تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

مصلحة الوجوب مشتملة على تلك المصلحة بعينها ، فيجب تعلّق الوجوب بها ، وهذا الاشتمال مفهوم من تعلّق الخطاب بالواجب المطلق فيكون وجوبها مفهوما منه بالتبع.

وفيه : إن أراد باشتمال المقدّمة على مصلحة الوجوب الكامنة في الواجب اشتمالها بالعرض ، بمعنى انتساب تلك المصلحة إلى الواجب بالذات وإلى مقدّمته بالعرض ، فهو غير مجد لأنّ غاية ما يلزم من ذلك ثبوت الوجوب للمقدّمة بالعرض ، وهو ليس من المتنازع فيه في شيء ، وإن أراد اشتمالها بالذات فهو كذب وافتراء فيلزم منه كذب المطلوب.

وثامن عشرها : ما حكاه عنه أيضا من أنّ ترك المقدّمة يشتمل على وجه قبيح لاقتضائه ترك الواجب وهو قبيح ، ومقتضي القبيح قبيح ، فتركها قبيح فيحرم ، فيجب الفعل ، وهو مفهوم من الأمر بالفعل ، فالأمر يدلّ على وجوبها.

وجوابه : يظهر بالتأمّل في جواب ما تقدّم من الوجه التاسع.

وتاسع عشرها : ما حكاه عنه أيضا من أنّ نكاح المشتبهة بالحرام ، ولبس أحد الثوبين المشتبهين في الصلاة مع وجود متيقّن الطهارة ، واستعمال أحد الإنائين ونحو ذلك حرام ، وليس ذلك إلاّ لوجوب اجتناب المحرّم والنجس وتوقّف اجتنابهما على اجتناب الآخر ، وإذا حرم الشيء من جهة أنّ تركه وسيلة للواجب كان تركه موصوفا بالوجوب من تلك الجهة.

وفيه : أيضا ما أشرنا إليه سابقا من منع كون ذلك مقدّمة للترك الواجب بالمعنى المصطلح ، وإنّما هو مقدّمة للعلم بحصوله.

نعم لو فرض العلم بحصوله واجبا اندرج ما ذكر من الأمثلة في موضوع البحث وليس ببعيد كما هو من مقتضى حجّية العلم الإجمالي ، لأنّ معنى كونه حجّة وجوب تحصيل الموافقة القطعيّة بمعنى القطع بالموافقة لا تحريم المخالفة القطعيّة فقط كما قد يتوهّم.

ولكن يبقى الكلام حينئذ في نهوض ذلك دليلا على الحكم الكلّي الّذي هو المتنازع فيه ، لأنّ ثبوت وجوب المقدّمة في الجملة بخطاب مستقلّ أصلي ليس ممّا ينكره أحد ، غير أنّه لا يجدي في ثبوت الوجوب بالنسبة إلى ما لم يرد فيه خطاب مستقلّ بالخصوص ، إلاّ على تقدير رجوعه إلى ما قرّرناه من الاستقراء في الشرعيّات أو كونه ممّا يحصل منه مناط مطّرد في جميع الموارد ، فيكون مرجعه حينئذ إلى الاحتجاج بتنقيح المناط.

ثمّ إنّه بقي من أقوال المسألة رابعها الّذي صار إليه ابن الحاجب ، وهو الفرق في المقدّمات بين الشرط الشرعي فيجب وغيره فلا يجب ، فينبغي قبل الشروع في ذكر

٥٦١

احتجاج هذا القول الإشارة إلى دقيقة تفطّن بها بعض مشايخنا ـ دام ظلّه ـ وهي أنّ هذا القول من أيّ قائل كان يستلزم القول بوجوب الأسباب أيضا ، وذلك بثلاث مقدّمات :

الاولى : وضوح أنّ الوجوب المتنازع فيه الّذي هو من جملة الأحكام الشرعيّة لا بدّ وأن يكون من عوارض أفعال المكلّف لا من عوارض أحواله.

والثانية : وضوح أن شرح الشيء لا بدّ وأن يكون معه على سبيل الاستمرار بمعنى كونه مقارنا له بجميع أجزائه وموجودا (١) معه من بدايته إلى نهايته.

والثالثة : أنّ بعضا من الشروط ما يكون من مقولة الأفعال كالاستقبال ونحوه ، وبعضا منها ما يكون من مقولة الأحوال كالطهارة الّتي هي أثر حاصل من الوضوء أو الغسل بالضمّ والفتح.

والرابعة : أنّ الوضوء والغسل بالضمّ والفتح ليست شروطا للصلاة من جهة عدم استمرارها ولا مقارنتها لها ، بل هي أسباب لما هو شرط وهو الطهارة التّي هي حالة في المكلّف أو بدنه أو لباسه ، فالقائل بوجوب المقدّمة إذا كانت شرطا لا يستقيم منه ذلك القول إلاّ مع القول بوجوب الأسباب أيضا ، أو تخصيص قوله بما يكون من مقولة الأفعال ، وإلاّ لزم أن يقول بوجوب الشرط حتّى ما كان من مقولة الأحوال.

وقد عرفت أنّ الحكم الفرعي لا يتعلّق بالأحوال ، ولمّا كان التخصيص المذكور غير معهود من هذا القائل حيث لم يصرّح به في كلامه ولا في كلام غيره ، فلا جرم يتعيّن التزام التعميم بالنسبة إلى الأسباب أيضا من غير فرق بين الشرعيّة منها كالوضوء والغسل بالضمّ لطهارة المكلّف عن الحدث أو بالفتح لطهارة بدنه أو ثوبه عن الخبث ، وبين العقليّة منها كإحراق موضع النجاسة من الثوب أو قطعه بالمقراض ونحوه تحصيلا للطهارة ، فيندفع بذلك المحذور المشار إليه ، إذ معنى وجوب الشرط الّذي هو من مقولة الأحوال حينئذ وجوب أسبابه الّتي هي من مقولة الأفعال ، كما ظهر منه أنّ النسبة بين هذا القول على التقدير المذكور وما تقدّم من القول بالفرق بين الأسباب وغيرها عموم مطلق ، لأنّ هذا القائل يقول بوجوب الأسباب مع شيء زائد وهو الشرط الشرعي ، فيكون ذلك القول أخصّ ممّا تقدّم.

__________________

(١) والوجه في ذلك : أنّ ذلك مفهوم من الشرطيّة الثابتة له لا أنّه أمر زائد ثابت بدليل خارج ، فإنّ شرط الشيء ما يكون قيدا له ، ومن البيّن أنّه ليس عبارة عن بعض أجزائه ليعتبر المقارنة لذلك البعض ، بل هو عبارة عن المجموع فلابدّ وأن يكون القيد ثابتا للمجموع وهو معنى المقارنة وليس كذلك الجزء على ما هو من مقتضي الجزئيّة لأنّ الجزء عبارة عن بعض الشيء فلا يجري فيه اعتبار المقارنة كما لا يخفى. ( منه عفي عنه ).

٥٦٢

ويشكل ذلك (١) : من جهة أنّه كما أنّ تخصيص الوجوب بما يكون من الشرائط من مقولة الأفعال غير معهود من هذا القائل فكذلك تعميمه بالنسبة إلى الأسباب على الإطلاق غير معهود منه ، وكون الأحكام الفرعيّة لا يتعلّق بما يكون من مقولة الأحوال مسلّم.

ولكنّ الأفعال عندهم أعمّ من المباشريّة والتوليديّة ، والأثر الحاصل من التوليديّات كما أنّ أسبابه من المباشريّات ، وكما أنّ ما يباشره المكلّف ينتسب إليه في العرف انتسابا حقيقيّا فكذلك ما يتولّد ممّا يباشره ، فلذا ترى أنّ القتل والإحراق ينسب إليه دون السيف والنار ، فمن هذه الجهة يصحّ أن يتعلّق به الحكم الفرعي تعلّقه بما يباشره.

