تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

ولا جزء له حتّى يقال بكونه هو النهي عن تركه ، وأمّا الالتزام بجميع أقسامه فلأنّا نرى كثيرا نأمر بالشيء ولا نلتفت إلى تركه فضلا عن النهي عنه.

وجوابه : ما تبيّن سابقا من أنّ انتفاء الالتفات إلى الترك حين إنشاء الوجوب بالمرّة حتّى إجمالا ممنوع بل غير معقول ، كيف وأنّ الالتفات إلى رجحان الفعل الّذي هو ممّا لابدّ منه تجرّ قهرا إلى الالتفات إلى كلّ من الفعل والترك ولو إجمالا كما هو شأن كلّ أمر نسبي.

ولو سلّم فإنّما ينهض ذلك دليلا على نفي الطلب الفعلي وهو ليس بلازم ، لما تقرّر في بحث المقدّمة من كفاية الطلب الشأني في انعقاد الأحكام شرعيّة كانت أو غيرها وهو ثابت في المقام جزما ، إذ ترك المأمور به في حدّ ذاته بحيث لو حصل إليه الالتفات أو بنى على جعل حكم له لنهى عنه وصرّح بتحريمه ، وإنكاره دفع للضرورة ، بل الظاهر إنّ المستدلّ أيضا لا ينكره فيعود النزاع حينئذ بينه وبين القائل بالدلالة لفظيّا ، حيث أنّ القائل بها يدّعي كون الطلب الشأني الثابت هنا بالنسبة إلى ترك ضدّ المأمور به نهيا ، والنافي ينكر الطلب الفعلي بالنسبة إلى ترك الضدّ ، أو يرجع إلى كونه في أمر صغروي وهو أنّ الطلب الشأني الثابت هنا اتّفاقا هل يعدّ من النهي المقتضي للتحريم أو لا؟ فالمثبت يدّعي الأوّل والنافي ينكره وإنّما يقول باعتبار الطلب الفعلي ، ولقد عرفت ضعفه بما لا مزيد عليه فراجع حتّى تتذكّر.

ويمكن أن يقال : إنّ نفي الدلالة رأسا لم ينشأ عن إنكار كفاية الطلب الشأني في انعقاد التحريم ، بل عن عدم انطباقه في خصوص المقام على التحريم الّذي هو أحد الأحكام الخمس المبائن للوجوب ، بل لو فرض ذلك الطلب فعليّا لما كان من التحريم في شيء ، وذلك لما تبيّن في تأسيس القاعدة المتقدّمة من أنّ امتياز التحريم عن الوجوب بتعلّق الطلب المعتبر فيه بالترك الحقيقي المناقض للفعل وتعلّقه في الوجوب بالفعل الّذي هو أمر وجودي مناقض ، وبه يمتاز النهي عن الأمر أيضا كما لا يخفى ، والطلب المفروض في المقام متعلّق بترك الترك وهو إمّا عين الفعل كما توهّم أو مفهوم منتزع عنه ، وكائنا ما كان فطلبه ولو فعلا لا يندرج في ضابط التحريم ، فإذا لم يكن ذلك تحريما لم يكن نهيا أيضا ، فالأمر على فرض دلالته عليه لم يكن دالاّ على ما كان تحريما ولا نهيا عن الضدّ العامّ ، وتسمية ذلك نهيا من باب التجوّز على فرض صحّته خروج عمّا هو محلّ النزاع ، لظهور النهي في عنواناتهم ومطاوي كلماتهم في النهي الحقيقي المقابل للأمر المفيد للتحريم الحقيقي المقابل للإيجاب.

٧٠١

وهذا الكلام وإن لم نجده في كلام أحد ولكنّه في مقام منع الدلالة في غاية الوجاهة ، كما أنّ كونه وجها لإنكار الدلالة من منكريها في غاية البعد بل مقطوع بعدمه ، لعدم كونه ممّا يساعده الحجّة المذكورة ولا غيرها ممّا ذكروه في المقام ، وبذلك يشكل ما قدّمناه من تحقيق كون الأمر بالشيء دالاّ بالالتزام على النهي عن ضدّه العامّ المتضمّن للطلب الشأني ، لوجوب كون اللازم مغايرا لملزومه ذاتا واعتبارا ، وما ذكر من الطلب لا يغاير ملزومه.

فإن قلت : كيف لا يغايره مع أنّه طلب شأني والملزوم طلب فعلي.

قلت : هذه مغايرة بينهما بحسب الوصف ، والمعتبر فيما بين اللازم والملزوم هو المغايرة الذاتيّة وهي في أمثال المقام إنّما تحصل مع تعدّد موضوع الطلبين.

وقد عرفت أنّه في محلّ الكلام متّحد لتعلّقهما معا بالفعل الّذي هو أمر وجودي.

وبالجملة الأمر بالشيء لا يستلزم النهي عن ضدّه العامّ بمعناه الحقيقي ولو بالطلب الشأني.

نعم التعبير عن طلب الفعل « بافعل كذا » من شأنه التعبير عنه بـ « لا تتركه » ولكنّه لا يوجب تحقّق شيئين كون أحدهما ملزوما والآخر لازما له ، بل هو من قبيل طلبين واردين على شيء واحد بعبارتين يكون أحدهما مؤكّدا للآخر ولا ربط له بما هو مقصود في المقام.

فمحصّل الكلام : أنّ النهي عن الضدّ العامّ إن اريد به المنع عن الترك بالمعنى المقابل للإذن حسبما تقدّم فالأمر بالشيء يدلّ عليه تضمّنا ، وإلاّ فلا دلالة له عليه تضمّنا ولا التزاما ولا هو عينه ، ولا يلزم منه خروج الواجب عن كونه واجبا بالتقريب المتقدّم.

وثانيهما : القول بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ ، وقيّده بعض الفضلاء بكونه عينه في المعنى.

واحتجّ عليه : بأنّ معنى النهي حينئذ طلب ترك الترك لأنّ معنى النهي طلب الترك وطلب ترك الترك عين طلب الفعل في المعنى وذلك ظاهر ، وإنّما قلنا : إنّه عينه في المعنى ، إذ لا ريب في تغايرهما بحسب المفهوم كالوجود وعدم العدم.

ثمّ نقل اعتراض المصنّف على الحجّة الآتية بقوله : واعترض بأنّ النزاع يرجع حينئذ إلى اللفظ ، حيث سمى طلب الفعل طلبا لترك تركه فعبّر عنه بالنهي عن الضدّ وطريق ثبوته النقل عن أهل اللغة ولم يثبت ، فمرجعه إلى أنّ الأمر بالشيء له عبارة اخرى كالاحجيّة (١)

__________________

(١) الاحجيّة بتقديم « الحاء » على الجيم وتشديد الياء المثنّاة من تحت ، بمعنى اللغز ، نحو أنت وابن اخت خالتك.

٧٠٢

ومثله لا يليق أن يدوّن في الكتب العلميّة.

فأجاب عنه : بأنّ الكلام في عينيّة المفهومين بحسب الصدق لا في التسمية ، إذ لم يدّع أحد أنّ النهي عن الضدّ له معنى غير معناه المتداول أعني طلب الترك حتّى يطلب فيه بالنقل ، وعينيّة المفهومين في الصدق وإن كانت من الامور الواضحة إلاّ أنّ التشاجر في نظائرها غير عزيز في كتب القوم. انتهى.

