيين معناه اللغوي من الوجهين المذكورين ، فيرجع في التعيين إلى العرف واللغة كما نصّ بقوله : « فالمسألة لغويّة » مريدا بذلك بيان أنّ المرجع فيه العرف واللغة دون غيرهما من الوجوه العقليّة ، وليس مقصوده بذلك بيان الحقّ في المقام ، ليرد عليه : أنّه لا يتمّ بمجرّد ما ذكره بل لابدّ من بيان المدرك.

وأنت خبير بأنّ ذلك مناقشة في غير محلّها ، فإنّ غرض المصنّف لا ينافي ما ذكره في توجيه كلام العلاّمة ، وإنّما يعترض عليه من جهة أنّ رجوع القولين إلى المعنيين أمر واضح يعرفه كلّ أحد ، فلا حاجة إلى بيانه والتنبيه عليه ، وإنّما المهمّ المحتاج إليه في المقام بيان ما يقتضي أحد هذين الوجهين ليتمّ به القول الراجع إليه خروجا عن القول بما لا شاهد عليه.

*** قيل : مراده أنّ ابتناء طرفي الخلاف على معنيين أحدهما ملزوم لأحد طرفي

٢٦٦

والتحقيق في ذلك : أنّ الأدلّة الّتي استدلّوا بها على أنّ الأمر للفور ليس مفادها ، على تقدير تسليمها ، متّحدا. بل منها ما يدلّ على أنّ الصيغة بنفسها تقتضيه ، وهو أكثرها. ومنها ما لا يدلّ على ذلك ، وإنّما يدلّ على وجوب المبادرة إلى امتثال الأمر ، وهو الآيات المأمور فيها بالمسارعة والاستباق.

فمن اعتمد في استدلاله على الاولى ، ليس له عن القول بسقوط الوجوب حيث يمضي أوّل أوقات الإمكان مفرّ ، لأنّ إرادة الوقت الأوّل على ذلك التقدير بعض مدلول صيغة الأمر * ، فكان بمنزلة أن يقول : « أوجبت عليك الأمر الفلانيّ في أوّل أوقات الإمكان » ويصير من قبيل الموقت. ولا ريب في فواته بفوات وقته.

__________________

الخلاف والآخر للآخر واضح لا فائدة في التعرّض له ، وإنّما الفائدة في بيان ما يثبت به الملزومان ، وإلاّ ففي كلّ خلاف يمكن تحصيل مفهومين يكونان ملزومين لطرفي الخلاف باللزوم البيّن ، وهو كما ترى مطابق لما ذكرناه في دفع الاعتراض المذكور ، إلاّ أنّه أورد عليه بعض الفضلاء : « بأنّ ما ذكره العلاّمة بيان لمدرك الوجهين فإنّ القائلين بالفور لمّا تمسّكوا في إثباته بالتبادر تفرّع عليه الترديد المذكور ، وكان المرجع في التعيين إلى أفهامهم ، إذ لا سبيل لمن أنكر تبادر الفور من الأمر إلى تعيين كونه على أحد الوجهين ولو بعد التنزّل والتسليم ».

ثمّ قال : « وكأنّ هذا هو الوجه في عدم ترجيح العلاّمة لأحد الوجهين ، لكن يشكل : بأنّهم تمسّكوا على هذا القول بالتبادر المستند إلى القرائن الحاليّة كما مرّ في الدليل الأوّل ، فيمكن تعيين أحد الوجهين بعد التنزّل والتسليم لكون التبادر ناشئا عن نفس اللفظ أو كون التبادر مع القرينة علامة للحقيقة ، إلاّ أن يعتذر : بأنّ القرائن الحاليّة لمّا لم تكن منضبطة لاختلافها باختلاف الموارد لم توجب الترجيح.

نعم يرد على العلاّمة : أنّ حجج القول بالفور لم تنحصر في التبادر ، فلا وجه لقصر البحث عليه » (١).

* وفيه : ما عرفت من أنّ مجرّد كون ذلك بعض مدلول الصيغة لا يقضي بصيرورة

__________________

(١) الفصول : ٧٨.

٢٦٧

ومن اعتمد على الأخيرة ، فله أن يقول بوجوب الإتيان بالفعل في الثاني ؛ لأنّ الأمر اقتضى بإطلاقه وجوب الإتيان بالمأمور به في أيّ وقت كان * ، وإيجاب المسارعة والاستباق لم يصيّره موقّتا ** وإنّما اقتضى وجوب المبادرة ، فحيث يعصي المكلّف بمخالفته ، يبقى مفاد الأمر الأوّل بحاله. هذا.

والّذي يظهر من مساق كلامهم : إرادة المعنى الأوّل ؛ فينبغي حينئذ القول بسقوط الوجوب.

__________________

الأمر كالموقّت ، وإنّما يتمّ ذلك لو دلّ الصيغة على كونه جزءا من المدلول بعنوان القيديّة ، وهو على القول بالفور ولو بدلالة الصيغة عليه قابل للإنكار ، فالاعتماد في الاستدلال على الصنف الأوّل من الأدلّة لا يستلزم القول بسقوط الوجوب حيث يمضي أوّل أوقات الإمكان.

وربّما يجاب عنه (١) أيضا بمنع صيرورته كالموقّت ، تعليلا بإمكان أن يقال : إنّه على تقدير دلالة الصيغة على الفور ليس نصّا في طلب خصوصيّة الزمان الأوّل ، بل ربّما كان المقصود تعجيل حصول المأمور به ، فإن فات في الزمان الأوّل بقي حكم التعجيل في الزمان الثاني وهكذا ، بخلاف الموقّت بالوقت المعيّن فإنّه نصّ في كون الزمان المعيّن مطلوبا فيفترقان.