وإن شئت فلاحظ العرف في الأمر الوارد بالقتل والإحراق ، بل الشرع في الأمر الوارد بالعتق والطهارة ، مع أنّ المراد بوجوب الطهارة على المكلّف وجوب تحصيلها ، وهو مفهوم مغاير لإيجاد سببها ولا يكون وجوبه عين وجوبه ، ولا ينافي ذلك اعتبار الاستمرار فيه ، لأنّ المراد به ما يعمّ الإيجاد ابتداءا وابقاء الموجود كما في الاستقبال ونحوه ، فلا وجه لالتزام صرف الوجوب إلى الأسباب.

ولو سلّم فهو ليس من القول بوجوب الشرط الشرعي مع السبب ، لأنّ الوضوء وغيره ممّا ذكر أسباب للشرط لا للمشروط ، لعدم اندراجها بالنسبة إليه في حدّ السبب كما لا يخفى ، بل هي بالقياس إليه أنسب بضابطة الشرط كما يرشد إليه حدّه المتقدّم.

ويشهد به الأمثلة الواردة في كلامهم للشرط الشرعي ، حيث يمثّل تارة بالطهارة واخرى بالوضوء ، ولا ينافي ذلك ما اعتبر في الشرط من الاستمرار والمقارنة للمشروط بجميع أجزائه ، حتّى يكون ذلك منشأ للإشكال بعد ما حصل الوصف في الأثر المترتّب عليها ، فالوضوء الّذي يترتّب عليه أثر الطهارة شرط شرعي للصلاة ، فباعتبار نفسه يتعلّق به الحكم الفرعي وباعتبار أثره يحصل فيه وصف المقارنة ، من [ دون ] أن يكون ذلك قولا بوجوب السبب ، نظرا إلى أنّ المراد به عند القائل بوجوبه خاصّة ما كان سببا لوجود ذات المشروط لا لوجود شرطه ، لأنّ الدليل الّذي أقامه على الإثبات لا يتناول إلاّ ذلك والّذي أقامه على النفي يعمّ الشروط وأسبابها ، كما لا يخفى [ على ] من يتأمّل فيها.

ولو سلّم فيلزم أن يكون بين القولين عموم من وجه ، لا ما أفاده ـ دام ظلّه ـ فيجتمعان في أسباب الشروط ويفترقان في أسباب المشروط ، والشروط الّتي هي من مقولة الأفعال.

__________________

(١) إيراد على ما أفاده الشيخ. ( كذا في هامش الأصل بخطّ مؤلّفه )

٥٦٣

نعم ربّما يستقيم هذه المقالة على بعض التقادير الّتي تقدّم الإشارة إليها عند ذكر الأقوال وإلاّ فعلى التقدير الآخر أيضا يكون بينهما من حيث القائل عموم من وجه لاجتماعهما في الأسباب والشروط معا ، وافتراقهما في الأسباب المحضة والشروط الصرفة ، فراجع وتأمّل واعرف كي تعرف أنّه شيء لا تعلّق له بما أوجب له ـ دام ظلّه ـ الوهم هنا.

وعلى أيّ حال كان فاحتجّ ابن الحاجب في مختصره ـ على ما حكاه بعض شارحيه في بيان المختصر ـ على كلا جزئي مدّعاه بما عبارته هكذا :

لنا : [ لو ] لم يجب الشرط لم يكن شرطا ، وفي غيره لو استلزم الواجب وجوبه لزم تعقّل الموجب ، ولم يكن تعلّق الوجوب لنفسه ، ولا ينبغي التصريح بغيره ، ولعصى بتركه ، ولصحّ قول الكعبي في نفي المباح ، ولوجبت نيّته ، انتهى.

وقرّر الأكثرون احتجاجه على وجوب الشرط بأنّه : لو لم يكن الشرط واجبا لخرج عن كونه شرطا ، والتالي باطل بفرض الشرطيّة.

أمّا الملازمة : فلأنّه لو لم يكن واجبا لجاز تركه ، وحينئذ فإذا تركه وأتى بالمشروط فإمّا أن يكون آتيا بتمام المأمور به أو ببعضه ، لا سبيل إلى الثاني إذ المفروض عدم وجوب شيء آخر عليه كما هو مفاد عدم وجوب الشرط ، فتعيّن الأوّل ، وعليه يلزم ما ذكر في التالي.

وقرّره بعض شرّاحه في كتابه الموسوم ببيان المختصر بأنّه : لو لم يكن الشرط واجبا لم يكن هو شرطا ، والتالي باطل لأنّه خلاف المفروض ، فيلزم بطلان المقدّم.

بيان الملازمة : أنّ الشرط إذا لم يكن واجبا جاز تركه ، فإذا تركه لا يخلو إمّا أن يكون الفعل حينئذ مأمورا به أو لا ، والتالي باطل وإلاّ يلزم أن يكون وجوب الشيء مقيّدا بوقت وجود الشرط وهو خلاف المفروض ، والأوّل لا يخلو إمّا أن يكون الفعل ممكن الحصول عند عدم الشرط أو لا ، والثاني باطل وإلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق فيتحقّق الأوّل فلا يكون شرطا.

والجواب عن ذلك : منع لزوم التكليف بما لا يطاق على تقدير عدم إمكان حصول الفعل بدون الشرط ، فإنّه إنّما يلزم لو كلّف به بشرط عدم الشرط الّذي مفاده المنع عنه ، وهو ليس بلازم من عدم الإيجاب بل غايته جواز الترك وهو ليس بملزوم للترك ، فيجوز الإتيان به الموجب لإمكان الإتيان بالمشروط بعنوان أنّه المأمور به من غير محذور.

مع أنّه منقوض بغير الشرط أيضا ، فيقال : لو لم يجب غيره لجاز تركه وحينئذ لو تركه ، فلا يخلو إمّا أن يكون الفعل مأمورا به أو لا ، والثاني باطل لعين ما ذكر.

٥٦٤

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون الفعل ممكن الحصول أو لا ، والثاني باطل وإلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق فيتحقّق الأوّل ، وهو أيضا باطل لكونه خلاف فرض الشرطيّة أو السببيّة ولو بحكم العقل أو العادة ، فما يجاب هو الجواب.

وأمّا عن التقرير الأوّل : فيستدعي رسم مقدّمة وهي : أنّ امتياز الشرط الشرعي عن غيره عند هذا القائل وغيره على ما يستفاد منهم تصريحا وتلويحا إنّما هو بكون شرطيّته ثابتة بحكم الشارع وجعله ، بحيث لولاه لما صدق عليه عنوان الشرطيّة الّتي هي عبارة عن توقّف الوجود على الوجود واستلزام العدم للعدم ، كما أنّ الشرط العقلي ما كان شرطيّته ثابتة بحكم العقل ، والعادي ما كان شرطيّته ثابتة بحكم العادة.

وهو بمعزل عن التحقيق كما أشرنا إليه عند تقسيم المقدّمة إلى أقسامها ، فإنّ معنى الشرطيّة كما عرفت هو توقّف وجود المشروط على وجود الشرط والحاكم به في الجميع إنّما هو العقل ، فالّذي يعبّر عنه بالشرط الشرعي شرط عقلي لأمر شرعي ، بمعنى أنّ الشارع عند تصوّر المشروط اعتبر فيه نحو وجود يتوقّف عقلا على وجود الشرط ، فكون الطهارة أو الاستقبال شرطا للصلاة إنّما هو بحكم العقل ، كما أنّ كون حركة اللسان للقراءة فيها شرطا إنّما هو بحكم العقل ، فالكلّ شروط عقليّة لأمر شرعي وهو الصلاة ، لأنّ الشارع اعتبر فيها ذلك للوجود الّذي يحكم العقل بتوقّفه على وجود الشروط.

بل لنا أن نمنع عن كون المشروط أيضا أمرا شرعيّا فهو أيضا ليس بشرعيّ كما أنّ الشرط ليس بشرعيّ ، وذلك لأنّ الصلاة من حيث إنّها ملتئمة عن امور متبائنة طبيعة من الطبائع ، ومع قطع النظر عن ملاحظة الشارع كانت محقّقة في الخارج من غير أن يكون للشارع فيها تصرّف نظير سائر الطبائع الخارجيّة.

