تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

لكان خلاف الفرض والتقادير كلّها باطلة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الّذي ينافي الحكمة إنّما هو إرادة ترك المقدّمات حتما بالفعل أو الرضاء بتركها ـ لإفضاء الأوّل بالنسبة إلى ذي المقدّمة إلى التكليف بما لا يطاق ، فلذا صار المحقّقون إلى عدم جواز اجتماع المقدّمة مع الحرام ، وإفضاء الثاني بالنسبة إليه أيضا إلى نقض الغرض ، أو الجمع بين النقيضين لأنّ الرضاء بترك المقدّمة في معنى الرضاء بترك ذيها وهو يناقض المنع عن تركه ـ لا عدم إرادة فعل المقدّمات حتما بالفعل وإلاّ لانسدّ باب الدلالة بالإشارة في خطابات الحكيم ، بناء على أنّها لم يخصّصها أحد بغير الاقتضائيّات مع أنّ المناط واحد ، فالّذي يسوّغها في غيرها ـ كما في دلالة الآيتين على أقلّ الحمل ـ يسوّغها فيها من غير فرق ، فإبداء الفرق عن كلّ من يبادر إليه تحكّم.

وأمّا الثاني : فلأنّ المراد بالعلم إمّا التصديق بمقدّمية المقدّمة أو الإذعان بوجوبها.

وأيّا مّا كان فلا يستلزم المطلوب ، إذ الأوّل لا يلازم إرادة فعلها حتما بالفعل ولا يوجب انتفاؤها فعلا انقلابه جهلا ، لتعدّد موضوعيهما.

ولو سلّم الملازمة فهي بين الإرادة الحتميّة والعلم بالعلم لا بينها وبين نفس العلم ، والذهول عن العلم ممكن عقلا بل شائع وقوعه خارجا ، وهو قد يوجب عدم تحقّق الإرادة الحتميّة فعلا.

والثاني مسبوق بتحقّق الإرادة فعلا (١) فكيف يجعل تحقّقها فعلا متفرّعا عليه إلاّ على تقدير جواز الدور ، ولو دفع ذلك بأنّ العلم سابق على تحقّق الإرادة ، لأنّ المراد به العلم بأنّ مقدّمات كلّ مأمور به من شأنها أن يريدها الآمر حتما عند إصدار الأمر فعلا ، وهو لا يتوقّف على صدور الأمر فعلا فضلا عن الإرادة الفعليّة ، لأنّه حاصل لكلّ أحد ولو لم يصدر منه أمر قطّ ، فلم لا يكتفى به بعد صدور الأمر أيضا؟ لأنّ مبناه على جعل الإرادة والطلب المعتبرين في الوجوب أعمّ من الشأني ، فإذا صدق الوجوب معهما شأنا لا يتفاوت الحال حينئذ بالنسبة إلى ما قبل الأمر أو ما بعده ، فلا وجه لالتزام أنّ العالم بوجوب المقدّمة يلزمه تحقّق الإرادة الفعليّة حتما بالنسبة إليها ، لجواز أن يستمرّ على العدم الأصلي اكتفاء في إيجابها بالطلب الشأني ، وعليه لا يتفاوت الحال أيضا بين العالم والجاهل لتساوي نسبة القضيّة الشأنيّة إليهما معا ، فلا وجه لصرف دعوى وجوب المقدّمة عمّا صدر من غير العالم.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فالملازمة ـ على فرض تسليمها ـ إنّما هي بين الإرادة

__________________

(١) لأنّ الآمر بعد ما أراد فعل المقدّمة حتما حصل له العلم بوجوبها فهو موقوف على تحقّق الإرادة فعلا وبدونه لا علم ( منه ).

٥٠١

الفعليّة والتفطّن بالعلم بالوجوب ، لا بينها وبين نفس العلم بالوجوب ، إذ الغفلة عن العلم ممكن ومنه ينشأ انتفاء الإرادة فعلا.

وأمّا الثالث : فلأنّ البناء على كفاية الإرادة والطلب الشأنيّين في ثبوت الوجوب يوجب عدم لزوم المحافظة على إيجاد الفعليّين منهما ولو مع الشعور بالمقدّمة وعليه يبطل دعوى الاختصاص أيضا ، فإنّ القضيّة الشأنيّة ثابتة مع عدمه أيضا على نهج سواء ، إلاّ أن يدفع ذلك ويقال : بأنّ المعتبر في حقيقة الوجوب الفعليّ منهما ، فيبطله ما سنحقّقه من قضاء القوّة العاقلة وطريقة العقلاء بخلافه.

ومنها : أنّ الواجب متعلّق الخطاب ، لأنّ تعلّق الخطاب داخل في حقيقة الواجب لأنّه أحد أقسام الحكم ، فكلّ واجب متعلّق الخطاب وما ليس بمتعلّقه فليس بواجب بحكم عكس النقيض ، فالمقدّمة ليست بمتعلّقة الخطاب ، ضرورة أنّ الأمر الوارد لوجوب الفعل ليس له تعلّق بمقدّمته.

وفيه : نظير ما مرّ في الوجه السابق.

وتوضيحه : أنّ تعلّق الخطاب بشيء قد يكون مقصودا لمخاطبه مطابقة أو تضمّنا أو التزاما من باب الاقتضاء أو التنبيه والإيماء ، وقد يكون لازما لمقصوده وإن لم يكن مقصودا بالخصوص ، تابعا لمراده ولو بحكم العقل كما في الالتزام من باب الإشارة ، فالمقدّمة وإن لم تكن متعلّقة للخطاب من الجهة الاولى غير أنّها متعلّقة له من الجهة الثانية وهو كاف في اتّصافها بالوجوب لما مرّ إجماله ويأتي تفصيله ، ولا يفترق الحال في ذلك بين اصول الأشاعرة واصول العدليّة في خطاب الله تعالى ، إذ غاية ما هنالك أنّ الأوّلين يجعلون الخطاب المأخوذ في تعريف الحكم مدلول الكلام اللفظي القائم بنفسه تعالى ويعبّرون عنه بالكلام النفسي الّذي فسّره بعض المحقّقين (١) بالطلب المغاير عندهم للإرادة والكراهة ، والآخرين يجعلونه نفس الكلام اللفظي ـ كما هو الأصل ـ بدعوى أنّ الكلام النفسي ، بالمعنى الّذي ذكروه غير معقول ، وإلاّ فالّذي يتعلّق بفعل المكلّف حقيقة عندهم أيضا هو مدلول الخطاب لا نفسه.

غاية الأمر أنّهم يخالفونهم في ذلك المدلول ويزعمون أنّه الإرادة الحتميّة ولا مغايرة بينها وبين الطلب كما زعموه ، وهو كما ترى نزاع بين الفريقين في الموضوع لا في الحكم ، لأنّهما مطبقان على أنّ المتعلّق للفعل هو المدلول ، والمدلول قد يكون مقصودا للمتكلّم

__________________

(١) وهو المحقّق السبزواري ( منه ).

٥٠٢

بالأصالة وقد يكون مقصودا له بالتبع وهو أن يكون لازما لمقصوده.

فحاصل الجواب : أنّ المراد بالخطاب إن كان هو الخطاب الأصلي خاصّة فصغرى القياس مسلّمة ولكن كلّية الكبرى ممنوعة ، وإن كان ما يعمّه والخطاب التبعي فكلّية الكبرى مسلّمة ولكنّ الصغرى ممنوعة والوجه في الكلّ ما تقدّم (١).

ومنها : أنّه لو وجبت المقدّمة لعصي بتركها والتالي باطل ، لأنّ تارك نصب السلّم عند الأمر بالصعود إنّما يعصي بترك الصعود لا بترك النصب.

والجواب : إمّا بمنع الملازمة إن اريد بالعصيان ما يوجب استحقاق الذمّ والعقاب ، أو منع بطلان التالي إن اريد به مجرّد مخالفة الأمر ، فإنّ حصول العصيان حينئذ ضروري كما أنّ عدمه على التقدير الأوّل كذلك ولكنّه لا ينافي الوجوب كما مرّ مرارا.