والفرق بين هذا الوجه وما ذكرناه مع ما ذكره المصنّف هو الفرق بين الأقوال الثلاث في معنى الفور الّتي أشرنا إليها في أوائل المبحث.

* ولقائل أن يقول : بأنّ الأمر بعد ملاحظة ما يقضي من الخارج بإيجاب الفور والاستباق يسقط عن إطلاقه ، لصيرورته حينئذ كالمطلق المتعقّب بذكر ما يوجب تقييده بفهم العرف ، كما تقدّم ذكره.

والإطلاق الابتدائي بعد لحوق ما يصلح مقيّدا له غير كاف في المقام لصيرورته حينئذ مشكوكا فيه ، ومعه لا إطلاق يتمسّك به في المقام.

غاية ما يسلّم فيه قصور ذلك الخارج عن إفادة التقييد ، وأمّا مصادمته للإطلاق ممّا [ لا ] سبيل إلى إنكاره.

** واعترض عليه : بأنّ طلب الفوريّة والسرعة إن لم يكن يقتضي خصوصيّة الزمان

__________________

(١) المجيب المحقّق السلطان ( منه ).

٢٦٨

المعيّن فلا يتفاوت الحال في ذلك بين كون الدالّ عليهما نفس الصيغة أو دليل خارج وإن كان يقتضي تخصيص المأمور به بالزمان الأوّل خاصّة ، فلا ينفع كون الدالّ عليهما دليلا خارجا عن نفس الصيغة ، كما لو دلّ دليل خارج على كون الواجب موقّتا بوقت معيّن ، فإنّ الواجب يفوت بفواته أيضا عند من يقول بفوات الواجب الموقّت بفوات وقته من غير فرق بين كون الدليل الدالّ على التوقيت خارجا أو لا.

ثمّ إنّ هذا كلّه على القول بالفور ، وأمّا على القول المختار فقد تصير الأوامر فوريّة بمعونة القرائن الخارجة فيكون مؤدّاها واجبات مضيّقة ، كما هو الغالب في الأوامر العرفيّة الواردة غالبا في موضع الاحتياج القاضي بطلب الماهيّة فورا ، فهل الفور حينئذ تقييديّ فلا يبقى للأمر محلّ بعد انقضاء زمان الفور أو تعدّدي فلا يفوت المحلّ بفوات وقت الفور؟

غاية ما هنالك ترتّب إثم على تفويت الفور ، وأمّا الصحّة والإجزاء فباق على حاله ، وجهان أقربهما الثاني.

أمّا أوّلا : فلأنّه المعلوم من بناء العرف وطريقة العقلاء كما أشرنا إليه.

وأمّا ثانيا : فلأنّه من مقتضى إطلاق اللفظ.

وتوضيح ذلك : إنّ الأمر ـ بناء على المختار ـ إنّما يدلّ مع قطع النظر عمّا هو خارج عنه من القرائن العاديّة أو الحاليّة ونحوها على طلب الماهيّة على الإطلاق دلالة وضعيّة وهذا الإطلاق في الطلب يلزمه عرفا بل عقلا باللزوم البيّن أمران.

أحدهما : الرخصة في تأخير أداء المأمور إلى ما شاءه المأمور ممّا يكون الأمر قابلا له من الأزمنة ، من غير أن يترتّب عليه إثم ولا استحقاق عقاب.

وثانيهما : الإجزاء بأدائه في أيّ زمان اتّفق ، بمعنى كونه في كلّ زمان يؤتى به فيه مجزيا عنه وموجبا لفراغ ذمّته عن الأمر والتكليف ، فللأمر حينئذ مداليل ثلاث : أحدها مطابقي ، والآخران التزاميّان ، فإذا حصل من الخارج ما يقضي بإرادة الفور سقط منها الأوسط وبقي الآخران ، لأنّه القدر المتيقّن من انتقاض الإطلاق الثابت في المقام بحكم الوضع ، فهو بالقياس إلى المدلول الآخر التزاما وهو الصحّة والإجزاء باق على حاله كبقاء المدلول المطابقي.

ويؤيّده استصحاب الأمر ، ولا يعارضه أصل البراءة كما تقدّم ، وهذا معنى الفور التعدّدي.

فإن قلت : لعلّ هذا باطل نظرا إلى أنّ الالتزاميّين متلازمان فارتفاع أحدهما يستلزم

٢٦٩

ارتفاع الآخر ، ضرورة استحالة انفكاك المتلازمين كما في معلولي علّة واحدة ، من حيث استلزام رفع أحد المعلولين لرفع المعلول الآخر نظرا إلى كشفه عن ارتفاع علّته القاضية بارتفاع معلولها الآخر.

أمّا الأوّل : فلاستحالة ارتفاع المعلول مع وجود العلّة.

وأمّا الثاني : فلامتناع بقاء المعلول مع ارتفاع العلّة.

قلت : لعلّ ذلك اشتباه نشأ عن عدم الامتياز بين التلازم الذهني والتلازم الخارجي ، فإنّ امتناع انفكاك أحد المتلازمين عن الآخر إنّما هو في التلازم الخارجي كما فيما بين المعلولين لعلّة واحدة ، ومعنى ارتفاع أحد المدلولين الالتزاميّين ارتفاع إحدى الدلالتين الالتزاميّتين وهي أمر ذهني ، فالتلازم بينهما ذهني ولا امتناع في ارتفاع أحدهما دون الآخر ، مع أنّهما ليسا من قبيل المتلازمين بل من قبيل اللازم والملزوم ، فإنّ الرخصة في التأخير ملزوم للإجزاء والصحّة كما لا يخفى.

