تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

وتوقّف في ذلك جماعة فلم يدروا لأيّهما هي *.

__________________

كالطبيعة قابل للإطلاق والتقييد بأحد القيدين.

غاية الأمر أنّه يريد بالماهيّة ـ على تقدير القول بها دون المرّة والتكرار ـ الحقيقة الشخصيّة دون الحقيقة الكلّيّة ، نظرا إلى أنّها عرفا تطلق على حقيقة الشيء وذاته ، وهي في كلّ شيء بحسبه ، ففي الطبائع الحقيقة الكلّيّة وفي الأفراد الحقيقة الشخصيّة ، فلا علقة بين المسألتين على كلا الاعتبارين.

ثمّ إنّه على ما رجّحناه من حمل المرّة على إرادة الدفعة المفسّرة بإيجاد المأمور به في زمان واحد ، يبقى في النفس شيء بالنظر إلى إيجاد الطبيعة دفعة في ضمن أفراد عديدة كما في المثال المتقدّم ، من حيث إنّه يقتضي جواز الاكتفاء به على القول بالمرّة في مقام الامتثال ، وكون الإتيان بها في ضمن الجميع امتثالا واحدا ، لأنّه إتيان لها دفعة بذلك المعنى ، مع أنّه مخالف لما يصرّح به القوم في ذكر الثمرات من أنّ المطلوب الموجب للامتثال ليس إلاّ واحد منها فيستخرج بالقرعة إن احتيج إلى التعيين ، إلاّ أن يدفع بكون ذلك ممّا يتفرّع على توهّم إرادة الفرد من المرّة.

وأمّا على إرادة الدفعة منها فلا بأس بكون الجميع امتثالا واحدا من حيث موافقته لمقتضى الأمر ، وهو الإتيان بالمأمور به دفعة.

غاية الأمر أنّها قد يؤتى بها في ضمن فرد واحد وفي ضمن أفراد عديدة ، وقد اتّفق هاهنا القسم الثاني ، وتمام الكلام في ذلك يأتي عند بيان الثمرات.

* و [ في ] تثنية الضمير إشعار بكون ذلك توقّفا بين المرّة والتكرار.

وفي شرح الشرح : أنّهم لم يدروا أنّها للمرّة أو التكرار أو المطلق ، وفيه أيضا وقيل : معناه التوقّف في مراد المتكلّم بناء على الاشتراك.

وفي كلام بعض الفضلاء : أنّ المتوقّفين بين متوقّف في الاشتراك وعدمه ، وبين متوقّف في تعيين المرّة والتكرار. انتهى.

وأنت بالتأمّل في الشقّ الأوّل تقف أنّه محتمل لوجوه ثلاث.

وربّما يحكى فيه وجه آخر وهو حمل كلام الواقف على إرادة الوضع لمطلق الطبيعة ، فيتوقّف إرادة المرّة والتكرار على قيام الدليل ، حيث لا دلالة في الصيغة على شيء منها.

ولا يخفى أنّ المطابق لدليلهم الّذي نقله المصنّف هو الّذي حكاه المصنّف أو شارح الشرح أوّلا ،

١٦١

لكون ما عداه من لوازم القول بالاشتراك أو الوضع للماهيّة من حيث هي ، فلا معنى لعدّه قولا برأسه.

وربّما يزاد على ما ذكر من الأقوال قول بالاشتراك.

وقد نسبه العلاّمة في التهذيب إلى السيّد مع أنّه في النهاية ـ على ما في المنية ـ عزى إليه أنّه ذهب إلى أنّ الأمر ليس موضوعا لأحدهما ، بل للقدر المشترك بينهما ، إلاّ أنّ الأوفق بدليله الّذي حكاه في التهذيب هو الأوّل كما ستعرفه.

فأقوال المسألة على ما عرفتها إمّا ثلاثيّة أو رباعيّة أو خماسيّة ، كما تنبّه عليه بعض الأفاضل.

ثمّ إنّه ربّما يستظهر (١) عن كلام المصنّف وشارح الشرح فرق بين القول بالتكرار وأخويه ـ الماهيّة والمرّة ـ بامتيازه عنهما بترتّب العقاب على ترك الزائد على المرّة بناء عليه دون أخويه ، وامتاز الماهيّة عن المرّة بترتّب الثواب على فعل الزائد بناء عليها دون المرّة ، فإنّه لا ثواب على القول بها في فعل الزائد كما لا عقاب عليه ، وكأنّه بالنسبة إلى كلام المصنّف يستفاد عن ذيل ما نقله من حجّة القول بالمرّة مع انضمام ما ذكره في ردّه إليه ، وإلاّ فكلامه قاصر عن إفادته.