غاية الأمر أنّ الشارع لاحظها وباعتبار ما فيها من الحكمة أمر بحصّة منها وهي الّتي تتشخّص بما ذكر من الشروط وغيرها ، كما أنّ المولى يتصوّر طبيعة الماء ويأمر بحصّة منها من غير أن يكون متصرّف فيها ، وكما أنّ الشرط ليس بمجعول من الشارع فكذلك المشروط ليس مجعولا له ، وظاهر أنّ العقل إذا لاحظ تلك الحصّة من الطبيعة وأحاط بجميع مشخّصاتها حكم بتوقّف وجودها في الخارج على وجود الشروط المعهودة لها المعبّر عنها بالشروط الشرعيّة ، فإذا كان التوقّف عقليّا كان الشرط أيضا عقليّا كما في سائر الشروط العقليّة.

بل هذا الكلام جار في الشروط العاديّة أيضا ، إذ العقل بملاحظة أنّ العادة قد جرت

٥٦٥

على عدم انفكاك الشرط عن المشروط وعدم تحقّق المشروط في الخارج إلاّ والشرط معه يحكم بتوقّف وجوده على وجوده.

وإذا عرفت ذلك فاعرف الجواب عن الاستدلال وهو من وجهين نقضي وحلّي.

أمّا الأوّل : فنقضه بصورة كون الشرط واجبا وتركه المكلّف فأتى بالمشروط بدونه ، فحينئذ لا يخلو من أن يكون آتيا بتمام المأمور به أو ببعضه ، لا سبيل إلى الثاني إذ المفروض أنّ الشرط الّذي لم يأت به ليس جزءا من المأمور به على اعتراف الخصم به كما يشهد به تقرير الاستدلال ، فتعيّن الأوّل وعليه يخرج الشرط عن كونه شرطا وهذا خلاف الفرض.

فإن قلت : بأنّه إنّما أتى بغير المأمور به من جهة انتفاء قيده المعتبر معه ، إذ المفروض كونه مقيّدا وهو لم يأت بالقيد ، فلم يأت بالمأمور به.

لقلنا : بمثله على تقدير عدم وجوب الشرط وأتى المكلّف بالمشروط بدونه ، فإنّه لم يأت حينئذ بالمأمور به لكونه مقيّدا وهو لم يأت بالقيد ، بل أتى بغير المأمور فيكون معاقبا بترك المقيّد ، ولا منافاة بين كون المأمور به مقيّدا مع عدم وجوب القيد برأسه.

وأمّا الثاني : فيظهر بملاحظة ما قرّرناه في المقدّمة ، وحاصله : أنّه بعد ما عرفت أنّه لا فرق في الشرائط بين الشرعيّة وغيرها في كون التوقّف في الجميع عقليّا والشرطيّة ثابتة بحكم العقل ، علمت أنّه لا وجه لإبداء الفرق بينهما من حيث الوجوب وعدمه ، فإن كان الأوّل لابدّ وأن يكون واجبا فكذلك الثاني ، وإن كان الثاني لابدّ وأن يكون غير واجب فكذلك الأوّل لاتّحاد الموجب ووحدة المناط وهو توقّف المأمور به عليهما عقلا في وجوده الخارجي ، كيف وأنّ وجود الصلاة المأمور بها كما أنّه يتوقّف عقلا على تحريك اللسان للقراءة فكذلك يتوقّف عقلا على تحصيل الطهارة والساتر والاستقبال وغيرها من الشروط المقرّرة في الشريعة ، فإذا كان التوقّف في الجميع عقليّا بطلت التفرقة جزما ، بل لابدّ من المصير إلى الوجوب في الكلّ أو إلى عدمه في الجميع.

نعم بين النوعين من الشرط فرق يمكن أن يقال بأنّه دعا هذا القائل إلى الفرق بينهما في الحكم ، وهو : أنّ الشرائط العقليّة ربّما يمكن الذهول عنها عند الأمر بالمشروط بها بخلاف الشرائط الشرعيّة ، فإنّ الذهول عنها حين الأمر غير ممكن ضرورة استحالة الأمر بالمقيّد من دون الشعور بقيده.

ولكن يرد عليه حينئذ : أنّ حكم الشرائط الشرعيّة يصير كحكم الأجزاء ، لكون الآمر

٥٦٦

شاعرا بها أيضا عند الأمر ، فإن بنى في الأجزاء بخروجها عن محلّ النزاع لكون وجوبها ممّا لا ينبغي النزاع فيه كما توهّم فلا جرم يكون الشرائط أيضا كذلك ، فالمصير إلى الفرق المذكور حينئذ ليس قولا بما هو من محلّ النزاع ، وإن بنى على دخولها في محلّ النزاع مع القول بعدم الوجوب فيها فلا جرم يكون الشرائط أيضا كذلك ، إذ ليس لها مزيّة على الأجزاء بالنسبة إلى المشروط إن لم يكن الأمر بالعكس.

نعم يتمّ ذلك لو قيل بالدخول مع الوجوب ، فحينئذ يتوجّه وجوب الشرائط الشرعيّة اطّرادا لحكم الأجزاء.

ولكن يدفعه : أنّ مجرّد الشعور وعدم الذهول لو صلح منشأ للإيجاب لاطّراد الحكم بالقياس إلى سائر الشرائط ، لامتناع الذهول عنها أيضا من الشارع ، فهو حين الأمر شاعر بجميع الشرائط شرعيّة كانت أو عقليّة أو عرفيّة فلا وجه للفرق أيضا.

إلاّ أن يقال : بأنّ الفارق إنّما هو شدّة اهتمام الشارع بالشرائط الشرعيّة وكثرة اعتنائه بها من جهة دخول التقيّد بها في الماهيّة المأمور بها وإن كانت هي بأنفسها خارجة عن الماهيّة بخلاف غيرها.

ويدفعه : حينئذ أنّ دخول التقييد في الماهيّة لم يوجب فيها إلاّ خصوصيّة متوقّفة على حصول القيد فكثرة الاعتناء حينئذ ان كان لأجل توقّف تلك الخصوصيّة فسائر الشرائط أولى بذلك جزما ، لكون التوقّف هناك لأصل الماهيّة كما لا يخفى ، وإن كان لأجل غير ذلك فلا نسلّم أصل الدعوى ، كيف ولو كان هاهنا جهة اخرى في الشرائط الشرعيّة أوجبت هذه المزيّة فيها لابدّ من بيانها لينظر في صحّتها وسقمها.

وربّما ينتصر هذا المذهب ويقال في دفع ما يورد على دليله : بأنّه قد ثبت أنّ التكليف بالمسبّب تكليف بالسبب ، ولا شكّ أنّ الصلاة المخصوصة بكونها صادرة عن المتطهّر عبارة عن أفعال معيّنة مع هيئة اعتباريّة لا يمكن تحصيلها إلاّ بإيجاد سببها ، فيكون التكليف بالصلاة المخصوصة بتلك الهيئة تكليفا بأسبابها ، وسببها الأركان المخصوصة مع الطهارة فيلزم تعلّق التكليف بالطهارة كتعلّقه بالصلاة.

وهو كما ترى ، فإنّ فرض السببيّة والمسبّبيّة هنا لا يكاد يعقل إلاّ بجعل الأفعال المعيّنة مع الهيئة الاعتباريّة الّتي جعلت مسبّبة عبارة عن الماهيّة الكلّيّة ، والأركان المخصوصة مع الطهارة الّتي فرضت سببا عبارة عن الفرد ، بدعوى : أنّ إيجاد الفرد الّذي هو الأركان

٥٦٧

المخصوصة مع الطهارة سبب لإيجاد الماهيّة الكلّيّة الّتي هي الأفعال المعيّنة في الواقع مع الهيئة الاعتباريّة ، فيكون التكليف بها تكليف بإيجاده.

وقد اتّضح فساد هذه الدعوى فيما سبق ، ومرجعه هنا إلى منع الصغرى وهو كون الفرد سببا.

ولو سلّم فيتوجّه إليه حينئذ منع الكبرى ، وهو كون التكليف بالمسبّب تكليفا بالسبب ، وقد اتّضح وجهه أيضا في دفع كلام من يقول بتلك المقالة.