ومن الواضح البديهي عدم استلزام ارتفاع الملزوم ارتفاع لازمه إذا كان أعمّ منه.

نعم ، انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم دون العكس ، مضافا إلى أنّ المقام ليس من باب الرفع حقيقة بل من باب الدفع ، فإنّ القرينة إذا وجدت تمنع عن تأثير الدلالة ، بمعنى أنّها تكشف عن عدم تعلّق الإرادة بهذا اللازم كالقرينة الصارفة في المجازات ـ بناء على ما يساعده التحقيق من أنّها لا تصادم الدلالة وإنّما تصادم الإرادة ـ ولا ملازمة بين الدلالة والإرادة كما حقّقناه في محلّه فلا منافاة بين الدلالة وعدم الإرادة ، فلا يلزم من عدم إرادة أحد اللازمين أو إرادة خلافه عدم إرادة اللازم الآخر أو إرادة خلافه ، كما لا يلزم من عدم إرادة الملزوم عدم إرادة لازمه.

فإن قلت : هذا الوجه إنّما ينفع لو فرض الإشكال بين الدلالتين ، والمفروض أنّ الإشكال وارد على التفكيك بين المدلولين.

فإنّا نقول : بأنّ الرخصة في التأخير لمّا كانت ملزومة للإجزاء بعده أو هما متلازمان ، فلا يعقل التفكيك بينهما.

قلت : إنّ دعوى عدم معقوليّة الانفكاك بينهما على كلّ تقدير في حيّز المنع ، كما نراه في الحجّ حيث إنّه ليس مرخّصا في تأخيره عن عام الاستطاعة شرعا ، مع وقوعه صحيحا لو أخّره المكلّف عصيانا ، فإنّ ذلك يكشف عن كون الأوّل ملزوما للثاني ، بل هو ممّا يقضي

٢٧٠

به القوّة العاقلة أيضا.

والمفروض أنّ انفكاك اللازم عن ملزومه الخاصّ معقول بل واقع عرفا وشرعا.

فقضيّة ما قرّرناه أنّه كلّما ثبت الفور بدليل خارج في الأوامر العرفيّة لابدّ وأن يحمل على التعدّدي وكذلك لو ثبت في الأوامر الشرعيّة ، لانصباب خطابات الشرع مصبّ طريق العرف (١).

وإذا لم يوجد دليل خاصّ على الفور فهل يحمل عليه الأوامر المطلقة أو لا؟

قد يقال : بأنّ الأوامر [ العرفيّة ] تحمل عليه نظرا إلى غلبة الفور فيها بخلاف الأوامر الشرعيّة الّتي لا غلبة فيها بالنسبة إلى الفور ، لأنّ بعضها موسّعات والاخر مضيّقات والثالث مطلقات فلا ينزّل الثالث على أحد الأوّلين لعدم غلبة أحدهما على الآخر ، فتحمل على المعنى اللغوي وهو طلب الماهيّة ، إلاّ أنّه ملازم للتوسعة من باب الإطلاق فلا فرق بينهما وبين الموسّعات في ذلك ، إلاّ أنّه فيها ثابت بالدلالة الالتزاميّة وفي الموسّعات بدلالة خارجة زيادة على الدلالة الالتزاميّة ، وقضيّة التوسعة حينئذ جواز التأخير ما لم يصل حدّ التهاون ، وإلاّ لما كان جائزا بالاجماع وضرورة العقل ، هذا تمام الكلام في أحد الأمرين.

ـ وثانيهما (٢) ـ

تفصيل ما أشرنا إليه في طيّ ردّ الاستدلال على الفور بالبرهان العقلي المتقدّم.

فإذ قد عرفت أنّ الأمر المطلق يحمل على التوسعة من باب الالتزام أخذا بموجب إطلاقه ، فلابدّ من التنبيه على مقدار التوسعة ، وعلى أنّه بل الموقّت الموسّع اللذين مبناهما على التوسعة بالذات هل يتضيّقان بالعرض أو لا؟

فنقول : إنّ الموسّع في الشريعة قد ورد على قسمين :

الأوّل : ما يكون محدودا بما أوجب كونه موقّتا من الوقت المعيّن كالفرائض اليوميّة.

__________________

(١) لكن يرد على الوجه المذكور : أنّ المقتضي للدلالتين إنّما هو الإطلاق الّذي هو عبارة عن ترك بيان الوقت ، فإنّ العقل بملاحظته إنّما حكم بثبوت الرخصة في التأخير الملزومة للصحّة في الزمان المتأخّر لئلاّ يلزم الاغراء بالجهل المنافي لحكمة الحكيم ، فإذا جاء من الخارج بيان إرادة الفور ينتفي ذلك الإطلاق ومعه لا يبقى لبقاء الصحّة في الزمان المتأخّر مقتض وكون القدر المتيقّن ممّا خرج عن الإطلاق هو الإثم دون غيره غير كاف في ثبوت الإطلاق بالنسبة إلى الصحّة ، لأنّ عدم البيان حينئذ بالنسبة إليها غير معلوم ، على أنّها كانت فرعا على ثبوت الرخصة في التأخير بحكم العقل من جهة منافاة عدمها مع الرخصة في التأخير وعدم كونه معقولا معها ، فاذا انتفى الأصل لا يبقى إلى الحكم ببقاء الفرع داع ، فانحصر دليل المقام في بناء العرف مع الاستصحاب وهو غاية ما يمكن أن يقال به ( منه ).

(٢) إنّ هذا هو ثاني الأمرين ، تقدّم أولهما في ص ٣٢٧.

٢٧١

والثاني : ما لا يكون محدودا بذلك ، المعبّر عنه بـ « الغير الموقّت » سواء كانت التوسعة فيه ثابتة بدليل خاصّ كصلاة الزلزلة وغيرها من الآيات غير الكسوفين ، أو بإطلاق الأمر كالنذر المطلق وأداء الدين مع عدم المطالبة.