ومنها : أنّه لو وجبت المقدّمة لصحّ قول الكعبي بانتفاء المباح ، وادّعاؤه أنّ كلّ مباح واجب ، لأنّ ترك الزنا مثلا لا يمكن إلاّ بفعل آخر ضدّه فيكون أحد هذه الأفعال واجبة تخييرا.

وجوابه : أنّ هذه شبهة معروفة لا يتوقّف اندفاعها على نفي الوجوب عن المقدّمة ، لما سنحقّقه في المسألة الآتية من عدم تمانع الأضداد كما عليه بعض المحقّقين ، فلا يكون فعل الضدّ علّة لترك الآخر كما توهّم ، ولا تركه شرطا لفعل الآخر كما عليه غير واحد ، بل هما متلازمان في الوجود معلولان لعلّة ثالثة كما في الأوّل ، أو يجتمعان من باب المقارنات الاتّفاقيّة كما في الثاني إن أردنا بالضدّ الوجودي ضدّا خاصّا ، أو متلازمان في الوجود أيضا إن قدّرناه ضدّا مّا بناءا على عدم جواز الخلاء عن فعل وجودي.

وبذلك يندفع إشكال الدور أيضا لابتنائه على ثبوت التوقّف من الطرفين وهو

__________________

(١) وملخّص الاستدلال : أنّه استدلال بالقياس الاقتراني على طريقة الشكل الأوّل ، وصورته : أنّ المقدّمة ليست بمتعلّقة الخطاب وكلّما كان كذلك فليس بواجب ، فالمقدّمة ليست بواجبة.

أمّا الصغرى : فلما ذكره بقوله : « ضرورة أنّ الأمر الوارد لوجوب الفعل ليس له تعلّق بمقدّمته ».

وأمّا الكبرى : فلأنّها عكس قوله : « فكلّ واجب متعلّق الخطاب على طريقة عكس النقيض » ودليل الأصل ما أشار إليه في أنّ تعلّق الخطاب داخل في حقيقة الواجب لأنّه أحد أقسام الحكم ومستند هذه الدعوى ما ذكروه في تعريف الحكم المنقسم إلى الخمس المعروفة من أنّه خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء والتخيير ، فيرتّب قياس آخر بتلك الصورة : الواجب قسم من الأحكام ، وكلّ قسم منها ما كان تعلّق الخطاب داخلا في حقيقته ، فالواجب ما كان تعلّق الخطاب داخلا في حقيقته ، أمّا الصغرى فواضح ، وأمّا الكبرى فلما ذكر في تعريف الحكم. ( منه عفي عنه ).

٥٠٣

مفروض الانتفاء ، ولا يفرق في عدم كون الترك شرطا بين الدفع الّذي هو عبارة عن استمرار الترك والرفع الّذي هو عبارة عن الترك المسبوق بالفعل كما عليه المحقّق الخوانساري ، حيث خصّ الشرطيّة بارتفاع الضدّ دون عدمه المطلق حتّى العدم المسبوق بالعدم.

وتوضيح الكلام في هذا المرام بالنسبة إلى خصوص المقام : أنّ فعل الزنا مثلا على ما يساعده الوجدان ويشهد به الضرورة والعيان له مقتض وهو العزوبة وغلبة الشهوة الّتي توجب في الإنسان تصوّره والشوق إليه وإرادته والعزم عليه ، فهذه الامور من لوازمه المترتّبة على ما ذكر لا أنّها من شرائطه كما توهّم ، وموانع كالتقوى والخوف والخشية من الله أو خوف دنيويّ على المال أو النفس أو العرض ، فإن غلب في الإنسان ما ذكر من المقتضي ضعف الموانع وصار وجودها على تقديره بمنزلة عدمها فيترتّب عليه الإجماع والوقوع في الفعل إن اجتمع سائر شرائطه من وجود الزانية فكونه عندها والخلوة بينه وبينها ونحو ذلك ، وإن غلب فيه شيء من الموانع ضعف المقتضي وصار وجوده على تقديره بمنزلة عدمه فيترتّب عليه الترك من غير توقّف له على الاشتغال بضدّ وجودي.

غاية الأمر أنّه قد يجتمع معه ذلك ويأتي المكلّف عند صرف نفسه عن المحرّم بشيء من ذلك ، واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه من باب الاتّفاق ، ولمّا كان ذلك مقارنا له بحسب الزمان والوجود فيذهب الوهم إلى أنّه علّة للترك ويترتّب عليه شبهة كون فعل الضدّ مقدّمة لترك المحرّم ، كما يتفرّع عليه شبهة تمانع الأضداد غفلة عن أنّهما معا معلولان لعلّة ثالثة وهي ما ذكر ، وقس على ذلك غيره من المعاصي أيضا فإنّ الطريق واحد.

لا يقال : فعلى ما ذكرت يلزم خروج الزنا وغيره من المعاصي عن كونه فعلا اختياريّا فكيف يصلح متعلّقا للتكليف ، أو لابدّ من الالتزام بمذهب الأشاعرة ، لأنّ العزم على المعصية ثمّ بعده الإقدام عليها اختياري منوط بمشيّة المكلّف ، فله أن يوقع وله أن يعرض عنه ، لقضاء البداهة والوجدان بوضوح الفرق بين ما يصدر منه عن تشهّي نفسه وما يصدر منه عن جبر وإكراه.

وقد أجيب عنه أيضا : بأنّ كلاّ من المباحات والواجبات والمندوبات والمكروهات موانع من حصول الضدّ الحرام ، ولحصول الضدّ الحرام شرائط وأسباب كالتصوّر والشوق والإرادة ، وكما أنّ حصول الشيء يحتاج إلى تحقّق جميع أجزاء العلل فانتفاؤه يتحقّق بانتفاء بعض العلل ، فترك الحرام يحصل بحصول أحد الموانع المذكورة أو بانتفاء شيء من العلل والأسباب المذكورة ، فإذا انتفى شيء من تلك الأشياء انتفى بانتفائه من غير توقّف

٥٠٤

على حصول المانع ، وحينئذ كان وجود تلك الأشياء على ما هي عليه من الوجوب أو الإباحة.

نعم إن فرض في بعض تلك الصور أنّ ترك الحرام لا يتصوّر إلاّ بارتكاب شيء منها ، وذلك عند تصوّر الحرام ونزوغ النفس إليه أمكن القول بصيرورة المباح حينئذ واجبا ولا ضير فيه ، إنّما الكلام في انتفاء المباح رأسا وصيرورته واجبا لا في اتّصافه بالوجوب بسبب عروض بعض العوارض.

وهو كما ترى كلام ظاهري وارد على خلاف التحقيق ، وإن ذكره من العامّة والخاصّة جمع من فحول أهل الاصول ، فإنّ قولهم : « من غير توقّف على حصول المانع » إن اريد به نفي التوقّف مطلقا فهو إعراض عن جعل تلك الأشياء موانع عن حصول الحرام ، لأنّ المانع عندهم ما كان فقده شرطا والشرط ممّا يتوقّف عليه المشروط ، فترك الزنا كما أنّه يتوقّف على إعدام بعض شرائطه فكذلك يتوقّف على إيجاد بعض موانعه.

غاية الأمر كون التوقّف بينهما على سبيل البدليّة على ما هو الحال في كلّ ما له مقدّمات عديدة يحصل التوصّل إليه بإيجاد بعضها الموجب لسقوط التوقّف عن البعض الباقي ، فقضيّة ذلك حصول الامتثال بالواجب بسبب الإتيان ببعض مقدّماته وهو لا يوجب عدم اتّصاف البعض الباقي بالوجوب تخييرا ، وهذا المقدار كاف في ثبوت شبهة الكعبي بل لم يظهر منه في الكلمات المنسوبة إليه إرادة ما عدا الوجوب التخييري في المباحات ، بل الظاهر خلافه كما يومئ إليه ما في ذيل الاستدلال.

وإن اريد به نفي التوقّف عينا ليتفرّع عليه نفي الوجوب العيني ، فهو وإن كان مسلّما ولكنّه لا يجديهم في المقام نفعا ، لبقاء كونه أحد الأفراد على سبيل البدليّة فيتّصف بالوجوب تخييرا ، فقد عرفت أنّه كاف في ثبوت الشبهة.