ولو سلّم فيتوجّه إليه منع ارتباط النتيجة الحاصلة من ذلك بما هو مطلوب المستدلّ ، لكون الطهارة حينئذ جزء للسبب والتكليف به تكليف بمجموع أجزائه من حيث المجموع ، وكون ذلك يستلزم التكليف بكلّ جزء جزء على حدة عين المتنازع فيه ، بناء على ما هو الحقّ من دخول الأجزاء أيضا في محلّ النزاع كما سنقرّره.

نعم إنّما يستقيم ذلك على القول بخروجها عن المتنازع فيه وسيتّضح بطلانه.

هذا كلّه في احتجاج هذا القائل على الجزء الإيجابي من مدّعاه ، وأمّا جزؤه السلبي فقد عرفت أنّه احتجّ عليه بوجوه ستّ ، وتقرير ما عدا الوجه الثاني واضح بملاحظة ما تقدّم في أدلّة المانع مطلقا ، والجواب الجواب أيضا فلا نطيل الكلام بإعادة ذلك.

وأمّا الوجه الثاني فقد قرّره العضدي وغيره : بأنّ وجوب الشيء لو استلزم وجوب غير شرطه لم يكن تعلّق الوجوب به لنفس الوجوب (١) أو لنفس ذلك الغير لتوقّفه حينئذ على التعلّق بملزومه ، والتالي باطل لأنّ الطلب لا يعقل تعلّقه بشيء غير المطلوب.

وأجاب عنه في بيان المختصر بقوله : إن أراد بالتعلّق لنفسه التعلّق بالأصالة لا نسلّم انتفاء التالي ، فإنّ تعلّق الوجوب بالمقدّمات ليس بالأصالة بل بالفرعيّة لتعلّق الوجوب بملزومها أوّلا وبواسطة الملزوم يتعلّق بها.

وإن أراد به أنّ تعلّق الوجوب الفرعي بالمقدّمات ليس من مقتضاه ، فمنعه ظاهر فإنّ الوجوب الأوّل يتعلّق بالشيء ثمّ نشأ منه الوجوب الثاني ، فتعلّق الوجوب الثاني الفرعي بالمقدّمات لذاته ، وأيضا فمنقوض بوجوب الشرط. انتهى.

__________________

(١) والظاهر أنّ الترديد بين الوجهين من جهة احتمال ضمير « نفسه » في كلام المستدلّ بهما ، لجواز رجوعه إلى الوجوب أو إلى الغير ، فإنّ كلاّ منهما مذكور في كلامه وما استظهرناه هو الّذي تنبّه عليه شارح المختصر في بيان المختصر وصرّح به. ( منه عفي عنه ).

٥٦٨

ومنشأ الترديد في الجواب ما وقع في تقرير الاستدلال من الترديد في ضمير « لنفسه » الواقع في كلام المستدلّ باعتبار احتمالي عوده إلى الغير أو إلى الوجوب ، فعلى الأوّل يكون مفاد الدليل : أنّ الوجوب المتعلّق بالمقدّمات لتوقّف تعلّقه بها على تعلّقه بذيها لم يكن نفسيّا بل هو غيري ، فجوابه حينئذ تسليم الملازمة ومنع بطلان التالي على نحو ما قرّره المجيب.

وحاصله : أنّ الوجوب المتنازع فيه بالنسبة إلى المقدّمات إنّما هو الوجوب الغيري المتوقّف على وجوب الغير دون الوجوب النفسي.

وعلى الثاني يكون مفاد الدليل : أنّ الوجوب المتعلّق بمقدّمات الشيء على تقدير تعلّقه ليس من مقتضيات وجوب ذلك الشيء بمعنى أنّه لم ينشأ منه ، وهو باطل لأنّ المقدّمات حينئذ مطلوبة بذلك الوجوب المتعلّق بذيها.

ومن البيّن امتناع تعلّق الوجوب بشيء هو غير المطلوب.

فجوابه : حينئذ على ما قرّره المجيب تسليم بطلان التالي مع منع الملازمة ، ولكن لا يخفى ما فيه من نوع إجمال.

والأولى أن يستفصل أيضا على التقدير المذكور فيقال : إن اريد أنّ الطلب المتعلّق بالمقدّمات حينئذ ليس بعين ما تعلّق بذيها ، فالملازمة مسلّمة أيضا ولكن بطلان التالي ممنوع ، لأنّ الّذي يقول بوجوب المقدّمات يزعم تعلّق طلب غيري بها غير ما تعلّق بذيها مسبّب عن ذلك ، وإن اريد أنّه غير مسبّب عنه فالملازمة ممنوعة ودليله الوجدان المغني عن إقامة البرهان ، ولكنّ الّذي ينشأ منه حينئذ إنّما هو الطلب الشأني حسبما قرّرناه سابقا.

فانقدح بما ذكر أنّ ما في عبارة المجيب من منع الملازمة على جميع التقادير غير سديد ، وإنّما يستقيم على التقدير الثاني الّذي أشرنا إليه.

وأمّا قوله : « وأيضا جواب آخر نقضي » وتقريره بالنسبة إلى الشرط الشرعي واضح ممّا مرّ في تقرير الدليل ، فإنّه يجري فيه حرفا بحرف وعليك بالاستخراج.

ثمّ إنّ ها هنا امورا لا بأس بإيرادها وإن سبق إلى بعضها الإشارة إجمالا :

الأمر الأوّل

قد أشرنا سابقا إلى أنّ بين الأصحاب بالنسبة إلى أجزاء الواجب خلافا بالقياس إلى دخولها في محلّ الخلاف وخروجها عنه ، فعن بعضهم دعوى الوفاق على وجوبها ، وعن

٥٦٩

آخر دعوى نفي الخلاف عنه ، تعليلا ـ على ما في كلام بعض الأعاظم ـ بأنّ الأمر بالكلّ أمر بالأجزاء من حيث إنّها في ضمنه ، لأنّ إيجاد الكلّ هو إيجادها كذلك وليس لإيجاد الكلّ أمرا آخر غير إيجاد أجزائه.

واعترض عليه بما تقدّم عن العلاّمة من جعله الصلاة في الدار المغصوبة من فروع المسألة ، تعليلا بأنّ الكون الّذي هو جزء الصلاة واجب بوجوبها فلا يجوز أن يكون منهيّا عنه ، مع سكوت العميدي عنه لظهور ذلك في أنّ محلّ الخلاف أعمّ ـ إلى أن قال ـ : فالأمر بالكلّ ليس أمرا بالأجزاء إلاّ تبعا لا أصالة فيأتي فيها من الخلاف ما كان في غيرها حرفا بحرف.

وصرّح بمثل ذلك بعض الأعلام ، ومن مشايخنا من أفاد أنّ الجزء بعنوان كونه جزءا لا ينفكّ عن الكلّ لأنّ وجوده عين وجود الكلّ ، كما أنّ وجود الكلّ عين وجوده ، فلا يعقل حينئذ عدم كونه واجبا بل يصير واجبا بوجوبه في ضمنه.

ومن الفضلاء من ذكر أنّ الجزء يجب بالوجوب النفسي والغيري باعتبارين ، فباعتبار كونه في ضمن المركّب واجب نفسي وباعتبار كونه ممّا يتوصّل به إلى الكلّ واجب غيري لتوقّفه عليه ، ضرورة أنّ وجود المركّب مسبوق بوجود أجزائه.

ومن الأفاضل من قال : بأنّه يجري الكلام في وجوب المقدّمة وعدمه بالنسبة إلى أجزاء الواجب أيضا ، نظرا إلى توقّف وجود الكلّ على وجودها ، فلابدّ من الإتيان بها لأجل أداء الكلّ فحينئذ يجب الإتيان بها لأجل أدائه بناءا على القول بوجوب المقدّمة ، ولا يجب بناءا على عدم وجوبها فالحال فيها كالحال في المقدّمات من غير فرق.

ثمّ ساق الكلام إلى نقل الفرق عن بعضهم بين الأمرين بأنّ دلالته على وجوب أجزائه على سبيل التضمّن لاندراجها فيه دون المقدّمات الخارجة ، لأنّه لا يعقل إفادته لوجوبها إلاّ على سبيل الاستلزام ، فلا وجه لجعل الدلالة في المقامين على نحو واحد.