والأوّل لا إشكال في أنّه يتضيّق بتضيّق الوقت ، كما أنّ الدين من أمثلة الثاني من قسمي الثاني يتضيّق بمطالبة الدائن.

وأمّا الثاني بقسميه وكذا الأوّل قبل ضيق وقته فالاحتمالات العقليّة في كلّ واحد عند إرادة التأخير خمس ، لأنّ المكلّف إمّا أن يعلم ببقاء تمكّنه من أداء المأمور به وعدم مصادفة ما يوجب فواته عنه بعد التأخير ، أو يعلم بعدم بقاء التمكّن بمصادفة ما يوجب فواته عنه ، أو يظنّ ببقاء التمكّن ، أو يظنّ بعدم بقائه ، أو يشكّ في البقاء والعدم.

أمّا الأوّل : فلا ريب في بقاء التوسعة فيه وعدم انقلابها بالمضيّق وإلاّ للزم خلاف الفرض ، إذ المفروض ثبوت التوسعة في المأمور به بأحد الوجهين.

فإن قلنا بالضيق وعدم التوسعة في تلك الصورة ففي غيرها بطريق أولى وهذا خلف ، مضافا إلى بناء العقلاء المنتهي إلى حكم القوّة العاقلة والأولويّة القطعيّة بالقياس إلى صورة الشكّ.

ومثله الثالث لما قرّرناه من لزوم خلاف الفرض لولاه ، نظرا إلى انسداد باب العلم عادة ببقاء التمكّن عند التأخير ، فإنّ أحدا بحسب الطرق البشري لا يكاد يعلم بذلك ، بل غاية ما يحصل له في ذلك إنّما هو الظنّ بالبقاء ، فلولا الحكم بالتوسعة حينئذ ففي الصور الثلاث الباقية بطريق أولى ، فيلزم انقلاب الموسّع بالمضيّق في جميع صوره وهو خلاف الفرض ، مضافا إلى إطلاق الأمر أو اللفظ الدالّ على التوسعة من الخارج المعتضد بأصالة البراءة من العقاب بالتأخير ، والأولويّة القطعيّة أيضا بالنسبة إلى صورة الشكّ.

وأمّا الثاني : فلا إشكال في صيرورته فيه مضيّقا وإلاّ لخرج الواجب عن كونه واجبا ، لأنّ المكلّف إذا علم في أوّل الوقت أو غيره بأنّه إذا تأخّر الإتيان بالمأمور به لما أمكن له الامتثال بعده ومع ذلك كان مرخّصا في التأخير من قبل الشارع ، فكان الأمر بمنزلة أن يقول له : « أوجبت عليك الفعل ورخّصتك في التأخير الموجب لتركه من غير استحقاقك للعقاب بذلك » وهذا معنى خروج الواجب عن وجوبه وأنّه بديهي البطلان ، على أنّ الواجب ما استحقّ تاركه العقاب إذا تركه لا إلى بدل ولا عن عذر أو إذا تركه عصيانا ، وهذا منه مع عدم قيام بدل مقامه ولا طروّ عذر في المقام ، ومثله الرابع لوجوه :

٢٧٢

الأوّل : ظهور الإجماع كما ادّعى في المقام ، قال بعض الأفاضل : « وقد نصّ عليه جماعة من الخاصّة والعامّة من دون ظهور خلاف فيه » بل نصّ بالاتّفاق عليه جماعة منهم الفاضل الجواد ، والفاضل الصالح ، والآمدي والحاجبي.

والثاني : بناء العقلاء قاطبة على التضييق حينئذ الموجب لعدّ من أخّره اختيارا عاصيا ومتهاونا.

ألا ترى أنّ المولى إذا قال لعبده : « أكرم زيدا ويجوز لك التأخير إلى الغد » مثلا ، فاتّفق أنّ زيدا أخذ أن يسافر إلى البعيد بحيث أنّ العبد يظنّ أنّه لا يعود في الوقت المضروب على حسب الظاهر مع احتمال مرجوح عنده في عوده ، فإنّه لا يكاد يلتزم بالإكرام ولا يجوّز لنفسه التأخير حينئذ تعويلا على مجرّد احتمال المراجعة في الوقت وإن كان ذلك في أوّل زمان البدار ، بل ولو أخّره معلّلا بذلك الاحتمال لذمّه العقلاء وعدّ عاصيا ، ومثله ما لو أمره المولى بشراء اللحم كذلك واتّفق أنّه ظنّ فوات الشراء مع التأخير فتعمّد في التأخير حتّى لم يتمكّن من الإتيان به فإنّه عدّ عاصيا في نظر العقلاء ، مفوّتا لمطلوب مولاه.

والثالث : وجوب دفع الضرر المظنون عقلا وعرفا وشرعا ، ولا سيّما الضرر الاخروي ولا يتحصّل إلاّ بالمبادرة كما لا يخفى.

والرابع : أنّه لو أخّره مع ظنّه بعدم بقاء تمكّنه عن أدائه بعده فقد أقدم على تركه من حين التأخير فيستحقّ العقاب من حينه ، ولا نعني من الواجب المضيّق إلاّ ما أوجب تأخيره استحقاق العقاب.

وقد يتمسّك في المقام بوجه آخر ، وهو لزوم نقض غرض الشارع الحكيم لولا الضيق ، واللازم باطل وكذا الملزوم.

أمّا الملازمة : فلأنّه لولا هذا القسم موجبا للمبادرة لم يكن غيره أيضا موجبا لها ، أمّا في صورة العلم بالفوات فلعدم وقوعه في الخارج ، أو ندوره من جهة انسداد باب العلم رأسا أو غالبا.