فلو قيل : كون حصول المانع أحد أفراد المقدّمة بعد حصول الفرد الآخر وهو إعدام بعض الشرائط غير مجد في إثبات وجوب المباحات ، ضرورة سقوط الوجوب في الواجب المخيّر بسبب الإتيان ببعض أفراده ، فيبقى الأفراد الاخر على ما هي عليه من الأحكام كما في الخصال الثلاث ونحوها.

قلنا : هذا الكلام إنّما يستقيم في وجوب الأفعال دون الترك ، لأنّ وجوبها منتزع عن منع ما يقابلها من الأفعال الّذي يعبّر عنه بالتحريم ، والمحرّمات ليست بمثابة الواجبات حتّى يسقط التكليف بسبب الامتثال ببعض الأفراد على سبيل البدليّة والتخيير ، بناءا على

٥٠٥

أنّ النهي ممّا يفيد الدوام والتكرار وضعا أو عقلا ، فالتكليف بعد الامتثال بالترك السابق باق بالنظر إلى التروك اللاحقة.

وقضيّة ذلك بقاء الوجوب التخييري الموجب لبقاء الشبهة على حالها.

ولو سلّم فالعبرة في انعقاد الشبهة إنّما هي بحدوث الوجوب لا ببقائه وهو حاصل قبل الامتثال بالفرد جزما ، هذا مع ما فيه من منع كون المباحات والواجبات والمندوبات والمكروهات موانع عن حصول الضدّ الحرام ، لما عرفت إجمالا من عدم تمانع الأضداد ـ بناءا على التحقيق ـ ومنع كون التصوّر والشوق والإرادة شروطا لحصوله ، لما قرّرنا من كونها من لوازمه المترتّبة على وجود المقتضي ، ومنع اندراج جميع هذه الامور ـ على تسليم المقدّمية ـ في وجوب المقدّمات لاتّفاقهم على خروج المقدّمات الغير المقدورة عن عنوان النزاع كما تقدّم مشروحا في مقدّمات المسألة ، فيبقى لمحلّ الوجوب حصول الموانع عينا مع الشروط المذكورة.

غاية الأمر خروج الغير المقدورة في بعض الأحيان مسقطا عن المقدورة المتّصفة بالوجوب.

ومن جميع ما تقرّر تبيّن ما في الاستدراك بقولهم : « نعم إن فرض في بعض الصور أنّ ترك الحرام لا يتصوّر إلاّ بارتكاب شيء منها » إلى آخره.

وإلى ذلك ينظر ما في كلام بعض الأعلام ردّا على من منع مدخليّة المباح في ترك الحرام أصلا ، بدعوى : أنّه من مقارناته الاتّفاقيّة من قوله : « فيه ما فيه إذ كثيرا مّا نجد من أنفسنا توقّف ترك الحرام على فعل وجودي بحيث لو لم نشتغل به لفعلنا الحرام ولا يمكن إنكاره » انتهى.

ومثال ذلك ـ على ما راموه ـ أنّه إذا كان شابّ عزب عند امرأة زانية جميلة وهو غير مريد الآن أن يزني بها ، ولكنّه يعلم أنّه لو بقي معها لقوي شوقه وأراد الزنا فوقع فيها بحيث لا مدفع عنه إلاّ الخروج في الآن الّذي هو ضدّ وجودي فيجب عليه ذلك الخروج مقدّمة.

وجوابه : مضافا إلى ما مرّ ، أنّه لو اريد بالترك المتوقّف على الخروج تركه الآن فهو عدول عن الفرض ، إذ المفروض استناد ذلك الترك إلى وجود الصارف وهو عدم الإرادة من غير توقّف له على الضدّ الوجودي.

وإن اريد به الترك في الزمان اللاحق فهو خروج عن محلّ الشبهة ، لعدم وجوب ذلك الترك في ذلك الآن ، بل الواجب عليه ـ لو كان ـ إنّما هو دفع الضرر المعلوم أو المظنون

٥٠٦

ولا يتأتّى ذلك إلاّ بالخروج الآن فيجب من باب المقدّمة ، وهو كما ترى أمر لا ينكر ولا ربط له بموضع الشبهة ، إذ لا ينكر أحد وجوب بعض المباحات بالعارض من جهة كونه مقدّمة لواجب أو من جهة النذر وشبهه ، أو من جهة إجارة ونحوها.

ولو سلّم كونه من جزئيّات الشبهة.

فيدفعه : منع استناد الترك حينئذ إلى فعل الضدّ أيضا ، بل هو مستند إلى انتفاء شرط من شروطه كما تنبّه عليه المحقّق الخوانساري ، وقال : « بأنّا نفرض أنّ في وقت مثلا وجد الشوق إلى الزنا لكن لم يصل إلى حدّ الإجماع ، فحينئذ عدم الزنا حاصل لعدم الإجماع الّذي هو علّته التامّة من دون توقّف على وجود المانع ، ويمكن في هذه الصورة أن يعلم أنّه إذا لم يشتغل بالصلاة مثلا يقوي ذلك الشوق ويصل إلى حدّ الإجماع ويحصل الزنا في الزمان اللاحق فيشتغل بالصلاة في الوقت السابق ، لأنّ الاشتغال به ممكن إذ المفروض أنّ عدم مانعه متحقّق ، بناءا على عدم الإجماع وبعد الاشتغال بالصلاة يغيّر الشوق ولم يصل إلى حدّ الإجماع ، فيتحقّق عدم الزنا في الزمان اللاحق أيضا بناءا على عدم شرطه. ولا وجود مانعه » انتهى.

وبما قرّرنا في ردّ الجواب المذكور يظهر فساد جواب آخر ذكروه عن الاستدلال ، وهو أنّ فعل المباح غير متعيّن لكونه يحصل به ترك الحرام ، وذلك لأنّه كما يحصل ترك الحرام بالمباح كذلك يحصل بالواجب والمندوب ، فيكون الواجب أحد ما يحصل به ترك الحرام فلا يكون المباح على التعيين واجبا.

كما يظهر فساد جواب ثالث ذكره جماعة من الأعلام ، وهو : أنّ ذلك ليس بمقدّمة مطلقا إذ الصارف يكفي في ترك الحرام.

ووجه الفساد : أنّ ذلك لا ينافي اتّصاف المباح بالوجوب تخييرا.

وإلى ذلك أشار بعض شرّاح المختصر بقوله : إنّا نسلّم أنّ الواجب أحد ما يحصل به ترك الحرام ، فما فعله أعني المباح واجب لأنّه أحد ما يحصل به ترك الحرام.

ومنها : لو وجبت لوجبت نيّتها ، والتالي باطل للإجماع على عدم وجوب نيّة المتوضّي غسل جزء من الرأس مثلا.

والجواب : منع الملازمة بين الوجوب والنيّة المذكورة ، سواء اريد بها قصد أصل الفعل أو عنوانه.

أمّا الثاني : فلما قرّرناه في محلّه من أنّ الأصل عدم وجوب قصد الوجوب في

٥٠٧

الواجبات ، ولا سيّما التوصّليّات ما لم ينهض عليه دليل بالخصوص.

وأمّا الأوّل : فلأنّ القدر المسلّم منه إنّما هو في الواجبات النفسيّة دون الغيريّة للإجماع على أنّ التوصّليات لا يعتبر فيها قصد ما لم يدلّ عليه دليل ، كما في أداء الدين وردّ الوديعة وإزالة النجاسة ونحو ذلك ممّا لا يحصى ، والمقدّمة منها إجماعا ولو سلّمنا الملازمة نمنع بطلان التالي.

وما ادّعي من الإجماع كلام في غير محلّه ، لعدم كون جزء من الرأس مقدّمة للواجب وهو الوضوء أو غسل الوجه ، وإنّما هو مقدّمة علميّة.

