تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

وعلى الفرض الآخر لا أمر بدونه فلا صحّة على الفرضين ، فهو من جهة كونه أمرا مجملا مردّدا بين كونه شرطا للوجود الصرف أو شرطا للوجوب الصرف لابدّ فيه من التوقّف ، لكون الشبهة من باب الشكّ في الحادث لا الحدوث حتّى يكون للأصل فيه مجال ، ونظير ذلك الإقامة في السفر للصوم الفائت المضيّق وقته ، فإنّهم بعد ما اتّفقوا على كونها شرطا للصحّة اختلفوا في كونها قيدا للمأمور به أو للأمر ، فعلى الأوّل يكون المأمور به هو الصوم الصادر عن المقيم ، وعلى الثاني لا يصير الصوم واجبا إلاّ على المقيم.

وبعبارة اخرى : وقع الخلاف في كون الإقامة قيدا لمادّة الأمر في قوله : « صم » أو هيئته وعن المدارك ذهابه إلى الأوّل ، ومن هذا الباب نصب الإمام لإقامة الحدود الّذي بنى المعتزلة من العامّة على وجوبه على الرعيّة لكونه مقدّمة للواجب الّذي هو إقامة الحدود ، فإنّه شرط لصحّة الإقامة بلا إشكال ، وإنّما الإشكال في كونه مع ذلك قيدا للمأمور به فيكون الواجب حينئذ الإقامة الصادرة عن الإمام المنصوب ، أو قيدا للأمر فلا تصير الإقامة واجبة إلاّ بعد نصب الإمام.

ولذا أجاب السيّد عن الاستدلال المعتزلة على وجوب نصب الإمام على الرعيّة بكونه مقدّمة للواجب.

وحاصل الجواب : أنّ الاستدلال إنّما يستقيم لو ثبت أنّ الأمر بإقامة الحدود مطلقا ، بدعوى كون نصب الإمام مقدّمة لوجودها الصرف وهو في حيّز المنع ، لجواز كون الأمر بها مشروطا بوجود الإمام فلا تجب إلاّ عند وجوده ، فلا يكون نصبه واجبا على الرعيّة من جهة كونه شرطا للوجوب.

فمحصّل ما قرّرناه من البداية إلى النهاية : أنّ توهّم التوقّف إنّما ينشأ عن دوران الأمر بين التقييدين ، للقطع بأنّ في الأمر بشيء له شرط صحّة تقييدا مّا ولكنّه مردّد بين كونه في جانب المأمور به أو في جانب الأمر ، فيكون كلّ فيه على نهج سواء من دون اختصاص له بجهة الاشتراك حتّى يقال : بأنّ السيّد القائل به قائل بالاشتراك ، فلا وجه لما في كلام المشهور من إسناد هذا القول إلى السيّد.

نعم هاهنا شيء يكون الأخذ به انتصارا للمشهور ، وهو أنّ السيّد ذكر في جملة كلامه الّذي نقله المصنّف أمثلة ـ كنصاب الزكاة واستطاعة الحجّ ـ يمكن أن يستفاد منها كون توقّفه فيما إذا دار الأمر بين تقييد الأمر وعدمه بما علم بكونه ليس من مقدّمات الوجود

٤٠١

الصرف لا بين التقييدين.

والفرق بأنّ الشكّ على الأوّل إنّما هو في حدوث التقييد وعدمه ، وعلى الثاني في تعيين الحادث مع القطع بالحدوث ، ووجه استفادة ذلك عدم كون النصاب والاستطاعة من مقدّمات الوجود ، لعدم توقّف حصول الحجّ والزكاة في الخارج عليهما ، بل هما من مقدّمات الوجوب فيكون مورد التوقّف من هذا الباب ، بأن يكون الشكّ في شرطيّة شيء للوجوب مع العلم بعدم كونه شرطا للوجود أصلا ، فيدور الأمر حينئذ بين إطلاق الأمر وتقييده ، ولا يجوز التوقّف إلاّ من القائل بالاشتراك ، ولا ينفعه أصل عدم التقيّد وإنّما ينفع غيره من أصحاب سائر الأقوال.

والفرق أنّه من جهة الاشتراك يرى اللفظ مجملا بالنسبة إلى احتمالي الإطلاق والتقييد ، لثبوت الوضع لكلّ منهما فلا ظهور لأحدهما بالنسبة إلى الآخر ، بخلاف غيره لظهور الإطلاق عنده ولا سيّما على المختار ، وأنّ التقييد احتمال ينفيه الأصل.

ولكن يدفعه : أنّ ذلك احتمال يأباه كلامه مفادا ومساقا ، كيف وقد قسّم الأمر بالنسبة إلى المقدّمات المحرز كونها مقدّمات على كونه مشروطا مقيّدا وجوبه بوجود تلك المقدّمات ، ومطلقا مقيّدا وجود متعلّقه بحصول تلك المقدّمات.

وظاهر أنّ مورد الاشتباه مردّد بين القسمين ، فيكون الأمر فيه دائرا بين تقييدين لثبوت التقييد في كلّ من القسمين ، ولا ينافيه ما ذكر من الأمثلة لأنّها أمثلة ذكرها للقسم الأوّل ، وإلاّ فيعارضه ما ذكره أيضا من جملة أمثلة ما يكون شرطا للوجود الصرف كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

وعلى أيّ تقدير كان فمنشأ التوقّف إن كان هو الاشتراك بالنظر إلى الإطلاق والتقييد فقد اتّضح فساده بفساد مبناه كما تقدّم ، وإن كان هو الدوران بين التقييدين ولا مرجّح لأحدهما ، فيدفعه : رجحان تقييد الواجب لغلبة وقوعه في الشرعيّات وغيرها ، مضافا إلى أنّه أهون من تقييد الوجوب ، لأنّ إطلاق الأمر على تقديره شمولي لكونه إطلاقا في الأحوال فيشمل جميع الأحوال ، وإطلاق الواجب على تقديره بدليّ في الأفراد فلا يشمل إلاّ الواحد على سبيل البدليّة ، فيدور الأمر بين تقييد المطلق الشمولي وتقييد المطلق البدلي والثاني أهون فيقدّم ، مع أنّه على المختار راجع إلى المجاز والتقييد ، بناءا على ما قرّرناه من عدم استلزام نفي التقييد في المطلقات تجوّزا بخلافه في الأمر ، فإنّه إخراج للّفظ عن

٤٠٢

حقيقته إلى مجازه فيرجّح تقييد المأمور به حذرا عن المجاز ، وقد قرّر في محلّه أنّ التقييد أولى من المجاز.

وقد يذكر هنا وجه آخر لترجيح هذا التقييد وهو أنّ حمل المطلق على الإطلاق إنّما هو من جهة السكوت في مقام البيان ، حذرا عن تأخير البيان عن وقت الحاجة المستلزم للإغراء بالجهل ، وإنّما يستقيم ذلك في جانب الوجوب بعد تقييد الواجب بما هو محلّ الشبهة من الشرط ، إذ لو لم نقل بكون المراد بالأمر المطلق الشامل لكلّ من حالتي وجود الشرط وعدمه الإطلاق لمجرّد كون المراد به المقيّد الغير الشامل إلاّ لحالة وجود الشرط للزم الإغراء بالجهل وهو قبيح على الحكيم ، فيكون سكوته عن البيان في مقام البيان دليلا على إرادة الإطلاق ، فتعيّن كون الشرط قيدا للواجب بخلاف ما لو قيّدنا الوجوب بذلك الشرط فلا يجب الحكم بكون المراد بالمأمور به الّذي ظاهره الإطلاق هو الإطلاق ، إذ لولاه مرادا لما يلزم شيء ولا ينافي حكمة الحكيم ، لأنّ السكوت عن البيان إنّما ينافي الحكمة إذا استلزم الإغراء بالجهل وهو غير لازم منه إلاّ في وقت الحاجة ، والواجب إذا كان وجوبه مشروطا ليس له وقت حاجة ما دام مشروطا لعدم كونه واجبا بالفعل ، وإنّما يصير واجبا بعد وجود شرط الوجوب والمفروض في المقام عدمه.