وفرق آخر بين المرّة والماهيّة عن كلام الشهيد الثاني في تمهيد القواعد والفاضل الشيرازي في حواشيه لمختصر الحاجبي بامتياز المرّة عن الماهيّة ـ على القول بها ـ بالمنع عن الزيادة دون الماهيّة ـ على القول بها ـ لتضمّنه السكوت [ عن ] الزيادة نفيا وإثباتا.

وقضيّة ذلك إمتياز التكرار عنهما بحصول الثواب في فعل الزيادة.

فقضيّة الجمع بين الفرقين أنّ الزيادة على القول بالتكرار ممّا يترتّب الثواب على فعلها والعقاب على تركها.

وأمّا على القول بالمرّة فهي مسكوت عنها نفيا وإثباتا على أوّل الفرقين وموجبة للعقاب على ثانيهما.

وعلى القول بالماهيّة فهي مسكوت عنها على ثاني الفرقين وموجبة للثواب على أوّلهما.

فقد تقرّر ممّا ذكر أنّ في كلّ من المرّة والماهيّة خلافا فيما بينهم ، وهو إمّا خلاف من أصحاب القولين بدعوى صيرورتهم فريقين كما يظهر عن بعضهم ، أو اختلاف من غيرهم في فهم مرادهم من هذين القولين ، فالزائد على المرّة على القول بالماهيّة دائر بين كونه

__________________

(١) المستظهر هو سلطان العلماء ( منه ).

١٦٢

مطلوبا أو مسكوتا عنه ، وعلى القول بالمرّة مردّد بين كونه مطلوبا تركه أو مسكوتا عنه ، وقد يعبّر عن الثاني بالمرّة لا بشرط شيء ، وعن الأوّل بالمرّة بشرط لا ، إمّا على طريق التقييد بأن يتوقّف الامتثال بالمأمور به على ترك الزيادة فالآتي به بعد المرّة الاولى لا يكون ممتثلا أصلا ، أو على طريق تعدّد المطلوب بأن لا يتوقّف امتثال الأمر على ترك الزائد وإن كان في نفسه محرّما ، فالآتي به بعد المرّة الاولى يكون مطيعا وعاصيا ، هذا على ما في كلام بعض الأجلّة.

وقد يضاف إليها ما يوجب تكثّر الاحتمالات ، فيقال : إنّ القول بالمرّة يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يراد به المرّة بشرط لا ، أي الّتي لوحظ معها ترك الزائد على نحو ينحلّ الأمر إلى أمر بالنسبة إلى المرّة ونهي بالنسبة إلى الزائد إمّا على طريق الاستقلال حتّى أنّه لو أتى بالفعل مرّتين كان مطيعا عاصيا ، أو التقييد حتّى يكون فعله الثاني عصيانا ومانعا عن حصول الامتثال بالأوّل ، وحينئذ فإمّا أن يقال : بعدم إمكان الامتثال بعد ، أو يقال : بكون فعله الثاني مبطلا للأوّل ، فكأنّه لعدم العبرة به لم يأت به أصلا فلابدّ من الإتيان بالثالث ، فلو أتى حينئذ بالرابع لبطل الثالث وهكذا في سائر المراتب.

وأنت خبير بأنّ الوجهين لا وجه لأحدهما ، إذ لا مدخليّة لخصوصيّة الثاني والرابع ونحوه في الحرمة والإبطال على هذا الاحتمال ، بل مبناه على النهي عن كلّ ما يزيد على المرّة الاولى ، قبالا للقول بالتكرار المنحلّ إلى الأمر بكلّ مرّة ممّا هو داخل في حيّز الإمكان عقلا وشرعا.

وقضيّة ذلك انقضاء زمان الامتثال وعدم إمكان حصوله بعد لحوق المرّة الثانية.

الثاني : أن يراد به المرّة بشرط لا أيضا ، ولكن من دون أن ينحلّ الأمر إلى أمر ونهي ، بأن يكون المطلوب هي المرّة المقيّدة بعدم الزائد حتّى أنّه لو أتى به لم يكن ممتثلا بالأوّل لفوات شرطه ، من دون أن يكون مجرّد الإتيان بالثاني عصيانا ، وفي تحقّق الامتثال حينئذ بالمرّة الثالثة والخامسة الوجهان المتقدّمان.