وأمّا في الصور الثلاث الباقية فبطريق أولى ، وذلك مستلزم لعدم حصول المأمور به في الخارج غالبا.

وأمّا بطلان اللازم : فلأنّ غرض الشارع من تشريع الواجبات إنّما هو حصولها في الخارج ، وتجويز عدم حصولها في الغالب مناف لذلك الغرض وهو قبيح على الحكيم ،

٢٧٣

ولكن تماميّته محلّ تأمّل عندنا ، لتوجّه المنع إلى بعض مقدّماته وهو منع لزوم عدم حصول المأمور به في الخارج غالبا لو لا عدم جواز التأخير مع الظنّ بالفوات بعده ، فإنّ غالب صور المسألة بحكم العادة إنّما هو الظنّ بعدم الفوات وهو ملزوم لغلبة حصوله في الخارج.

وأمّا الخامس : فهو أيضا كالأوّل ما لم يؤدّ إلى التهاون في الواجبات ، للإطلاق القاضي بالتوسعة المتناول لصورة الشكّ أيضا مع فقد ما يقضي بخروجها عن تحته ، مضافا إلى أصالة البراءة عن الإثم بالتأخير ، من غير فرق في ذلك بين الموسّع الموقّت والموسّع الثابت بحكم العقل في الواجب المطلق.

فلا وجه لما حكى من القول بالتفصيل بينهما حاكما بجواز التأخير في الأوّل نظرا إلى إطلاق الإذن في التأخير بخلاف الثاني ، فإنّ حكم العقل بجواز التأخير إنّما هو من جهة وثوقه بحصول الفعل ولا وثوق مع الشكّ.

وفيه : ما لا يخفى ، من أنّ حكم العقل إنّما هو من جهة إطلاق الأمر وعدم تعرّض الآمر لتقييده بما يوجب خروج زمان الشكّ عن زمان الفعل أو الرخصة.

ومن البيّن أنّ الإطلاق ثابت على كلّ تقدير ، فلا يتفاوت الحال فيه بالنسبة إلى صورة الشكّ وغيره.

غاية الأمر أنّه قد قيّده الدليل الخارج بالنسبة إلى صورتي العلم أو الظنّ بالفوات في الزمان المتأخّر فبقي الباقي تحته حيث لا دليل يوجب تقييده أيضا.

ومن هنا يتبيّن ضعف ما أفاده بعض الأفاضل من أنّ في جواز التأخير وعدمه حينئذ وجهين ، من استصحاب القدرة وبقاء الوقت وثبوت جواز التأخير بحكم الشرع فلا يدفع بمجرّد الاحتمال ، ومن وجوب الفعل وعدم جواز الإقدام على تركه ومع الشكّ المفروض يكون تأخيره في الفعل إقداما على ترك الامتثال لعدم الاطمئنان حينئذ بأداء الواجب.

فإن قلت : قضيّة وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل هو الضيق أيضا ، إذ لا ريب أنّ تأخير المأمور به حينئذ ممّا يحتمل فيه الضرر فيجب دفعه.

لا يقال : إنّا نمنع الكبرى إن كان المراد بالاحتمال هو المساوي أو المرجوح ، إذ لا دليل على وجوب الاحتراز عن مثل ذلك الضرر ، أو كلّيتها (١) إن كان المراد أعمّ منهما ومن الراجح ، فإنّ القدر المسلّم إنّما هو في الاحتمال الراجح كما تقدّم.

__________________

(١) أي نمنع كلّيّة الكبرى إن كان المراد الخ.

٢٧٤

لأنّا نقول : بناء العقلاء قائم على وجوب الاحتراز عن احتمال الضرر حتّى الوهم ، كما لو قال صبيّ أو فاسق كاذب : « أنّ تلك القصعة من الماء مثلا مسموم » من غير أن يحصل من قولهما ظنّ بصدقهما ، بل وإن فرض حصول ظنّ بالكذب ومع ذلك كان معه ماء آخر خال عن الاحتمال المذكور فبناؤهم قاطبة حينئذ على وجوب الاحتراز عنها باختيار الآخر ، ونحوه الطريقان وغيره من الأمثلة.

لا يقال : بناء العقلاء ثابت في جانب العكس ، ويكشف عن ذلك سكناهم في البيوت المحتملة للخراب وعبورهم تحت الجدران المحتملة للوقوع ، ومسافرتهم في البحار لغرض التجارة مع احتمال الغرق إلى غير ذلك ممّا لا يخفى من امورهم المعاشيّة.

لأنّا نقول : عدم اعتنائهم بالاحتمال في الموارد المذكورة وغيرها ممّا يشابهها إنّما هو من جهة وجود معارض أقوى أو مساو ، فإنّ الفرار عن السكنى في البيوت مستلزم للوقوع في محذور أشدّ منه أو يساويه وكذا في غيره من الأمثلة ، ومحلّ الكلام الّذي هو مجرى تلك القاعدة ما إذا خلا عن المعارض كما فيما نحن فيه.

لا يقال : هذا البناء من العقلاء إنّما يسلّم في امورهم المعاشيّة غير أنّه غير مجد ، إذ الكلام إنّما هو في ما كان من قبيل الامور المعاديّة وليس لهم بناء ثابت في ذلك.

لأنّا نقول : إذا تمّ ذلك في الامور المعاشيّة ففي المعاديّة بطريق أولى ، لأنّ بناءهم على شدّة الاهتمام في الامور الخطيرة ، ولا ريب أنّ الأمر الاخروي أشدّ خطرا بالقياس إلى الدنيوي بمراتب شتّى ، فيكون الاحتراز بالنسبة إليه آكد وأهمّ.