وفيه : أنّ الفعل والترك المأخوذين في ماهيّة الأمر والنهي هما متقابلان تقابل الإيجاب والسلب ، فالمراد بالترك هو العدم الحقيقي المقابل للوجود ، وكما أنّ الوجود والعدم لا يصدقان على شيء واحد فكذلك طلباهما ، فترك الترك إذا كان لا يغائر الفعل بحسب الصدق فكذلك لا يغاير طلبه طلبه.

ولا ريب أنّ الأمر والنهي متغايران مفهوما ومصداقا حسبما ذكر ، فطلب الفعل مع طلب ترك الترك وإن كان يصدق عليهما « الأمر » صدقا حقيقيّا إلاّ أنّه لا يصدق على شيء منهما المنهيّ أصلا ، فيرجع الكلام حينئذ إلى دعوى أنّ الترك المأخوذ في ماهيّة النهي أعمّ من الترك الحقيقي والاعتباري ، فيرد عليها بحث المصنّف من أنّ طريق ثبوته النقل ولم يثبت ، بل الثابت خلافه كما لا يخفى.

وظنّي أنّ هذا الاحتجاج اشتباه نشأ عن ملاحظة كون الفعل عين ترك الترك بحسب المصداق ، وكون طلبه عين طلبه في الخارج غفلة عن أنّ مجرّد ذلك لا يوجب صدق عنوان « النهي » على ما صدق عليه « الأمر » حقيقة.

وبذلك تبيّن ما في كلام بعض الأفاضل من الفساد الناشئ عن هذا الاشتباه حيث قال ـ عند دعوى أنّ النهي عن الترك ليس مدلولا تضمّنيّا ولا التزاميّا ـ : إنّ حيثيّة [ تحتيم ] أحد النقيضين هي بعينها حيثيّة [ إلزام ] رفع الآخر ، فإنّ كلاّ من النقيضين رفع للآخر فليس هناك طلب آخر متعلّق بالترك ولا تحتيم آخر متوجّه إليه ، بل هناك طلب وتحتيم واحد متعلّق بالفعل وهو بعينه طلب لترك الترك وتحتيم له ، لكون الفعل بعينه تركا للترك ورفعا له ، فطلب ترك الترك هو عين طلب الفعل وحتميّته عين حتميّة ذلك الطلب ، فظهر أنّ دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه العامّ ليس على سبيل التضمّن ولا الالتزام ، بل ليس مفاد النهي المفروض إلاّ عين ما يستفاد من الأمر وإنّما يتغايران بحسب الاعتبار ـ إلى أن قال ـ : فحرمة الترك مفاد وجوب الفعل كما أنّ وجوب الفعل مفاد حرمة الترك ، وكذا الحال بالنسبة

٧٠٣

إلى حرمة الفعل ووجوب الترك ، ولذا كان ترك كلّ حرام واجب وترك كلّ واجب حراما من غير أن يكون هناك تكليفان ، فحيثيّة الأمر بالفعل هي حيثيّة النهي عن الترك ، إذ ترك الترك هو عين الفعل بحسب الخارج ، لكون الفعل والترك نقيضين وكلّ منهما رفع للآخر ، فيكون طلب كلّ منهما طلبا لترك الآخر ، إلى آخره.

فإن قلت : كيف تنكر تصادق الأمر والنهي عن الترك ، مع أنّ صدق المأمور به والمنهيّ عن تركه على شيء واحد من الضروريّات.

قلت : صدق المنهيّ عن تركه على ما صدق عليه المأمور به إنّما يدخل في عداد الضروريّات إذا كان المراد بالنهي المنع المقابل للإذن ، وإلاّ فعلى معناه الحقيقي المقابل للأمر لا صدق له أصلا وإلاّ لزم تصادق المتبائنين ، مضافا إلى لزوم التناقض بين مفهومي « النهي » و « الطرف » (١) كما لا يخفى.

وإن كان المراد بصدقهما على شيء واحد صحّة التعبير عن طلب الفعل « بافعل كذا ولا تتركه ».

ففيه : أنّ غايته كون مفاد العبارتين واحدا وهو غير مجد في المقام ، إذ الكلام في الصدق المعنوي وقد تقدّم في بحث الأمر أنّ « لا تتركه » من حيث المعنى أمر وإن كان من حيث اللفظ نهيا.

نعم هو باعتبار الصيغة نهي جريا على اصطلاح أهل العربيّة ، ولكنّه غير مراد في المقام.

ومن هنا تبيّن فساد ما قد يقال في الاستدلال على هذا المذهب من صحّة وقوع كلّ من الأمر بالشيء والنهي عن تركه تعبيرا عن الآخر ، ولذا ترى أنّ المريد للضرب مثلا يصحّ له الأمر به بقوله : « اضرب » أو النهي عن تركه بقوله : « لا تترك الضرب » فإنّ مفاد كلّ منهما واحد وهو الطلب الحتمي المتعلّق بالضرب.

وقد يقرّر : بأنّا نجد أنّ ما في ضمير المولى عند إرادة الطلب شيء واحد وهو تحتيم حصول الفعل في الخارج ، فله أن يجعل موضوع طلبه الفعل فيقول : « افعله » فيكون أمرا ، وأن يجعله الترك فيقول : « لا تتركه » فيكون نهيا ، فهو معنى واحد وله عبارتان ، فإنّ كون مفاد العبارتين واحد مسلّم وصدق « الأمر » على العبارة الاولى « والنهي » على العبارة الثانية على اصطلاح أهل العربيّة أيضا مسلّم ، غير أنّ النزاع ليس في ذلك الأمر اصطلاحي ،

__________________

(١) أي المقابل.

٧٠٤

احتجّ الذاهب إلى أنّه عين النهي عن الضدّ * :

__________________

بل النزاع في صدقهما بحسب المعنى وتحقّقهما باعتبار الواقع ، وقد عرفت أنّ مفاد العبارتين بحسب المعنى والواقع لا يصدق عليه إلاّ الأمر ، فدعوى كونه عين النهي إن اريد به معناه الحقيقي واضح المنع.

وقد يجاب أيضا : بأنّ صحّة وقوع شيء تعبيرا عن شيء آخر لا يقضي بكونه عينه ، إذ العينيّة لو اريد بها الترادف فانتفاؤها بهذا المعنى ليس ممّا يتأمّل فيه ، لانتفاء ما هو من لوازم المترادفين وهو الاتّحاد في المفهوم والمصداق ، وإن اريد بها التساوي فانتفاؤها بهذا المعنى أيضا واضح ، لأنّ من لوازم المتساويين صحّة حمل كلّ واحد على شيء واحد كالناطق والضاحك ، لصحّة حملهما على « زيد » بخلاف الأمر والنهي لعدم صحّة حملهما على شيء واحد ، فلا يقال : إنّ « اضرب » نهي ، كما يقال إنّه أمر ، وكذلك لا يقال : إنّ « لا تضرب » أمر ، كما يقال : إنّه نهي ، وإن اريد بها التلازم فالقول بها بهذا المعنى قول بالدلالة التزاما فلا يكون مقابلا له ، مع أنّ أصحابه يزعمونه مقابلا له ، ولا يخفى ما فيه من وروده على خلاف التحقيق كما يظهر بأدنى تأمّل.