فالسكوت عن البيان بالنسبة إلى الواجب لا يقضي بإرادة الإطلاق بخلافه بالنسبة إلى الوجوب ، فلابدّ حينئذ من تقييد الواجب حملا للأمر على الإطلاق لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الكلام لا يجري في مثل إقامة الحدود بالنسبة إلى نصب الإمام ، فإنّه لو كان شرطا للوجوب لكان حدوثه شرطا له ، ولو كان شرطا للواجب لكان الشرط بقاءه دون حدوثه خاصّة ، فيدور الأمر حينئذ بين شرطين لمشروطين لا بين مشروطين في شرط واحد ، فحينئذ لا مجال من التوقّف للزوم الإغراء بالجهل لو لا الحمل على الإطلاق في كلّ من جانبي الوجوب والواجب لو اريد بهما خلاف ما يظهر منهما.

أمّا في جانب الوجوب فظاهر ، وأمّا في جانب الواجب فلعدم كفاية تقييد الوجوب بحدوث الإمام في إفادة كون الواجب مشروطا بوجود الإمام وبقائه.

ويظهر الثمرة فيما لو تحقّق شرط الوجوب فقط بفرض حدوث الإمام المتعقّب بانعدامه ، فلابدّ من بيان ذلك الشرط أيضا لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل ، وسكوته عنه دليل على عدم كونه شرطا بخلاف ما لا يكون من هذا القبيل ، فإنّ تقييد الوجوب بالشرط

٤٠٣

المردّد في غير هذا المثال كاف في إفادة كونه شرطا للواجب ، إذ مع وجوده يتحقّق ما هو شرط لكليهما ومع عدمه لا وجوب حتّى يحتاج الواجب إلى بيان ما هو شرط له.

ولا يخفى ما فيه من الوهن ، فإنّ احتمال كون الواجب بعد تقييد الوجوب بذلك الشرط مقيّدا غير مناف للحكمة إن كان بالنسبة إلى هذا الشرط أيضا ، حتّى يكون مع وقوعه شرطا للوجوب شرطا للوجود أيضا ، فهو ـ مع أنّه مستحيل عقلا لاستلزامه اجتماع النقيضين كما تقدّم ـ خلاف الفرض ، لأنّ المفروض دورانه بين كونه في الواقع شرطا للوجود الصرف أو الوجوب الصرف ، إذ المقطوع به تقييد أحدهما مع بقاء الآخر على إطلاقه ، فلو فرض رجوعه إلى الوجوب تعيّن الواجب مطلقا ، كما لو فرض رجوعه إلى الواجب بقي الوجوب مطلقا فلا إغراء بالجهل على كلا التقديرين ، وإن كان بالنسبة إلى شرط آخر محتمل ثبوته فهو أيضا خلاف الفرض ، وعلى تقدير تسليمه فهو غير مطّرد في جميع صور المسألة ، فيبقى الإشكال غير مندفع بالنسبة إلى ما لا يحتمل فيه ذلك.

المقام الثاني : في الوجوب المستفاد من الأدلّة اللبيّة كالإجماع ونحوه ، كما لو انعقد الاجماع على وجوب صلاة الجمعة وشكّ في اشتراط وجوبه بوجود الإمام حتّى تكون الصلاة واجبا مقيّدا على تقدير ومطلقا على تقدير آخر ، فهل الأصل فيه كونه مطلقا أو مقيّدا أو لا أصل في البين؟

وظاهر أنّه لا مرجع حينئذ إلاّ الاصول العمليّة من أصلي البراءة والاشتغال والاستصحاب ، والمقامات تختلف باختلاف جريانها فيجري في بعضها ما يقضي من الاصول باشتراط الوجوب ، وفي بعضها ما يقضي منها بإطلاقه.

وضابطه أنّ الشكّ في الإطلاق والتقييد راجع لا محالة إمّا إلى الشكّ في المكلّف به أو في التكليف.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون في حدوث التكليف أو بقائه ، فإن كان الأوّل فهو من مجاري أصالة الاشتغال ، ومقتضاها كون الشيء شرطا للوجود فيكون الواجب مطلقا.

وإن كان الثاني فهو من مجاري أصالة البراءة ومقتضاها كون الشيء شرطا للوجوب فيكون الواجب مقيّدا.

وإن كان الثالث فهو من مجاري الاستصحاب ومقتضاه عدم اشتراط الوجوب والوجود بشيء فيكون الواجب مطلقا أيضا.

٤٠٤

وتفصيل ذلك : أنّ الشكّ إن كان في اشتراط الوجوب بحدوث شيء غير حاصل فهو من مجرى أصل البراءة وهو يقضي بالاشتراط ، لأنّ الشكّ في شرطيّة شيء غير حاصل للوجوب يرجع إلى الشكّ في التكليف حينما لم يكن ذلك الشيء موجودا ، وقضيّة الأصل براءة الذمّة عن التكليف وهو ملزوم لكون

الواجب مشروطا.

فإن قلت : الاشتراط قيد زائد وجوديّ ينفيه أصالة العدم ، فلا معنى للتمسّك بأصل البراءة في إثباته.

قلت : الاشتراط وإن كان بظاهره قيدا وجوديّا ولكنّه بحسب الواقع قيد عدمي وهو عدم الوجوب ، لأنّ الشكّ في اشتراط شيء في الوجوب كوجود الإمام لوجوب صلاة الجمعة ملزوم للشكّ في الوجوب والأصل عدمه ، وهو ملزوم للاشتراط وهو المراد بقولنا : « إنّ مقتضى أصل البراءة هو الاشتراط » ، على أنّ المراد بالأصل العملي ما يجب أن يكون العمل على طبقه ، وأصالة الاشتراط ما يطابقه بناء العمل وهو الحكم بعدم الوجوب ، فلا يرد توهّم كون الأصل مثبتا ، فليتدبّر.

وإن كان الشكّ في بقاء الوجوب بعد حدوثه بحدوث ما هو شرط له مع تعقّبه بانعدامه فورا ، كأن يكون مرجع الشكّ في بقاء الوجوب إلى الشكّ في أنّ هذا الشيء كما كان حدوثه شرطا للوجوب فهل بقاؤه أيضا شرط لبقاء الوجوب ، حتّى يلزم منه الحكم بعدم البقاء لانتفاء شرطه ، نظرا إلى أنّ الشكّ إنّما حدث بعد انعدام ما يصلح بقاؤه شرطا للبقاء ممّا كان حدوثه شرطا لحدوث الوجوب أو لا يكون بقاؤه شرطا ، حتّى يتّجه الحكم بالبقاء نظير التغيّر بعد زواله بنفسه في الماء المتغيّر بالنجاسة عند الشكّ في بقاء النجاسة وارتفاعها ، المسبّب عن الشكّ في أنّ بقاء التغيّر أيضا شرط للبقاء كما كان الحدوث شرطا للحدوث أو لا؟

وظاهر أنّ مقتضى الاستصحاب بقاء الوجوب ، وهو يلازم كون الواجب مطلقا.

وإن كان الشكّ في وجوب إبقاء شرط الوجوب بعد وجوده ، كالإقامة في السفر على تقدير كونها [ شرطا ] لوجوب الصوم الفائت أو المنذور ، فمقتضى الاشتغال بالصوم الثابت بوجودها المستدعي للقطع بالامتثال لزوم الإبقاء ، إذ القطع لا يحصل إلاّ مع الإتيان بالصوم مشتملا عليها ، فيجب كون الصوم في المثال المذكور حاصلا في حال الإقامة ، إذ بدونها لا يتأتّى ذلك جزما وهو يلازم كون الواجب أيضا مطلقا.

هذا كلّه إذا دار الأمر بين الإطلاق والتقييد ، وأمّا إذا دار بين التقييدين أعني تقييد

٤٠٥

الوجوب أو الواجب فلابدّ حينئذ من إعمال واحد من أصلي البراءة والاشتغال ، إذ الشكّ المفروض إن حدث قبل حصول الشرط يحكم بكونه شرطا للوجوب ، أخذا بموجب أصل البراءة النافي لاحتمال الوجوب اللازم للاشتراط ، وإن كان بعد حصوله يحكم بكونه شرطا للوجود حينئذ عملا بمقتضى أصل الاشتغال ، فالقطع بالامتثال بعد ثبوته بالاشتغال لا يحصل إلاّ به.