ومن هنا يظهر أنّ دلالة وجوب الكلّ على وجوب أجزائه ممّا لا مجال للتأمّل فيها.

إلى أن قال : ويدفعه : أنّ هناك فرقا [ بيّنا ] بين وجوب الجزء بوجوب الكلّ وفي ضمنه ووجوب الجزء بسبب وجوب الكلّ ولأجله ، والقدر المسلّم في المقام هو الوجه الأوّل ولا ريب حينئذ أنّ المتّصف بالوجوب على الحقيقة إنّما هو الكلّ وأنّ الجزء إنّما يتّصف به من جهة اتّصاف الكلّ به ، فذلك الاتّصاف منسوب إلى الكلّ بالذات وإلى أجزائه بالعرض.

وأمّا الوجه الثاني فيتوقّف القول به على وجوب المقدّمة فهو وجوب غيريّ متعلّق

٥٧٠

بذات الجزء من حيث توقّف الكلّ عليه ، وكون إيجاده مؤدّيا إلى إيجاد الكلّ ، وهذه الدلالة على سبيل الاستلزام في المقامين من غير فرق بين الأمرين.

أقول : وتحقيق المقام على وجه ينكشف حقيقة المرام ، أنّ الكلّ باعتبار أجزائه المعتبرة فيه إمّا عينيّ « كسكنجبين » و « سقمونيا » وما أشبه ذلك ، أو حدثي كالصلاة وصيام شهر رمضان ، أو عقلي كالجسم المركّب عن الهيولى والصورة والإنسان المركّب عن الحيوان والناطق.

وعلى الأوّلين فإمّا أن يكون لانضمام بعض الأجزاء إلى بعض مدخليّة في المطلوبيّة والرجحان بحيث لو لا وجود البعض مع الباقي لما حصل الامتثال أصلا حتّى بالإضافة إلى المأتيّ به ، كالصلاة وسبعة أشواط الطواف وسبعة أحجار رمي الجمرة أو لا مدخليّة له في ذلك ، بل كلّ واحد متّصف بالرجحان في حدّ ذاته والاتيان به موجب للامتثال بحسبه ، كإطعام ستّين مسكينا في الكفّارة ونزح سبعين دلوا في منزوحات البئر على القول بالوجوب ، وصيام ثلاثين يوما من رمضان وإخراج القدر المعيّن من المال في أنعام الزكاة وغلاّتها فهذه خمسة أنواع :

أوّلها : ما كانت الأجزاء عقليّة فحينئذ لا خفاء في صحّة دعوى كون وجود الكلّ عين وجود الجزء ، بل كون الوجود واحدا فيهما ، ولكن دعوى صيرورة الجزء واجبا بوجوب الكلّ في ضمنه محلّ نظر إن اريد به الوجوب الذاتي ، بل لا وجه له أصلا ، كيف وإنّا نعلم بالضرورة والوجدان أنّ الأجزاء العقليّة في الأعيان الخارجيّة لا ينوط بها الحكم التكليفي ولا يتصوّرها الموجب أصلا ولو إجمالا ، بل الّذي يتصوّره حين إرادة الإيجاب إنّما هو المفهوم البسيط الّذي ينحلّ عند العقل إلى تلك الأجزاء فيطلبه من دون أن يتعلّق طلبه بها أصلا ولو ضمنا.

نعم لا نضائق اتّصافه بالمطلوبيّة بالعرض عند العقل ، بمعنى أنّ العقل يصحّ له بعد ما التفت إلى الانحلال المذكور أن ينسب الطلب المتعلّق بما ذكر من المفهوم البسيط إلى كلّ من تلك الأجزاء بالغرض ، ولكنّه لا ينفع شيئا في المقام لكونه على سبيل المجاز ، والوجوب المتنازع فيه بالنسبة إلى الأجزاء الّذي ادّعي الوفاق على خروجه عن محلّ الخلاف إنّما هو الوجوب الحقيقي ، وإلاّ فالوجوب العرضي غير خاصّ بها لكونه حدّا مشتركا بينها وبين سائر المقدّمات كما عرفت مرارا ، بل الإنصاف أنّ تعلّق الوجوب بما ذكر ليس من باب تعلّقه بالكلّ بعنوان أنّه كلّ ، فالأولى إخراج الصورة المفروضة عن محلّ

٥٧١

كلام الأصحاب ومجرى عباراتهم المتقدّمة.

وثانيها : ما كانت أجزاؤه عينيّة مع اعتبار الهيئة الاجتماعيّة في المطلوبيّة وهو في الشرعيّات قليل المثال بل عديمه ، وأمثلته في العرف فوق حدّ الإحصاء كما لا يخفى.

وربّما يتخيّل كون رمي الجمار من هذا الباب ، ولكنّه ليس بسديد إذ الغرض كون المركّب من الأجزاء العينيّة مأمورا به وهو في ذلك المثال متعلّق للمأمور به وهو الرمي ، فيرجع ذلك إلى النوع الرابع الّذي سنذكره.

ولك أن تقول : إنّ الأمثلة العرفيّة أيضا من هذا الباب كما لا يخفى ، ويرشد إليه أنّ الوجوب حكم تكليفي ولا يتعلّق إلاّ بالعمل ، والمركّب من الأجزاء العينيّة عين فلا يقع مأمورا به ، وإذا كان رجوع هذا النوع إلى النوع الآتي فيظهر حكمه فيما يأتي.

وثالثها : ما كانت أجزاؤه عينيّة مع عدم اعتبار الهيئة التركيبيّة في المطلوبيّة ، وهو أيضا كسابقه من كونه فرضا خارجا عن محلّ الكلام ، بل لا مصداق له فيما هو غرض أصلي من تعلّق حكم تكليفي ، وما يتخيّل من أموال الزكاة ومنزوحات البئر كونه من هذا الباب غير سديد لعين ما سبق ، فهو أيضا راجع إلى ما يأتي.

ورابعها : ما كانت أجزاؤه حدثيّة مع اعتبار الهيئة التركيبيّة في المطلوبيّة ومدخليّتها في الرجحان ، وأمثلته في الشرعيّات وغيرها كثيرة منها الصلاة والطواف ورمي الجمرات ، ومنه صيام النهار لتركّبه عن أجزاء على حسب تعدّد أجزاء الزمان ، فالّذي يدّعي حينئذ أنّ وجوب الجزء عين وجود الكلّ إن أراد به أنّه لا تغاير بين وجوديهما بالذات فكلّ ما صدق عليه أنّه وجود الجزء يصدق عليه وجود الكلّ بعنوان أنّه كلّ فهو خلاف البديهة ، كيف ووجود كلّ جزء ما يحصل له في زمانه الّذي يقع فيه وهو يغاير بالذات وجود الكلّ بعنوان الكلّيّة ، لأنّه عبارة عن مجموع تلك الوجودات المجتمعة من حيث المجموع ومن البيّن مغايرة المجموع لكلّ واحد.

وإن أراد به أنّ الكلّ ليس له وراء وجودات أجزائه وجود آخر بحيث يقع عليه الإشارة الحسّيّة غير ما يقع على ما في كلّ من أجزائه ، فهو مسلّم ولكنّه لا يلزم من ذلك اتّصاف كلّ جزء بالوجوب الّذي يتّصف به الكلّ ، فإنّ الواجب في الحقيقة حينئذ إنّما هو الهيئة الاجتماعيّة لأنّها الّتي يتصوّرها المولى ويطلبها ، وهي الّتي ينوط بها الرجحان الموجب للمطلوبيّة وجودا وعدما ، وهي الّتي ينشأ منها المصلحة الموجبة لذلك الرجحان

٥٧٢

ولكنّها كانت قائمة بالأجزاء المتبائنة بحسب الخارج ، فكان كلّ جزء مقدّمة لحصولها وموقوفا عليه لتحقّقها ، فليس في كلّ جزء من حيث هو مصلحة سوى مصلحة المقدّميّة كما في سائر المركّبات الّتي تعتبر فيها خاصيّة قائمة بالمجموع من أجزائها من حيث المجموع ، لضرورة أنّ كلّ جزء منها ليس له تلك الخاصيّة وإلاّ لما كان للهيئة التركيبيّة مدخليّة ، وكان التصدّي باعتبارها واعتبار التأليف بين أجزائها المتبائنة لغوا وعبثا وهو محال من الحكيم ، فحينئذ لا يكون بين أجزاء الواجب وسائر مقدّماته فرق أصلا ، كما أنّه مع قطع النظر عن الوجوب المقدّمي لا وجوب لسائر المقدّمات إلاّ الوجوب العقلي المعبّر عنه باللابدّيّة أو الوجوب العرضي المجازي بالمعنى المتقدّم فكذلك الأجزاء حرفا بحرف ، فليس لها إلاّ الوجوب بهذين المعنيين كما تنبّه عليه بعض الأفاضل.