إلاّ أن يفرض الواجب تحصيل العلم ، فيرد على الاستدلال حينئذ : أنّ الإجماع هو الفارق بين هذا النوع من المقدّمة وغيره ، على أنّ تسليم الملازمة وثبوتها ـ على فرضه ـ إنّما هو من باب القاعدة وهي قابلة للتخصيص ، فلذا ترى في أداء الدين وردّ الوديعة ونحوهما أنّ النيّة غير معتبرة إجماعا ، ولو ادّعي الإجماع في سائر الأنواع أيضا لكان ذلك هو الجواب ، لصلاحيّة الإجماع لكونه مخصّصا كصلاحيّة القاعدة لوروده عليها ، ولزوم تخصيص الأكثر على تقدير تسليمه غير قادح بناء على ما يساعده التحقيق من جوازه كما يأتي تفصيل القول فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

ومنها : لو وجبت لكانت مقدّرة شرعا وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق ، لكن لا تقدير لها.

وجوابه : إمّا منع الملازمة أو منع بطلان التالي ، إذ المراد إن كانت العقليّة أو العاديّة فالملازمة [ ممنوعة ] لأنّ التقدير حينئذ موكول إلى ما ينبّه العقل أو يقتضيه العادة فلا يتوقّف على الدلالة من الشارع والمفروض أنّه حاصل بهما.

وإن كانت الشرعيّة فبطلان التالي ممنوع ، لثبوت التقدير الشرعي في جميع المقدّمات الشرعيّة أسبابا كانت أو شروطا ، مع أنّ المقدّمة حدّها الإيصال إلى ذيها فعلا كما عليه بعضهم أو شأنا كما يقتضيه النظر.

وأيّا مّا كان فهو ممّا يثبت بحكم العقل مطلقا فما لا إيصال به فعلا أو شأنا ليس من المقدّمة بحكم العقل أيضا ، وهو كاف على كلّ تقدير ومعه لا حاجة إلى بيان الشرع بالخصوص.

ومنها : لو وجبت المقدّمة لكانت زيادة على النصّ ، والزيادة على النصّ نسخ باطل (١).

والجواب أوّلا : منع المقدّمة الاولى ، إذ القائل بوجوب المقدّمة يقول بكونه من

__________________

(١) راجع إشارات الاصول : ٧٠.

٥٠٨

احتجّوا * : بأنّه لو لم يقتض الوجوب في غير السبب أيضا ، للزم إمّا تكليف ما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجبا. والتالي بقسميه باطل. بيان

__________________

مقتضيات النصّ.

غاية الأمر كونه تبعيّا بالمعنى المتقدّم وهو لا يوجب خروجه عن مدلوله ليكون زيادة عليه.

وثانيا : منع المقدّمة الثانية ، لأنّ حكم النصّ وهو وجوب [ ذي ] المقدّمة لم يتغيّر بثبوت الوجوب للمقدّمة لتغايرهما مفهوما وتعدّدهما موضوعا.

فإنّ الأوّل ثابت بالنصّ في محلّ والثاني بغيره في محلّ غير الأوّل ، فلا ربط بينهما ليكون الثاني نسخا للأوّل.

ولو سلّم كونه نسخا فبطلانه في حيّز المنع ، كيف وهو فرع الدلالة المعتبرة فبعد نهوضها لابدّ من اتّباعها كما في سائر موارده.

ومنها : لو وجبت لترتّب عليها [ الثواب ] والتالي باطل.

وجوابه : أنّ المراد بترتّب الثواب عليها إن كان على جهة الاستحقاق فالملازمة ممنوعة لما تقدّم في مقدّمات المسألة ، وإن كان على جهة الفضل والإشفاق فبطلان التالي ممنوع ، كيف وهو غير مستحيل عقلا ولا عرفا ولا شرعا بل واقع على الجميع حسبما تقدّم القول فيه مفصّلا.

ومنها : لو وجبت المقدّمة لزم أن يكون التارك للوضوء إذا كان على شاطئ النهر مستحقّا لعقاب واحد ، وإذا كان بعيدا من الماء مستحقّا لعقوبات كثيرة ، مع أنّ الاعتبار يقتضي عكس ذلك.

وجوابه : ما مرّ مرارا ، فإنّه مبنيّ على كون وجوب المقدّمة عند قائليه ما يترتّب عليه استحقاق العقاب ، ولقد تبيّن فساد توهّمه بما لا مزيد عليه.

وربما يجاب عنه أيضا : بإمكان القلب بأن يقال : لو لم يجب المقدّمة لزم أن يكون المأمور بالوضوء إذا كان على شاطئ النهر مثابا بثواب واحد ، وإذا كان بعيدا من النهر أيضا كذلك مع أنّ العقل يحكم بزيادة الثواب في الثانية.

وفيه ما فيه ، وقد تقدّم وجهه.

* شروع في ذكر احتجاج القول بوجوب المقدّمة ولأصحابه وجوه من الأدلّة منها ما

٥٠٩

الملازمة : أنّه مع انتفاء الوجوب ـ كما هو المفروض ـ يجوز تركه. وحينئذ فإن بقي ذلك الواجب واجبا لزم تكليف ما لا يطاق ؛ إذ حصوله حال عدم ما يتوقّف عليه ممتنع. وإن لم يبق واجبا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا. وبيان بطلان كلّ من قسمي اللاّزم ظاهر.

__________________

هو صحيح ، ومنها ما هو مزيّف ، ولنقدّم الصحيح منها ، وهو على ما ذكره جمع من الفحول مع ما وصل إليه بالنا الفاتر وجوه :

الأوّل : الجزم الضروري بأنّ من خاطب عبذه أو غيره ممّن له صلاحيّة التكليف ، وقال : « بأنّي أطلب منك شراء اللحم مثلا طلبا حتميّا ولكنّي أرضى بأن تمشي إلى السوق أو لا تمشي » لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي ورموه بقلّة العقل ، والسرّ في ذلك أنّ الرضاء بترك المقدّمة وفعلها معا مع العلم بكونها ممّا لابدّ منها وأنّه لا طريق إلى ذيها سواها في معنى الرضاء بترك ذيها وفعله ، وهو ممّا لا يكاد يجتمع مع طلب فعله الحتمي عقلا ، فإظهاره بعد الطلب المذكور لا يصدر إلاّ ممّن لا رأي له ولا عقل ، وهو آية الوجوب إذ لا نعني بالوجوب إلاّ ما لا يصحّ الرضاء بتركه ممّن يوجبه.

الثاني : قضاء الوجدان في إيجاب كلّ شيء بأنّ بين الآمر ومقدّمة مطلوبه نسبة وارتباطا لو التفت إليها وإلى تلك النسبة ـ وهي كونها ممّا لابدّ منها لأداء مطلوبه وطريقا إلى الوصول إليه ـ لأرادها فعلا وطلبها تفصيلا على حسب إرادته وطلبه لمطلوبه ، فانتفاء الإرادة الفعليّة والطلب التفصيلي إنّما هو لانتفاء الالتفات التفصيلي إلى تلك النسبة ، لا لملازمة عدم الوجوب للمقدّمة ـ فلذا تراه عند الالتفات مصرّحا بطلبها تصريحه بطلب ذيها جامعا بينهما في الطلب والإلزام ، قائلا عند الأمر باشتراء اللحم أو الكون على السطح : « ادخل السوق واشتر اللحم ، وانصب السلّم وكن على السطح » فنجد أنّ النسبة بينه وبين المقدّمة عند التصريح بطلبها هي النسبة بينه وبينها عند عدمه من غير فرق بينهما إلاّ في الالتفات وعدمه.

لا يقال : إنّ ذلك تفصيل في وجوب المقدّمة مبنيّ على الالتفات وعدمه وهو خارج عمّا بين أقوال المسألة منفيّ باتّفاق أصحابها.

لأنّا نقول : إنّ الوجوب الشأني والطلب الإجمالي ثابت على جميع التقادير وهو كاف في ثبوت وجوب المقدّمة بالمعنى المتنازع فيه على ما سنقرّره.

٥١٠

ومن هنا تبيّن فساد ما قد يتمسّك به على نفي وجوب المقدّمة من أنّ الآمر كثيرا مّا يأمر وهو غافل وذاهل عن المقدّمة فضلا عن طلبها ، فإنّ الغفلة والذهول عن طلبها التفصيلي لا ينافي كونها مطلوبة عنده بالطلب الشأني الّذي هو لازم لطلب ذيها من باب الإشارة الّتي هي لازمة للمقصود ، لا أنّها مقصودة كما في أقلّ الحمل المدلول عليه بالآيتين.