* هذا القول منسوب إلى القاضي والمحكيّ من حجّته وجهان :

أحدهما : ما قرّره المصنّف ، وقضيّة ما فيه من بطلان التالي بجميع أقسامه تضمّن دعوى العينيّة الّتي تثبت برفع المقدّم لاتّحاد الأمر بالشيء مع النهي عن ضدّه الخاصّ ، وهو كما ترى ممّا لا يكاد يعقل بل الضرورة قاضية ببطلانه ، لوضوح تعدّدهما إنشاء وموضوعا ، كيف وأنّ الاتّحاد إمّا أن يراد به ما هو بحسب المفهوم أو ما هو بحسب المصداق ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ مفهوم « الأمر » طلب الفعل حتما وهو مغاير لطلب الترك حتما ، ولا سيّما إذا كان متعلّقهما فعل شيء وترك شيء آخر ضدّه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المصداق لو اريد به ما يرجع إلى المكلّف ، بدعوى : أنّ ما قام بنفس المولى من المعنى الإنشائي أمر واحد.

ففيه : أنّ تغاير الموضوعين ممّا يقتضي عند إرادة الجعل تعدّد الإنشاء والتصوّر قبله وغيره ممّا هو من لوازم الجعل.

٧٠٥

بأنّه لو لم يكن نفسه ، لكان إمّا مثله ، أو ضدّه ، أو خلافه * ، واللاّزم بأقسامه باطل.

بيان الملازمة : أنّ كلّ متغايرين إمّا أن يكونا متساويين في الصفات النفسيّة ، أو لا ـ والمراد بالصفات النفسيّة : ما لا يفتقر اتّصاف الذات بها إلى تعقّل أمر زائد ، كالإنسانيّة للإنسان. وتقابلها المعنويّة المفتقرة إلى تعقّل أمر زائد ، كالحدوث والتحيّز له ـ فإن تساويا فيها ؛ فمثلان ، كسوادين وبياضين.

وإلاّ ، فإمّا أن يتنافيا بأنفسهما ، بأن يمتنع اجتماعهما في محلّ واحد بالنظر إلى

__________________

فلو قيل : الإنشاء واحد وله إضافة إلى فعل المأمور به وإضافة إلى ترك ضدّه فبالاعتبار الأوّل يصير أمرا وبالاعتبار الثاني يصير نهيا.

قلنا : مع قضاء الوجدان بتعدّد الطلب لتعدّد محلّه ولوازمه كيف يصير إنشاؤه واحدا.

ولو اريد به ما يرجع إلى المكلّف ، ففيه : أنّ فعل المأمور به مع ترك ضدّه لكونهما متلازمين لهما وجودان متغايران ، فيوجب طلب كلّ منهما اشتغالا في ذمّة المكلّف ، ومعه كيف يقال : بأنّ ما يرجع إليه واحد.

ولو اريد به ما يرجع إلى المكلّف به ، بدعوى : أنّ المأمور به والمنهيّ عن ضدّه متصادقان على شيء واحد ، لصحّة أن يقال : إنّه مأمور به ومنهيّ عن ضدّه.

ففيه : مع كونه خروجا عن المتنازع فيه من حيث إنّ كلامهم على ما عرفت إنّما هو في الأمر والنهي على معناهما المصدري المبنيّ للفاعل ، أنّ الوصفين وإن كان يصحّ رجوعهما بحسب التركيب النحوي إلى المأمور به غير أنّ النزاع ليس في أمر لفظي ، ولا ريب أنّهما بحسب المعنى متغايران لتغاير ما يسندان إليه بعنوان الحقيقة ، فلذا يعبّر عن الأوّل بالوصف بحال الموصوف وعن الثاني بالوصف بحال متعلّق الموصوف (١).

* وأجود تقارير هذا الدليل ما في شرح الشرح من أنّه لو لم يكن عينه لكان إمّا ضدّا له أو مثلا له أو خلافا له ، والتالي باطل.

__________________

(١) قيل الصفات النفسانيّة ما لا يفتقر اتّصاف الذات بها إلى تعقّل أمر زائد عليها كالإنسانيّة للإنسان ، ويقابلها المعنويّة وهي ما يفتقر اتّصاف الذات بها إلى تعقّل أمر زائد عليها كالحدوث والتحيّز والشرط. ( منه عفي عنه ).

٧٠٦

ذاتيهما ، أو لا. فإن تنافيا كذلك ، فضدّان ، كالسواد والبياض. وإلاّ ، فخلافان ، كالسواد والحلاوة.

ووجه انتفاء اللازم بأقسامه : أنّهما لو كانا ضدّين أو مثلين لم يجتمعا في محلّ واحد ، وهما مجتمعان ، ضرورة أنّه يتحقّق في الحركة الأمر بها والنهي عن السكون الّذي هو ضدّها. ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر ، لأنّ ذلك حكم الخلافين ، كاجتماع السواد ـ وهو خلاف الحلاوة ـ مع الحموضة ، فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضدّ النهي عن ضدّه ، وهو الأمر بضدّه. لكن ذلك محال ، إمّا لأنّهما نقيضان ، إذ يعدّ « إفعل هذا » و « إفعل

__________________

أمّا الملازمة : فلانحصاره في الثلاثة على تقدير أن يكون غيره ، لأنّه حينئذ إمّا أن يكون مساويا له في صفات نفس الماهيّة أي في تمام ذاتيّاته أو لا ، والأوّل هما المثلان كزيد وخالد.

والثاني إمّا أن يتنافيا لذاتيهما أو لا ، والأوّل هما الضدّان ويندرج فيه النقيضان كالإنسان واللا إنسان والعدم والملكة كالبصر والعمى ، والضدّان الوجوديّان اللذان يكون بينهما غاية الخلاف كالسواد والبياض ، والثاني هما الخلافان كالحركة والسواد. وأمّا بيان بطلان التالي : فلأنّ الأمر بالشيء والنهي لو كانا مثلين أو ضدّين لم يجتمعا ، ضرورة امتناع اجتماع الضدّين والمثلين ، لكن الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه يجتمعان فلا يكون الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه مثلين ولا ضدّين.

ولو كانا خلافين لجاز وجود أحدهما مع ضدّ الآخر ومع خلاف الآخر ، لأنّ حكم الخلافين جواز اجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر ومع خلاف الآخر كالعلم والإرادة ، فإنّهما خلافان وجاز وجود العلم مع الكراهة الّتي هي ضدّ الإرادة والمحبّة الّتي هي خلافها ، وجاز وجود الإرادة مع الجهل الّذي هو ضدّ العلم ومع السخاوة الّتي هي خلاف العلم.

لكن يستحيل اجتماع الأمر بالشيء مع ضدّ النهي عن الضدّ ، لأنّ الأمر بالضدّ (١) ضدّ النهي

__________________

(١) كالأمر بالقعود مع الأمر بالقيام.

٧٠٧

ضدّه » أمرا متناقضا ، كما يعدّ « فعله » و « فعل ضدّه » خبرا متناقضا ؛ وإمّا لأنّه تكليف بغير الممكن ، وأنّه محال.

والجواب : إن كان المراد بقولهم : « الأمر بالشيء طلب لترك ضدّه » على ما هو حاصل المعنى : أنّه طلب لفعل ضدّ ضدّه ، الّذي هو نفس الفعل المأمور به ، فالنزاع لفظيّ ، لرجوعه إلى تسمية فعل المأمور به تركا لضدّه ، وتسمية طلبه نهيا عنه. وطريق ثبوته النقل لغة ، ولم يثبت. ولو ثبت فمحصّله : أنّ الأمر

__________________

عن الضدّ فيمتنع (١) اجتماع الأمر بالمتباينين إن لم يكن الضدّان نقيضين ، وهذا تكليف ما لا يطاق فلا يكون الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه خلافين ، وإذا بطل الأقسام الثلاثة بطل التالي.