فدعوى : أنّ الجزء باعتبار كونه في ضمن الكلّ واجب نفسي والدالّ على وجوب الكلّ بالمطابقة دالّ على وجوب الجزء بالمطابقة ، وإن كان الدالّ على نفس الكلّ بالمطابقة دالاّ على الجزء بالتضمّن كما عرفته عن بعض الفضلاء ، متّضح الفساد كيف وأنّ الضرورة قاضية بأنّ الطلب في تعلّقه بمتعلّقه تابع لرجحان ذلك المتعلّق ، ورجحانه تابع للمصلحة الكامنة فيه ، كما أنّها مع الوجدان بل الحسّ والعيان قاضية بأنّ المصلحة القائمة بالمجموع باعتبار الهيئة الاجتماعيّة لم تكن قائمة بكلّ جزء من ذلك المجموع وإلاّ لزم أن يؤثّر الجزء أثر الكلّ ولو بحسبه وهذا خلف.

فقضيّة ذلك جريان النزاع في الأجزاء جريانه في سائر المقدّمات حرفا بحرف كما تنبّه عليه بعض الأعاظم وفاقا لبعض الأعلام ، وانحصار وجوبها مع قطع النظر عن الوجوب العقلي والعرضي في الوجوب الغيري المقدّمي بالمعنى الّذي هو ثابت في سائر المقدّمات عند القائل بوجوبها ، أو فيهما حسبما بيّنّاه عند القائل بمنع الوجوب في المقدّمة ، ولمّا كان المختار في المسألة القول الأوّل فلا جرم يكون أجزاء الواجب كسائر مقدّماته واجبة بالوجوب التبعي بالمعنى المتقدّم بعين ما تقدّم من الأدلّة حرفا بحرف من غير فرق ولا تفاوت.

نعم بين أجزاء الواجب وسائر مقدّماته فرق من جهة اخرى لا من جهة الوجوب وعدمه وهي الّتي تنبّه عليها بعض الأفاضل من أنّ الواجب عند انحصار جزئه في المحرّم لا يقع صحيحا ، لأنّ الصحّة فرع الأمر وهو فرع القدرة عليه والمنع الشرعي كالمانع العقلي يوجب سلب القدرة عن الجزء ، فيلزم انتفاء القدرة عن الكلّ أيضا ، ومعه لا وجوب له حتّى

٥٧٣

يقع الإتيان به على وجه الصحّة لئلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق ، بخلاف سائر المقدّمات فإنّ الواجب مع انحصارها في المحرّمة ربّما يقع صحيحا ، فكما في غير ما لو كانت بحسب الوجود الخارجي مقارنة له كالعلّة أو الجزء الأخير منها ، لما تقدّم تحقيقه من أنّ الواجب حينئذ مشروط وجوبه بحصول تلك المقدّمة فلا وجوب له ما لم تكن حاصلة لعين ما ذكر ، وأمّا إذا حصلت عصيانا أو نسيانا تعلّق به الوجوب إذ لا مانع عنه حينئذ أصلا والمفروض أنّ المانع الأوّل قد ارتفع.

وقضيّة ذلك كون الإتيان به على وجهه موجبا للصحّة لتحقّق جميع مقتضياته وفقد موانعه.

وإنّما فرقنا في ذلك بين الأجزاء وسائر المقدّمات لأنّ جزء الشيء في الحصول الخارجي لا ينفكّ عنه فلا يعقل اشتراط وجوبه بحصوله ، لأنّه إذا حصل على غير جهة المأمور به فالّذي يتعلّق به الوجوب بعد حصوله إمّا هو مع انضمام الباقي إليه أو الباقي فقط ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلاستلزامه المحذور السابق من لزوم التكليف بما لا يطاق.

وأمّا الثاني : فلمنافاته جزئيّة ذلك الحاصل ، مع أنّ فرض الحصول للجزء مقدّما على حصول الباقي إنّما يصحّ فيما لو كان بين الأجزاء ترتيب بحسب الوجود الخارجي ، كأجزاء الصلاة والطواف وكان ذلك الحاصل أوّل مرتبة الأجزاء وإلاّ ففي غير ذلك لا يعقل فيه سبق الحصول مطلقا كما لا يخفى.

فالمانع حينئذ هو المحذور الأوّل ، كما هو المانع فيما له مقدّمة مقارنة له في الوجود الخارجي وكانت محرّمة ، إذ لا يعقل فيها سبق الحصول على حصوله حتّى يكون بعد حصولها عصيانا أو نسيانا مقدورا على تحصيله.

وخامسها : ما كانت أجزاؤه حدثيّة مع عدم اعتبار الهيئة التركيبيّة في المطلوبيّة كصيام شهر رمضان وإطعام ستّين مسكينا ونزح سبعين دلوا وإخراج المقدار المعيّن من مال الزكاة ، فإنّ الامتثال في كلّ ذلك كما أنّه يتأتّى بالمجموع فكذلك بالبعض ولكن بحسبه.

والوجه في ذلك : أنّ الهيئة الاجتماعيّة حين إرادة الأمر قد تلاحظ موضوعا للحكم فلا يتعلّق الطلب إلاّ بها ، ولا يخرج الأبعاض إلاّ مخرج المقدّمات لحصولها كما في النوع السابق ، وقد تلاحظ عنوانا لما هو موضوع الحكم ـ وهو الأبعاض فيتعلّق الطلب بكلّ

٥٧٤

واحد من تلك الأبعاض على سبيل الاستقلال ـ حتّى يتحقّق بعبارة واحدة طلبات متعدّدة على حسب تعدّد تلك الأبعاض ، وإنّما أوتيت بتلك العبارة مع إمكان غيرها للتمكّن عن إعطاء الحكم بأخصر عبارتيه ، نظير ما قيل في الكلام الاستثنائي من أنّه جيء به لإعطاء الحكمين بأخصر العبارتين.

وممّا قرّرنا ينقدح خروج هذا النوع أيضا عمّا نحن بصدده ، إذ ليس وراء الأجزاء هنا واجب آخر ليكون كلّ واحد منها مقدّمة له ، بل الواجب نفس تلك [ الأجزاء ] وهو في الكلّ وجوب نفسي بل أصلي ولا يعقل لها عنوان آخر ليصلح موضوعا لبحثنا هنا.

وبقي الكلام فيما عرفته عن العلاّمة من الفرع المشتمل على توهّم كون الكون جزءا للصلاة المأمور (١) فعلى القول بوجوب المقدّمة لا يجوز أن يقع منهيّا عنه ، فإنّه كما ترى كلام بظاهره خال عن المحصّل ، لأنّ الصلاة ليست عبارة إلاّ عن الأكوان المجتمعة سواء اعتبرها بحسب المفهوم أو المصداق ، فكلّ كون جزء لها ولا يعقل لها سوى الكون جزء آخر مبائن له حتّى يكون ذلك الكون على تقدير وجوبه ـ بناءا على وجوب المقدّمة ـ ممّا لا يجوز أن يتعلّق به النهي ، إلاّ أن يراد بالكون المفهوم المردّد بين الحركة والسكون ، وبالجزء الآخر المقابل له ما يمتاز به الحركة عن السكون وهو عن الحركة ، بناءا على أنّ جزء الجزء جزء ، أو بالكون القدر المشترك بينهما وهو الفعل ، وبالجزء الآخر الماهيّات المخصوصة المعتبرة فيه شرعا ، أو بالكون ما يكون جنسا للحركة وبالجزء الآخر ما يكون فصلا لها.