المطلب الثاني

فيما يتعلّق بالواجب باعتبار انقسامه إلى النفسي والغيري

واعلم أنّ الواجب قد يؤمر به للتوصّل إلى غاية مأمور بها ، كالصلاة بالقياس إلى التقرّب الّذي يعدّ غاية الغايات المأمور به كتابا وسنّة بل إجماعا وعقلا.

وقد يؤمر به لأجل غاية غير مأمور بها ، كالصوم بالإضافة إلى تصفية الباطن الّتي لم تؤمر بها إلاّ أنّها غاية مطلوبه من الأمر بالصوم.

وقد يؤمر به لأجل التوصّل إلى واجب آخر بالوجوب الفعلي كالوضوء بالنظر إلى الصلاة المأمور بها بعد دخول الوقت.

وقد يؤمر به لأجل التوصّل إلى ما سيصير واجبا كالأمر بالمقدّمات قبل الأمر بذي المقدّمات لعدم دخول وقته ، على القول بجواز تقدّم وجوبها على وجوب ذيها ومنه الغسل عن الجنابة في ليلة الصيام ، فهذه أربعة صور :

أوّلها وثانيها من الواجب النفسي ، وثالثها من الغيري ، وأمّا الأخير وإن كان قد يتخيّل في بادئ النظر خروجه عن القسمين ، ولكن تعمّق النظر يقضي باندراجه في القسم الثاني ، إذ لا يرتاب في أنّ الأمر لم ينشأ إلاّ عن الأمر بذي المقدّمة وإن لم يكن فعليّا ، بناء على كفاية التأخّر الرتبي في الترتّب فلا ينافيه التقدّم الزماني.

فقد تقرّر ممّا ذكر : أنّ الواجب النفسي ما امر به لمطلوبيّة نفسه ، والغيري ما امر به لمطلوبيّة غيره.

وإن شئت فقل في الأوّل : ما امر به لأجل نفسه أو ما وجب لنفسه.

وفي الثاني : ما امر به لأجل الأمر بغيره ، أو ما وجب لوجوب غيره ، أو لواجب غيره.

ولا ينتقض الثاني في طرده بالصورة الاولى ممّا ذكر لأنّ الأمر فيها ليس من جهة الأمر بالغاية وإن كان الحامل على الأمر هو ذات الغاية ومثل ذلك لا ينافي نفسيّة الواجب والاّ لأنتفى الواجب النفسي بالمرّة ، إذ ما من واجب إلاّ وله غاية داعية إلى إيجابه كما لا يخفى.

٤٠٦

وأمّا تعريف الثاني « بما كان الأمر به مسبّبا عن الأمر بشيء آخر » ويقابله الأوّل ، كتعريف الأوّل « بما لا يكون الأمر به من جهة الأمر بغيره فلعلّه غير خال عن نوع اختلال ، لانتقاضهما بجميع الواجبات لتسبّب الأمر بها عن الأمر بالإسلام وبما لم يكن أمر به ، لعموم ما لا يكون الأمر به من جهة الأمر بغيره بحسب المفهوم ، باعتبار احتمال رجوع النفي إلى كلّ من القيد والمقيّد فيكون شاملا لما ذكر.

وقد يعرّفان أيضا : بأنّ النفسي : ما تعلّق الطلب له لنفسه والغيري ما تعلّق الطلب به للوصلة إلى غيره ، وهو أيضا غير مستقيم لانتقاض الثاني ببعض الصور المتقدّمة بل بمطلق الواجبات النفسيّة ، لكون الوصلة إلى الغير مطلوبة في الجميع ولو بواسطة ، فإنّ الأمر بالصلاة مثلا وإن كان لإيجادها بنفسها ولكن المطلوب من إيجادها أيضا الوصلة إلى غاية التقرّب.

وما يقال في تصحيحه : من أنّ « اللام » هنا للتعليل على وجه مخصوص لا لمطلق التعليل لئلاّ ينتقض الحدّان بكثير من الواجبات النفسيّة غير مجد ، لأنّ النظر في الحدود بالقياس إلى الطرد والعكس وعدمهما إنّما هو إلى ظاهر ما يقتضيه الألفاظ المأخوذة فيها لا إلى ما هو المراد منها في الواقع ، وإلاّ فكلّ حدّ سالم عن جميع ما يرد من النقوض.

ولا ريب أنّ الوجه المخصوص غير ظاهر عن « اللام » بل هي بظاهرها تتناول الغايات الحاملة على الإيجاب.

فالقول في توضيح ما ذكر ـ بأنّ المطلوب من المكلّف في الواجب الغيري إنّما هو إيجاده للتوصّل به إلى غيره ، على أن يكون التوصّل به إليه مطلوبا منه وإن كان حاصلا عن الطلب أيضا ، والمطلوب منه في الواجب النفسي إيجاده فقط والتوصّل به إلى أمر آخر أو حصوله وإن كان خارجا فهو أمر خارج عن كونه مطلوبا منه ، وإنّما هو حامل على الطلب.

فالواجب النفسي ما يكون المطلوب من المكلّف في إيجابه نفسه دون التوصّل به إلى غيره.

والواجب الغيري ما يكون التوصّل به إلى غيره مطلوبا من المكلّف ، فاتّضح وجه الخصوصيّة أيضا ـ كلام ظاهريّ وارد على خلاف التحقيق ، إذ لو أنيط الفرق بأنّ التوصّل إلى الغير في الواجب النفسي إنّما يحصل بواسطة إيجاد الواجب فلا يكون ذلك هو المطلوب من الأمر به بل المطلوب به نفس الواجب ، فالأمر في الواجب الغيري أيضا كذلك ، إذ التوصّل إلى الغير فيه أيضا لا يحصل بمجرّد الأمر بل إنّما يحصل بواسطة إيجاد الواجب ، ولو انيط بأنّ متعلّق الطلب حقيقة في الغيري هو نفس التوصّل إلى الغير بخلاف

٤٠٧

النفسي فهو كذب وافتراء.

غاية الأمر أنّ إيجاد الواجب في الغيري مقصود تبعي وفي النفسي مقصود أصلي ، ومجرّد الفرق بينهما في الواقع لا يوجب اختصاص الحدّ بأحدهما دون الآخر في الظاهر ، مع قيام ما يوجب بظاهره التناول للجميع.

ولو قيل : بورود مثله على ما اخترناه من حدّ الغيري بما أمر به لمطلوبيّة غيره أو لأجل الأمر بغيره ، أو ما وجب لوجوب غيره ، أو لواجب غيره.

لدفعناه : بالفرق بين كون علّة الأمر بالواجب طلب الغير أو الأمر به أو وجوبه ، وبين غيره ، والأوّل هو الحال في الواجب الغيري ، ضرورة أنّه لو لا الامور المذكورة لما تعلّق الأمر به ، و « اللام » ظاهرة فيه دون الثاني لدخولها [ على ] تلك الأمور وهي تفيد العلّيّة في مدخولها بخلاف الواجب النفسي ، فإنّ الأمر به لا يكون معلولا للأمر بشيء آخر. وإن فرض له شيء من الغايات ، كالتقرّب ونحوه إذ لو لا تلك الغاية ملحوظة لتعلّق الأمر أيضا على ما يقتضيه اصول المذهب من اشتمال محلّه على الصفات الكامنة من المصالح والمفاسد النفس الأمريّة.

ثمّ إنّ الواجب قد يكون نفسيّا لا غير ، وقد يكون غيريّا لا غير ، وقد يكون نفسيّا وغيريّا باعتبارين ، وقد يكون نفسيّا ويشكّ في كونه غيريّا أيضا أو لا ، وقد يكون غيريّا ويشكّ في كونه نفسيّا أيضا أو لا ، وقد يثبت وجوبه ويتردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا.