واجيب عنه ـ كما في الكتاب المذكور ـ : بأنّ القاضي إن أراد بطلب ترك الضدّ الّذي هو معنى النهي عن الضدّ طلب الكفّ عن الضدّ نختار أنّهما خلافان ، ونمنع على ذلك التقدير ما جعله القاضي لازما للخلافين وهو جواز اجتماع الخلاف مع ضدّ الخلاف ومع خلاف الخلاف ، وذلك لأنّه قد يتلازم الخلافان كالعلّة ومعلولها المساوي لها فيستحيل جواز اجتماع أحدهما مع ضدّ الآخر وإلاّ يلزم اجتماع الضدّين لأنّ أحدهما لا ينفكّ عن الآخر ، وكلّما يصدق أحدهما صدق الآخر ، وأيضا قد يكون ضدّ أحد الخلافين ضدّا لخلاف الآخر كالظنّ والشكّ ، فإنّهما خلافان وكلّ منهما ضدّ العلم فيكون كلّ منهما ضدّ الآخر.

وإن أراد بطلب ترك ضدّه طلب عين الفعل المأمور به فلا يبقى نزاع في المعنى ، بل رجع المتنازع لفظيّا في تسمية الفعل بترك الضدّ ثمّ في تسمية طلب ذلك الفعل نهيا.

وثانيهما (٢) : أنّ السكون عين ترك الحركة ، فطلب السكون الّذي هو الأمر بالسكون هو بعينه طلب ترك الحركة الّذي هو النهي عن ضدّ السكون.

واجيب عنه : بمثل ما تقدّم من خروج النزاع لفظيّا.

والتحقيق في الجواب منع العينيّة لكمال المبائنة بين الوجود والعدم إلاّ أن يراد بها التلازم ،

__________________

(١) وهذا كما في النسخة الّتي عندنا وظنّي وقوعه في مكان « فيلزم اجتماع ... إلى آخره » سهوا من الناسخ وإلاّ لما استقامت العبارة. ( منه عفي عنه ).

(٢) أي ثاني الوجهين اللذين تمسّك بهما القاضي. ( منه عفي عنه ).

٧٠٨

بالشيء ، له عبارة اخرى ، كالاحجيّة ، نحو : « أنت وابن أخت خالتك ». ومثله لا يليق أن يدوّن في الكتب العلميّة.

وإن كان المراد : أنّه طلب للكفّ عن ضدّه ، منعنا ما زعموا : أنّه لازم للخلافين ـ وهو اجتماع كلّ مع ضدّ الآخر ـ لأنّ الخلافين : قد يكونان متلازمين ؛ فيستحيل فيهما ذلك ؛ إذ اجتماع أحد المتلازمين مع الشيء يوجب اجتماع الآخر معه ؛ فيلزم اجتماع كلّ مع ضدّه ، وهو محال. وقد يكونان ضدّين لأمر واحد ، كالنوم للعلم والقدرة ، فاجتماع كلّ مع ضدّ الآخر يستلزم اجتماع الضدّين.

حجّة القائلين بالاستلزام وجهان * :

الأوّل ـ أنّ حرمة النقيض جزء من ماهيّة الوجوب. فاللفظ الدالّ على الوجوب يدلّ على حرمة النقيض بالتضمّن **.

__________________

فيردّ : منع كون طلب أحد المتلازمين عين طلب المتلازم الآخر والوجه واضح بما تقدّم.

* والظاهر بقرينة المقابلة لما يأتي من حجّة القول بالاستلزام المعنوي كون المراد بالاستلزام هنا اللفظي ، وإذ قد عرفت أنّ القول بالدلالة اللفظيّة بين قائل بالتضمّن وقائل بالالتزام تعرف أنّ حمل الاستلزام هنا على ما يعمّهما ليس ببعيد ، كما يرشد إليه حجّتيه المقتضي أحدهما للأوّل والآخر للثاني.

** قضيّة ما قرّرناه من التوجيه كون المراد من النقيض ما يعمّ الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ ولا بعد فيه أيضا وإن كان خروجا عن الاصطلاح ، فيكون الاستدلال متضمّنا لدعوى الدلالة الالتزاميّة في كلّ من الضدّ العامّ والخاصّ.

فالجواب عنه بما نقله المصنّف ـ : من أنّهم إن أرادوا بالنقيض الّذي هو جزء من ماهيّة الوجوب الترك فليس من محلّ النزاع في شيء ، إذ لا خلاف في أنّ الدالّ على الوجوب دالّ على المنع من الترك ، وإلاّ خرج الواجب عن كونه واجبا. وإن أرادوا أحد الأضداد الوجوديّة فليس بصحيح ، إذ مفهوم الوجوب ليس بزائد على رجحان الفعل مع

٧٠٩

واعتذر بعضهم ـ عن أخذ المدّعى الاستلزام ، واقتضاء الدليل التضمّن ـ بأنّ الكلّ يستلزم الجزء *. وهو كما ترى.

واجيب : بأنّهم إن أرادوا بالنقيض ـ الّذي هو جزء من ماهيّة الوجوب ـ الترك ؛ فليس من محلّ النزاع في شيء ؛ إذ لا خلاف في أنّ الدالّ على الوجوب دالّ على المنع من الترك ، وإلاّ ، خرج الواجب عن كونه واجبا. وإن أرادوا أحد الأضداد الوجوديّة ، فليس بصحيح ، إذ مفهوم الوجوب ليس بزائد على رجحان الفعل مع المنع من الترك ، وأين هو من ذاك؟

وأنت إذا أحطت خبرا بما حكيناه في بيان محلّ النزاع ، علمت أنّ هذا الجواب لا يخلو عن نظر ؛ لجواز كون الاحتجاج لاثبات كون الاقتضاء على سبيل الاستلزام في مقابلة من ادّعى أنّه عين النهي ، لا على أصل الاقتضاء.

وما ذكر في الجواب إنّما يتمّ على التقدير الثاني.

__________________

المنع من الترك وأين هو من ذلك ـ في محلّه بناءا على الإغماض عمّا حقّقناه سابقا ، مع تسليم دعوى خروج الدلالة على النهي عن الضدّ العامّ عن محلّ النزاع ، وإلاّ فجوابه التحقيقي منع كون المنع عن الضدّ الخاصّ مأخوذا في ماهيّة الوجوب ، لما تقدّم تحقيقه من أنّ ماهيّة الوجوب ليست إلاّ طلب الفعل مع المنع عن الترك بالمعنى المقابل للإذن في الترك ، وهو ليس بعين النهي في شيء ولا ملزوما له وإن كان ملزوما لعدم الرضا ، كما أنّ الترك ليس بعين الضدّ الخاصّ في شيء.

نعم هو ملزوم لفعل الضدّ في وجه غير أنّه لم يتحقّق بالنسبة إليه نهي حقيقة.

ولو سلّم فهو لا يستلزم النهي عن لازمه كما يأتي ، هذا إذا اريد بالنقيض الضد الخاصّ ، ولو اريد به الضدّ العامّ فجوابه ما تقدّم مفصّلا وما ظهر هنا إجمالا.

* وهذا الاعتذار بناء على ما ذكرناه من التوجيه في محلّه وإن كان خروجا عن الاصطلاح ، لابتنائه على حمل « الاستلزام » على مجرّد عدم الانفكاك وهذا مفهوم يشمل الجزء واللازم ، ولكنّ المصنّف لم يرض به كما أشار إليه بقوله : « وهو كما ترى ».