ومن البيّن أنّ ذلك من الدلالات المعتبرة عرفا المتّبعة شرعا كما صرّح به غير واحد من فحول علماء الاصول.

والثالث : طريقة العرف وبناء العقلاء على الالتزام بإيجاد مقدّمات الواجب وتنزيل ما لم يصرّح منها بطلبه منزلة ما صرّح بطلبه تفصيلا ، وليس ذلك إلاّ من جهة ما صحّ عندهم ببداهة عقولهم من أنّ إيجاب الشيء ملزوم لإيجاب ما لا يتمّ إلاّ به باللزوم الغير البيّن ، بمعنى كونه لازما للمقصود وإن لم يكن مقصودا بالفعل.

ألا ترى أنّه لو سئل أحدهم عند الإتيان بمقدّمة عن وجه الإتيان بها فهو لا يزال مجيبا بأنّه لإلزام المولى أو من هو بمنزلته وأمره به.

وأقوى من ذلك أنّ المأمور المتقاعد عن الامتثال لو اعتذر لمن سأله عن تقاعده بأنّ الآمر لم يكن أوجب عليه مقدّمة المأمور به ولا صرّح بطلبها تفصيلا لخطّأه الحاضرون وأدرجوا عبارته في الهذيانات وعبارات المجانين والسفهيّات ، ونبّهوه على أنّ ذلك حاصل بحصول الأمر ولازم لمضمونه المتعلّق بما هو مطلوب به أصالة ولا يحتاج معه إلى تصريح ولا خطاب آخر.

والرابع : ما صحّ عند العدليّة من أنّ الأحكام تابعة للمصالح والحكم النفس الأمريّة.

ومن البيّن أنّ المصلحة في كلّ شيء بحسبه ، وكما أنّ ذا المقدّمة فيه مصلحة أصليّة كامنة فيه لنفسه فكذلك المقدّمة فيها مصلحة تبعيّة حاصلة فيها لغيرها وهي كونها ممّا يوصل إلى الغير وتركها يفضي إلى ترك ذلك الغير ، وكما أنّ المصلحة النفسيّة توجب في محلّها الطلب النفسي ولو شأنا فليكن المصلحة الغيريّة أيضا موجبة للطلب الغيري في محلّها وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن العلّة ، أو اللازم عن الملزوم ، وليس لأحد أن يعترض بأنّه لو كان لصرّح به والتالي [ باطل ] لأنّ التصريح غير لازم والطلب الشأني غير منوط به ، والكلام في جواز الاكتفاء به وسنقرّره.

والخامس : الاستقراء فيما أمر به من المقدّمات في الشريعة وما يؤمر به منها في العرف والعادة ، فإنّه ممّا يورث القطع بأنّ المقدّمة بطبعها ملزومة للطلب وأنّه من لوازمها الّتي

٥١١

يستحيل انفكاكها عنها في نظر العقل والعادة ، وأنّ ما يسامح في طلبها بعدم التصريح به فعلا فإنّما هو للتعويل على طلبها الثابت لها شأنا على كلّ حال ، وأنّ الطلب الشأني قائم مقام الفعلي في جميع الأحكام والأحوال.

وكأنّ هذا المعنى مراد من تمسّك في هذا المقام بالاستقراء ، فلا يرد عليه ما في كلام بعض الأفاضل وغيره من منع الغلبة أوّلا ، ومنع اعتبار ما يحصل منها في أمثال المقام ثانيا ، فإنّ أقصاه ظنّ غير كاف في الأحكام العقليّة ، فإنّ مبنى الاستدلال ليس على التمسّك بالغلبة بل بما يورث الحدس بالمطلوب كائنا ما كان.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ أقصى ما يلزم من الوجوه المذكورة بالنسبة إلى المقدّمة إنّما هو الوجوب الشأني ، وهو ربّما يوجب التشكيك في انطباق مصطلحهم في الوجوب وصدقه عليه ، إذ التفاسير الّتي ذكروها له اصطلاحا لا ينساق منها إلاّ الطلب الفعلي ، بل بمقتضى أنّ الخمس المعهودة بأسرها مجعولة لا يندرج في المجعول إلاّ ما هو مراد فعلا مطلوب تفصيلا ، فإثبات الأمر الشأني ممّا لا يكاد ينفع في المقام.

ولعلّ ذلك دعا غير واحد من الأعلام إلى توهّم كون موضع النزاع من الوجوب هو الأصلي المقصود بالخطاب أصالة ، وهذا إشكال قد أشرنا إليه في غير موضع ممّا تقدّم ، ولا سيّما في تقرير الأدلّة مع الإشارة إلى دفعه إجمالا ، بل هو أحد احتمالي أصل النزاع في المسألة كما أشرنا إليه عند تحرير محلّ النزاع ، وإن كان خلاف الظاهر بل الظاهر أنّه محلّ لنزاع آخر بينهم ، حيث نفى الوجوب عن هذا المعنى بعضهم وأثبته الآخرون ، ولا بأس بأن نفصّل الكلام فيه ونقرّر ما يقضي بكون ذلك كافيا في تحقّق مصداق الوجوب عرفا واصطلاحا على وجه ينكشف به الحجاب ويرتفع بملاحظته الإشكال ، مع عدم كونه خروجا عن أصل المطلب لكونه بحثا في صغرى المسألة ، كما أنّ المقصود بالعنوان بحث عن كبراها.

فنقول : إنّ التفاسير الّتي ذكروها للوجوب وقيّدوها بالاصطلاح ليست كسائر الامور الاصطلاحيّة الحادثة الّتي لا عبرة فيها إلاّ بما يساعده ظواهر أهل الاصطلاح ، ولا طريق إلى معرفتها إلاّ ما يقتضيه القواعد الجارية في لسانهم ، بل هي تحديدات استفادوها عمّا عليه طريقة العرف والعادة ، ورسوم أخذوها عمّا يقضي به القوّة العاقلة ، وغرضهم بها بيان ما هو حقيقة الوجوب عند العقلاء وما عليه مدار المدح والثواب أو الذمّ والعقاب عقلا وشرعا ، وينوط به جميع الالزامات والالتزامات ممّا يرجع إلى المعاد أو المعاش.

٥١٢

ألا ترى أنّهم في تفسير « الأمر » بكونه طلب الفعل بالقول أو مطلقا استعلاء من العالي أو لا معه ، أو لا معهما أو مع العلوّ فقط أو غير ذلك من الخلافات المتقدّمة في مفتتح الكتاب قيّدوه بالاصطلاح ، مع أنّهم لا يريدون به إلاّ تعريف المعنى العرفي الّذي ينساق منه عند الإطلاق ، وإنّما قيّدوه بذلك لأنّه تفصيل لما يفهمه العرف إجمالا ولا يقدر على التعبير عن تفاصيله بما عبّروا به من العبارات ، ولكون ذلك من خصائصهم فكأنّه أمر مستحدث لم يكن معهودا في العرف.