وعلى كلّ تقدير فالدليل الدالّ على وجوبه إمّا لفظي أو لبّي ، فهذه ستّة صور في اثنتين ، والمرتفع اثنتا عشرة صورة ، ولا بحث هنا في ستّة منها وأمّا البواقي فيقع البحث عنها في مراحل :

المرحلة الاولى

فيما علم بكونه واجبا نفسيّا وشكّ مع ذلك في كونه غيريّا بالإضافة إلى واجب غيره ،كستر العورة الثابت وجوبه نفسيّا المشكوك في وجوبه للغير الّذي هو الصلاة ، فإن كان دليل ذلك الغير لفظيّا يرجع الشكّ إلى إطلاق ذلك الدليل وتقييده ، لكونه على تقدير الغيريّة أيضا شرطا لصحّة ذلك الغير فيخرج دليله عن الإطلاق.

ومن البيّن أنّ أصالة الإطلاق محكّمة والتقييد لا يلتزم به إلاّ في مورد الدليل وهو مفروض الانتفاء ، ويبقى أصل البراءة مؤيّدا له.

وإن كان لبّيا يرجع الشكّ إلى شرطيّة شيء للواجب فينبى على ما هو المختار في ذلك.

٤٠٨

ولمّا كان الراجح في النظر البناء على البراءة فهو قاض ببراءة الذمّة عن ذلك الشرط.

لا يقال : بعد ثبوت أصل الوجوب ـ كما هو المفروض ـ ما معنى أصل البراءة الّذي شأنه نفي الوجوب ، إذ لا يراد بذلك نفي وجوب ما يشكّ في كونه غيريّا بل نفي شرطيّته للغير ، وهو أمر قابل لنفيه بالأصل ، لأنّه على تقدير الشرطيّة يستلزم ضيقا على المكلّف في المشروط ويزيد عليه كلفة اخرى.

وقضيّة الأصل كونه في سعة بالنسبة إلى ذلك ، نظير ما يجري فيما بين الواجب العيني والتخييري فيقضي بتعيّن الثاني ، ولا فرق فيما ذكر بين كون دليل وجوب الواجب لفظيّا أو لبّيا.

المرحلة الثانية

فيما علم بكونه واجبا غيريّا وشكّ مع ذلك في كونه نفسيّا أيضا ، كالوضوء الّذي يثبت وجوبه الغيري بقوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ )(١) مع الشكّ في وجوبه النفسي من جهة الخلاف فيه بين الاصحاب.

وقضيّة الأصل فيه عدم الوجوب أيضا ، لكون الشكّ فيه واقعا في التكليف الصرف الموجب للعقاب ، وأصحابنا المجتهدون بل الأخباريّون مطبقون على إجراء الأصل هنا من غير خلاف ، ولا يفرق في ذلك أيضا بين قسمي الدليل.

المرحلة الثالثة

فيما لو ثبت الوجوب بلفظيّ وتردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا ، ولا إشكال بل لا خلاف ـ إلاّ ممّن سيظهر ـ في ظهور الأمر المجرّد في الوجوب النفسي ، كما يرشد إليه ملاحظة الاستعمالات الدائرة في العرف من غير فرق في ذلك بين الهيئة ومادّتي الأمر والوجوب.

وإنّما الإشكال بل الخلاف في أنّه ظهور وضعي أو إطلاقي من جهة الانصراف أو الإطلاق والسكوت في معرض البيان ، ففيه وجوه بل أقوال ، إلاّ أنّ إطلاق القول بكونه وضعيّا غير ثابت ، بل الثابت إطلاق القول بكونه إطلاقيّا كما عليه جماعة من الأواخر واختاره بعض مشايخنا ـ دام ظلّه ـ والتفصيل بين الصيغة والموادّ كلفظ « الأمر » و « الوجوب » و « اللزوم » ونحوها فالتبادر في الأوّل وضعيّ وفي غيره إطلاقي.

نعم ما حكاه بعض الأفاضل عن الشهيد من بلوغ الأمر في الوجوب الغيري بسبب

__________________

(١) المائدة : ٦.

٤٠٩

كثرة الاستعمالات إلى حدّ الحقيقة العرفيّة يومئ إلى إطلاق القول بالحقيقيّة بحسب اللغة في الوجوب النفسي.

ويمكن دفعه : بعدم منافاة ذلك للاشتراك المعنوي بحسب اللغة كما عليه الجماعة ، لجواز كون الحقيقيّة المدّعاة من باب ما يحصل في بعض أفراد المسمّى كما في « الدابّة » ونحوها ، فلا يلائمه حينئذ ما ذكره الفاضل المومئ إليه في توجيهه من أنّ الظاهر أنّه لم يرد به هجر الأوّل لظهور دوران الوجوب النفسي في الاستعمالات أيضا ، بل مقصوده على فرض حمل كلامه على ذلك مكافأة الأوّل لا ترجيحه عليه ، إذ ليس المعنى الأوّل على التقدير المذكور هو الوجوب النفسي خاصّة لئلاّ يلزم من دعوى حصول الحقيقة العرفيّة في الغيري إرادة هجر الأوّل ، ففرض الحقيقيّة في الفرد يستلزم هجر القدر المشترك إلاّ على احتمال كونه من باب تحقّق الاشتراك اللفظي بين الكلّي وفرده ، وهو بعيد ولا سيّما مع ملاحظة كون هذه الدعوى منه في مقابلة من توهّم ظهور الأمر في النفسي.

فالأولى جعل بناء كلامه على الوجه الأوّل ، ولا سيّما مع ملاحظة كون ورود الأمر في الاستعمالات بالنسبة إلى النفسي إلى حدّ في الكثرة لا يكاد ينكرها جاهل فضلا عن العالم.

وربّما يستظهر عنه والشهيد الثاني والمحقّق الكركي إنكار ظهور الأمر في الوجوب النفسي ، التفاتا إلى كثرة استعماله في الوجوب الغيري بحيث يكافأ ذلك ما ذكر من الظهور.

ومن هنا تعدّى إلى ما عرفت حكايته عنه وهو بمعزل عن التحقيق ، كيف وظهور الأمر في النفسي نظرا إلى غلبة استعماله فيه أو إطلاقه عليه ممّا لا ينبغي أن يستريب فيه ذو مسكة.

وعلى أيّ حال كان فالّذي يقوى في النظر القاصر كون الظهور وضعيّا مطلقا فيكون الأمر مطلقا مجازا في الغيري.

لنا : أنّه قسم من الواجب المقيّد ، لأنّه ما يتوقّف وجوبه على شيء غير حاصل ـ كما تقدّم ـ فيندرج فيه الغيري ، لأنّه ما يتوقّف وجوبه على وجوب الغير ، والمتوقّف عليه في مفهوم المقيّد أعمّ من وجود شيء أو وجوبه.

ولقد تقرّر أنّ الأمر مجاز في الوجوب المقيّد فكذلك ما هو قسم منه ، فيأتي جميع الوجوه المتقدّمة ثمّة ، فالمتبادر من الأمر المطلق مطلقا هو الوجوب النفسي وعدم تبادر الغيري علامة المجاز فيه والأصل فيه كونه وضعيّا ، فدعوى كونه إطلاقيّا من باب الانصراف أو غيره غير مسموعة ، والّذي يبادر في إتيان المأمور به مع قيام احتمال توقّف وجوبه على

٤١٠

وجوب ما لم يصر واجبا بعد لا يستحقّ ذمّا ولا عقابا ، ولو عاقبة الآمر لاستحقّ الذمّ العقلائي ، وإنّه لو أخّر الفعل معتذرا بالاحتمال المذكور لاستحقّ الذمّ والعقاب بلا إشكال.

وأنّه يصحّ أن يقال قبل وجوب الغير : أنّه ليس بواجب ولا بلازم ولا بمأمور به ، فيتمّ حكم الصيغة أيضا بما تقدّم من أنّ صحّة السلب لم تكن إلاّ لأجل انتفاء الطلب فعلا ، والّذي يستعمل فيه الصيغة من الوجوب الغيري ليس بطلب فعلي وإنّما هو تقديريّ مغاير للفعلي ، وإلاّ لم يكن السلب فيما ذكر صحيحا.

