تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

ولا الوجوب الإرشادي ، بل إنّما هو في الوجوب الغيري لا مطلقا بل إذا كان تبعيّا ، وهو برزخ بين اللابدّية والوجوب الأصلي.

والمراد بالواجب التبعي ـ على ما تقدّم بيانه مفصّلا ـ ما من شأنه أن يطلبه المولى فعلا طلبا تفصيليّا لو التفت إليه ، فانتفاء الطلب التفصيلي فعلا إنّما هو مسبّب عن عدم التفاته إليه ، نظرا إلى أنّ الطلب أمر نسبيّ إضافيّ لا يتحقّق في الخارج إلاّ بعد تحقّق شرائط الإضافة.

ومنها وجود المنتسبين ، الطالب والمطلوب عنه.

ومنها تصوّر المطلوب والالتفات إليه ، وبهذا المعنى هو الّذي يعبّر عنه بالمدلول الالتزامي التبعي ، وله نظائر كثيرة من الطلبيّات وغيرها.

أمّا الثاني : فكما في الوكالة لو وكّله على بيع شيء له ، فإنّه يتضمّن إقرارا بأن لا يكون على الوكيل حقّ للموكّل لو خرج المبيع مستحقّا للغير ، فحينئذ لو اتّفق خروجه كذلك

__________________

أكثر الحيض خمسة عشر يوما ، وكذا أقلّ الطهر ، إذ لا شكّ أنّ بيان ذلك غير مقصود ولكن لزم من حيث إنّه قصد به المبالغة في نقصان دينهنّ والمبالغة يقتضي أكثر ما يتعلّق به الغرض هكذا قيل ، وإن شئت تفصيل الكلام في هذه المراتب فانتظر ، فإنّ له محلّ مناسب سيجيء في المتن.

وأمّا الخامس : فلأنّ ضعف القول بالنفي وندرة القائل به بل وعدمه كما نفاه بعضهم أو عدم تعيّنه وعدم الاعتناء بشأن ما تعيّن في المقام في كلام العلاّمة دليل واضح على أنّ الوجوب التبعي هو المقصود بالعنوان وأنّه محلّ البحث فإنّ الضروري لشدّة بداهته قد يصير نظريّا لضعفاء العقول ويلحقه الإنكار منهم لشبهة عرضت لهم فلو لا ذلك هو محلّ البحث لكان ينبغي أن يكون النفي مذهبا للجمهور والمحقّقين ، فكيف يجامعه مصيرهم إلى خلافه ، فلا وجه لما أفاده المحقّق الخوانساري عند تحريره لمحلّ الخلاف بقوله : « وإنّما النزاع في تعلّق الخطاب الشرعي بها حتّى يكون الخطاب بالكون على السطح مثلا خطابا بأمرين ، أحدهما : الكون على السطح والآخر : سببه أو شرطه أم لا؟ أو في ترتّب استحقاق الذمّ على تركهما حين تركها دون ترك مشروطها هو ترتّب استحقاق ذمّين على تركهما معا أو تعلّق الإرادة الحتميّة أو الطلب بايجادها أو اشتمال تركهما على مفسدة ».

أمّا في الأوّل فلما عرفت مفصّلا ، وأمّا في الثاني والثالث فلأنّه خلاف في الثمرة لا في أصل المسألة كما نبّه عليه بعض الفضلاء.

وأمّا في الرابع : فلأنّ المراد بالإرادة الحتميّة أو الطلب بإيجاد المقدّمة إن كان الإرادة والطلب شأنا لا فعلا فهو وإلاّ رجع إلى الأوّل ، فليس احتمالا آخر مقابلا له.

وأمّا في الخامس : فلأنّ المفسدة المترتّبة على ترك المقدّمة إن اريد بها إدّاءه إلى ترك ذى المقدّمة فهو ممّا لا يقبل النزاع فيه أصلا ، فلا وجه لتنزيل الخلاف الكذائي الّذي صار من مهمّات مسائل الاصول إلى هذا المعنى ، وإن اريد بها استحقاق الذمّ والعقاب على ترك المقدّمة فهو راجع إلى الثاني والثالث وكأنّ محلّ النزاع [ صار ] مشتبها له رحمه‌الله وغيره. ( منه عفى عنه ).

٤٦١

لا يكون له عليه حقّ اعتبارا بإقراره المدلول عليه بالتبع ، وإن لم يكن صرّح به من جهة عدم التفاته إلى موضوعه وهو خروج المبيع مستحقّا للغير ، فإنّه مع هذا الوصف نافذ لأنّه في حكم التصريح به ، إذ لو كان الموكّل بحيث لو التفت إلى الموضوع لكان مصرّحا بالإقرار بعدم ثبوت حقّ عليه عند تحقّق موضوعه.

وأمّا الأوّل : فكطلب ترك قتل الولد الّذي يستفيده العبد عن حال المولى مع عدم صدوره عنه أصلا ، فإنّه يعدّ في العرف طلبا لأجل أنّه لو التفت المولى إلى الولد وقتله لحصل منه طلب تركه فعلا على نحو التفصيل.

وإنّما يستفيده العبد لحكم عقله بكون القتل مبغوضا للسيّد قائما بنفسه إرادة طلب تركه شأنا ، بحيث لو كان قد التفت إليه لأوجده فعلا.

فإذا ثبت أنّ محلّ النزاع في المسألة هو الوجوب التبعي بالمعنى المذكور الّذي هو برزخ بين اللابديّة والوجوب الأصلي ، انكشف أنّ النزاع في ثبوت هذا المعنى وعدمه يقرّر بوجهين :

أحدهما : أن يكون معنى النزاع أنّ الّذي يطلب شيئا له مقدّمة بالطلب التفصيلي الأصلي هل يعقل في ضميره أمر زائد على اللابدّية بالنسبة إلى المقدّمة ، يعبّر عنه بالإرادة الإجماليّة المتعلّقة بتلك المقدّمة الّتي لو التفت إلى كونها لابدّ منها لأرادها فعلا وطلبها تفصيلا أو لا؟ بل الموجود في ضميره إنّما هو مجرّد اللابدّية ، وما يتخيّل في المقام من الطلب والوجوب فهو طلب تفصيلي ووجوب فعلي إنّما يحصل بعد الالتفات إلى تلك اللابدّية وبدونه لا طلب أصلا لا تفصيلا ولا إجمالا.

وثانيهما : أن يكون معنى النزاع أنّ الأمر الزائد الّذي يعبّر عنه بالإرادة الإجماليّة هل يعدّ طلبا وإيجابا ليلزم منه وجوب المقدّمة ـ نظرا إلى أنّ الطلب أعمّ من الإجمالي والتفصيلي ـ أو لا يعدّ طلبا فلا يكون المقدّمة واجبة ـ نظرا إلى اشتراط التفصيل في الطلب والوجوب ـ؟ ولكنّ الأظهر من كلماتهم واستدلالاتهم هو المعنى الأوّل.

وإن كان المعنى الثاني أيضا ممّا وقع فيه الخلاف ، حيث يستفاد عن بعضهم إنكار كونه كافيا في الإيجاب وثبوت الوجوب بالمعنى المتنازع فيه ، ولكنّه نزاع آخر لا مدخل له في معقد المسألة ، وسيأتي الإشارة إلى بطلانه وتحقيق أنّ هذا الطلب التقديري كاف في ثبوت الوجوب وجميع ما يطلب منه في المقام من الثمرات والفروع.

وأمّا النزاع في أنّ الاقتضاء المتنازع فيه في قولهم : إيجاب الشيء مطلقا هل يقتضي

٤٦٢

إيجاب ما لا يتمّ إلاّ به أو لا؟ هل هو اقتضاء لفظي أو عقلي.

وعلى الثاني فهل هو بيّن بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ أو غير بيّن بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ؟ فليس على ما ينبغي ، إذ النزاع ليس في الاقتضاء اللفظي لما تقدّم الإشارة إليه في صدر المسألة من أنّ المسألة عقليّة والنزاع إنّما هو في الملازمة العقليّة ولا مدخل فيها للفظ أصلا.