قلت : لا دليل على وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل إلاّ بناء العقلاء وثبوته في محل البحث مطلقا في حيّز المنع.

وبيان ذلك : أنّ احتمال الضرر قد يستند إلى شيء ويكون مسبّبا عن سبب ضعيف كقول صبيّ مميّز أو فاسق كاذب ونحوهما ، وقد لا يكون مستندا إلى شيء ولا مسبّبا عن أمر بل هو مجرّد خيال قد حدث في النفس ، والقدر الثابت من بناء العقلاء على الاحتراز إنّما هو في القسم الأوّل دون الثاني ، بل الثابت من بنائهم فيه إنّما هو على العكس.

ألا ترى أنّه لو كان احتمال السمّ في مثال القصعة مستندا إلى مجرّد الخيال والوهم لا يلتزم العقلاء بالاحتراز عنه ، بل ولو التزم أحد عدّ عندهم من السفهاء كما لا يخفى.

واحتمال الضرر في محلّ البحث إنّما هو من هذا القبيل ، ولا سيّما في مقابلة الإطلاق

٢٧٥

الكاشف عن الإذن القاضية بارتفاع الضرر ، ومعه لا يبقى لاحتماله محلّ حتّى يصرف النظر في أنّه هل يجب دفعه أو لا؟ ولو احتمل فلا دليل على وجوب دفعه لعدم ثبوت بناء العقلاء بل ثبوته على الخلاف ، بل ولو ثبت بناؤهم على الفرار حينئذ لما كان معتبرا في تلك الصورة ، لأنّه ـ على ما يساعده التحقيق ـ إنّما يصلح حجّة إلهيّة إذا انتهى إلى حكم القوّة العاقلة ، ولا ريب أنّ القوّة العاقلة في مثل المقام غير حاكمة بالوجوب.

ثمّ بقى في المقام فوائد قد تقدّم إلى بعضها الإشارة ، ولا بأس بالتنبيه عليها لكثرة ما يترتّب عليها من الفروع.

« الفائدة الاولى »

لو تضيّق الأمر بأحد الوجهين من العلم أو الظنّ بالفوات ، ثمّ انكشف فساد هذا العلم أو الظنّ بظهور بقاء الوقت أو بقاء التمكّن مع عدم أداء المأمور به في زمن العلم أو الظنّ بعدم البقاء ، فهل يصير قضاء أو لا؟ فيه خلاف.

والقول الأوّل محكيّ عن القاضي أبي بكر ، وعدّ الثاني من المعروف ، بل قيل بأنّ الظاهر إطباق علمائنا عليه ، وهذا هو الحقّ لأنّ الأدلّة الّتي تعبّدتنا بالعمل بالعلم أو الظنّ لم توجب كون المأمور به مقيّدا بوقتيهما أو انتهاء الأمر إلى زمانهما ، وإنّما أوجبت كون الرخصة في التأخير مقيّدة بذلك الزمان فيبقى الإطلاق بالنسبة إلى الصحة فيما بعده بحاله ، ولكن فيه ما تقدّم.

والأولى استناد الحكم في ذلك إلى استصحاب الأمر ، وبناء العرف الثابت في المقام كما علم ممّا تقدّم ، مضافا إلى أنّ العلم والظنّ في أمثال المقام ليسا بعين الواقع وإنّما طريقان إليه ، فإذا ظهر فسادهما بقي الواقع على حاله.

وتوضيحه : أنّ العلم أو الظنّ بعدم بقاء التمكّن في معنى العلم أو الظنّ بعدم التوسعة حينهما ، فإذا انكشف بقاء التمكّن بعدهما انكشف بقاء التوسعة على حالها ، لأنّهما طريقان إلى الحكم بالضيق بحسب ظاهر الشرع لا أنّهما موجبان للضيق في الواقع ، فانكشاف خلافهما انكشاف لعدم التضيّق في الواقع ونفس الأمر.

مع أنّ الواجب في الموسّع الموقّت قد جعله الشارع محدودا بوقت معيّن في الواقع الّذي لا يتبدّل بالعلم والجهل وتبدّل الاعتقادات ـ كما هو الحال في سائر الواقعيّات ـ ولا سيّما الأحكام الوضعيّة الّتي منها المقام وهو مجموع أجزاء الوقت المضروب ، وإنّما أوجب

٢٧٦

الاعتقاد بعدم القدرة عليه في بعض تلك الأجزاء عدم الرخصة في التأخير من باب حرمة الإقدام على المعصية والخروج عن الطاعة ، فإذا انكشف بقاء القدرة بظهور فساد الاعتقاد بقي الوقت الواقعي على حكمه المجعول له ، وهو وجوب الإتيان بالفعل فيه.

لا يقال : إذا اتّصف المكلّف في بعض أجزاء الوقت المضروب بعدم القدرة على الفعل ارتفع عنه التكليف ، ضرورة اشتراطه على القدرة ومعه لا معنى لبقاء الوجوب والأمر ، وإلاّ لزم التكليف بغير المقدور وأنّه ضروريّ الفساد.

لأنّ اعتقاد عدم القدرة لا يوجب سلب القدرة في الواقع ، ومناط التكليف إنّما هو القدرة الواقعيّة وهي حاصلة في المقام بعد كشف الفساد.

غاية الأمر أنّ الاعتقاد بعدم القدرة أوجب حكما بعدم جواز التأخير من حينه في مرحلة الظاهر ، فإذا انكشف فساده ظهر عدم مصادفة الظاهر للواقع وهو لا يوجب ارتفاع الواقع ، ضرورة عدم تبدّل الأحكام الواقعيّة بتبدّل الأحكام الظاهريّة ، وعدم إناطة التكليف الواقعي بالعلم والجهل على مذهب العدليّة ، كما هو الشأن في سائر الأحكام الظاهريّة إذا ظهر خلافها في الواقع.