٧١٠

فالتحقيق : أن يردّد في الجواب بين الاحتمالين ؛ فيتلقّى بالقبول على الأوّل ، مع حمل الاستلزام على التضمّن ، ويردّ بما ذكر في هذا الجواب على الثاني *.

__________________

وكأنّه استبعاد نشأ عن فهم كونه جاريا على الاصطلاح ، وهو كما ترى مع قيام القرينة على الخلاف وارد في غير محلّه ، فإنّ ذكر التضمّن في الدليل قرينة واضحة على ذلك ولا خفاء فيه أصلا ، كيف وإطلاق « الاستلزام » على المعنى الأعمّ غير عزيز في كلامهم ، كما يشهد به ما في بعض عناوين المسألة من التعبير عن الاقتضاء والدلالة بالاستلزام الشامل لجميع الأقوال حتّى القول بالعينيّة ، فلو كان الإطلاق المذكور محلاّ للمناقشة لكان ما ذكر من التعبير في العنوان أولى بالمناقشة فيه وهو باطل ، إذ لم نر أحدا من أهل الاصطلاح تعرّض لإيرادها.

وأمّا ما اعتذر عنه أيضا بعض الأفاضل : بأنّ القائل المذكور قد يقول بكون دلالة « الأمر » على الوجوب التزاميّة ، فيكون دلالته على المنع من النقيض التزاميّة أيضا لكونه جزءا من معناه الالتزامي ، فليس المراد بالتضمّن في كلامه هو التضمّن بمعناه المصطلح ليكون جزءا من معناه المطابقي ، بل أراد به الجزئيّة بالنسبة إلى معناه الالتزامي ، فلا يكاد ينطبق على سوق الدليل مع كونه تكلّفا باردا.

فإن قلت : بناء تصحيح كلام هذا القائل على التوجيه لا محالة ، وكما أنّه يتأتّى بالتصرّف في « الاستلزام » بحمله على غير معناه المصطلح ، فكذلك يتأتّى بالتصرّف في التضمّن بحمله على غير معناه المصطلح فلا ترجيح ولا أولويّة.

قلت : إطلاق « الاستلزام » في كلامهم على غير المصطلح كثير شائع ولا كذلك إطلاق التضمّن على غير المصطلح ، بل لم نجد له موردا فالحمل على الشائع أولى.

* وفي كون المراد بالاحتمالين احتمالي إرادة الضدّ العامّ من النقيض أو إرادة الضدّ الخاصّ منه ، أو احتمالي كون المراد « بالاستلزام » التضمّن أو معناه المصطلح على تقدير الشقّ الأوّل من احتمالي الوجه الأوّل ، أو احتمالي إرادة إثبات ما يرجع إلى كيفيّة الاقتضاء مع جعل أصل الاقتضاء مفروغا عنه متّفقا عليه أو إرادة إثبات ما يرجع إلى أصل الاقتضاء بزعم كونه محلاّ للخلاف على تقدير الشقّ الأوّل أيضا وجوه ، أظهرها الأوّل كما فهمه بعض المحقّقين.

ولا يلزم رجوعه إلى ما عدل عنه المصنّف من الجواب الّذي نقله ، لاشتماله في شقّه الأوّل

٧١١

الوجه الثاني ـ أنّ أمر الايجاب طلب يذمّ تركه اتّفاقا * ،

__________________

على نوع خصوصيّة لم يكن المصنّف ارتضى بها ، وهو ادّعاء كون النهي عن النقيض بمعنى الترك على سبيل التضمّن ليس من محلّ النزاع في شيء ، ومعلوم أنّ المغايرة يكفي فيها إلغاء تلك الخصوصيّة فيكون توجيه قوله : « فيتلقّى بالقبول على الأوّل » أنّه مسلّم لا بعنوان أنّه ليس من محلّ الخلاف ، بل بعنوان أنّه مطابق للواقع قبالا لمن يدّعي كونه على سبيل الالتزام.

وقوله : « ويردّ بما ذكر في الجواب » قرينة واضحة على إرادة هذا المعنى ، إذ لم يذكر فيه ما يناسب المعنيين الآخرين ، إذ الّذي ذكر فيه إنّما هو دعوى أنّ مفهوم الوجوب ليس بزائد على رجحان الفعل مع المنع من الترك.

وأمّا لو حملناه على المعنى الثاني يبقى قوله : « ويردّ بما ذكر في الجواب » بلا محلّ كما لا يخفى.

إلاّ أن يقال : بأنّ « اللام » إشارة إلى ما ذكره سابقا من الحجّة على مدّعاه ، نظرا إلى أنّه كما يصلح حجّة له يصلح جوابا عن خصمه في دعوى الالتزام ، ولكنّه في البعد بمثابة لا يكاد ينتقل إليه الذهن ، مضافا إلى أنّه يوجب خروج الجواب قاصرا عن إفادة ردّ الاستدلال بجميع تقاديره ، لبقاء احتمال كون مراد المستدلّ بالنقيض أحد الأضداد الوجوديّة خاليا عمّا يقضي ببطلانه.

إلاّ أن يقال : بكونه إحالة إلى ما ذكره في الاحتجاج على عدم الاقتضاء في الضدّ الخاصّ وهو أيضا في غاية البعد ، بل بعيد في بعيد.

ونظير ذلك يرد على الاحتمال الأخير ، وإن أمكن تصحيح قوله : « ويردّ بما ذكر في الجواب » بإرجاعه إلى ما ذكره في وجه قوله : « علمت أنّ هذا الجواب لا يخلو عن نظر ».

* وقيد « الاتّفاق » إمّا دليل على التحديد يعني كون أمر الإيجاب عبارة عمّا ذكر محلّ وفاق عندهم ، أو قيد للحدّ راجع إلى الإسناد في « يذمّ » بمعنى أنّ ترك الفعل في موضع الإيجاب ممّا اتّفق العقلاء على الذمّ عليه.

والأوّل باطل لمنع الاتّفاق على ما ذكر إن لم نقل بقيام الاتّفاق على خلافه ، كيف ولا ينبغي الاسترابة في أنّ الذمّ على الترك من عوارض الشخص لا من لوازم الماهيّة ، وإلاّ لزم انحصار الإيجاب في ملزوم الشخص وهو بديهي البطلان ، ولا ينافيه ما في كلامهم من

٧١٢

تحديد الوجوب بما يذمّ تاركه ، لأنّه ليس تحديدا لما يفهم من الأمر لغة وعرفا ، بل لما يقتضيه قرينة المقام الّذي هو أخصّ من الأوّل.

فإذا تعيّن الوجه التالي رجع محصّل الاحتجاج إلى النظر في لازم أخصّ كاشف عن فهم الأعمّ عند العقلاء وتبادره لدى العرف ، فيكون نظير استدلالهم بذمّ العقلاء على كون « افعل » حقيقة في الوجوب بالتوجيه الّذي قدّمنا ذكره في محلّه ، فعلى هذا يكون الدليل وافيا بتمام المدّعى من اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ ، سواء صدر ممّن يوجب مخالفته استحقاق أو غيره.