أمّا أوّلا : فلأنّ النزاع كما يجري فيما ثبت وجوبه بدليل لفظي فكذلك يجري فيما ثبت وجوبه بدليل غير لفظي ، فلو فرض وقوعه في الاقتضاء اللفظي لخرج مقدّمة هذا القسم من الواجب عن مورده وهو خلاف حكم البديهة.

وأمّا ثانيا : فلقضاء أصل العنوان بذلك ، فإنّ العنوان ليس هو الوجوب الّذي هو مدلول « الأمر » اللفظي وهو الوجوب المطلق الّذي لم يعتبر فيه قيد ولا إضافة ليكون النزاع من باب النزاع في الملازمة بين مدلول اللفظ وبين شيء آخر ، ليرجع النزاع بالآخرة إلى أنّ هذا شيء هل هو لازم للموضوع له أو لا؟ بل في الوجوب المضاف إلى شيء له مقدّمة فلذا يعبّر عنه بأنّ : « إيجاب الشيء مطلقا هل هو إيجاب ما لا يتمّ إلاّ به أو لا »؟

ومن البيّن أنّ الوجوب مع وصف إضافته إلى ما له مقدّمة ليس بعين ما وضع له اللفظ بل هو فرد منه ، فيكون النزاع في أنّ هذا الفرد من الوجوب هل ملازمة عقلا بينه وبين وجوب مقدّمته أو لا؟

وهو كما أنّه يصلح فردا لما يقتضيه اللفظ فكذلك يصلح فردا لما يقتضيه اللبّ ، فلا تعلّق لاقتضاء اللفظ بما هو هو بذلك أصلا ولا ينافي ما ذكرناه لما قدّمناه من المناقشة في ما تقدّم من دعوى كون النزاع في الملازمة العقليّة دون الدلالة اللفظيّة تعليلا بما تقدّم ، لأنّها مناقشة في تعليله لا في مدّعاه كما لا يخفى.

ثمّ لا ريب أنّ اللزوم غير بيّن بالمعنى الأعمّ ، لأنّ المقدّمة بنفسها لازم غير بيّن لذيها إذ لا يلزم من تصوّرهما معا وتصور النسبة بينهما الجزم باللزوم ، فيكون طلبها أيضا لازما غير بيّن لطلبه.

وتوضيح ذلك : أنّ اللازم الغير البيّن يمتاز عن البيّن بافتقار معرفة لزومه وحصول تصوّره إلى وسط كالحدوث للعالم ، إذ لا يلزم تصوّره من تصوّره ، ولا من تصوّرهما مع تصوّر النسبة بينهما الجزم باللزوم ، إلاّ بتوسّط تصوّر التغيّر بخلاف البصر للعمى في البيّن بالمعنى الأخصّ والزوجيّة للأربعة في البيّن بالمعنى الأعمّ ، وظاهر أنّ ذات المقدّمة أيضا

٤٦٣

سببا كانت أو شرطا أو غيرهما ممّا لا يلزم تصوّرها من تصوّر ذيها ، ولا من تصوّرهما معا وتصوّر النسبة بينهما الجزم باللزوم إلاّ بتوسّط ملاحظة كونها ممّا لابدّ منها لذيها عقلا أو شرعا أو عادة ، فتكون بالنسبة إليه حينئذ لازما غير بيّن بالمعنى الأعمّ ، فإذا كانت الحال في نفس المقدّمة هذه فطلبها بالقياس إلى طلب ذيها أولى بذلك ، لأنّا نجزم بأنّ الجزم باللزوم بين الطلبين لا يحصل إلاّ بعد ملاحظة ما ذكر من الوسط ، فمن يدّعي وجوب المقدّمة يدّعي كونه لازما غير بيّن بالمعنى الأعمّ والمنكر ينفي ذلك.

ثمّ إنّهم ذكروا للمسألة ثمرات ليس شيء منها بشيء

منها : ما يظهر في باب النذور والأيمان ونحوها ، فإنّ من نذر أن يأتي بواجب فأتى بمقدّمة واجب يكفيه في حصول الوفاء على القول بوجوب المقدّمة وإلاّ فلا وفاء.

ومن هذا الباب لو نذر الإتيان بواجبات عديدة فأتى بواجب مع مقدّماته ، فعلى القول بوجوب المقدّمة يحصل الوفاء بالنسبة إلى الجميع إن وافق المأتيّ به للمنذور في العدد وعلى القول الآخر لا وفاء إلاّ بالنسبة إلى واحد وهو الّذي يحصل بإتيان نفس الواجب.

وربّما يناقش فيه : بدعوى انصراف الواجب في النذر وغيره إلى الأصلي المستقلّ دون الغيري التابع لوجوب الغير.

ولا يخفى أنّها مناقشة في محلّها كما يظهر بأدنى تأمّل في بناء العرف ، مضافا إلى أنّ فائدة النذر وشبهه لا تعدّ من ثمرات المسائل الاصوليّة ، فإنّها فائدة تترتّب على المسألة ، ومن شأنها أن يذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة عند التفريع وتعداد الفروع ولا مدخل لها في ثمرة المسألة الاصوليّة ، لأنّ ثمرة كلّ مسألة ما كان غاية مطلوبة من عنوان البحث عن تلك المسألة وهي الّتي تكون جزئيّا ممّا يقع مدلولا « للام » الغاية في قولهم : « اصول الفقه هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة » ومعلوم أنّ مسألة النذر وشبهه ليست بهذه المثابة ، بل هي من الفوائد الغير المقصودة الّتي تترتّب على المسألة بعد استنباط الحكم الفرعي الّذي هو الغاية المطلوبة.

ألا ترى أنّ ثمرة القول بكون صيغة « افعل » حقيقة في الوجوب يظهر في أوامر الكتاب وفي السنّة الواردة مجرّدة عن القرينة ، لوجوب حملها حينئذ على الوجوب ثمّ تترتّب بعد ذلك عليه فائدة النذر فيما لو نذر الإتيان بواجب فأتى بما تعلّق به الأمر بالصيغة.

ولا ريب أنّها لا تعدّ من ثمرات خلافهم في الصيغة ، بل هي من فوائد القول بكونها للوجوب.

٤٦٤

ومنها : استحقاق الثواب بفعل المقدّمة واستحقاق العقاب بتركها على القول بالوجوب وليس كذلك الأمر على القول الآخر.

وأنت خبير بضعف هذه الدعوى أيضا ، فإنّا لا نقول باستحقاق الثواب والعقاب على المقدّمة فعلا وتركا إذا كان وجوبها أصليّا مستفادا من الخطاب بالأصالة ، من جهة كونه وجوبا توصّليّا لا يترتّب عليه شيء من ذلك فكيف بوجوبها إذا كان تبعيّا.

وقد تقرّر أنّ الوجوب المتنازع فيه تبعيّ فهو أولى بعدم ترتّب استحقاق الثواب والعقاب من جهته على الفعل والترك.

ولا بأس بأن نشير إلى بعض ما صدر عنهم في ذلك المقام ، فمن جملة ذلك ما عن بعض المحقّقين ـ ممّا حكى نقله عن الغزالي أيضا ـ من ترتّب المدح والثواب على فعل المقدّمة ونفى عنه الغائلة بعض الأعلام بعد ما صرّح بعدم الذمّ والعقاب على تركها.

ثمّ استشكل فيه : بأنّه قول بالاستحباب الّذي هو منفيّ فيما بين الأقوال ، ولعلّ وجهه على ما رامه رحمه‌الله أنّ الاستحباب هنا ممّا لا معنى له لعدم صدق حدّه عليه ، إمّا من جهة انتفاء جنسه ، أو من جهة انتفاء فصله ، فإنّ استحقاق الثواب لو فرض مع عدم طلب في البين فيلزم الاستحباب من دون جنس الاستحباب وهو الطلب ، إذ المفروض انتفاؤه ، ولو فرض مع الموجود من الطلب المتّفق عليه عند الفريقين ، فيلزم الاستحباب مع عدم فصل له إذ ليس في المقام إلاّ الطلب الحتمي الّذي لا يرضي الله تعالى معه بالترك ، والاستحباب ينافيه لاستلزامه الرضاء بالترك وكلاهما غير معقول.