ولكن يرد عليه حينئذ : ما قرّرناه من أنّ الأمر بالشيء باعتبار أجزائه العقليّة لا يعدّ عندهم من الأمر بالكلّ ليندرج في محلّ بحثهم هنا ، وكون الأمر بالصلاة من باب الأمر بالكلّ إنّما هو باعتبار أجزائها الخارجيّة وليس لها في الخارج أجزاء إلاّ الأكوان المخصوصة والحركات المعهودة ، فكلّ كون جزء وليس لها جزء يغايره ليترتّب عليه الفرع المذكور خاصّة كما عرفت ، فيكون ذلك من فروع وجوب نفس الصلاة لا من فروع وجوب مقدّمتها.

الأمر الثاني

وممّا اختلفت كلمتهم في وجوبه من باب المقدّمة وعدمه الإتيان بأمور يوجب العلم

__________________

(١) قيل الكون جزء الحركة والسكون ، لأنّ الحركة كون الشيء في مكان عقيب حصوله في مكان ، بمعنى : أنّه عبارة عن مجموع الكونين والسكون عبارة عن كونه في مكان بعد كونه في ذلك المكان ، فيكون هذا الكون مأمورا به لكونه جزءا للمأمور به. ( منه عفي عنه ).

٥٧٥

بأداء ما هو واجب في الواقع المعبّر عنه بـ « مقدّمة العلم ».

فعن التوني في الوافية : وكأنّه لا خلاف في وجوب هذا القسم لأنّه عين الإتيان بالواجب ، بل هو منصوص في بعض الموارد كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، والصلاة في كلّ من الثوبين عند اشتباه الطاهر بالنجس وغير ذلك.

واعترض عليه بعض الأعاظم : « بأنّ الكلام فيه هو الكلام في سائر أصناف المقدّمة لو قلنا بوجوب تحصيل العلم في مثله كما هو الأظهر ، للزوم تحصيل اليقين فيما لو اشتبه البراءة عن التكليف اليقيني وإلاّ فلا وجوب ولا مقدّمة ، وأمّا كون الإتيان بها عين الإتيان بالواجب ففاسد قطعا ، فإنّ الصلاة إلى أربع جهات أحدهما مأمور بها في الواقع وغيرها ليست مأمور بها ، فإنّ الصلاة إلى غير القبلة ليست مأمورا بها وإنّما وجبت بالنصّ أو به وبالقاعدة لتحصيل المأمور به ... إلى آخره.

وقد قدّمنا عن بعض المشائخ التصريح بوجوب هذا النوع مع نفي كونه من باب المقدّمة حتّى يكون متفرّعا على القول بوجوبها ، بل من جهة أنّه لا تغاير بينه وبين ذي المقدّمة في الحقيقة بل هو عينه ، وإنّما الاختلاف يحصل بينهما في التعبير فيكون الإلزام به من العقل عين الإلزام بمقدّمته بالتفصيل المتقدّم في صدر المسألة.

قال بعض الأفاضل ـ بعد ما أورد على كلام التوني رحمه‌الله ـ : وحيث كان التكرار المفروض مقدّمة بالنسبة إلى وجود العلم الواجب كان الحال فيه كسائر المقدّمات من غير فرق.

نعم يندرج ذلك في المقدّمة السببيّة لكون التكرار سببا لحصول العلم فالحال فيه كسائر أسباب الواجبات.

وقال بعض الفضلاء : المقدّمة كما تكون مقدّمة وجوب ومقدّمة وجود كذلك قد تكون مقدّمة علم كغسل جزء من الرأس لتحصيل العلم بغسل تمام الوجه ، فيجب حيثما يجب ، ومرجع هذه المقدّمة عند التحقيق إلى مقدّمة الوجود حيث يتوقّف حصول العلم عليها ، فوجوبها إنّما يستفاد من الخطاب بتحصيل العلم الثابت في موارده بالعقل أو السمع لا من الخطاب بالفعل إذ لا توقّف له عليها ، ـ إلى أن قال ـ : فمن فروعه ما لو اشتبه الواجب بالجائز فعلى ما حقّقناه يجب الإتيان بما يعلم معه الإتيان بالواجب.

فتبيّن من تلك العبارات أنّه لا خلاف في أنّ وجوب المقدّمة العلميّة بعنوان المقدّميّة متفرّع على وجوب تحصيل العلم بأداء المكلّف به الواقعي لا أنّه من مقتضيات وجوب

٥٧٦

نفس المكلّف به ، إلاّ على ما يوهمه عبارة الوافية على أحد احتماليها الّذي فهمه الجماعة على ما عرفت.

وأمّا وجوب تحصيل العلم فعمدة دليله العقل ، القاضي باستدعاء الشغل اليقيني الفراغ اليقيني إرشادا منه إلى تحصيل الاطمئنان عن الوقوع في المهلكة واستحقاق العقوبة.

ومن البيّن أنّه في مواضع الاشتباه فرع ثبوت التكليف بالواقع وهو ممّا اختلفت فيه الأنظار.

ومن الأعلام من أنكره ، والجمهور على خلافه وهو الحقّ لحجّية العلم الإجمالي من جهة حكم القوّة العاقلة وبناء العقلاء بناءا على أنّ معنى حجّيته وجوب الموافقة القطعيّة لا مجرّد حرمة المخالفة القطعيّة كما توهّم ، وذلك لأنّ مقتضاه على تقدير الحجّية ثبوت التكليف بالواقع ولازمه وجوب الامتثال بما هو مكلّف به في الواقع ، وهو وإن كان لا يتوقّف على الإتيان بجميع أطراف الشبهة ولكن العلم به متوقّف عليه توقّفا عاديّا ، كتوقّف العلم بغسل تمام الوجه على غسل جزء من الرأس ، فينضمّ إلى ما ذكر حينئذ قضاء العقل بوجوب القطع بالامتثال عند القطع بالاشتغال ، ويصير العلم بذلك واجبا ولو كان وجوبه غيريّا ، لأنّ العقل من أدلّة الشرع فيخرج الإتيان بأطراف المشتبه مخرج مقدّمة الواجب.

فمن قال من أصحاب القول بوجوب المقدّمة بعدم الوجوب هنا ـ إن كان ثابتا ـ فلابدّ وأن يبني كلامه على إنكار حجّية العلم الإجمالي كما عليه بعض الأعلام ، بدعوى انصراف الألفاظ في حيّز الخطابات إلى المعلومات بالتفصيل ، أو على دعوى أنّ معنى حجّيته حرمة القطع بالمخالفة لا وجوب القطع بالموافقة تحكيما لأدلّة أصل البراءة على أدلّة أصل الاشتغال ، حتّى فيما لو كانت الشبهة حاصلة في المكلّف به مع وجود القدر المتيقّن في البين ، ولكنّ المقدّمة هنا سببيّة كما تنبّه عليه بعض الأفاضل ووجوبها مع قطع النظر عن النصّ الوارد في بعض الموارد مردّد بين كونه نفسيّا أو مقدّميّا ومنشؤه اختلاف الأنظار هنا في كون الأمر بالمسبّب عين الأمر بالسبب وعدمه.

وقد عرفت أنّ بعض مشايخنا رجّح الأوّل وهو أحد احتمالي كلام التوني والباقون على خلافه.

ويرد على الأوّل : أنّه خلاف ما بنى عليه في الأمر بالمسبّبات من منع رجوعه إلى الأسباب ردّا على من توهّمه ، مضافا إلى أنّه ممّا ينكره الوجدان ، كيف وأنّه حكم من العقل وهو لا يتصوّر عند إنشائه ذلك الحكم إلاّ العلم الّذي هو نفس المسبّب كما يرشد إليه المقدّمة الّتي

٥٧٧

يرتّبها لبيان ذلك الحكم من أنّ القطع بالاشتغال يستدعي القطع بالامتثال ، ومجرّد عدم تغايره سببه في الوجود الخارجي وعدم إمكان التفكيك بينهما بل كونهما متّحدين بحسب المصداق لا يوجب ثبوت هذه الدعوى بعد ما علم من أنّ المنشئ لذلك الحكم أنشأه على خلافها وأثبته في نفس المسبّب دون سببه ، فلابدّ بالنسبة إلى السبب من إنشاء آخر ليتمّ به القول بوجوبه ، وهو بناءا على ما اخترناه من وجوب المقدّمة تبعا واضح الثبوت ، فلا فرق حينئذ من هذه الجهة بين هذه المقدّمة وغيرها سببيّة كانت أو غيرها.