فلا وقع لما أجاب به عنه العضدي ـ على ما في شرح الشرح ـ من أنّ ذلك مبنيّ على كون الذمّ على الترك ممّا يعقله الآمر ويدلّ الأمر على لزومه عقلا لا أنّه يعلم بدليل خارجي وهو في محلّ المنع ، إذ العلم بالذمّ يستفاد من دليل خارجي ، ولهذا جوّز بعض الاصوليّين الإيجاب بدون الذمّ ولو كان الذمّ من معقول الإيجاب لما يمكن من تجويزه ، فإنّ كون الذمّ معقولا من دليل خارجي لا يقضي بكون النهي الّذي هو ملزوم له في موضع الدليل الخارجي معقولا عن دليل خارجي ، لجواز كونه معقولا عن نفس « الأمر » مع كون الذمّ معقولا عمّا قارنه من الدليل الخارجي ، كما أنّ الإيجاب معقول عن « الأمر » والذمّ على مخالفته معقول عن دليل مقارن له ، وهو كون الآمر ممّن يجب طاعته.

فإن قلت : إذا جاز استناد تعقّل الذمّ إلى دليل خارجي فكيف يعقل التفكيك بينه وبين تعقّل الإيجاب وتعقّل النهي عن الضدّ ، إذ الخطاب واحد وما قارنه من الدليل الخارجي مقارن له في جميع معقولاته.

قلت : ليس المراد بتعقّل الذمّ أنّه ينفهم عند الخطاب من الخارج ، لأنّه ممّا يترتّب على المخالفة وهي متأخّرة عن الخطاب ، بل بمعنى أنّ الاستحقاق لتوجّهه عند المخالفة ينشأ عن علوّ رتبة الآمر وتفوّقه على المأمور ، ولمّا كان ذلك فرع العصيان وهو فرع الوجوب يكشف عن فهم العقلاء للوجوب من الخطاب عند صدوره.

غاية ما هنالك احتمال استناد فهمهم إلى ما ذكر وهو مدفوع بالأصل.

فاتّضح بجميع ما ذكر أنّ الاحتجاج لو كان مرادا به ما ذكر كان ناهضا على دعوى الدلالة اللفظيّة الّتي يطالب فيها بالأمارات ، وأمّا كونها على سبيل التضمّن أو الالتزام فالإنصاف أنّه ساكت عن إفادته وصالح لكلّ منهما ، وإن كان الواقع في جملة من الكتب

٧١٣

ولا ذمّ إلاّ على فعل ؛ لأنّه المقدور * ، وما هو هاهنا إلاّ الكفّ عنه ، أو فعل ضدّه ، وكلاهما ضدّ للفعل. والذمّ بأيّهما كان ، يستلزم النهي عنه ، إذ لا ذمّ بما لم ينه عنه ، لأنّه معناه.

والجواب : المنع من أنّه لا ذمّ إلاّ على فعل ، بل يذمّ على أنّه لم يفعل. سلّمنا ، لكنّا نمنع تعلّق الذمّ بفعل الضدّ ،

__________________

الاصوليّة كالمختصر وشرحه وشروح شرحه حكايته عن القائل بالتضمّن فجوابه حسبما قرّرناه منع انفهام النهي عن الضدّ إن اريد به الخاصّ ، والذمّ على الترك مسلّم ولكنّه من لوازم وجوب الفعل ولا يقتضي ملزوما آخر لينظر في كون متعلّقه مقدورا أو غير مقدور ، والفعل مقدور عندكم على ما يقتضيه دليلكم.

* وهذه مقدّمة اخرى من الدليل. ولا يذهب أنّها تدافع المقدّمة الاولى ، لأنّ المأخوذ فيها كون الذمّ على الترك والثانية تنفيها ، إلاّ أن يوجّه : بأنّ الترك لكونه عدما والعدم ممّا لا تحصّل له في الخارج بل هو أمر يعتبره العقل فلا يتعلّق به قدرة المكلّف بل القدرة إنّما تتعلّق بما كان مبدءا له من الامور الوجوديّة ، وليس له منها مبدأ إلاّ الكفّ الّذي هو عبارة عن إمساك الجوارح عن الفعل أو فعل الضدّ الوجودي ، وكائنا ما كان فالذمّ المتوجّه إليه ظاهرا متوجّه إلى ذلك المبدأ واقعا فلا تدافع بين المقدّمتين إذا اختلفت نسبتاهما بحسب الظاهر والواقع ، ولكن يرد عليه :

أوّلا : المنع عن عدم كون الترك مقدورا ، والشبهة السوفسطائيّة لا تدفع الضرورة الوجدانيّة ، كيف وهو عبارة عن عدم الإقدام على الفعل وهو كالإقدام عليه اختياري للمكلّف ، ضرورة أنّ له حين الالتفات إليهما اختيار هذا أو اختيار ذاك ، فلذا ترى أنّه يسندهما إلى نفسه عند التردّد في شيء ، فيقول في نفسه : « هل أفعل ذلك أو لا أفعل »؟ كيف ولو لا ذلك لزم أن لا يكون الفعل أيضا مقدورا ، لأنّه أحد الطرفين اللذين يضاف إليهما القدرة الّتي هي عبارة عن كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك.

ولا ريب أنّ الأمر الإضافي ينعدم بانعدام أحد منتسبيه.

إلاّ أن يقال : بأنّ الإضافة حينئذ تؤخذ بين الفعل والكفّ أو فعل ضدّه ، فيقال : إنّ القدرة هي كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن شاء كفّ نفسه عن الفعل أو فعل الضدّ.

٧١٤

وثانيا : منع كون مبدأ الترك أحد الأمرين من الكفّ وفعل الضدّ ، لابتنائه على مقدّمة فاسدة عندنا وهو تحقّق التمانع فيما بين الأضداد الوجوديّة ، بل مبدؤه عدم الإرادة أو إرادة العدم كما هو الحال فيمن يعصي بترك الواجبات.

نعم في غيرها كثيرا مّا يستند الترك إلى عدم الإرادة ، ولا ريب أنّ إرادة العدم أمر اختياري للمكلّف ، فالذمّ على الترك من جهة كونه متولّدا عن الأمر الاختياري نظير سائر التوليديّات.

وثالثا : منع قضاء استناد الترك إلى أحد الأمرين ـ على فرض تسليمه ـ بتوجّه الذمّ إليهما حقيقة ، كيف وهو أيضا مبتن على أصل قد أفسدناه في بحث المقدّمة وهو كون الحكم المتعلّق بالمسبّب ظاهرا متعلّقا بسببه حقيقة ، فإنّ القدرة على السبب تكفي في تعلّق الحكم من إيجاب أو تحريم بالمسبّب الغير المقدور وترتّب جميع لوازمه عليه من ذمّ وعقاب ونحوه ، ولا داعي معه إلى تعلّق ذلك الحكم ولا مثله بالسبب المقدور إلاّ من باب المقدّمية ، وهو وإن كان مسلّما عندنا على فرض ثبوت المقدّمية إلاّ أنّه لا ينفع المستدلّ لخروجه عن مقصوده من الاستدلال كما لا يخفى.

فقوله : « والذمّ بأيّهما كان يستلزم النهي عنه » متّضح المنع ، لجواز كون الذمّ مسبّبا عن الترك الّذي هو مسبّب عن سبب اختياري ، كما أنّ قوله : « إذ لا ذمّ بما لم ينه عنه » واضح المنع ، لما تقدّم من أنّه لازم مترتّب على الأمر وإيجاب الفعل ولا يقتضي معه ملزوما آخر ليكون ذلك نهيا متعلّقا بالترك أو الكفّ أو فعل الضدّ.

وأمّا قوله : « لأنّه معناه » فأوضح فسادا من المقدّمات السابقة ، إذ ليس معنى الذمّ لغة ولا عرفا ولا شرعا إلاّ طلب الترك حتما ، والذمّ من أحكامه في بعض الصور وليس من مداليل اللفظ مطابقة ولا تضمّنا ولا التزاما كما عرفت.