ثمّ صحّحه بجواز القول بإدراجه في عموم « من بلغه ثواب على عمل وفعله التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه » فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ حتّى فتوى الفقيه.

وتفصيل ما أجمله في وجه الاندراج : أنّ الثواب على فعل المقدّمة ثواب قد بلغ بذهاب بعض المحقّقين إليه ونقله الغزالي ، فبلوغ ذلك القول بلوغ ثواب ، فمن فعل المقدّمة لأجل إدراك ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن في الواقع كما بلغه.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر هذا الاحتمال عقّبه بقوله : « فتأمّل » وهو إشارة إلى ما ذكره في حواشيه ـ على ما حكي عنه ـ من أنّ ذلك خارج عن الاستحباب المصطلح الّذي يتسامح في أدلّته.

ولعلّ وجه الخروج ـ على ما رامه ـ أنّ الاستحباب المصطلح المذكور ما له طلب استحبابي واقعي كما في الاستحباب المحقّق ، أو طلب استحبابي ظاهري كالاستحباب

٤٦٥

البالغ إلينا عن فتوى فقيه واحد ، فإنّه فهمه عن دليل لا دلالة له عليه عندنا فيصير استحبابا ظاهريّا بمقتضى أخبار من بلغ.

ومحلّ الكلام ليس من هذا الباب ، إذ المقدّمة ليس فيها طلب استحبابي أصلا لا في الواقع ولا في الظاهر.

أمّا الأوّل : فلوضوح أنّ الطلب الموجود فيها طلب حتمي وهو ينافي الطلب الاستحبابي.

وأمّا الثاني : فلأنّ القائل بترتّب الثواب على فعل المقدّمة لا يدّعي الاستحباب ، بل يقول بأنّه يترتّب على الطلب الحتمي الّذي هو ثابت باتّفاق منّي ومنك ، فلم يبلغ إلينا استحباب لنتسامح في دليله ، بل الّذي بلغ [ هو ] ترتّب الثواب على الطلب الحتمي وهو ليس من الاستحباب المصطلح في شيء.

ثمّ ذكر أنّ هذا الاستحباب مع خروجه عن المصطلح لا مانع من الالتزام به إلاّ لزوم تسديس الأحكام أو تسبيعه.

والوجه في ذلك : أنّ المقدّمة إمّا فعل شيء أو ترك شيء والطلب الحتمي الّذي لا يترتّب على مخالفته عقاب مع ترتّب الثواب على موافقته ليس بشيء من الأحكام الخمس المعروفة ، فإن اضيف إلى القسم الأوّل من المقدّمة يكون قسما سادسا من الأحكام ، وإن اضيف إلى ثانيهما يكون قسما سابعا من الأحكام.

والفرق بين الصورتين أنّ الاولى تشبه الاستحباب وليس باستحباب كما أنّها ليست بوجوب.

والثانية تشبه الكراهة وليست بكراهة كما أنّها ليست بحرمة ، والوجه في عدم كونهما من الإباحة واضح من جهة تسوية طرفي المباح مع عدم ترتّب الثواب على الفعل والمقدّمة مطلوبة بالطلب الحتمي.

ثمّ صحّح ذلك أيضا بأنّ لزوم ذلك إنّما يقدح في الأحكام الأصليّة دون التبعيّات ، والمقدّمة فعليّة كانت أو تركيّة طلبها تبعي فلا ضير في لزوم التسديس والتسبيع حينئذ.

ولا يخفى عليك ما في جميع هذه الكلمات من الوهن والمناقشة.

فأمّا ما عن الغزالي وعن بعض المحقّقين فيردّه : أنّ ترتّب الثواب على أصل المقدّمة متفرّع على مسألة كلاميّة لم يقع عليها برهان عندنا ، وهي كون وسيلة الطاعة طاعة ككون وسيلة المعصية معصية ، فيقال حينئذ : إنّ الإتيان بالمقدّمة وسيلة إلى الطاعة وهي الإتيان

٤٦٦

بذيها فتكون طاعة ، فيترتّب عليه الثواب الّذي هو من لوازم الطاعة.

وهو كما ترى دعوى لا شاهد عليها إذ لا يستقلّ عقولنا بكون وسيلة الطاعة طاعة ، فلا معنى لالتزام الثواب على الفعل إن اريد به ترتّبه على جهة الاستحقاق ، وإن اريد به ترتّبه مطلقا ولو على جهة الفضل والإحسان.

ففيه : مع أنّه غير مطّرد لتوقّفه على الإتيان بها على وجه خاصّ لا عند كلّ إتيان ، أنّه غير مخصوص بمقدّمة الواجب بل كلّ مباح إذا اتي به على هذا الوجه يترتّب عليه الثواب كما ورد به الأخبار ، بل لا يكون ذلك حينئذ متفرّعا على القول بوجوب المقدّمة كما هو الغرض الأصلي في المقام لحصوله على القول الآخر أيضا كما لا يخفى على المنصف.

وأمّا ما ذكره من ترتّب المدح على فعلها فلا نضائقه ، لأنّه يقال في حقّ الآتي بالمقدّمة : « أنّه رجل حسن » لعزمه على الإتيان بالواجب بسبب إتيانه بمقدّمته ولكنّه ليس من استحقاق الثواب في شيء ، بل هو مجرّد مدح دنيوي والثواب أمر اخرويّ زائد على المدح الدنيوي ولا ملازمة بينهما.

وأمّا ما ذكره بعض الأعلام أوّلا في تصحيح ما التزمه من لزوم الاستحباب من اندراجه تحت الخبر العامّ المذكور الموجب لترتّب الثواب على الفعل.

ففيه : أنّ محلّ الكلام خارج عن مورد ذلك الخبر ونظائره ، فإنّ مورده إنّما هو التوقيفيّات الّتي لا طريق إليها إلاّ البلوغ ، ووجوب المقدّمة من النظريّات لتوقّف ثبوته على النظر.

وأمّا ما ذكره ثانيا من الالتزام بلزوم التسديس والتسبيع في التبعيّات.

ففيه : منع الفرق بينها وبين الأصليّات ، فإنّ الأحكام الشرعيّة منحصرة في الخمس بضرورة من الدين ، بل في جميع الملل والأديان من غير فرق فيها بين الأصليّة والتبعيّة ، ودعوى جوازه في التبعيّات خاصّة لا تتمّ إلاّ بإحراز إحدى المقدّمتين ، من منع كون التبعيّات من الأحكام الشرعيّة ، أو منع انحصار الأحكام الشرعيّة في الخمس المعروفة.

والكلّ مخالف لحكم القوّة العاقلة وإنكار للبديهة ولا يصغى إلى شيء منهما عند أهل النظر.

فالوجه في المقام منع دعوى ترتّب الثواب على فعل المقدّمة فرارا عن تلك المحاذير ، مع ابتنائها على التكلّفات الركيكة الواهية.

ومنها : كون ترك المقدّمة موجبا للفسق على القول بوجوبها بخلافه على القول الآخر.

ولا يخفى أنّ ذلك أيضا لا يرجع إلى محصّل ، فإنّ موجب الفسق ـ على ما تقرّر في

٤٦٧

محلّه ـ قد يكون فعل الكبيرة ولو مع عدم الإصرار ، وقد يكون الإصرار على الصغيرة ولو لم تكن من نوع واحد بل من أنواع متعدّدة.

فلو اريد أنّ ترك المقدّمة بنفسه كبيرة ولو واحدة ، أو أنّ الواجب كثيرا مّا يكون له مقدّمات عديدة فتركها جميعا إصرار على الصغيرة وإن لم يكن ترك الواجب بنفسه كبيرة ، أو أنّ الواجب وإن كان تركه بنفسه صغيرة ولكن ترك مقدّمته ولو واحدة المفضي إلى تركه يوجب الإصرار على الصغيرة ، نظرا إلى عدم اعتبار وحدة النوع في موضوع الإصرار فيلزم الفسق على جميع التقادير ، فيترتّب عليه حينئذ جميع أحكام الفسق من عدم نفوذ الشهادة وعدم جواز القدوة ونحوه.