واحتجّ شيخنا ـ دام ظلّه ـ على ما اختاره من أنّ ظهور الأمر في النفسي ليس وضعيّا ليكون حقيقة خاصّة فيه ، بعدم سلبه عن الغيري وهو دليل على عدم المجازيّة ، وليس مشتركا لفظيّا بينهما لأصالة عدم تعدّد الوضع بل هو مشترك معنويّ لأنّه الأصل.

وعلى أنّ هذا الظهور على التقدير المذكور ليس من جهة الانصراف ـ كما توهّمه بعض الأفاضل ـ بعدم غلبة بالنسبة إلى النفسي في الوجود ولا في الاستعمال فلا يكون مشكّكا لانتفاء الأمرين اللذين هما من شرائط التشكيك ، بل هو ظهور من جهة الإطلاق ، بمعنى أنّ عدم تقييد اللفظ بوجوب الغير قاض بكون المراد به هو النفسي بحكم العقل ، إذ لو لا ذلك لوجب تقييده بوجوب الغير لئلاّ يلزم الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه القبيح على الحكيم على الإطلاق ، من غير فرق فيما ذكر بين كون اللفظ الدالّ عليه دالاّ بهيئته كصيغة « افعل » أو بمادّته كلفظة « يجب » ونحوها من مشتقّات تلك المادّة.

وفيه : مع أنّ عدم صحّة السلب ممّا لا يمكن جريانه في الهيئة الّتي هي العمدة في الباب كما لا يخفى ، أنّ عدم صحّة السلب إن اريد به عدم صحّة سلب الوجوب أو الأمر عن الغيري قبل وجوب الغير فهو إنكار للبديهة ، لما قرّرناه من وضوح صحّته ، وإن اريد به عدمها بعده فغير مجد لصيرورة الوجوب على هذا التقدير مطلقا وخروجه عن كونه مشروطا وهو معنى حقيقي للّفظ جزما ، أمّا إنكار غلبة النفسي من حيث الاستعمال فهو أيضا مكابرة والوجه ما تقدّم.

وأمّا قاعدة قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه المنوطة بحكم العقل فهي أيضا لا تكاد تنفع في إثبات المطلوب ، لأنّها قاعدة عامّة تجري بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة لنفي احتمال المجازات في موضع تجرّد اللفظ عن القرينة.

واحتجّ المفصّل على كون الصيغة حقيقة في النفسي ، بالتبادر الّذي الأصل فيه كونه

٤١١

وضعيّا لسلامته فيها عن المعارض ، وعلى كون تبادر النفسي في الموادّ إطلاقيّا بعدم صحّة سلبها عن الغيري ، فلا يصح أن يقال : إنّ الوضوء ليس بواجب أو بلازم أو بمأمور به ، فهو دليل على كون التبادر إطلاقيّا ، ولا يجري ذلك في الهيئة فيبقى التبادر سليما عن المعارض.

والجواب : أنّ التبادر وسلامته عن المعارض في الصيغة حقّ ، وعدم صحّة السلب في الموادّ غير مسلّم على تقدير ، وغير مجد على تقدير آخر.

والعجب عن هذا القائل إنّه بالنسبة إلى المطلق والمقيّد أطلق القول في كون الأمر حقيقة في المطلق خاصّة ومجازا في المقيّد ، فكيف يفصّل هنا مع أنّ الغيري قسم من المقيّد كما عرفت.

فبالجملة : نحن نقول بكون الأمر مطلقا مجازا في المقيّد ومنه الغيري ، ومن يدّعي خلاف ذلك فعليه بالإثبات وأنّى له بذلك.

فإن قلت : ما يدعوك إلى هذه الدعوى مع أنّ الأقرب بالذوق والأنسب بالاعتبار كونه لمطلق الطلب ، وهو المعرّى عن قيدي الإطلاق والتقييد الّذي هو القدر المشترك بين التنجيزي والتعليقي فيكون إطلاقه على كلّ منهما على وجه الحقيقة.

قلت : يدعونا إلى ذلك وضوح الفرق بين قول القائل : « أمرتك بكذا ، أو أوجبت عليك كذا ، أو ألزمت عليك كذا » وبين قوله : « أمرتك بكذا على تقدير كذا ، وأوجبت عليك كذا على تقدير كذا ، وألزمت عليك كذا على تقدير كذا » حيث إنّ المخاطب لو سئل على الأوّل عن ذلك الشيء لا يصحّ له أن يقول : إنّه ليس بمأمور به ، ولا بواجب عليّ ولا بلازم عليّ ، وعلى الثاني يصحّ له ذلك في الجميع ما لم يتحقّق المقدّر ويحصل الشرط ، وهو أقوى أمارة على كون استعمال الألفاظ المذكورة مجازا في المعلّق وحقيقة في المنجّز.

ويرشدك إلى ذلك عدم صحّته أيضا بعد تحقّق التقدير وحصول الشرط المعلّق عليه ، وليس ذلك إلاّ من جهة تنجّز الطلب وزوال التعليق ، فيلزم أن يكون المانع عن الصدق الحقيقي هو التعليق ، وقضيّة ذلك اعتبار التنجيز في الموضوع له.

فإن قلت : لو سألت المخاطب في المثال المذكور لا يصحّ له أن يقول : « إنّه ليس بمأمور به على تقدير كذا ، ولا بواجب على تقدير كذا ، ولا بلازم على تقدير كذا ».

قلت : مع أنّ عدم صحّة السلب يشترط أن يؤخذ اللفظ في محمول القضيّة مجرّدا عن القيود والقرائن ، فلذا لا يعدّ عدم صحّة السلب في قولنا : « الرجل الشجاع ليس بأسد يرمي » علامة للحقيقة ، أنّ الغرض الأصلي في المقام تحقيق كون الوجوب والطلب

٤١٢

التعليقيّين مناطا لصدق الألفاظ المذكورة حقيقة مع الإطلاق والتجرّد عن القيود والقرائن ، فنقول : يكشف عن عدم ذلك صحّة سلب كلّ من الألفاظ عمّا يثبت له ذلك الأمر المعلّق ، فلو كان ذلك فردا من المعنى الحقيقي على الوجه المقرّر وكافيا في الصدق الحقيقي لما صحّ السلب جزما.

فإن قلت : لعلّ الصحّة نشأت عن ظهور تلك الألفاظ في المنجّز ظهورا إطلاقيّا فلا تنهض دليلا.

قلت : بل نشأت عن ظهورها الوضعي ، للقطع بأنّ النفي إنّما يرجع إلى الطبيعة دون العوارض واللواحق الاعتباريّة ، فلذا لا يصحّ سلب « الإنسان » عن ذي رأسين مع أنّه في ظهوره في ذي رأس واحد بمثابة لا يقابله عديل من الألفاظ كما لا يخفى.

فإن قلت : أقصى ما يترتّب على ذلك مجازيّة تلك الألفاظ في غير المنجّز.

وأمّا الصيغة فأيّ وجه دعاك إلى الحكم بالمجازيّة فيها أيضا؟

قلت : دعانا إلى ذلك ما تقدّم إليه الإشارة إجمالا ، وتوضيحه : أنّ الواجب كما يصدق على ما تعلّق به مدلول تلك الألفاظ صدقا حقيقيّا فكذلك يصدق على ما تعلّق به مدلول الصيغة صدقا حقيقيّا.

ومن البيّن وضوح الفرق بين قولنا : « افعل كذا » وقولنا : « افعل كذا على تقدير كذا » فلذا يصحّ على الثاني أن يقال : ما لم يتحقّق التقدير أنّه ليس بواجب ولا بلازم بخلافه على الأوّل ، فلو لا مدلول الصيغة حقيقة هو الوجوب المطلق المنجّز خاصّة لما كان لذلك الفرق الواضح وجه ، ولا فرق فيما ذكر بين صدور الخطاب عن العالم بالعواقب أو غيره لكون العبرة بتنجّز الوجوب وتعلّقه.

غاية ما هنالك انّ الأوّل يعلم حين الخطاب أنّه يتنجّز أو لا يتنجّز لعلمه بعاقبة الأمر من جهة تحقّق التقدير وعدمه بخلاف الثاني ، وهو لا يوجب الفرق بينهما فيما ذكر من صحّة السلب كما لا يخفى.