وبذلك تبيّن أنّ مبنى الاستدلال ليس على التوجيه الّذي ذكرناه له تفضّلا ، فحينئذ يكون جواب قوله : « أمر الإيجاب طلب فعل يذمّ على تركه » منع ذلك ، كيف وأنّ الطلب من صفات الآمر والذمّ على الترك متفرّع عليه في بعض الصور ومتأخّر عنه بحسب الوجود ، لتسبّبه عن المعصية المتأخّر زمانها عن زمان الخطاب ، بل أمر الإيجاب هو طلب الفعل على سبيل الحتم والإلزام الّذي هو عبارة عن المنع من الترك ، وليس المنع من الترك عين النهي ولا ملزوما له كما حقّقناه مستوفي.

٧١٥

بل نقول : هو متعلّق بالكفّ ، ولا نزاع لنا في النهي عنه *.

واعلم : أنّ بعض أهل العصر حاول ** جعل القول بالاستلزام منحصرا في المعنوي ؛ فقال : التحقيق أنّ من قال بأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه لا يقول بأنّه لازم عقليّ له ، بمعنى أنّه لابدّ عند الأمر من تعقّله وتصوّره. بل المراد باللزوم : العقليّ مقابل الشرعيّ ، يعني : أنّ العقل يحكم بذلك اللزوم ، لا الشرع. قال : « والحاصل : أنّه إذا أمر الآمر بفعل ، فبصدور ذلك الأمر منه يلزم أن يحرم ضدّه ، والقاضي بذلك هو العقل. فالنهي عن الضدّ لازم له بهذا المعنى.

وهذا النهي ليس خطابا أصليّا حتّى يلزم تعقّله ، بل إنّما هو خطاب تبعيّ ، كالأمر بمقدّمة الواجب اللازم من الأمر بالواجب : إذ لا يلزم أن يتصوّره الآمر ».

هذا كلامه. وأنت إذا تأمّلت كلام القوم رأيت أنّ هذا التوجيه إنّما يتمشّى في قليل من العبارات الّتي أطلق فيها الاستلزام. وأمّا الأكثرون فكلامهم صريح في إرادة اللزوم باعتبار الدلالة اللفظيّة. فحكمه على الكلّ بإرادة المعنى الّذي ذكره تعسّف بحت ، بل فرية بيّنة.

واحتجّ المفصّلون على انتفاء الاقتضاء لفظا ، بمثل ما ذكرناه في برهان ما اخترناه ، وعلى ثبوته معنى بوجهين :

أحدهما : أنّ فعل الواجب الّذي هو المأمور به لا يتمّ إلاّ بترك ضدّه ،

__________________

* ولا يخفى أنّ ذلك يناقض ما ذكره سابقا في ردّ الجواب عن الوجه الأوّل ، فيرد عليه حينئذ كيف لا نزاع لكم مع أنّ المستدلّ لعلّه يقول بالنهي التزاما وأنتم تزعمونه تضمّنا.

** قيل : إنّه الفاضل الشيرازي « مولانا ميرزاجان » وكان الّذي دعاه إلى ذلك التنزيل احتجاج بعض القائلين بالاستلزام بقاعدة المقدّمية ، الّتي وجوبها تبعي ينشأ من العقل الصرف تبعا بملاحظة الخطاب بذي المقدّمة ، وهو كما ترى اشتباه صرف ناش عن عدم الإحاطة بأقوال المسألة وأدلّتها المقامة عليها فاعتراض المصنّف عليه في محلّه.

٧١٦

وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب * ، وحينئذ فيجب ترك فعل الضدّ الخاصّ. وهو معنى النهي عنه.

وجوابه يعلم ممّا سبق آنفا ؛ فإنّا نمنع وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به مطلق ، بل يختصّ ذلك بالسبب ، وقد تقدّم.

__________________

* واعلم أنّ هذا الدليل يتضمّن مقدّمتين :

إحداهما : أنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل المأمور به.

والاخرى : أنّ مقدّمة الواجب واجبة.

فالجواب عنه : إمّا بمنع المقدّمة الاولى كما هو مقتضى تحقيقنا المتقدّم ولا نطيل الكلام بإعادته ، أو بمنع المقدّمة الثانية. ويختلف ذلك باختلاف المذاهب في وجوب المقدّمة.

فمنهم من يمنعه لمنع وجوب المقدّمة مطلقا.

ومنهم من يمنعه لمنع وجوب المقدّمة الغير السببيّة كما عليه المصنّف.

ومنهم من يمنعه لمنع وجوب الغير الشرط الشرعي من المقدّمات كما عليه ابن الحاجب ومن تبعه.

ومنهم من يمنعه لمنع الوجوب الأصلي في المقدّمات وخروج الوجوب التبعي الثابت عن محلّ كلامهم كما عليه بعض الأعلام.

وقد يحكى في المقام وجوه اخر كما في كلام بعض الأفاضل :

منها : منع قضاء وجوب المقدّمة بوجوب ترك الضدّ على إطلاقه ، وإنّما يقضي بوجوب تركه الموصل إلى أداء الواجب ، فإنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة إنّما دلّ عليه من حيث إيصالها إلى الواجب لا مطلقا ، فإذا لم يكن المكلّف مريدا لفعل الواجب لم يكن ترك الضدّ موصلا إلى الواجب فلا يجب فلا يحرم ضدّه ليكون منهيّا عنه.

ومنها : أنّ المقدّمة إنّما وجبت للتوصّل إلى ذيها كما يعطيه دليل وجوبها.

وقضيّة ذلك اختصاص الوجوب بحال إمكان التوصّل ، وهو مع وجود الصارف عن المأمور به وعدم الداعي إليه المستمرّان مع الأضداد الخاصّة غير ممكن ومعه لا معنى للوجوب.

ومنها : أنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة على فرض تسليمها إنّما تنهض دليلا على الوجوب حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها دون ما إذا لم يكن له كما هو الحال عند

٧١٧

والثاني : أنّ فعل الضدّ الخاصّ مستلزم لترك المأمور به ، وهو محرّم قطعا ؛ فيحرم الضدّ أيضا ؛ لأنّ مستلزم المحرّم محرّم *.

والجواب : إن أردتم بالاستلزام : الاقتضاء والعلّيّة ، منعنا المقدّمة الاولى ، وإن أردتم به مجرّد عدم الانفكاك في الوجود الخارجيّ على سبيل التجوّز ، منعنا الأخيرة.

وتنقيح المبحث : أنّ الملزوم إذا كان علّة للازم لم يبعد كون تحريم اللازم مقتضيا لتحريم الملزوم ** ، لنحو ما ذكر في توجيه اقتضاء إيجاب المسبّب

__________________

اشتغاله بفعل الضدّ ، ولا يخفى ما في الجميع من الوهن.

وقد تقدّم توهين ما قبل الأخيرين في بحث المقدّمة بما لا مزيد عليه.

وأمّا الأخيران فيشير إليهما المصنّف فيما بعد ذلك ، وسنقرّر ما يرد عليهما إن شاء الله.