ففيه : منع واضح من جهة أنّ الفسق ممّا يتفرّع على المعصية لا على ترك الواجب بما هو واجب.

ولقد تقدّم أنّ ترك المقدّمة من حيث هو لا يعدّ عصيانا ، وإنّما العصيان يحصل بترك الواجبات النفسيّة ، والمقدّمة على تقدير وجوبها ليست منها.

فالنسبة بين حصول العصيان وترك الواجب عموم مطلق ، كما أنّ بينه وبين الفسق عموم من وجه ، إذ قد يحصل الفسق من غير ترك واجب ولا حصول معصية كما في منافيات المروّة على القول باعتبارها فيه ، فلا ملازمة بين الوجوب والفسق ليكون لزومه من ثمرات القول بالوجوب.

ولو اريد أنّ ترك المقدّمة ممّا يوجب الفسق ولو كان من جهة إفضائه إلى ترك ذيها إذا كان ذلك من جملة الكبائر.

ففيه : أنّه إذن لا اختصاص له بالقول بالوجوب ، بل هو لازم حتّى على القول بعدم الوجوب.

والسرّ في ذلك : أنّ الفسق حينئذ يستند إلى ترك ذي المقدّمة وهو إذا كان من جملة الكبائر لا يتفاوت الحال في استلزامه الفسق بين كون مقدّمته المتروكة واجبة أو لا ، ولا ينافيه حصوله من حين ترك المقدّمة وإن لم يبلغ وقت ذيها ، لأنّ ترك الواجب أعمّ من الحقيقي والحكمي فتارك المقدّمة في حكم تارك ذي المقدّمة لأنّه جعله بترك مقدّمته ممتنعا على نفسه حين الترك ، فكما أنّ المعصية حاصلة من هذا الحين عرفا فليحصل لوازمها أيضا من ذلك الحين.

والمفروض أنّ الفسق من لوازمها كما أنّ استحقاق العقاب من لوازمها ، فلذا تجوّز

٤٦٨

ترتّب الاستحقاق على الترك من حينه ، فمن ترك الخروج مع الرفقة مع العلم بعدم تيسّره له بعد ذلك أو الظنّ به يستحقّ العقاب على ترك الحجّ الواجب عليه من حين ذلك الترك وإن طال زمان البلوغ إلى أوقاته.

وقضيّة ذلك ترتيب آثار الفسق عليه بعد الحكم بفسقه وإن لم نقل بوجوب المقدّمة ، لما يصدق عليه حينئذ أنّه تارك للحجّ وباعث على سقوط الأمر عنه بصيرورته ممتنعا باختياره.

ومنها : أخذ الاجرة على المقدّمة كالحفر الّذي هو مقدّمة لدفن الميّت ومواراته وتعلّق عقد الاجارة بها ، فعلى القول بالوجوب لا يجوز ذلك كغيرها من الواجبات الّتي ادّعي الإجماع على ذلك فيها.

وأمّا على القول بعدم الوجوب فلا مانع عن شيء من ذلك ، فيصحّ العقد ويستحقّ به الاجرة عليها.

ومن فروعه ما لو وجب على الإنسان حجّ مثلا فلا يجوز له أن يأخذ الاجرة على ما يرفعه في ميسره الواجب عليه من باب المقدّمة من مراسلة أو هديّة أو نحوها لأن يوصله في الميقات أو الكعبة إلى أهلها.

ومثله ما لو وجب عليه ردّ أمانة أو مال مغصوب إلى أهله في مكان ، فلا يجوز له أن يوجر نفسه لأن يرفع خطّا أو شيئا آخر في مسيره إلى هذا المكان ، لوجوبه عليه من باب المقدّمة على القول به.

واجيب عنه تارة : بأنّ أقصى ما دلّ عليه الدليل عدم جواز وقوع الإجارة على الواجبات النفسيّة دون غيرها (١).

وفيه : أنّ الدليل إنّما دلّ على أنّ صفة الوجوب من حيث هي مانعة عن التكسّب بالواجبات كما أنّه دلّ على أنّ صفة الحرمة مانعة عن التكسّب بالمحرّمات ، فإبداء الفرق حينئذ بين الواجبات النفسيّة والغيريّة خروج عن مقتضى الدليل ، لاشتراك الجميع في صفة الوجوب وإن كان لبعضها مزيّة على الآخر من جهات اخرى ، وكأنّه إلى ذلك يشير ما ذكره المجيب عقيب الجواب بقوله : « وفيه تأمّل ».

واخرى : بأنّه لا ابتناء لعدم أخذ الاجرة على المقدّمة على القول بوجوبها ولا لجواز أخذها على القول بعدم وجوبها ، بل النسبة بين جواز أخذ الاجرة ووجوب المقدّمة عموم

__________________

(١) ذكره بعض الأفاضل ( منه ).

٤٦٩

من وجه ، فلذا تراهم أطلقوا في الحكم بعدم جواز أخذها على تجهيز الميّت الّذي هو عبارة عن الأعمّ من الواجبات ومقدّماتها حتّى أنّه يشمل لمثل الحفر الّذي لا إشكال في كونه مقدّمة من غير تعرّض للفرق بين القولين في المقدّمة.

وأقوى ما يشهد بذلك استثناؤهم القدر الزائد على القدر الواجب من الحفر من الحكم بالحرمة فحكموا فيه بجواز الاجرة عليه ، فلولا المراد بالحكم ما يشمل المقدّمات أيضا لما كان للاستثناء وجه ، نظرا إلى أنّ الاخراج فرع الدخول بل الّذي ينوط به عدم جواز أخذ الاجرة على المقدّمة مطلقا أو جوازه كذلك شيء آخر لا دخل للوجوب فيه ، وهو الّذي يناط به الحكم في الواجبات الأصليّة النفسيّة وجودا وعدما.

وتحقيقه : أنّ الواجب إن كان من باب الحقوق المتعلّقة بالذمّة كإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق ونحوهما ممّا هو من حقوق المؤمن فلا يجوز أخذ الاجرة عليه ، ويعلم كونه من هذا القبيل بما دلّ على وجوبه من الأدلّة القاضية بوجوب أدائه وقبوله لإبراء الذمّة وصلوحه للمصالحة والتوكيل والوصيّة وغير ذلك ممّا يتعلّق بالحقوق خاصّة ، وإن لم يكن من هذا الباب فلا منع من جواز أخذ الاجرة كالنيابة للميّت في قضاء فرائضه الفائتة إلاّ ما دلّ دليل بخلافه ، فالمقدّمة أيضا إن كانت من الحقوق المتعلّقة بالذمّة للمؤمن فلا يجوز أخذ الاجرة عليها سواء قلنا بوجوبها أو لا ، وإن لم تكن من تلك الحقوق فلا دليل على عدم جواز أخذ الاجرة عليها ولو قلنا بوجوبها إلاّ ما أخرجه الدليل ، فلا مدخل لهذا الفرع في وجوب المقدّمة ليجعل من ثمرات المسألة.

وأنت خبير بما في هذا الكلام من الوهن ، ومنافاته لما يقضي بأنّ صفة الوجوب مانعة عن الاجرة وإجراء العقد ، مع أنّ معقد كلامهم في عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب ما وجب على الإنسان بالأصل أو بالعارض عينا أو كفاية تعيينا أو تخييرا ، فلا يعقل واجب على المكلّف لا يكون متعلّقا بذمّته ، وما فرض من مسألة النيابة للميّت في قضاء ما فات عنه من الفرائض خارج عن هذا العنوان لاتّفاقهم على جواز أخذ الاجرة هنا.

والوجه في ذلك : أنّ الوجوب السابق مطلقا مانع عن لحوق إجراء العقد واستحقاق الاجرة بالواجب على فعله ، ولا وجوب في مسألة النيابة قبل عقد الإجارة بل الوجوب واستحقاق الاجرة ينشآن عن العقد ، فالاجرة ليست على الواجب بل على العمل المباح المملوك له قبل العقد.