نعم ربّما لا يصحّ السلب لو كان المقدّر زمانا من الأزمنة المستقبلة ، واخذ ذلك الزمان ظرفا للمطلوب لا قيدا للطلب ، حتّى يكون المراد من اللفظ الطلب فعلا لإيقاع الفعل مستقبلا ، ومثله ما لو كان المعلّق عليه أمرا غير زماني كقدوم الحاجّ مع العلم بتحقّقه مستقبلا ، وأخذه باعتبار زمان تحقّقه ظرفا للمطلوب بحيث كان الطلب فعليّا ، فحينئذ

٤١٣

لا يصحّ السلب ولو قبل تحقّق الشرط ، ولكنّه لا يقدح فيما قدّمناه لخروجه عن محلّ البحث بورود الطلب حينئذ مطلقا لا مقيّدا.

ثمّ إنّه لو ورد في شيء واحد خطابان أحدهما قاض بوجوبه النفسي والآخر بوجوبه الغيري كقوله : « تطهّر » مع قوله : « تطهّر للصلاة » فهل يوجب ذلك تقييد الأوّل بالثاني ، والحكم بكون المراد به أيضا هو الوجوب الغيري أو لا؟ بل لابدّ من إعمالهما معا والحكم بكون ذلك الشيء واجبا نفسيّا وغيريّا باعتبارين ، أو لابدّ من الوقف أوجه ، أوجهها الفرق بين صورتي العلم بوحدة التكليف وعدمه.

فعلى الأوّل ينتهض المقيّد قرينة على التجوّز في المطلق بإرادة الغيري لفهم العرف ، كما في قوله : « أطعم أسدا » مع قوله : « أطعم أسدا يرمي » في موضع العلم بأنّ لا تكليف إلاّ واحدا.

ويؤيّده أصالة البراءة عن العقاب وتعدّد التكليف ، بل تعدّد العقاب إذا لوحظ ذلك الشيء مع الغير الّذي امر به لأجل وجوبه ، وإن قلنا بترتّب العقاب على ترك الواجبات الغيريّة.

وعلى الثاني يبنى عليهما معا لأصالة الحقيقة وعدم المنافاة بينهما مع عدم تعذّر الحقيقة ، ولا يعارضها ندرة ما كان واجبا بكلا الاعتبارين لعدم غلبة في الغيري ، وكونها حاصلة فيما بينه وبين النفسي لا يجدي في الحمل عليه ، ولا سيّما مع ملاحظة كون النفسي أغلب منه كما تقدّم ، فلا أثر للندرة المذكورة ولا لتلك الغلبة ، ولو سلّم فلا نسلّم اعتبارها في خصوص المقام إذ لم يقم عليه دليل ، ولا فرق فيما ذكر من الفرق بين العلم بتاريخي الخطابين بأقسامه الثلاث وبين الجهل بهما أو بأحدهما.

ومن هنا يتبيّن الكلام فيما لو علم بوجوب شيء للغير بدليل غير لفظي كالإجماع ونحوه ، ثمّ ورد في ذلك الشيء خطاب لفظي قاض بوجوبه لنفسه ، فكون الأوّل موجبا لتقيّد الثاني وانصرافه إلى الوجوب الغيري مبنيّ على ما ذكر ، ومع عدمه يبنى على الظاهر فيلتزم بقسمي الوجوب لعين ما تقدّم.

المرحلة الرابعة فيما لو ثبت الوجوب بدليل غير لفظيّ وتردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا ، ومعلوم أنّ الفرض إنّما يصحّ فيما لوحظ معه غيره الّذي علم بكونه نفسيّا فشكّ في أنّه بالإضافة إليه هل هو واجب غيريّ أو لا؟ ولا يفرق في ذلك بين كون وجوب ذلك الغير بدليل لفظيّ أو لبّيّ ، فحينئذ لا مناص من المراجعة إلى الاصول العمليّة من براءة أو اشتغال ، ويختلف الحكم حينئذ.

٤١٤

فإن كان ذلك الشكّ حاصلا قبل وجوب ذلك الغير بدخول وقته رجع إلى أنّه هل هو مكلّف به أو لا؟ وهو شكّ في التكليف فيكون من مجاري أصالة البراءة ، إذ الأصل براءة الذمّة عن هذا التكليف بل عن تعدّد العقاب المترتّب على تركه مع ترك ذلك الغير بعد وجوبه ، فقضيّة ذلك كون وجوبه غيريّا وليس ذلك من باب الأصل المثبت ، لأنّ أصل الوجوب الدائر بين القسمين ثابت بالدليل ، فإذا نفى احتمال النفسيّة بالأصل تعيّن القسم الآخر في كونه مفادا للدليل فلا يكون ثابتا (١) بالأصل.

وإن كان حاصلا بعد وجوب الغير رجع إلى شرطيّته لذلك الغير ، فإن بني في تلك المسألة على العمل بالاشتغال فيحكم فيما نحن فيه بكونه شرطا ، لأنّه الموجب لحصول اليقين بالامتثال بعد اليقين بالاشتغال ، ويوافقه إستصحاب الأمر إن لم يكن يرجع إليه ، فيتّجه الحكم بالغيريّة من دون لزوم العمل بالأصل المثبت كما عرفت ، فيوافقه أصل البراءة الّذي كان جاريا قبل الوجوب ، وإن بني على العمل بالبراءة ـ كما هو الأقوى ـ يتوجّه الحكم بعدم الشرطيّة فيعارضها استصحاب الأمر إن غاير أصل الاشتغال ، ولكنّها واردة عليه هنا لما قرّر في محلّه وتقدّم منّا الإشارة إلى ذكر سرّه إجمالا في جملة من المباحث المتقدّمة.

نعم يبقى التعارض بينه وبين المجانس له الجاري قبل الوجوب من جهة أنّهما أصلان من جنس واحد ينفي أحدهما احتمال النفسيّة والآخر احتمال الغيريّة ، مع أنّ الواقع غير خال عن أحدهما ، ويمكن ترجيح ما يجري فيما بعد الوجوب على ما يجري فيما قبله لما يقتضي رجحانه على الاستصحاب وقاعدة الشغل ، نظرا إلى أنّ الشكّ معه سببي فإذا ارتفع بإجرائه يرتفع ما هو مسبّب عنه فيبقى الأصل الآخر بلا مورد كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الواجب الغيري أخصّ مطلقا من واجب المقدّمة على القول بوجوبها ، لأنّ الواجب من المقدّمة ما أوجبه العقل لوجوب غيره ، وهو قد يكون ممّا أوجبه الشرع لوجوب الغير ، فكلّ ما أوجبه الشرع لوجوب غيره فهو ما أوجبه العقل أيضا لوجوب ذلك الغير ولا عكس.

__________________

(١) والأصل إنّما يصير مثبتا إذا لم يدلّ على ما يترتّب عليه من الحكم دليل لا تفصيلا ولا إجمالا كما لو خرج المذي عن المكلّف فيشكّ في كونه موجبا للغسل أو الوضوء ، فإنّه إذا حكم بعدم وجوب شيء منهما عليه للأصل لا يجوز له الحكم بأنّ المذي ليس بناقض للطهارة شرعا ، ولا أنّه ليس من موجبات الغسل كالجنابة ونحوها لأنّه حكم لم يكن الأصل مسوقا لبيانه ولا أنّه ثابت بدليل وراءه ولو إجمالا فإثباته حينئذ لا وجه له إلاّ من باب العمل بالأصل المثبت ( منه عفي عنه ).

٤١٥

ولنختم الكلام بعد الفراغ عن أصل المطلب بذكر امور تتعلّق به :

الأمر الأوّل : في أنّ الواجب الغيري هل يعقل تعلّق الوجوب به قبل وجوب ذلك الغير الّذي في مقابله ، أو انّه لا يجب إلاّ بعد تعلّق الوجوب بذلك الغير؟ فيه قولان بل أقوال ، ثالثها : تفصيل بين ما لو كان ذلك الغير واجبا مضيّقا فيقدّم الوجوب على وجوبه ، وبين ما لو كان موسّعا فلا يقدّم.