ألا ترى إنّ المكلّف إذا اعتقد بنجاسة ثوبه ، أو عدم كونه متطهّرا ، أو كونه محدثا بالأكبر ، أو مغصوبيّة داره ، أو خمريّة مائع عنده ، أو أجنبيّة زوجه لم يجز له الدخول في الصلاة ، ولا الجواز في المسجدين ، أو اللبث في المساجد ، ولا التصرّف ولا الشرب والاستعمال ولا الوطء والاستمتاع ما دام معتقدا ، فإذا تبيّن فساد ذلك الاعتقاد بقي الجواز في الجميع إجماعا.

وبما قرّرنا تبيّن ضعف حجّة على كونه قضاء بتعيين ذلك الوقت للفعل عند حصول الظنّ المفروض ، وعدم جواز التأخير عنه فلا توسعة في الوجوب بالنسبة إلى ما بعد ذلك فإذا أخّر عنه كان قضاء ، إذ ليس مفاده إلاّ إيقاع الفعل خارجا عن الوقت المعيّن له شرعا.

ووهنه في غاية الوضوح ، فإنّ مجرّد تضيّق الوجوب بالعارض لمجرّد الظنّ الفاسد لا يوجب خروج الوقت المضروب شرعا عن كونه وقتا ، ولا سيّما بعد ظهور خطئه في ظنّه ، مع إطلاق ما دلّ على كونه وقتا والأصل عدم التقييد ، وكون ذلك الظنّ موجبا له أوّل المسألة ، بل مع مطابقته للواقع لا يفسد التوقيت.

غاية الأمر أنّه لا يقدر على الامتثال وهو أمر آخر لا يوجب خروج الوقت الموظّف

٢٧٧

عن كونه وقتا.

ثمّ إنّ المنقول في ثمرة هذا الخلاف وجهان أو وجوه :

أحدها : نيّة الأداء والقضاء على القول بوجوب التعيين.

وثانيها : جواز نيّة الأداء وجواز نيّة القضاء على المشهور ، إذ لا يحرز قصد الخلاف.

وثالثها : توقّفه على أمر جديد بناء على كونه قضاء ، وقد يناقش فيه بظهور عدم قائل بتوقّفه على ذلك وسقوط الأمر الأوّل ، بدعوى : أنّ القاضي لعلّ يقول بكون القضاء بالأمر الأوّل مطلقا ، أو يفصّل بين هذا النحو من القضاء وغيره ويكتفي في ذلك الأمر الأوّل ، وقد يناقش في الوجه الأوّل أيضا بضعف القول بوجوب التعيين في النيّة.

« الفائدة الثانية »

قضيّة ما تقرّر في المباحث السابقة ترتّب العصيان واستحقاق العقوبة على التأخير عند الظنّ بعدم التمكّن مع اتّفاق مصادفته للواقع ، فإنّه ممّا لا إشكال فيه كما نصّ عليه بعض الأفاضل ، لأنّه حينئذ كمتعمّد الترك بل هو تارك للمأمور به حقيقة على جهة غير مأذون فيها وهو ممّا لا يقبل الخلاف جدّا.

وأمّا لو أخّره مع ذلك الظنّ فظهر خطأ ظنّه فأتى به بعد ذلك كان آتيا بالمأمور به على وجهه وليس عليه إثم من تلك الجهة جزما ، وأمّا كونه عاصيا حينئذ من جهة التأخير فقط ، ففيه خلاف على أقوال :

أوّلها : العصيان ، نصّ عليه بعض الأفاضل قائلا : بأنّه ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ، لما تقرّر من وجوب إقدامه على الفعل حينئذ فيكون مخالفته عصيانا ، إذ بعد تسليم تحقّق التضيّق وتعيّن الإتيان بالفعل حينئذ كيف يعقل انتفاء العصيان مع المخالفة.

وعن جماعة التنصيص بذلك ، بل عن القاضي في المسألة المتقدّمة دعوى الإجماع عليه.

وثانيها : ما عن بعض أفاضل المتأخّرين من اختيار عدم العصيان ، وعن العلاّمة أنّه قد يستفاد منه في النهاية ذلك أيضا في دفع حجّة القاضي في المسألة المتقدّمة ، بعد ما نقل عنه حكاية الإجماع على العصيان حيث منع من تحقّقه.

وربّما يوجّه ذلك بإرادة عدم حصول العصيان بالنسبة إلى أصل الفعل أو عدم ترتّب العقوبة على تلك المعصية ، أو كونه إيرادا في مقام الردّ لا اعتقادا وإلاّ فالمنصوص به في كلامه في موضع آخر تحقّق العصيان.

٢٧٨

وثالثها : ما عن شيخنا البهائي من التوقّف في ذلك.

والحقّ عندنا هو الأوّل لضرورة قبح التجرّي وإبراز النفس على شرف المعصية عقلا ، وكونه موجبا لاستحقاق الذمّ والعقوبة بحكم الوجدان السليم والعقل المستقيم ، ومحلّ الكلام من موارده.

لا يقال : إنّ التجرّي ليس من العنوانات المحرّمة في الشريعة فكيف يلتزم بإيجابه العصيان والعقوبة ، لأنّه لو اريد بذلك أنّه ليس ممّا نصّ الشارع بمنعه بالخصوص فمسلّم ولكنّه لا يقضي بانتفاء التحريم عنه ، لعدم انحصار طريق ثبوت التحريم في النصّ عليه بخصوصه ، وإن اريد أنّه ليس ممّا يتّصف بحكم التحريم أصلا فممنوع ، كيف وهو ممّا استقلّ العقل بقبحه وعدم إبائه عن عقوبة القادم عليه وهو من أدلّة الشرع ، وهو مع ذلك ممّا استقرّ عليه بناء العقلاء كما لا يخفى على من لاحظ مظانّ بنائهم.