نعم لا يسوغ له بعد ما وجب عليه العمل بعقد الإجارة أن يوجر نفسه ثانيا من غيره

٤٧٠

لهذا العمل الواجب ، ولا أن يأخذ اجرة اخرى عليه من غير المستأجر الأوّل كما هو الحال في سائر الواجبات.

وبالجملة لا وقع لما ذكر من الجواب مع كونه فاسد الوضع.

نعم يرد على الثمرة المذكورة ما تقدّم في الثمرة الاولى ، فإنّ المقدّمة على تقدير وجوبها وإن حرم أخذ الاجرة عليها لمانعيّة الوجوب نظرا إلى عدم الفرق في ذلك بين ما كان وجوبه أصليّا أو تبعيّا ولكنّه ليس من الغايات المطلوبة الباعثة على عنوان المسألة الاصوليّة كما يرد ذلك على الثمرتين الاخريين على تقدير تماميّتهما.

ومنها : اجتماع المقدّمة مع الحرام ، فعلى القول بوجوبها لا يجوز ذلك بناء على ما هو التحقيق من عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، وعلى القول بعدم الوجوب لا ضير فيه لحصول الإجزاء حينئذ بالإتيان بها في ضمن الحرام.

وفيه : أنّ ذلك أيضا ممّا لا يرجع إلى محصّل ولا يوجب فرقا بين القولين ، فإن اريد بعدم جواز اجتماع المقدّمة مع الحرام أنّ الحرمة في المقدّمة ممّا توجب خروجها عن كونها واجبة وتمنع عن تعلّق الوجوب بها لئلاّ يلزم الجمع بين المتضادّين في شيء واحد ، ولا كونه محبوبا ومبغوضا ، ولا كونه مطلوبا فعله وتركه معا.

فهو مسلّم ، ولكنّه لا يوجب فرقا بين القولين من جهة كونها مقدّمة محرّمة فيتوصّل بها إلى ذيها على القولين ، ويترتّب على أدائها من جهة الحرمة على القولين.

والّذي يثمره القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي وهو عدم حصول الإجزاء بالفرد المحرّم وعدم الخروج عن عهدة المأمور به لو اوتي به في ضمن الحرام غير جار هنا ، لحصول ما هو الغرض الأصلي من المقدّميّة وهو التوصّل على القولين.

غاية الأمر أنّ المأتيّ به على القول بالوجوب مسقط عن الذمّة وعلى القول الآخر لا إسقاط.

وهذا ليس من الفرق الّذي يعدّ ثمرة بين القولين ، ولو فرض الكلام في المقدّمة المنحصرة في الحرام فلا فرق أيضا بينهما ، لأنّ المقدّمة لابدّ وأن تكون مقدورة على القولين والمانع الموجب لخروجها عن كونها مقدورة أعمّ من الشرعي والحرمة مانع شرعي ، فلا قدرة على المقدّمة ما دام هذا المانع قائما وكذلك على ذيها.

وقضيّة ذلك كون الوجوب الّذي يضاف إليه مشروطا على القولين.

نعم على القول بوجوب المقدّمة يفرض الوجوب بالإضافة إليها أيضا مشروطا وهذا

٤٧١

فرق بينه وبين القول الآخر بحسب الذات لا أنّه ثمرة بينهما.

وإن اريد به أنّها توجب خروجها عن كونها مقدّمة أيضا فهو في حيّز المنع ، إذ المقدّمية بمعنى كون الشيء ممّا لابدّ منه وممّا يتوقّف عليه غيره في الوجود الخارجي حكم عقلي ثابت للفرد المحرّم على كلا التقديرين ، والحرمة وصف عرضي أثبته الشارع في ذلك الفرد موجب لترتّب الإثم عليه لو اختاره المكلّف على غيره من الأفراد المباحة وهو لا ينافي كون ذلك الفرد مقدّمة بهذا المعنى جزما ، مع أنّ مآل كلامهم في مسألة اجتماع الأمر والنهي إلى جواز وقوع شيء واحد موجود في الخارج مصداقا لمفهومين أحدهما مأمور به والآخر منهيّ عنه وعدمه ، فمن يجوّز الاجتماع يقول بجواز الوقوع ومن لا يجوّزه ينكر ذلك.

فلو فرض المقدّمة ممّا يتّحد مع ذيها في الوجود الخارجي بأن يكونا بحيث يكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر في نظر الحسّ كالجزء بالقياس إلى الكلّ في المركّبات العقليّة كالكون في المكان لأداء المأمور به الّذي هو جزء جنسيّ له لكان الموجود في الخارج واحدا ، فيكون ممّا يجري فيه الخلاف المذكور من جواز وقوعه مصداقا لشيئين أحدهما منهيّ عنه ـ وهو المقدّمة على تقدير اجتماعها مع الحرام ـ والآخر مأمور به وهو ذو المقدّمة ، من غير فرق بين كونها واجبة أيضا على القول به وعدمه ، إذ لو قلنا بجواز الوقوع يتّجه جواز الاجتماع مع الحرام ولا يضرّ فيه القول بالوجوب ، وإن لم نقل بجواز الوقوع يتّجه عدم جواز الاجتماع مع الحرام ولا ينفعه القول بعدم الوجوب ، لأنّه يلاحظ ذلك حينئذ مع ذي المقدّمة الّذي هو واجب على كلا التقديرين.

والمفروض اتّحاده مع مقدّمته في الوجود الخارجي فيلزم من اجتماعهما مع الحرام اجتماعه معه.

وبذلك يظهر ما في صريح كلام العلاّمة ـ على ما حكاه بعض الأعلام وتقدّم إليه الإشارة ، من تجويزه اجتماع الحرام مع الكون الّذي هو جزء للصلاة ومقدّمة له كما إذا كان في الدار المغصوبة على تقدير القول بعدم وجوبها ، حيث ذكر ذلك ثمرة للقول بعدم وجوب الجزء الّذي هو مقدّمة للكلّ ـ من الفساد فإنّ الجزء لا يتصوّر اجتماعه مع الحرام ولو على القول بعدم وجوب المقدّمة ، لأنّه لو اجتمع معه لما يحصل الامتثال به فلا يحصل الامتثال بالكلّ أيضا ، لأنّه عبارة عن مجموع الأجزاء والكلّ ينتفي بانتفاء الجزء.

كما يظهر فساد ما في ظاهر كلام بعض الأعلام في مسألة اجتماع الأمر والنهي من

٤٧٢

جواز اجتماع الحرام مع الفرد الّذي هو مقدّمة للكلّي المأمور به على القول بعدم وجوب المقدّمة ، فإنّ الفرد على تقدير كونه مقدّمة للكلّي متّحد معه في الوجود الخارجي فكيف يجوز اجتماعه مع الحرام ولو على القول بعدم وجوب المقدّمة ، مع أنّ اجتماعه معه يستلزم اجتماع ذي المقدّمة الّذي هو واجب لا محالة ، إذ المفروض أنّه لا تميّز بينهما بحسب الوجود الخارجي أصلا ، فعروض الحرمة لأحدهما عروض للآخر لما بينهما من الاتّحاد ، فلأجل عدم الامتثال بأحدهما لا يحصل الامتثال بالآخر وإلاّ للزم حصول الامتثال وعدمه وهو كما ترى.

هذا على الغضّ عن منع كون الفرد مقدّمة للكلّي وإلاّ فعلى التحقيق المتقدّم في بعض المباحث السابقة يتضاعف فساد هذا الكلام جزما.

ومنها : ما قيل أيضا في المقدّمة إذا كانت من العبادات الموقوفة صحّتها على الأمر ، كالوضوء لمسّ كتابة القرآن مثلا إذا وجب بالنذر وشبهه ، بناء على أنّه لا يتعلّق بما هو محرّم منه والمباح منه مشروط وجوده بالطهارة فيكون الوضوء بالنظر إليه مقدّمة لوجود الواجب ، فعلى القول بوجوب المقدّمة يقع الإتيان به صحيحا لو حصل لأجل المسّ ، لأنّ الأمر الّذي ينوط به صحّة العبادة أعمّ من النفسي والتبعي والأصلي والغيري.