وهذا الكلام كما ترى جار بل الخلاف واقع في سائر المقدّمات على القول بوجوبها ، وضابطه : أنّ ما وجب لوجوب غيره بخطاب تبعي عقلي كمقدّمة الواجب ـ على القول بالوجوب ـ أو بخطاب أصلي شرعي كالوضوء ونحوه من الواجبات الغيريّة بالأصالة فهل يتصوّر أن يتقدّم وجوبه على وجوب ذلك الغير أو لا؟

واختار بعض مشايخنا ـ مدّت إفاداته ـ القول الأوّل ، مصرّحا بأنّه إذا ثبت وجوب شيء في وقت وكان له مقدّمة ـ ولو شرعيّة ـ وعلم بأنّه سيصير واجبا بلا تخلّف فالعقل قاض بجواز اتّصافها بالوجوب مقدّما على وجوب ذيها ، بمعنى كونها ممّا لا يرضى الله عزّ وجلّ بتركها ولو قبل أن يطلب ذاها ، وهذا ممّا لا غائلة فيه ولتحقيق القول في ذلك وتفصيل الكلام فيه محلّ آخر أليق من المقام سيأتي إن شاء الملك العلاّم.

الأمر الثاني : لا يعتبر في تعلّق الوجوب بما يجب لغيره إرادة الإتيان بذلك الغير ، لأنّه في وجوبه متفرّع على ذلك الغير ، فكما أنّ الإرادة لا مدخل لها في وجوبه فكذا في وجوب ما هو فرع له.

نعم على القول بكونها من مقدّمات الوجوب ـ كما عليه أكثر العامّة ـ يتوجّه توقّف وجوبه على إرادة الإتيان بما هو أصل له ، ولكنّه في البطلان بمكان لا حاجة معه إلى البيان.

الأمر الثالث : هل الواجب الغيري يعتبر في الامتثال به قصد الامتثال بذلك الغير ، بحيث لولاه حين الإتيان به لكان المأتيّ به شيئا لا مدخل له بالمأمور به ولا يحصل به امتثال الأمر الغيري أو لا ، بل الامتثال حاصل بمجرّد الإتيان به ولو لم يكن عازما على الإتيان بذلك الغير؟ وجهان.

وربّما يستظهر ثانيهما عن جماعة ، واستشكل فيه شيخنا ـ زيد فضله ـ مرجّحا للوجه الأوّل وجعله لازما لقول من يرى نيّة الاستباحة شرطا في الوضوء ، بل وقصد رفع الحدث أيضا كذلك ، إذ لا معنى لقصد رفع الحدث إلاّ رفعه لأجل الصلاة فهو مستلزم لقصد الإتيان

٤١٦

بالصلاة ، بل الوضوء لأجل الاستباحة لا يعقل انفكاكه عن قصد الامتثال بالصلاة.

واستدلّ عليه : بأنّ القصد الّذي يعتبر في المأمور به حينما يتصوّر مقيّدا بكون الإتيان به مقرونا بقصد الامتثال إنّما يعتبر فيه بالعنوان الّذي امر به بذلك العنوان ، ومن المعلوم أنّ عنوان المأمور به في الواجب الغيري عنوان مقدّمي لا يتعلّق به غرض إلاّ التوصّل به إلى الغير ، فقصده عند الإتيان به بهذا العنوان لا ينفكّ عن قصد الامتثال بذلك الغير ، فالتفكيك بينهما غير معقول كما لا يخفى.

وبعبارة اخرى : الواجب الغيري مقدّمة شرعيّة للواجب النفسي ، والأمر بالمقدّمة لا يقصد به إلاّ الوصول إلى ذيها ، فامتثال الأمر بها لا يحصل إلاّ بقصد إمتثال الأمر بذيها فلو أتى بها لا بقصد امتثال هذا الأمر لا يعدّ ممتثلا في نظر العرف.

ألا ترى أنّ المولى لو أمر العبد بتحصيل درهم لاشتراء شيء مأمور به فحصّله العبد لا لأجل اشتراء ذلك الشيء بل لأجل اشتراء شيء آخر غير مأمور به أو مأمور به بأمر آخر لا يقال : إنّه امتثل الأمر ، وكذلك لو أمره بأن يعد من له عبد للضيافة وأمره أيضا بوعد عبده من جهة توقّف مجيئه على مصاحبة العبد معه ، فبنى على أن لا يعد المولى فوعد العبد لغرض نفسه لا يعدّ ممتثلا بل يستحقّ العقاب والمؤاخذة جدّا ، فعلى هذا لو أتى بالوضوء بعد التكليف بالصلاة بانيا على عدم الإتيان بها لا يكون ممتثلا بالوضوء الواجب الّذي هو مقدّمة قطعا.

ولا يخفى أنّ من الواجبات الغيريّة ما لا يعتبر في صحّته والامتثال به قصد الامتثال بالنسبة إلى أمره الغيري فضلا عن اشتراط قصد امتثال الأمر بما يقابله من الواجب النفسي ، كغسل الثوب وإزالة النجاسة عنه وعن البدن للصلاة ، فلابدّ وأن يخصّ محلّ الإشكال بما دلّ الدليل فيه على اشتراط قصد الامتثال ونيّة القربة ، بأن يكون له جهة تعبديّة مع جهته التوصّليّة كالوضوء وغيره من الطهارات الثلاث للصلاة ، وعلى هذا التقدير فالاعتبار وإن كان يقضي في بادئ النظر بكون القصد المذكور شرطا في امتثال الأمر ـ بل ربّما يقتضيه على التقدير (١) الآخر أيضا ـ ولكن قيام ذلك دليلا على تقييد المأمور به بذلك القصد ـ بحيث لو انتفى لم يكن المأتيّ به صحيحا ولا موافقا للمأمور به في نظر الآمر وإن اشتمل على قصد امتثال الأمر المتعلّق به ـ في غاية الإشكال ، كما أنّ إثبات كون ذلك شرطا للصحّة في غاية الصعوبة.

__________________

(١) وهو قضاؤه بالاشتراط حتّى في مثل غسل الثوب وإزالة النجاسة عنه وعن البدن للصلاة. ( منه عفي عنه ).

٤١٧

وتوضيح ذلك : أنّ الشارع ـ على ما يشهد به الوجدان السليم ـ إذا أراد أن يأمر بذي المقدّمة اعتبر هنا تركيبا بين امور متبائنة ، فلاحظه بجميع أجزائه الاعتباريّة مكيّفة بكيفيّات مخصوصة ، راجع بعضها إلى ما هو من أحوال المكلّف مقدورة للمكلّف أوّلا وبالذات كاستقبال القبلة وستر العورة أو ثانيا وبالعرض كالطهارة وتطهير الثياب والبدن ، وبعضها إلى ما هو من لوازم الفعل من زمان ومكان ونحوه ، ولمّا كان ما هو راجع إلى أحوال المكلّف من الامور المعتبرة مقدورا له بأحد الاعتبارين ، فلغاية لطفه ورأفته عليه وشدّة اهتمامه وعنايته بتلك الأحوال لاحظها بعنوان أنّها ممّا يتوقّف عليها وجود مطلوبه وما امر به ، فأمر بتحصيلها بقوله : « استقبل للصلاة » و « استر عورتك للصلاة » أو بإيجاد الأسباب الموجبة لحصولها بقوله : « توضّأ للصلاة » و « اغسل ثيابك وبدنك لها » ومعلوم أنّ امتثال الأمر بها بهذا العنوان يستلزم قصد امتثال الأمر بذيها لزوما بيّنا بالمعنى الأعمّ ، كيف لا وهو الداعي إلى الأمر بها ، فيكون الداعي إلى امتثال الأمر بها قصد الامتثال بذلك الأمر بحيث لو لا ذلك القصد لاستحال الإتيان بها بعنوان أنّها ممّا يتوقّف عليها وجود ذيها ، ولا سيّما مع ملاحظة لزوم قصد الوجه على القول به ، فالتفكيك بينهما على هذا الاعتبار غير معقول.

فإن قلت : لا ملازمة بين امتثال الأمر بها وقصد امتثال الأمر بذيها ، لأنّ الامتثال عبارة عن موافقة الأمر وهي حاصلة ولو بدون القصد المذكور.