نعم يمكن الفرق من وجه آخر وهو : أنّ الوجوب بالنسبة إلى ذي المقدّمة هنا يثبت بحكم العقل من باب الإرشاد ، وهو كما أنّه يرشد إليه تحصيلا للاطمئنان بأداء الواجب وعدم الوقوع في المهلكة كذلك يرشد إلى ما هو مقدّمة له وطريق موصل إليه ، فيكون وجوبها ثابتا من العقل على جهة التفصيل بخلاف الوجوب في سائر المقدّمات حسبما قرّرناه من كونه إجماليّا ، بل ربّما يخرج ذلك منشأ للإشكال بالنظر إلى ما سبق في تحرير موضع النزاع من وجهين :

أحدهما : ما ذكرناه مرارا من أنّ وجوب المقدّمة بالمعنى المتنازع فيه الّذي يساعده أدلّة الباب إنّما هو الوجوب التبعي ، بمعنى كونه إجماليّا شأنيّا والّذي يثبت هنا وجوب فعليّ تفصيلي.

والآخر : ما أشرنا إليه أيضا من أنّ الوجوب المتنازع فيه إنّما هو ما زاد على الوجوب الإرشادي الثابت من جانب العقل في جميع المقدّمات ، لأنّه ممّا لا ينبغي الخلاف فيه وهو في المقام إنّما هو الوجوب بهذا المعنى فليس من المتنازع فيه في شيء ، بل ربّما يمكن تقرير هذا الإشكال في سائر المستقلاّت العقليّة الّتي منها وجوب ردّ الوديعة ونحوه ، فإنّ العقل كما يلزم المكلّف على الردّ فكذلك يلزمه على مقدّمات وجوده إلزاما فعليّا تفصيليّا كما لا يخفى ، فيكون ذلك جاريا على خلاف ما هو الحال في مقدّمات سائر الواجبات.

ويمكن دفعه : بأنّ العقل بعد ما حكم بوجوب تحصيل العلم ولو إرشادا كشف عن كونه ممّا حكم به الشرع أيضا قضيّة للتطابق بينهما.

ثمّ في جانب المقدّمة زيادة على حكمه الإرشادي بوجوبها أدرك كونها بحيث من شأنها أن يطلبها الشارع وألزم بها على نحو ما في سائر المقدّمات ، ومثل ذلك في

٥٧٨

المستقلاّت العقليّة ، فإنّ حكم العقل بوجوب مقدّماتها ولو إرشادا لا ينافي إدراكه كونها بحيث يطلبها الشارع ولو شأنا ، ولا سيّما بملاحظة ما هو التحقيق من كون حكمه فيها من باب الإدراك لا غير ، بل وبملاحظة ما قدّمنا احتماله من كون ذلك المدرك طلبا شأنيّا قائما مقام الطلب الفعلي في جميع الآثار واللوازم.

وبذلك بطل الفرق الّذي أشرنا إليه بين مقدّمة العلم وغيرها في الوجوب الثابت فيهما ، فإنّ الكلّ على نهج سواء وصفا ونوعا.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من وجوب المقدّمة العلميّة لا يفترق الحال بين كونها فعليّة كما عرفت أو تركيّة كما في الحرام المشتبه بغيره مع كون الشبهة محصورة ، فيجب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة مقدّمة ، لتوقّف العلم بما وجب عليه من ترك الحرام عليه على ما هو المصرّح به في كلام جماعة منهم العلاّمة ، خلافا لبعض الأعلام فقال : بمنع الوجوب حينئذ ولو على القول بوجوب المقدّمة ، وعلّله بأنّ الواجب إنّما هو الاجتناب عمّا علم حرمته لا عن الحرام النفس الأمري لعدم الدليل على ذلك ، والأصل والأخبار المعتبرة يساعدنا. ولنا معه كلام يطول البحث بذكره مع أنّ له محلاّ أليق به من المقام يأتي إن شاء الله.

الأمر الثالث

ومن جملة ما تقدّم البحث عنه سابقا ما أوردناه في مباحث الواجب الغيري من الخلاف في اعتبار وصف الإيصال فيما وجب بالغير إلى ذلك الغير بحيث لولاه كشف أنّ المأتيّ به لم يكن واجبا.

ولقد عرفت أنّ بعض الفضلاء ذهب إليه ، وبسطنا الكلام في دفع توهّمه ونبّهنا على أنّ هذا الكلام غير مختصّ بما ورد به نصّ بالخصوص بل يعمّه والمقدّمة الّتي وجوبها على القول به غيري ، فلذا أوردنا البحث ثمّة على وجه يشمل المقدّمة أيضا ونزيد هنا أنّه ربّما يتخيّل ـ على ما حكاه بعض الأفاضل ـ أنّ الواجب من المقدّمة ما يحصل به التوصّل إلى الواجب دون غيره ، فإذا أوجب الشارع علينا الحجّ كان قطع المسافة الموصل إلى الحجّ واجبا علينا لا مطلقا ، فلو قطع المسافة إلى مكّة وترك الحجّ لم يكن آتيا بالمقدّمة الواجبة.

وممّن اختار هذا المذهب بعض الفضلاء على نحو ما اختاره في الواجب الغيري ، فقال : إنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة من حيث كونها مقدّمة إلاّ إذا ترتّب عليها وجود ذي المقدّمة. ـ إلى أن قال ـ : بمعنى أنّ وقوعها على الوجه المطلوب منوط

٥٧٩

بحصول الواجب حتّى أنّها إذا وقعت مجرّدة عنه تجرّدت عن وصف الوجوب والمطلوبيّة ، لعدم وقوعها على الوجه المعتبر ، فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب ، ثمّ استدلّ على ذلك بوجوه :

الأوّل : أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة فالعقل لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور.

والثاني : أنّه لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : « اريد الحجّ واريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الحجّ دون ما لا يتوصّل به إليه وإن كان من شأنه أن يتوصّل به إليه » بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك ، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها مطلقا أو على تقدير التوصّل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدّمته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.

والثالث : أنّه حيث أنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله ، فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيّتها ، فلا تكون مطلوبة إذا انفكّت عنه ، وصريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه ، ويلزم منه أن يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله.

وبالتأمّل فيما قدّمناه يظهر بطلان ذلك وفساد أدلّته المذكورة.

وإن شئت زيادة توضيح في ذلك فنقول : إنّ القول بكون الواجب من المقدّمة هي المقدّمة الموصلة ليس له عند التحقيق مفهوم محصّل إلاّ دعوى اختصاص الوجوب فيما بين المقدّمات بما يكون علّة تامّة أو الجزء الأخير منها ، إذ لا يكون ما عداهما من المقدّمات إلاّ الشرط وعدم المانع الراجع إليه والسبب المصادف لانتفاء الشرط والسبب المقارن لوجود المانع.

ولا ريب أنّ شيئا من ذلك لا يصلح لاتّصافه بوصف الإيصال وإلاّ لكان خلاف الفرض ، وهو كما ترى قول مستحدث يبطله الآراء.

فإن قلت : إنّما يصحّ لو اعتبرنا تلك الامور بشرط لا دون ما لو اعتبرناها بشرط شيء.

وبعبارة اخرى : لو أخذنا الشرط وغيره ممّا ذكر منفردا فالأمر كما ذكرت من عدم الاتّصاف بوصف الإيصال ، بخلاف ما لو أخذناه منضمّا إليه غيره ممّا له دخل في وجود الواجب فإنّه يستلزم الإيصال جزما فلا يلزم المحذور.

٥٨٠