وقضيّة ذلك حصول الوفاء بالنذر أيضا لو أتى بالمنذور ، بخلافه على القول بعدم الوجوب فلا يقع الوضوء صحيحا لانتفاء ما هو مناط الصحّة ، بل يقع محرّما من جهة البدعة.

وقضيّة ذلك عدم حصول الوفاء بالنذر لعدم إمكانه مع عدم صحّة مقدّمة مورده ، فحينئذ لا مناص من القول بعدم انعقاد النذر عن أصله فلا وجوب للمسّ بل يحرم على التقدير المذكور ، أو دعوى انعقاده مشروطا بتمكّنه عن الطهارة الحاصلة بسبب صحيح من أسبابه إن كان في وقت موسّع ، وإلاّ فلابدّ من الالتزام بكون الناذر معذورا في عدم إتيانه بالمنذور حيث لم يتمكّن عنه من جهة حرمته بدون مقدّمته ، والمفروض عدم صحّة المقدّمة.

وفيه : أيضا ما لا يخفى من خروجه عن قانون الثمرات ، لأنّ المقدّمة إذا كانت من مقولة العبادات إن كان لها بنفسها رجحان ذاتي يقضي بطلبها الندبي الغير المانع عن النقيض ، فلا إشكال حينئذ في حصول الامتثال بها ووقوعها على وجه الصحّة لو قصد الإتيان بها لأجل الطلب الندبي الغير المانع ، فيترتّب عليه جواز المسّ سواء قيل بوجوب المقدّمة الزائد على ذلك الطلب الندبي النفسي أو قيل بعدمه ، فلا يتفاوت الحال أصلا.

وإن لم يكن لها رجحان ذاتي يوجب الطلب الندبي الغير المانع ، فلا يجدي وجوبه

٤٧٣

المقدّمي في حصول الامتثال بها من جهة كونها عبادة وهو وجوب ليس بتعبّدي حتّى يوجب الصحّة ، بل هو توصّلي صرف غيري فلا يحصل الامتثال بها مطلقا ولو على القول بالوجوب ، لأنّه فرع ترتّب الثواب والعقاب وقد نفينا استحقاق الثواب والعقاب بالنسبة إلى المقدّمة في حدّ نفسها.

ولعلّه إلى ما ذكرنا في الشقّ الأوّل ينظر ما عن ابن إدريس القائل بوجوب المقدّمة في غسل الجنابة لصيام نهار رمضان قبل دخول وقت الوجوب من القول بعدم وجوب الغسل الّذي هو مقدّمة لعدم وجوب ذيها مع كونها ممّا لابدّ منها حينئذ لأدّاء تركها إلى ترك ذيها ، قائلا :« بحصول الامتثال بالغسل لكونه مندوبا نفسيّا فالامتثال إنّما يحصل من جهة الطلب الندبي ».

فإنّ الالتزام بالطلب الندبي إنّما يصحّ لزعم الرجحان الذاتي الداعي إلى الطلب الندبي الغير المانع ، ولا ينافي ذلك لعدم وجوبها من باب المقدّمة كما أنّه لا ينافي لكونها ممّا لابدّ منها ، فلا يجوز تركها بحكم العقل من هذه الجهة الّتي يلاحظها فيخبر عن المولى بعدم الرضا بالترك المؤدّي إلى ترك مطلوبه فيما بعد وإن لم يكن طلبها طلبا فعليّا.

فلا يرد عليه ما أورده العلاّمة رحمه‌الله عليه : من أنّ قوله : بكون المقدّمة مندوبة مع قوله بوجوب مقدّمة الواجب من أعجب العجاب ، تعليلا بأنّ الإتيان بالمقدّمة حينئذ إن كان واجبا بوجوب مانع عن نقيض فلا معنى لدعوى كونها مندوبة ، وإلاّ كان رجوعا عن القول بوجوب المقدّمة.

فإنّ القول بعدم وجوب تلك المقدّمة فعلا من جهة عدم دخول وقت وجوب ذيها لا ينافي القول بوجوبها الفعلي الّذي يلزم من وجوب ذيها فعلا ، فلا يكون عدولا عن القول بوجوب مقدّمة الواجب.

وأمّا عدم جواز تركها فليس من جهة ما فيها من الطلب ، لأنّه على فرض وجوده طلب ندبي غير بالغ حدّ المنع عن النقيض ، بل هو من جهة اللابدّية الّتي هو من أحكام العقل ، بل ربّما ينشأ من العقل بملاحظة ذلك طلب إرشادي كما تقدّم في تحرير محلّ النزاع ، فلا ينافي القول بالندب الذاتي الموجب للصحّة للابديّة القاضية بعدم جواز الترك ، كما أنّه لا ينافي القول بوجوب المقدّمة إذا تحقّق شرطه وهو وجوب ذيها فعلا ، وكيف ما كان فالثمرة المذكورة لا تكاد تثمر شيئا في المقام.

ومنها : اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ لو كان عبادة وقلنا بوجوب

٤٧٤

المقدّمة ، فإنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل المأمور به فيكون على القول بوجوب المقدّمة واجبا وهو يستلزم كون الفعل حراما ولا نعني بالنهي عن الضدّ إلاّ هذا.

بخلاف ما لو قلنا بعدم وجوب المقدّمة فلا يكون الترك حينئذ واجبا فلا يكون الفعل حراما ولا نعني بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ إلاّ ذلك ، وهو أيضا ممّا لا يفهم معناه.

وإن اريد به مجرّد حرمة فعل الضدّ كما هو مقتضى النهي.

ففيه : أنّ حرمة فعل الضدّ لا تتوقّف على وجوب تركه ، لكفاية مجرّد لابدّية الترك في إفادة الحرمة لإفضاء الفعل إلى ترك المأمور به فيكون حراما لأجله ، سواء قلنا بوجوب الترك أو لا.

وإن اريد به ما يلزم منه من الفساد.

ففيه : أنّ النهي على تقدير اقتضائه فساد المنهيّ عنه إنّما يسلّم إذا كان صريحا ، لا في النهي الّذي هو من مقتضى الأمر لما هو المقرّر عندهم.

وإن اريد به ترتّب استحقاق العقاب على المخالفة بالفعل.

ففيه : ما تقدّم من منع ترتّبه على وجوب المقدّمة ، لكونه غيريّا.

وإن اريد لزوم المعصية على تقدير فعل الضدّ.

ففيه : أنّ أمر المعصية سهل ولكنّه لا يجدي نفعا في المقام ، لأنّها ممّا يترتّب على الشيء سواء كان نفسه معصية أو مستلزما للمعصية.

ألا ترى أنّ السفر الحرام الموجب لحرمة التقصير أعمّ من كونه بنفسه حراما أو مستلزما للحرام ـ كما قرّر في محلّه ـ ومحلّ البحث أيضا من هذا الباب ، فإنّ ترتّب المعصية على فعل الضدّ لا يتوقّف على كونه حراما بل يكفي فيه كونه مستلزما للحرام وهو ترك المأمور به.

ومع الغضّ عن ذلك كلّه فلا إشكال في أنّه كسابقه خارج عن ضابطة الثمرات ، لما مرّ مرارا.

فصار المحصّل : أنّ شيئا ممّا ذكر لا يصلح عدّه ثمرة لتلك المسألة ، ولكن لا يلزم من ذلك خروجها بلا ثمرة ظاهرة فقهيّة كما توهّم وادّعى انحصارها في كونها علميّة ، بل لها ثمرة ظاهرة وهي الّتي لغاية وضوحها لم تلتفت إليها الأذهان ولشدّة بداهتها ذهل عنها الأنظار.

وبيان ذلك : أنّ المسائل الاصوليّة ممهّدة لأجل الاستنباط كما ينبّه عليه تعريف اصول الفقه ، وإنّما يتأتّى ذلك بأن يأخذها الفقهاء مبادئ في استنباطاتهم ، وهي عبارة عن المقدّمات الّتي تؤخذ في استدلالات الأحكام الشرعيّة الفرعيّة الّتي يعدّ البحث عنها من المسائل الفقهيّة ، والمسألة الفقهيّة ما يكون البحث عنها من وظيفة الفقيه.