قلت : الامتثال هو الإتيان بالمأمور به على وجهه ، والإتيان بالمقدّمة على جهة المقدّمية لا ينفكّ عن قصد الإتيان بذيها امتثالا للأمر به.

والسرّ في ذلك : أنّ كلّ فاعل لابدّ له من علّة محرّكة له إلى الفعل ، ولا يعقل لفاعل المقدّمات بعنوان أنّها مقدّمات علّة محرّكة إليها إلاّ قصد الامتثال بذيها ، مع أنّ امتثال الأمر بها يتوقّف على قصد ذلك الامتثال فيما هو شرط في صحّته والأمر بها مسبّب عن الأمر بذيها ، وقصد امتثال الأمر المسبّب من حيث إنّه مسبّب يستلزم قصد امتثال الأمر السببي.

وأنت خبير بما في ذلك من ضعف مستند حكم العقل ، فإنّه مبنيّ على ثبوت اعتبار قصد العنوان في حصول الامتثال ، وهو بمكان من المنع حيث لا دليل عليه من عقل ولا نقل.

وبالتأمّل فيما قرّرناه في المباحث المتقدّمة المتضمّنة لبيان عدم اشتراط الامتثال بالمأمور به بقصد العنوان يعرف ما هو حقيقة الحال في هذا المقال ، ولا قضاء للعقل ولا للشرع فيما لو كان المأمور به من المقدّمات الّتي أمرها غيري بدخول قصد عنوان المقدّمية

٤١٨

في المأمور به ، بحيث لولاه لكان المأتيّ به أمرا لا دخل له في المأمور به.

وكون عنوان المقدّمية ممّا تصوّره الآمر فأمر بما له ذلك العنوان كالوضوء ضرورة أنّه لم يتصوّره في حدّ ذاته ولا أمر به لنفسه وإلاّ لخرج عن كونه واجبا غيريّا ، لا يقضي بتقييد المأمور به بما قصد فيه ذلك العنوان في مقام الامتثال وإنّما هو مصلحة داعية إلى الأمر ، فيكون من باب العلل التعليليّة وعلى تقدير تسليم كونه علّة تقييديّة فهو قيد في المأمور به يترتّب عليه اشتراط ترتّب الإتيان بذي المقدّمة ، وامتثال الأمر به على الامتثال بالمأمور به ، بمعنى أنّه يوجب كون متعلّق الوجوب ما يحصل فيه وصف المقدّمية ويتوصّل مع الإتيان به إلى ذي المقدّمة فعلا ، فما يؤتى به ولم يترتّب عليه التوصّل لم يكن بما هو واجب من المقدّمة ، وهو لو تمّ كلام آخر يأتي إلى تحقيقه الإشارة ، فلا ملازمة بينه وبين قصد عنوان المقدّمية كما لا يخفى.

ولو سلّم الملازمة أيضا يتوجّه المنع إلى استلزام ذلك القصد لقصد امتثال الأمر بذي المقدّمة كما هو المطلوب ، ضرورة أنّ الأمر بشيء لغاية مطلوبة والإتيان به امتثالا لذلك الأمر لا يقضي بلزوم قصد ترتّب تلك الغاية حين الفعل لجواز الذهول والغفلة.

ولو سلّم ذلك أيضا نظرا إلى أنّ قصد الإتيان بما يتوصّل به إلى شيء امتثالا للأمر به لا ينفكّ عقلا عن قصد التوصّل إلى ذلك الشيء ، ولا نعني من قصد امتثال الأمر به إلاّ هذا ، فهو من اللوازم العقليّة وفرق واضح بين ما هو لازم للشيء عقلا وكونه معتبرا في الأمر به.

ألا ترى أنّ المكان من لوازم فعل المأمور به مطلقا ، وليس بمعتبر فيه بحيث لو فرض إمكان الفعل بلا مكان لكان المأتيّ به غير ما هو مأمور به ، وعمدة المطلوب في المقام والمهمّ إثباته لإنهاض المرام هو الثاني دون الأوّل.

والدليل العقلي المتقدّم لا يوجبه ولا دلالة سواه عقلا ونقلا ، فلذا تراهم يعتبرون في امتثال الأمر ببعض الواجبات الغيريّة ـ كالطهارات الثلاث ـ امورا ليس المبحوث عنه بشيء منها.

ودعوى : أنّ القول باشتراط قصد الاستباحة بل واشتراط قصد رفع الحدث يستلزم القول بذلك لا يكاد تستقيم ، بمنع الملازمة بين الأمرين عقلا ولا عرفا ، لجواز أن يكون المراد باستباحة الدخول في الصلاة أن يحصل به حالة هي قابليّة الدخول فيها لو أراد الدخول بعده ، من دون أن يكون إرادة الدخول غاية لفعله ، وكذا القول في رفع الحدث بأن يكون المقصود حصول تلك الحالة بحيث لو أراد الدخول معها فيها لجاز من دون أن يؤخذ إرادة

٤١٩

ذلك فعلا قيدا فيه.

ودعوى : أنّ ذلك خلاف ظاهرهم ، بل الظاهر عدم إرادتهم بهما هذا المعنى ، لأنّهم يستدلّون على اشتراط ذلك في الوضوء بأنّ المتبادر من قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ )(١) ـ الآية ـ هو كون الوضوء لأجل الصلاة ، أي « اغسلوا وجوهكم لأجل الصلاة » كما يقال في العرف : « إذا لاقيت الأسد فخذ سلاحك » أي خذه لأجل لقائك الأسد ، فلا وجه للتوجيه المذكور في كلامهم ، فيلزم أن يحصل الامتثال بمقدّمة الصلاة لو لم يقصد الامتثال بها أو قصد الإتيان بغيرها ، فلذا ذهب جماعة كابن إدريس والشيخ إلى أنّه لو اغتسل الجنب للجنابة لأجل الدخول في المسجدين لا يجوز له اللبث فيهما ، لأنّ جوازه مشروط بالغسل لوجوبه عنده ، والمفروض عدم كون الغسل المأتيّ به لأجله.

يدفعها : منع تبادر هذا المعنى من الآية ، بل المتبادر منها أنّ وجوب الوضوء إنّما هو لأجل القيام إلى الصلاة ، وهو أعمّ من لزوم قصد الإتيان بالصلاة عند الإتيان بالوضوء الواجب.

واستدلالهم بالآية لاعتبار الأمرين ـ مع أنّه قابل لردّه بمنع الدلالة في الآية على اعتبارهما كما لا يخفى ـ لا يقتضي أزيد من إرادة إثبات ما ذكرناه من حصول القابليّة وهو أعمّ من فعليّة إرادة الدخول كما عرفت.

والمثال العرفي معارض بمثله فيما لو قال : « إذا جاءك زيد فأكرمه » حيث لا يتبادر منه إلاّ كون علّة وجوب الإكرام هو المجيء ، وأمّا كون الإكرام مقرونا بقصد كونه لأجل المجيء لا ينساق منه عرفا ، كما أنّ قول الجماعة معارض بما لو اغتسل الجنب عن الجنابة للصلاة فإنّه يجوز معه الدخول في المسجدين واللبث فيهما إجماعا ، مع أنّه لم يأت به لأجل ذلك.

وأمّا الاستشهاد على عدم الامتثال عرفا لو أتى بالمقدّمة خالية عن قصد الامتثال بذي المقدّمة بما تقدّم من المثالين المتقدّمين في تقرير الاستدلال على اعتبار القصد المذكور ، فهو أيضا في غاية الوهن.

أمّا المثال الأوّل : فلمنع عدم الامتثال عرفا لو حصل الدرهم لا بقصد كونه لأجل الاشتراء إن اريد بالامتثال الإتيان بالمأمور به ، لوضوح أنّه يصدق عليه أنّه آت بالمأمور به وهو الدرهم ، ولو اريد به معنى آخر فلا دخل له في ما هو مفروض المقام.

فإن قلت : المراد به الإتيان بالمأمور به على وجهه ، وهو ليس بحاصل في المقام.

__________________

(١) المائدة : ٦.

٤٢٠