وبالتأمّل في بناء العرف وقضاء القوّة العاقلة يقطع بأنّ الإرادة والطلب المعتبرين في مفهوم « الوجوب » بل الكراهة والطلب المأخوذين في مفهوم « الحرمة » أعمّ من الفعلي والشأني ، والمراد به كون الشيء باعتبار ما في ذاته من المصلحة الكامنة بحيث لا ينبغي لكلّ من التفت إليه وإلى مصلحته إلاّ إرادته فعلا وطلبه حتما بعبارة مصرّحة به ، إلاّ إذا علم بكون القضيّة الشأنيّة معلومة لكلّ من لا يصرّح له بالطلب ولا يريده منه تفصيلا ، حيث نراهم لا يزالون يعاملون مع الطلبات الشأنيّة معاملة الفعليّات وينزّلون الإرادات الإجماليّة منزلة التفصيليّات ، كما نرى القوّة العاقلة لا تأبى عن عقاب من يخالفها في مظانّها مع علمه بالقضيّة الشأنيّة ، فلذا يذمّ ويعاقب العبد التارك لإنقاذ ولد سيّده عن الغرق أو الحرق ، ولإنجاء سيّده عن أيادي أعدائه مع قدرته عليه ، ولحفظ مال سيّده عن اللصّ والإغارة مع تمكّنه منه ، ولدفع السبع عن بهيمته ولرفع المضارّ عنه ، وعن كلّ من يتعلّق به مع عدم أمر منه بشيء من ذلك فعلا ولا إيجاب تفصيلا ، وكذلك العبد إذا قتل ابن مولاه أو أخرب بيته أو خانه في بنته أو زوجته أو سائر محارمه ومتعلّقاته ونحو ذلك ممّا لا يحصى ، مع عدم نهي منه عن شيء من ذلك فعلا ولا منع تفصيلا ، فلولا كفاية القضايا الشأنيّة في انعقاد الإلزاميّات لما كان لذلك وجه ، ضرورة أنّ الذمّ والعقاب لا يستحقّهما إلاّ العاصي ولا عصيان إلاّ مع الوجوب أو التحريم.

فانتفاء الطلب الفعلي والإرادة أو الكراهة التفصيليّة ينشأ إمّا عن عدم الالتفات إلى الموضوع أو صفته فعلا ، أو الاعتماد على معلوميّة القضيّة الشأنيّة للمكلّف بحكم عقله ، وهذا أحد المحتملات الجارية عندنا فيما حكم به العقل في مستقلاّته وإن لم نر من القوم التعرّض لذكره ، بناءا على أنّ معنى حكم العقل إدراكه للحكم الشرعي كما هو الأظهر في النظر القاصر لا كونه مثبتا له.

٥١٣

وممّا ذكرنا من الوجهين في توجيه انتفاء الطلب التفصيلي في القضايا الشأنيّة ينقدح أنّه لا حجر في التزام الطلب الشأني بالنسبة إليه تعالى حتّى يتوجّه : أنّ وجوب المقدّمة على تقديره لا يمكن أن يكون من هذا الباب لكونه من قبل الله عزّ وجلّ ، لأنّ ذلك إنّما يتوجّه لو حصرنا منشأ الانتفاء في عدم الالتفات وقد علمت خلافه.

وظاهر أنّ الوجه الآخر أيضا ممّا يوجبه ولا يستلزم محذورا وبهذا الاعتبار سوّغنا كون المستقلاّت العقليّة من هذا الباب كما هو الآن أرجح الاحتمالات.

نعم يرد المحذور على من جعل المنشأ في المقام عدم الالتفات فقط ضرورة امتناعه عليه سبحانه.

وملخّص ما ذكرناه : أنّ الوجوب الشأني يرجع دعواه في العرفيّات إلى دعوى العلم بانتفاء [ الطلب ] الفعلي التفصيلي للعلم بعدم الالتفات ، وفي الشرعيّات إلى دعوى عدم العلم بتحقّقهما وهو كاف في الالتزام بوجوب المقدّمة شأنا أخذا بموجب الأدلّة المتقدّمة ، فهذا مرادنا من وجوب المقدّمة.

والمثبتون له إن أرادوا به أيضا هذا المعنى فمرحبا بالوفاق ، وإن أرادوا أزيد من ذلك فعليهم بالإثبات وأنّى لهم بذلك ، مع أنّ ما ذكروه في المقام من الاحتجاجات إمّا فاسد الوضع أو غير قاض بأزيد ممّا ذكرنا.

وأمّا النافون لذلك فإن كان نظرهم إلى ما قرّرناه فنلزمهم بما قرّرناه ، وإن كان إلى أزيد من ذلك فنحن أيضا وافقناهم عليه.

وبما ذكرناه تبيّن أنّ الوجوب الشأني لا مجرى له إلاّ فيما لا نصّ فيه ، وأمّا ما فيه نصّ فإن كان نصّه من باب الصيغ الموضوعة للإنشاء فيمتنع فيه ذلك ، لأنّ الإنشاء يلازم الفعليّة كما لا يخفى ، ومثلها الصيغ المستعملة في الإنشاء مجازا كالجمل الخبريّة.

وإن كان من باب الصيغ الموضوعة للإخبار المفيدة للحتم والإلزام وضعا كـ « أوجبت ، وأمرت ، وطلبت » ونحو ذلك فهو الظاهر بل النصّ أيضا.

فقضيّة ما حقّقناه وجوب حمل الطلب الّذي أخذوه في تفاسيرهم للوجوب على ما يعمّ الشأني أيضا لينطبق التعريف الاصطلاحي على معناه العرفي ، وإن كان في بادئ الأمر ظاهرا في الفعلي خاصّة ، إلاّ أنّه ظهور بعد قيام الصارف لا عبرة به أصلا.

وممّا يرشد إلى إرادتهم الأعمّ ما ذكروه في تعريف الواجب من : أنّه ما يذمّ تاركه أو

٥١٤

يستحقّ تاركه الذمّ » وغير ذلك ممّا تقدّم الإشارة إلى جملة منه في أوائل المسألة ، ضرورة عدم ظهور ذلك في القضايا الفعليّة.

فإن قلت : ما ذكرته من الأمثلة العرفيّة غير مطابق للممثّل والطلب المفروض فيها فعلي ثابت من العقل.

وبيان ذلك : كما أنّ الحكم الشرعي قد يثبت بالدليل الشرعي وقد يثبت بالدليل العقلي ـ وهو حكم عقليّ يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي لضابطة قولهم : « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » ـ فكذلك العرفيّات فمنها ما يكون من المستقلاّت العقليّة فيثبت الحكم فيها بإلزام عقل العبد ، فيكون ذلك دليلا على إلزام المولى بالكلّيّة الجارية في الشرعيّات.

قلت : أوّلا قد أشرنا إلى أنّ حكم العقل في مستقلاّته إنّما يكون من باب الكشف ، والإدراك والنظر في المقام إنّما هو إلى المدرك والمكشوف عنه وهو ليس إلاّ حكما شأنيّا ، ضرورة عدم فعليّة الحكم من المولى لا سابقا ولا لاحقا والّذي ينوط به الثواب والعقاب هو هذا.

وثانيا : نقول بمثل ذلك في مقدّمة الواجب ، فإنّ لزوم الإتيان بها للتوصّل إلى الواجب ممّا يحكم به العقل ، وهو من أدلّة الشرع فيثبت الوجوب الشرعي أيضا بالملازمة المذكورة على نحو ما ذكرته في الأمثلة العرفيّة.

فإن قلت : بأنّ المكشوف عنه هنا حكم شأني نقول به في الأمثلة العرفيّة أيضا كما عرفت.

وإن قلت : بأنّه فيها فعليّ فقد كابرت وخرجت عن الإنصاف.

وبالجملة لا سبيل إلى إنكار الطلبات الشأنيّة وأنّها مندرجة في الأحكام اندراج الطلبات الفعليّة ، وبذلك ينقدح وجه التفكيك بين الأحكام الواقعيّة والأحكام الظاهريّة كما عليه المخطّئة ، وأنّ الحكم الظاهري يتخلّف عن الحكم الواقعي كثيرا ، وأنّ المدار في التكاليف على الأحكام الظاهريّة صادفت الواقعيّة أو لا ، وأنّ العلم والجهل لا يغيّران الواقع بل الواقع واقع في حقّ العالم والجاهل معا ، والّذي يتغيّر ويختلف إنّما هو الظاهري ، فإنّ الطلب المعتبر في مفهوم « الحكم » لابدّ وأن يؤخذ أعمّ من الشأني والفعلي حتّى يتمّ هذه الامور ، ضرورة أنّ الطلب الفعلي لا يتصوّر عنه التخلّف ولا يقوم مقامه غيره ، ولا يعقل التسوية فيه بين العالم والجاهل وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق.

وما يذكره المخطّئة من أنّ الحكم الواقعي في كلّ شيء واحد لا يتعدّد ، وأنّ المتعدّد هو الحكم الظاهري ، وأنّ الله سبحانه في كلّ شيء قبل اجتهاد المجتهد جعل حكما معيّنا في

٥١٥

الواقع لا ينطبق إلاّ على القضيّة الشأنيّة.