٤٧٥

ومن البيّن أنّ الفقيه ليس من وظيفته إلاّ البحث عن فعل المكلّف من حيث الحلّ والحرمة ونحوها.

والغاية المطلوبة من هذا البحث ـ نظرا إلى أنّ مسألة كلّ علم لابدّ فيها من ثمرة تعدّ من الغايات المطلوبة في ذلك العلم ـ إنّما هو الانتقال إلى استحقاقي الثواب والعقاب وعدمهما المترتّبين على الأفعال والتروك.

وأمّا ما عدا ذلك ممّا قد يذكره الفقهاء كبرّ النذر وحنث الحلف ووفاء العهد وحرمة أخذ الاجرة على واجب أو محرّم وحرمة إجراء العقد عليهما وعدمهما في غيرهما وخروج الفاعل أو التارك فاسقا مع الإصرار أو لا معه ، فإنّما هو من اللوازم الغير المقصودة أصالة فيذكر تبعا من باب التفريع.

نعم قد يؤخذ بعض ما ذكر ثمرة أيضا في كلّ مقام ثبت عندهم وجوبه توصّلا أو حرمته للغير ، نظرا إلى عدم ترتّب الاستحقاقين عليهما حينئذ فيرتّب ما هو من اللوازم الغير المقصودة أصالة على تقدير ترتّبهما ولا ضير في كون ذلك على غير هذا التقدير مقصودا بالأصالة ، كما لا ينافي كونه كذلك حينئذ كونه غير مقصود بالأصالة على هذا التقدير.

ولا ريب أنّ ما يرجع إلى المسائل الاصوليّة من البحث في تلك المسألة إنّما هو إثبات الملازمة بين الوجوب ووجوب المقدّمات ونفي تلك الملازمة ، وليس ذلك بحثا عن أحوال فعل المكلّف ، ضرورة أنّ الملازمة أمر عقليّ يضاف إلى ما هو من العوارض لا أنّها بنفسها من العوارض ، فإذا أخذت هذه وجودا أو عدما من مبادئ الاستنباط يكون ثمرتها المقصودة بالذات إثبات الوجوب أو نفيه في أفعال أو تروك للمكلّف تكون مقدّمات داخليّة أو خارجيّة ـ سببا أو شرطا ـ لأفعاله الاخر الّتي صارت واجبة عليه أصالة بالوجوب النفسي أو الغيري.

فإنّ البحث عن وجوب قطع مسافة الحجّ وعدمه ، ووجوب السعي في تحصيل الماء للطهارة الواجبة وعدمه ، ووجوب إجراء الصيغة في العتق الواجب وعدمه وغير ذلك ممّا لا يحصى ليس إلاّ من وظيفة الفقهاء ، وليس ذلك بغين ما عنونه الاصوليّون في تلك المسألة جدّا كما يظهر بأدنى تأمّل ، فلذا لا يورد إلاّ في الكتب الفقهيّة ويجعل ما هو كلّيّة المسألة الاصوليّة دليلا على ذلك على حدّ كلّيّة الكبرى المعتبرة في جميع الاستدلالات.

فيقال : إنّ الشيء الفلاني الّذي هو شرط أو سبب لذلك الواجب الخاصّ واجب

٤٧٦

لوجوب مقدّمة الواجب ، أو ليس بواجب لعدم وجوب مقدّمة الواجب ، فيكون إثبات الوجوب لخصوصيّات الأفعال المندرجة في مفهوم « المقدّمة » ثمرة للقول بوجوب المقدّمة ونفي ذلك الوجوب عنها ثمرة للقول الآخر.

كما أنّ إثبات الوجوب لفعل خاصّ للمكلّف بالأمر الوارد فيه كتابا أو سنّة ثمرة للقول بكون الأمر للوجوب ، فكما أنّ النظر في ترتيب تلك الثمرة وعدمه يعدّ من المسائل الفقهيّة ولا ينافي كونه من ثمرات المسألة الاصوليّة ، فكذلك النظر في ترتيب الوجوب على الفعل الخاصّ المندرج تحت كلّيّ « المقدّمة » يكون من المسائل الفقهيّة ولا ينافي كونه ثمرة للمسألة الاصوليّة.

غاية ما في الباب أنّ هذا الوجوب الّذي ينظر في إثباته الفقيه ممّا لا يترتّب على ثبوته ما هو غاية مطلوبة في البحث عن الوجوب الّذي هو من المسائل الفقهيّة وهو استحقاق الثواب والعقاب المترتّب على الفعل أو الترك ، ولا يخفى أنّ ذلك لو صلح مناقشة فهو مناقشة على الفقيه في المسألة الفقهيّة ، حيث تصدّى لإثبات وجوب في فعل المكلّف لا يترتّب عليه ما هو مقصوده الأصلي في مباحث فنّه لا على الاصولي في المسألة الاصوليّة.

مع أنّ الفقيه أيضا يتمكّن عن دفعها بأنّي إنّما أتصدّى في إثبات ذلك الوجوب لترتيب غرض آخر ممّا هو من لوازم الوجوب ، من برء النذور وشبهه وحرمة أخذ الاجرة وغيره على تقدير انتفاء ما هو الغرض الأصلي.

وقد عرفت أنّ هذه الامور قد تصلح ثمرات للمسألة الفقهيّة وإن لم تصلح لها في المسألة الاصوليّة كما تقدّم.

والعجب عن بعض المشايخ ـ دام ظلّه ـ كيف غفل عمّا ذكرناه فنفى الثمرة عن المسألة وحصرها في العلميّة.

وعن بعض أفاضل العصر كيف أخذه عنه تقليدا فأشاعه بين تلامذته من غير تدبّر وتأمّل ، فإنّ الله وليّ التوفيق وهادي الّذين يجاهدون فيه إلى سبله.

وأمّا الأصل في المسألة :

فقد يقال : بأنّه عدم الوجوب وهو كذلك.

ولكن ليس المراد به أصالة البراءة حتّى يرد عليه : بأنّ القطع باشتغال الذمّة حاصل ، نظرا إلى أنّه لا ينوط بالطلب الحاصل حتّى يقال : بأنّه مع عدم الوجوب لا طلب فلا

٤٧٧

اشتغال ، لأنّه حكم من جانب العقل قد ينشأ بملاحظة طلب الشرع وقد ينشأ بملاحظة اللابدّية ولا سيّما إذا كان الحاكم بها أيضا هو العقل ، فكما أنّه يحكم بلابدّية المقدّمة لوجود ذيها فكذلك يحكم من باب الإرشاد باشتغال الذمّة بها.

بل المراد به أصالة العدم الّتي يعبّر عنها بالاستصحاب العدمي ، فإنّ الطلب مطلقا أمر حادث مسبوق حدوثه بالعدم الأزلي ، ومن خواصّه نفيه بالأصل حيثما وقع مشكوكا في حدوثه.

غاية الأمر أنّه بالنسبة إلى ذي المقدّمة ينقطع بالقطع فبقي الباقي وهو طلب المقدّمات تحته.

وما عساه يناقش به من أنّ المستصحب في آن اليقين إنّما هو عدم لا في الموضوع ، والّذي اريد استصحابه في المقام إنّما هو عدم في الموضوع وهو المقدّمة ، ولا ربط بينهما.

يندفع : بأنّ مآل هذه المناقشة إلى دعوى اقتضاء المستصحب موضوعا محرزا كما قرّر في محلّه ، وهو ـ على تقدير تسليمه ـ كذلك فيما لو كان المستصحب أمرا وجوديّا اريد إثباته في آن الشكّ ، فحينئذ لابدّ له من موضوع وجوديّ محرز عن آن اليقين إلى آن الشكّ.