حجّة القول الآخر ـ على ما حكي عن قائله المذكور ـ : أنّ وجوب العمل بالظنّ ليس وجوبا أصليّا كوجوب الصلاة بل هو وجوب توصّلي من باب المقدّمة كالصلاة إلى الجوانب الأربعة ، وترك وطء الزوجة عند اشتباهها بالأجنبيّة ، ولا عقاب على ترك المقدّمات وإنّما يترتّب العقاب على ترك نفس الواجب.

وفيه : منع كون العمل بالظنّ في المقام من باب المقدّمة ، فإنّه مفهوم اعتباري ومفاده وجوب الإتيان بالواجب عينا في الوقت المظنون كونه آخر أزمنة الإمكان.

ومن البيّن أنّه إتيان بنفس ذي المقدّمة لا بمقدّمته ، والعصيان لا يترتّب على ترك الإتيان به لانكشاف بقاء وقته مع حصول الإتيان به فيما بعد ذلك ، وإنّما يترتّب على تأخيره عن زمان الظنّ من جهة كونه تجرّيا على المعصية ، وإقداما على إيقاع النفس في التهلكة ، وهو عنوان آخر محرّم في نفسه بحكم العقل الكاشف عن الشرع ، ومقايسته على مقدّمات الواجب الّتي ليس لها إلاّ وجوب توصّلي واضح الفساد.

كما أنّ دعوى عدم العصيان في مسألة الصلاة إلى الجوانب الأربع وترك وطء الزوجة المشتبهة واضح المنع ، فإنّ المقدّمات العلميّة ليس وجوبها من باب المقدّميّة حتّى لا يترتّب عليه العصيان الموجب لاستحقاق العقاب ، بل إنّما هو من جهة قيام الحجّة عليه بخصوصه ، وهي الّتي قضت بحجّيّة العلم الإجمالي فيكون الوجوب شرعيّا.

ومن الواضح البديهي حرمة مخالفة الحجّة والقيام بما يخالف الواجب الشرعي ، مع

٢٧٩

توجّه المنع إلى منع ترتّب العصيان والعقاب على ترك سائر المقدّمات مطلقا ولو من باب التجرّي ، فإنّ غاية ما يسلّم من ذلك ـ على فرض عدم كون وجوبها شرعيّا ـ إنّما هو عدم حصول العصيان واستحقاق من باب المقدّميّة ، وذلك لا يقضي بعدمهما من جهة عنوان آخر.

وقد يجاب عنه أيضا : بأنّه لو أراد بذلك المنع من وجوب التعجيل لمنعه وجوب المقدّمة فلا عصيان من جهتها وهو فاسد ، إذ المفروض أنّه يسلّم الوجوب في المقام وتضيّق الواجب عنده من جهة الظنّ المفروض ، وإن أراد به عدم تحقّق العقوبة على ترك المقدّمة نفسها.

ففيه : أنّ حصول العصيان غير متقوّم بترتّب العقوبة ، ولو سلّم تلازمه للاستحقاق فليس استحقاق العقوبة المترتّبة على ترك المقدّمة إلاّ من جهة ترك نفس الواجب ، نظرا إلى إفضاء تركها إلى تركه وهو كاف في حصول العصيان في المقام.

فإن قلت : المفروض في المقام عدم إفضاء تركها إلى ترك الواجب نظرا إلى انكشاف الخلاف ، فلا يترتّب عليه العقوبة من جهة الإفضاء.

قلت : من البيّن أنّ وجوب التعجيل في الفعل حينئذ ليس من جهة توقّف الفعل عليه واقعا وإلاّ لما أمكن حصوله من دونه ، ضرورة عدم إمكان حصول الواجب من دون مقدّمته وإلاّ لم يكن مقدّمة له ، بل إنّما يجب ذلك من جهة كونه مقدّمة للعلم بالخروج عن عهدة التكليف حينئذ ، حيث إنّ الواجب عليه العلم بعدم الإقدام على ترك الواجب المتوقّف على الإقدام على الفعل ، فالعصيان من الجهة المذكورة حاصلة في المقام سواء انكشف الخلاف أو لا ، وترك الإتيان بالفعل مؤّد إلى ترك هذا الواجب يقينا.

فقضيّة ما ذكر عدم تحقّق العصيان بالنسبة إلى التكليف بنفس الفعل ، وأمّا بالنسبة إلى تكليفه بتحصيل اليقين بتفريغ الذمّة بعد تيقّن الاشتغال ـ كما في مسألة اشتباه القبلة ، ووجوب تحصيل الاطمئنان بعدم الإقدام على ترك الواجب وفعل الحرام ـ فلا ، إذ من البيّن عدم حصول الواجب المذكور ، فاستحقاق العقوبة إنّما هو من تلك الجهة لا من جهة ترك المقدّمة نفسها ... إلى آخره.

وأنت خبير بما فيه من التعسّف وظهور الوهن ، فإنّ وجوب تحصيل العلم بالفراغ عند العلم بالاشتغال ليس وجوبا شرعيّا يعدّ مخالفته عصيانا موجبا لاستحقاق العقوبة ، وإنّما هو وجوب عقليّ قضى به العقل من باب الإرشاد خوفا عن الوقوع في مخالفة الواجب أو ارتكاب المحرّم ، ومخالفة مثل هذا الواجب من حيث هو بعد مصادفة ما هو واجب في

٢٨٠