بدعوى : أنّه سبحانه في كلّ واقعة جعل مصلحة مقتضية لشيء معيّن من الأحكام ، فهي باعتبار تلك المصلحة بحيث لو جامعت شرائط التكليف وفقدت موانعه لأرادها الله فعلا وطلبها تفصيلا ، ولا ينافيه كونه بالنسبة إلى المشافهين فعليّا ، لأنّ الكلام في غيرهم ولا يعقل فيهم الطلب الفعلي ما لم تجتمع الشرائط وانتفت الموانع.

وأمّا المصوّبة القائلة بأنّه ليس في الواقعة حكما معيّنا في الواقع قبل اجتهاد المجتهد وأنّه تابع لرأي المجتهد فيتعدّد بتعدّد الآراء ، فلابدّ من أن يرجع كلامهم إمّا إلى إنكار الصغرى وهي اشتمال الوقائع على المصالح المقتضية للطلبات الشأنيّة ، أو إلى إنكار الكبرى وهي كفاية القضايا الشأنيّة في انعقاد الأحكام الواقعيّة ، أو إلى دعوى مدخليّة العلم والجهل في تلك المصالح بزعم أنّها بالوجوه والاعتبارات وأنّ العلم والجهل من جملتها.

فإن قلت : الأحكام الواقعيّة في حقّ الجاهل وغيره من ذوي الأعذار مشروطة بزوال العذر ، فما معنى قولك : أنّها على التخطئة لا تنطبق إلاّ على القضيّة الشأنيّة؟

قلت : إن اريد به أنّ المشروط بزوال العذر فعليّة تلك الأحكام الّتي يعبّر عنها بالتكليف ، فهو لا ينافي لكون الثابت قبل حصول الشرط هو القضيّة الشأنيّة ، إذ المفروض تحقّق جميع مقتضيات الطلب الفعلي إلاّ الشرط المفروض فقدانه ، وإن اريد بأنّ المشروط به كلّ من الفعل والشأن فهو مقطوع بفساده لاستلزامه التصويب الباطل.

وأمّا المزيّف من الأدلّة فوجوه أيضا :

أوّلها : الإجماع ويقرّر بوجهين :

أحدهما : معناه اللغوي المعبّر عنه بالاتّفاق ، فإنّ من ملاحظة اتّفاق المثبتين لوجوب المقدّمة ـ وهم جماعة كثيرون جدّا ـ يحصل القطع بحقّيّة المورد.

والسرّ في ذلك : أنّه كما يحصل من الخبر المتواتر بملاحظة أنّ العادة تقضي بامتناع تواطؤ المخبرين مع كثرتهم على الكذب القطع العادي بصدقهم القاضي بحقّيّة المخبر به ، فكذلك يحصل من الاتّفاق بملاحظة أنّ العادة تقضي بامتناع تواطؤ القائلين مع كونهم جماعة كثيرة على الخطأ القطع العادي بإصابتهم الموجبة لحقيّة المتّفق عليه من غير فرق بينهما أصلا ، غير أنّ المقطوع به في الأوّل من الحسّيّات فلذا عبّرنا فيه بامتناع التواطئ على الكذب. وفي الثاني من الحدسيّات فلذا عبّرنا فيه بامتناع التواطئ على الخطأ ، نظرا

٥١٦

إلى أنّ المسألة من العقليّات فاحتمال الكذب فيها ساقط بعدالة القائلين وبقي احتمال الخطأ فينفيه حكم العادة بملاحظة الكثرة.

ويؤيّده في إفادة القطع ملاحظة أنّ كلاّ من المثبتين من أهل الاجتهاد والنظر والدقّة والفضل ، مع كون المسألة ممّا يحكم به الوجدان فيبعد عنهم احتمال الخطأ غاية البعد ، مضافا إلى وضوح ضعف القول الآخر وشذوذ القائل به ، وما ادّعي على الحكم من الضرورة والإجماعات ونحو ذلك ممّا يوجب وضوح الأمر.

وثانيهما : الإجماع المصطلح عند الاصولييّن الكاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام ، فإنّ الإجماع بهذا المعنى ممّا لا يعتبر فيه اتّفاق الكلّ ، بل المعتبر فيه هو الكشف عن رأي المعصوم سواء حصل ذلك عن اتّفاق الكلّ أو جماعة علم بدخول قول المعصوم في أقوالهم ، سواء دخل شخصه أيضا في المجمعين أو لم يدخل ، فإذا كشف الإجماع عن قول المعصوم عليه‌السلام يترتّب عليه حقّيّة المورد لأنّه ملزوم لها بملاحظة العصمة.

وهذان التقريران للإجماع يشاركان في إفادة القطع وهو حجّة من أيّ شيء حصل ، فالتقرير الأوّل بمنزلة الثاني في الحجّيّة ، كما أنّه في العلميّات ليس بعادم النظير ، بل غالب الإجماعات في المسائل الاصوليّة وأكثرها في الفروعيّة من هذا الباب ، بمعنى كونها اتّفاقات مفيدة للقطع بحقيّة مواردها بالتقريب المتقدّم من دون كونها كاشفة عن قول المعصوم بخصوصه.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير الإجماع ، ولكنّ الانصاف أنّه بشيء من التقريرين لا يفيد المدّعى ولا يوجب القطع بالحقيقة.

أمّا على التقرير الأوّل : فلأنّ العادة إنّما تقضي بامتناع التواطئ على الخطأ إذا لم يعلم بمستند القائلين وضعف ذلك المستند ، وقد علمنا بأنّهم إنّما صاروا إلى وجوب المقدّمة تعويلا على الوجوه الآتية الّتي لا ينبغي الاسترابة في ضعفها ، وعدم قضائها بما قالوه ، فلولا حقّيّة ذلك القول ثابتا لنا من الخارج لحكمنا بأنّهم لاستنادهم إلى الأدلّة الفاسدة متّفقون على الخطأ.

نعم من متأخّريهم من تمسّك ببعض الوجوه الصحيحة المتقدّم ذكرها ولكنّه غير مجد لانتفاء الكثرة الّتي هي مناط حكم العادة بامتناع التواطئ على الخطأ وعلى تقديرها فغير مجدية أيضا ، لأنّ هذا المستند الصحيح ممّا يغني الناظر العالم به عن النظر في الاتّفاق.

نعم إنّما يصلح ذلك دليلا لو فرض المستند غير معلوم.

٥١٧

وأمّا على التقرير الثاني : فلمنع كشفه عن قول المعصوم عليه‌السلام تضمّنا إن اريد به ما هو بطريقة القدماء ، لانتفاء ما هو من عمدة شرائطه عندهم وهو عدم خروج مجهول النسب.

وقد عرفت أنّ القول بالنفي محكيّ وقائله ليس بمعلوم كما صرّح به غير واحد ، وكونه ممّا نسبه العلاّمة إلى الواقفيّة لا يوجب أن لا يكون له قائل آخر غير معروف.

ولا التزاما عقليّا إن اريد به ما هو بطريقة الشيخ وغيره لابتنائه على ملازمة فاسدة عندنا ، ولو صحّت الملازمة بفرض تماميّة دليلها فالاكتفاء بوجود المخالف ممّا يرفع وجوب الردع كما عن أهل هذه الطريقة من الاكتفاء بمجرّد إلقاء الخلاف.

ولو سلّم عدم الاكتفاء به فأصل الوجوب محلّ المنع ، لما تقدّم سابقا من أنّ قاعدة اللطف إنّما تجري في مظانّ العقاب والمقام ليس منها.

ولا عرفا إن اريد به ما هو بالطريقة الحادثة ، لأنّه على تلك الطريقة إنّما يكشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام وكون المجمع عليه مأخوذا منه إذا كان من التوقيفيّات المنوطة بالسماع منه عليه‌السلام بأن يكون إجماع المجمعين ناشئا عن سماع منه ولو بواسطة ، واستدلالهم بالبرهان العقلي الآتي وغيره من الوجوه الآتية ممّا يأبى عن ذلك ، وينادي بأنّه اتّفاق منهم ناش عن غير جهة التوقيف فكيف يعقل منه الكشف عن كونه مأخوذا عن المعصوم عليه‌السلام ومطابقا لرأيه.