وأمّا إذا كان عدميّا فلا يقتضي موضوعا موجودا في آن اليقين إلى آن الشكّ ، بل يكفي فيه تحقّق مجرّد العدم في ذلك الآن وإن كان لا في الموضوع ، فاريد إثباته في الموضوع بحكم الاستصحاب ووجه الفرق : أنّ المستصحب إذا كان أمرا وجوديّا لابدّ له في جميع آنات وجوده من موضوع يتقوّم به لكونه عرضا ، وهو الّذي لا يوجد إلاّ في الموضوع فلا يعقل إثباته في آن لم يعلم ببقاء موضوعه المقوّم له ، بخلاف الأمر العدمي فإنّه لا يتقوّم بالموضوع بل هو مفهوم اعتباري يعتبره العقل عند انتفاء الوجود ، فليس من الامور الواقعيّة الحقيقيّة حتّى يفتقر في جميع آناته إلى الموضوع مقوّم له.

غاية الأمر أنّه قد يتحقّق من باب المقارنات الاتّفاقيّة في أمر موجود محقّق ، وقد يتحقّق في أمر معدوم صرف ، فالمقصود بالمستصحب هنا إنّما هو العدم الثابت في آن لم يكن هنالك مقدّمة ولا ذوها ولا مكلّف ، مع انقطاع العدم بالنسبة إلى وجود المكلّف وحدوث طلب ذي المقدّمة باليقين ، لبقاء الباقي وهو العدم بالنسبة إلى وجود المكلّف بحالته الأوليّة بحكم الأصل ، نظير استصحاب عدم التكليف فيمن شكّ في أوّل زمان بلوغه في تعلّق التكليف به الثابت في آن لم يكن هو ولا غيره موجودا مثلا.

ولو سلّم عدم الفرق بين الأمر الوجودي والأمر العدمي في اعتبار الموضوع وبقائه في جميع آنات المستصحب حتّى آن الشكّ نمنع عن كون المستصحب في آن اليقين هو العدم

٤٧٨

لا في الموضوع ، فإنّ ذلك بالنسبة إلى كونه في الموضوع أو لا في الموضوع مبنيّ على فرض الفارض ، فليفرض عدم وجوب المقدّمة الّذي اريد استصحابه في آن وجود المكلّف قبل توجّه الخطاب بذي المقدّمة إليه كقطع مسافة الحجّ قبل زمن الاستطاعة ، فإذا حصلت الاستطاعة مع الشكّ في وجوب القطع فلا ريب في أنّه حينئذ يندفع بالأصل ، فالمستصحب إنّما هو العدم الثابت لموضوع محرز إذ المفروض كونه أمرا محقّقا قبل زمن الاستطاعة مع خلوّه عن حكم الوجوب فيستصحب.

وبالجملة : فالغرض الأصلي في المقام نفي الوجوب عمّا من شأنه أن يكون واجبا.

وظاهر أنّه يتأتّى بأصالة العدم ، فالمراد بالعدم ها هنا إنّما هو العدم الملكي فالأصل المذكور من هذه الجهة جار ولا وجه للمناقشة فيه.

وأمّا الإشكال فيه أيضا من جهة أنّ من أركان الاستصحاب طروّ الشكّ اللاحق وهو غير معقول هنا ، لأنّ وجوب المقدّمة ـ على ما تقدّم من أنّ الكلام إنّما هو في الملازمة العقليّة وسيأتي بيانه مفصّلا عند الاستدلال ـ إنّما يثبت بحكم العقل فلابدّ من المراجعة إليه ، فإمّا أن يحكم بالوجوب أولا.

فعلى الأوّل لا معنى لاستصحاب العدم لانتفاء الشكّ اللاحق.

وعلى الثاني فإمّا أن يحكم بعدم الوجوب أو لا يحكم بشيء.

فعلى الأوّل لا حاجة إلى الاستصحاب لعدم الشكّ أيضا في العدم.

وعلى الثاني لا يفيد الاستصحاب في إثباته لأنّه منوط بالعقل خاصّة.

ففيه : أنّ حكم العقل بالملازمة إنّما هو من باب الكشف عمّا هو في نظر المولى في الواقع ونفس الأمر فهو واسطة في الإثبات لا الثبوت.

ومن البيّن أنّ فرض جريان الأصل في أمثال المقام ونظائره ممّا فيه دليل إجتهادي على طبق الأصل أو على خلافه رافع للشكّ إنّما هو على فرض تطرّق الشكّ ، فإذا صحّ فرض العقل متردّدا في الحكم بالملازمة والعدم لا ضير في التمسّك بالاستصحاب بالنظر إلى ما هو في الواقع ونفس الأمر ، وعلى تقدير عدم التردّد أيضا يصحّ الاستصحاب لما عرفت من صحّة الفرض ، فإنّ فرض المحال ليس بمحال.

وأمّا ما يورد عليه أيضا ـ من أنّ الأصل إنّما يتمسّك به لأن يترتّب عليه الأحكام الفرعيّة والأصل المذكور وإن كان جاريا وسليما عن المناقشة من جهة الجريان إلاّ أنّه لا يترتّب

٤٧٩

عليه حكم فرعي أصلا ، فلا فائدة في التمسّك به ـ فليس ممّا ينبغي الالتفات إليه ، كيف وعدم ترتّب الفائدة عليه من جهة وجود [ دليل ] اجتهادي رافع للاحتياج إليه وإلاّ فعلى فرض عدمه يترتّب عليه كلّ ما هو من لوازم القول بعدم وجوب المقدّمة ، وكأنّ منشأ هذا الكلام ما تقدّم من توهّم نفي الثمرة في المسألة وانحصارها في العلميّة وقد عرفت وهنه على ما ينبغي.

ثمّ إنّه اختلفت كلمتهم في عدد أقوال المسألة ، فالأكثرون جعلوها رباعيّة والسيّد في المنية ـ كالمصنّف هنا ـ جعلها ثنائيّة ، القول بالوجوب مطلقا ، والتفصيل بين السبب والشرط.

وبعضهم أضاف إلى ما ذكره الأوّلون قولا خامسا ولكن احتمالا ، وبعض آخر جعل الخامس قولا آخر محقّقا ولكن نسبه إلى الحكاية.

وتفصيل القول في ذلك أنّ ها هنا أقوالا محكيّة مع كون بعضها محقّقا :

أوّلها : القول بالوجوب مطلقا ، عزاه المصنّف إلى الأكثرين وغير واحد إلى الأكثر ، والسيّد في المنية إلى أكثر الأشاعرة والمعتزلة ، وبعض الفضلاء إلى أكثر المحقّقين.

وعن الآمدي دعوى الإجماع عليه ، على ما حكاه الفاضل النراقي نسبته إليه ناسبا إلى المحقّق الطوسي رحمه‌الله في نقد المحصّل دعوى الضرورة فيه ، وعن العلاّمة الدواني في شرح العقائد أيضا ، وعن العلاّمة في النهاية نسبة الخلاف إلى الواقفيّة والسيّد ، وهو المختار أيضا.

وثانيها : القول بعدمه مطلقا صرّح غير واحد بعدم ظهور قائل به ، ونسبه بعض الفضلاء إلى قوم.

قال المحقّق الخوانساري ـ بعد ما صرّح بعدم ظهور القائل ـ : « لكن كلام المنهاج يدلّ على وجود القول به » ويحتمل عبارة المختصر أيضا ولكن ادّعى بعضهم الإجماع على وجوب السبب وكأنّه ليس بمعتمد.

وثالثها : الوجوب إذا كان سببا دون ما إذا كان شرطا مطلقا ، ذهب إليه المصنّف ونسبه في المنية إلى السيّد وفيه إشكال يأتي في كلام المصنّف ، وإلى الواقفيّة والمحقّق إلى بعض المتأخّرين ، وكأنّ مراده به المصنّف.

وعن السيّد المرتضى وقطب المحقّقين في شرحه على مختصر الحاجبي والمحقّق التفتازاني دعوى الإجماع في وجوب السبب.

ورابعها : الوجوب في الشرط الشرعي دون غيره ، وهو محكيّ عن ابن الحاجب ، وفي كلام المحقّق والنراقي أنّه نسب إلى إمام الحرمين أيضا ، وأضاف إليه الأوّل قوله : « قال السيّد

٤٨٠