* هذا الوجه مع سابقه يمكن كونهما من فريقين : قائل أحدهما بمقدّميّة ترك الضدّ ، والآخر بمنع مقدّميّته ، فأقام كلّ دليلا على اقتضاء النهي على وفق مذهبه ، كما يمكن أن يكون كلاهما من فريق واحد قائل بالمقدّميّة أو بعدمها فجمع بينهما على سبيل التنزيل والمماشاة إلزاما لخصمه في الكبرى الموافق له في الصغرى ، فالمراد « بالاستلزام » في تقرير الوجه الثاني حينئذ إنّما هو مجرّد المقارنة في الوجود الخارجي مع إلغاء جهة المقدّميّة الملزومة للتوقّف ، إمّا لكون المتمسّك به ممّن لا يقول بها أو لكونه إلزاما لمن لا يزعمها في منع النهي عن الضدّ ، وكائنا ما كان فما في جواب المصنّف من الترديد بين الاحتمالين بقوله : « إن أردتم بالاستلزام الاقتضاء والعلّيّة منعنا المقدّمة الاولى ، وإن أردتم به مجرّد عدم الانفكاك في الوجود الخارجي على سبيل التجوّز منعنا الأخيرة » ليس في محلّه وكأنّه اشتبه عليه حقيقة الحال.

وأمّا قوله : « على سبيل التجوّز » فغير واضح الوجه على تقدير كون المراد بالاستلزام استحالة الانفكاك ، كيف وأنّ اللازم عندهم عبارة عمّا امتنع انفكاكه وكأنّه غفل عن هذا المعنى فذكر احتمال مجرّد عدم الانفكاك وكونه على سبيل التجوّز حينئذ بالنظر إلى الاصطلاح كما ذكره.

** ولمّا كان بناء الاحتجاج المذكور على توهّم امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم

٧١٨

وهي مسألة خلافيّة فيما بينهم فرام تنقيحها وتحقيق الحال فيها لابتناء جرح الاحتجاج وتعديله عليهما. ونحن بعد ما أبطلنا جميع طرقهم في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الخاصّ إلاّ هذا الطريق فلا مناص لنا من النظر في حكم تلك المسألة ليثمر في قبول الاحتجاج أو ردّه ، فنقول : إنّ المحكيّ من أقوالها على ما في الضوابط ثلاثة :

الأوّل : عدم الجواز مطلقا منسوب إلى الكعبي.

والثاني : جوازه مطلقا ، وهو مقتضى إطلاق عبارة البهائي في حاشية الزبدة في دفع الاحتجاج حيث قال : ولا يلزم من وجوب الملزوم وجوب اللازم كتبريد الوجه حال غسله في الوضوء.

وصريح السيّد شارحها حيث قال ـ في جملة ردوده على الاحتجاج ـ : سلّمنا أنّ فعل الضدّ علّة لترك المأمور به ، لكن لزوم تحريم العلّة من تحريم المعلول غير مسلّم ، إذ لا استحالة بل لا استبعاد عقلا وشرعا في وجوب المعلول وحرمته من دون وجوب العلّة وحرمتها ، بمعنى ترتّب الثواب والعقاب على الفعل والترك كما حقّق في مقدّمة الواجب.

وأمّا الوجوب العقلي بمعنى اللابدّية فمسلّم إلاّ أنّه لا يجدي. انتهى.

فإنّ تجويز الاختلاف في العلّة والمعلول يقتضي تجويزه في غيرهما بطريق أولى ، بل هو صريح الشيرواني في جملة كلام له حكاه السيّد ، ويظهر ذلك من بعض الأعاظم أيضا.

والثالث : ما ذكره المصنّف من التفصيل ويستفاد عن بعض الأعلام أنّه يوافقه في العلّة والمعلول دون المعلولين لعلّة واحدة.

واختار في الضوابط تفصيلا آخر منوطا بإمكان الامتثال بهما وعدمه ، ففي أربعة من عشرة صور لا يجوز اختلاف المتلازمين في الحكم ، وهي ما لو كان أحدهما واجبا والآخر محرّما أو مكروها ، أو كان أحدهما مندوبا والآخر مكروها ، وفي ستّة اخر يجوز اختلافهما وهي ما لو كان أحدهما واجبا والآخر مندوبا أو مباحا ، أو كان أحدهما محرّما والآخر مكروها أو مباحا ، أو كان أحدهما مندوبا أو مكروها والآخر مباحا.

وهل المراد بالحكم الّذي اختلفوا في جواز اختلاف المتلازمين فيه وعدمه ما يكون أصليّا ناشئا عن الصفة الكامنة المقتضية للرجحان أو المرجوحيّة أو التساوي حتّى يرجع النزاع نفيا وإثباتا إلى اشتراط اشتراك المتلازمين في الصفات الواقعيّة الّتي يتبعها الحكم الشرعي؟

أو ما يكون عرضيّا نظير الوجوب العرضي الثابت في لوازم المأمور به حتّى يرجع

٧١٩

النزاع نفيا وإثباتا إلى صحّة إضافة الحكم الأصلي الثابت لأحد المتلازمين من جهة اشتماله خاصّة على الصفة الكامنة إلى المتلازم الآخر على سبيل العرض والمجاز؟

أو ما يكون تبعيّا ثابتا من قبل العقل نظير وجوب المقدّمة حتّى يرجع النزاع نفيا وإثباتا إلى أنّ ما ينشئه الشارع من الحكم الأصلي التابع للصفة الواقعيّة الثابتة في أحد المتلازمين وإن كان واحدا إلاّ أنّ العقل بملاحظة عدم انفكاك المتلازم الآخر عنه في الوجود يحكم فيه بمثل ذلك الحكم ، بمعنى حكمه بكونه لازما لمراد الشارع شأنا من الخطاب؟ احتمالات منشؤها اغتشاش كلام القوم ، ولكن ظاهرهم على ما يشهد به التتبّع هو الاحتمال الأوّل.

فتحقيق المقام : حينئذ أنّه إن كان نظرهم في الجهة الاولى فلا ينبغي التأمّل في جواز اختلافهما في الحكم ، إذ ليس في حكم العقل ولا الشرع ما يقضي بامتناعه نظرا إلى جواز تعلّق الغرض الأصلي بأحدهما من جهة اشتماله خاصّة على الصفة الكامنة الموجبة للحسن وفي القبح الباعثة على ترتّب الثواب والعقاب بحيث يكون وجود المتلازم الآخر معه كالحجر الموضوع في جنب الإنسان فلا يترتّب عليه شيء من الآثار.

نعم قد يكشف إيجاب العلّة أو تحريمها عن حسن أو قبح في المعلول ، ولكنّه لا يثبت به كلّية المدّعى.

وإن كان نظرهم في الجهة الثانية فلا ينبغي الريب في جواز اتّصاف كلّ على سبيل العرض والمجاز بما اتّصف به الآخر على سبيل الحقيقة ، بل ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك ، بل هو نزاع ـ على فرض وقوعه ـ لا يترتّب عليه شيء من الآثار كما لا يخفى ، فيكون بعيدا منهم كمال البعد.

وإن كان نظرهم في الجهة الثالثة فالحقّ أنّه يختلف باختلاف الصور الّتي سنذكرها في المقامات الآتية.

وتفصيل ذلك : أنّ المتلازمين إمّا أن يستحيل الانفكاك بينهما عقلا أو لا ، بل كان تلازمهما لمجرّد عدم الانفكاك.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون استحالة الانفكاك لذاتهما كالعلّة والمعلول ، أو لعارض من جهة اشتراكهما في خارج يكون علّة لهما معا كمعلولي علّة واحدة.

وعلى الثاني : فإمّا أن يكون التلازم بينهما دائميّا كالحركة وعدم السكون أو بالعكس ،

٧٢٠