فإن قلت : وضوح الحكم على حدّ سائر الضروريّات يوجب امتناع اعتقاد المعصوم عليه‌السلام بخلافه.

قلنا : هذا أمر خارجي يوجب القطع بمطابقة رأي المعصوم عليه‌السلام واعتقاده ، والكلام في كون الإجماع موجبا له لا كلّ ما هو خارج عنه.

ولو قيل : إذا انضمّ إلى الاتّفاق قضاء العادة بامتناع التواطئ من هؤلاء على ما ليس بحقّ يصير إجماعا كاشفا عن رأي المعصوم لامتناع تعلّقه بما ليس بحقّ لكان ذلك إرجاعا له إلى التقرير الأوّل وقد عرفت ضعفه أيضا.

فالإنصاف : أنّ التمسّك بالإجماع هنا ليس في محلّه سواء اريد به معناه اللغوي أو العرفي.

والعجب من الشيخ الاستاد كيف اعتمد عليه في تقريره الأوّل واكتفى به مع أنّه أضعف منه على التقرير الثاني.

وثانيها : ما تمسّك به الأكثرون وهو الّذي أشار إليه المصنّف بقوله : « احتجّوا بأنّه لو لم يقتض الوجوب » إلى آخره.

ومحصّله : أنّه لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها وحينئذ فإمّا أن يكون التكليف بذي

٥١٨

المقدّمة باقيا أو مرتفعا فعلى الأوّل يلزم التكليف بما لا يطاق ، وعلى الثاني خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، واللازم بكلا قسميه باطل.

وتوضيح تقرير الاستدلال : أنّ المراد بقولهم : « لو لم يجب المقدّمة » أنّه لو لم يمنع عن ترك المقدّمة لجاز تركها ، أي لما كان في تركها حرج وضيق ، إذ الوجوب إنّما يرتفع إمّا بارتفاع فصله ، أو ارتفاع جنسه ، أو ارتفاع فصله وجنسه معا ، وأيّ تقدير كان فلازمه جواز الترك بالمعنى المذكور.

وقولهم : « وحينئذ » محتمل لوجوه ثلاث ، وهي : حين إذ جاز ترك المقدّمة ، أو حين إذ ترك المقدّمة ، أو حين إذ جاز الترك وترك ، ولك أن تعبّر عن ذلك بقولك : « حين إذ ترك المقدّمة الجائز تركها » والفرق بين التعبيرين لفظي والمقصود بهما أنّ الوجه الثالث جمع بين الجزئين اللذين اكتفى بواحد منهما في الوجهين ، وطريق الجمع إمّا تركيب أو تقييد.

وهذه الاحتمالات ممّا فهم الأوّل منها المصنّف.

فردّه : بأنّ جواز الترك لا دخل له في لزوم التكليف بما لا يطاق ، ضرورة ترتّبه على نفس الترك وجوازه لا يستلزمه ، فلذا قال : « بأنّ البحث إنّما هو في المقدور وتأثير الإيجاب في القدرة غير معقول » يعني أنّ الواجب إنّما يصير غير مقدور بسبب ترك مقدّمته ، وإيجاب المقدّمة لا يصيّر غير المقدور مقدورا أو أنّ البحث في مقدّمة الواجب إنّما هو في المقدّمات المقدورة ، والقدرة عليها لا تنوط بإيجابها فجواز تركها لا يوجب زوال القدرة عنها ، فلا يستلزم التكليف بما لا يطاق لاستلزام القدرة عليها القدرة على الواجب ، وهي في اشتراط التكليف بها أعمّ ممّا كان بواسطة.

أو أنّ التكليف بما لا يطاق منوط عدم لزومه بالقدرة على الواجب ، وهي حاصل بسبب القدرة على مقدّمته والقدرة على المقدّمة غير منوطة بإيجابها ، بل هي حاصلة على تقدير عدم الوجوب أيضا ، نظرا إلى أنّ النزاع في المسألة والبحث عنها في المقدّمات المقدورة وكلّ من المثبت والنافي يتكلّم فيها بعد إحراز كونها مقدورة كما سبق تحقيق القول في ذلك.

وحاصله اختيار الشق الأوّل ومنع لزوم التكليف بما لا يطاق.

ولكن ظاهر تقرير الاستدلال بقرينة قوله : « فإن بقى الوجوب لزم التكليف » هو الاحتمال الثاني ، لأنّ ذلك ترديد يرتبط بالترك لا بجوازه.

وعلى أيّ حال كان فتحقيق الجواب أن يقال : بأنّا نختار كلاّ من الشقّين ، فإن اخترنا

٥١٩

الأوّل دفعنا الاستدلال تارة بمنع الملازمة ، أو إنتاجها أمرا محالا في المقام ، أو إنتاجها ما لا يعيّن المطلوب بل يجامع خلافه أيضا فيكون أعمّ.

واخرى : بمنع بطلان التالي.

أمّا الأوّل : فلأنّه لو اريد ترتيب المحذور على الجواز فالملازمة ممنوعة ، لوضوح ترتّبه على نفس الترك والجواز لا يستلزمه ـ كما أنّ الوجوب لا يستلزم الوجود ـ بل بينهما بون بعيد ، إذ الترك من فعل المكلّف وجوازه من قبل الله تعالى ، فلا مدخل له في لزوم التكليف بما لا يطاق.

فإن قلت : كيف تقول بذلك مع أنّ المكلّف ربّما يتركها تعويلا على عدم الوجوب.

قلنا : يعارضه على تقدير الوجوب أنّه ربّما يتركها تعويلا على عدم كونه ممّا يترتّب على مخالفته العقاب ولا استحقاقه نظرا إلى ما تقدّم تحقيقه.

ولو اريد ترتيبه على الترك فالملازمة وإن كانت مسلّمة غير أنّها تفضي إلى أمر محال ، وذلك لأنّه إذا كان أمر لازما لملزوم مشترك بين شيئين فبطلانه على تقدير ترتيبه على أحدهما لا يقضي ببطلان ذلك وصحّة الآخر لقبح الترجيح أو الترجّح بلا مرجّح ، بل لو صحّ بطلانه في نفس الأمر لقضى ببطلان كليهما ، كما لو قيل عند تردّد الشيء بين كونه إنسانا أو حمارا مثلا : « بأنّه لو لم يكن هذا إنسانا لكان حيوانا ولكن التالي باطل » فإنّه بطلان على تقدير صحّته يقضي بعدم كون ذلك الشيء إنسانا ولا حمارا ، إذ على تقدير كونه إنسانا أيضا يصحّ أن يقال : « بأنّه لو كان إنسانا لكان حيوانا ولكن التالي باطل » ومحلّ الكلام من هذا الباب ، لأنّ لزوم التكليف بما لا يطاق من لوازم الترك وهو يجامع الوجوب كما أنّه يجامع الجواز ، فبطلانه لا يقضي ببطلان الجواز لاشتراكه بينه وبين الوجوب بل لو صحّ البطلان لزم أن يكون كلّ منهما باطلا وهو محال لأدائه إلى ارتفاع النقيضين.

والدليل إذا كان مؤدّاه أمرا محالا يكون باطلا بالضرورة.

ولو اريد ترتيبه على الترك الجائز ، بأن يكون معنى قوله : « وحينئذ » حين إذ تركها المكلّف تعويلا على جواز تركها فالملازمة أيضا مسلّمة ولكن الحاصل منها أمر أعمّ من المطلوب ، وذلك لأنّ النتيجة حينئذ ليست إلاّ بطلان الترك الجائز لأنّه المقدّم ، وبطلانه إمّا من جهة بطلان قيده بمعنى أنّ الآمر لا يجوّز ترك المقدّمة لئلاّ يفضي إلى التكليف بما لا يطاق ، أو من جهة بطلان المقيّد وهو نفس الترك بمعنى أنّ المكلّف لا يترك المقدّمة لئلاّ

٥٢٠