وفيه : ما تقدّم.

الثالث : أن يراد به المرّة لا بشرط شيء ، بأن يفيد كون المرّة مطلوبة من غير أن يراد معها ترك الزائد ، فالمقصود هو الإتيان بالمرّة سواء أتى بالزائد أو لا ، لكن يفيد عدم مطلوبيّة القدر الزائد ، فالمأمور به هي المرّة مع عدم إرادة ما يزيد عليها فيرجع في الزائد

١٦٣

إلى حكم الأصل.

الرابع : الصورة بحالها لكن مع عدم دلالته على عدم مطلوبيّة الزائد ، بل غاية ما يفيده الأمر مطلوبيّة المرّة من غير أن يفيد مطلوبيّة ما زاد عليها ولا عدمها ، والفرق بينه وبين سابقه ظاهر ، فإنّه لو دلّ دليل على مطلوبيّة الزائد كان معارضا للأمر المفروض بناء على الأوّل بخلاف الثاني ، إذ عدم وفاء الطلب بالدلالة على وجوب الزائد لا ينافي ثبوت الوجوب من الخارج.

ووجه ضبط هذه الاحتمالات أنّ الأمر الدالّ على طلب الفعل مرّة إمّا أن يدلّ على مطلوبيّة ترك الزيادة ، أو على عدم مطلوبيّة فعلها ، أو لا يدلّ على شيء منهما بل كان ساكتا عنها نفيا وإثباتا ، وترك الزيادة على الأوّلين إمّا أن يكون ممّا أخذ به شرطا في المأمور به حتّى أنّه لولاه لما حصل الامتثال أصلا ، أو لا يكون كذلك حتّى أنّه لولاه لحصل الامتثال مع العصيان أو بدونه.

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ القول بالتكرار أيضا فيه احتمالان ، فتصوير موضع النزاع على وجه يرد عليه الأقوال المذكورة مع الاحتمالات الجارية في كلّ واحد منها مع انطباقه على ما قدّمنا ذكره من رجوع الخلاف إلى وضع الصيغة ومفهومها بحسب اللغة ، أن يقال : إنّ الواضع حينما أخذ بوضع الصيغة أمكن له أن يتصوّر نسبة الحدث إلى فاعل مّا من حيث كون ماهيّته مطلوبة فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كون فعله مرّة بعد اخرى على حسب ما يقتضيه الإمكان مطلوبا فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كون الاستمرار على فعله على حسب ما يقتضيه الإمكان مطلوبا فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كون فعله مرّة المقيّد بتركه المطلوب فيما زاد عليها مطلوبا فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كونه مطلوبا فعله مرّة وتركه فيما زاد عليها فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كون فعله مرّة المقيّد بتركها فيما زاد عليها مطلوبا ، أو يتصوّرها من حيث كون فعله مرّة لا أزيد مطلوبا فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كون فعله مرّة مطلوبا ، فهل الواقع منه في الخارج هو الأوّل أو الثاني بأحد احتماليّه ، أو الثالث بأحد محتملاته.

وينبغي الإشارة إلى امور :

ـ الأوّل ـ

ثمرات الأقوال ، وهي قد تلاحظ بالنسبة إلى إيجاد فرد واحد ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى

١٦٤

إيجاد أفراد عديدة متعاقبة في أزمنة متعدّدة ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى إيجاد أفراد عديدة في آن واحد.

أمّا القسم الأوّل : فلو أتى المأمور بعد قوله : « افعل » بفرد واحد من أفراد الماهيّة فعلى القول بالماهيّة حصل الامتثال لتحقّقها في ضمنه ، وكذلك على القول بالمرّة فيجوز الاجتزاء بذلك الفرد بجميع وجوهه ومحتملاته ، إلاّ أنّ الفرق بينه وبين القول بالماهيّة أنّ الاجتزاء هاهنا إنّما هو من مقتضى دلالة اللفظ وثمّة من مقتضى دلالة العقل ، بملاحظة دلالة اللفظ على تعلّق الحكم بالطبيعة الّتي لا يمكن الإتيان بها إلاّ في ضمن فرد مّا من أفرادها وقد حصل.

ويظهر الفائدة فيما لو دلّ على عدم جواز الاكتفاء بالمرّة فعلى الأوّل ينظر في المرجّحات الخارجة ، لكون ظهور الاكتفاء بها حينئذ وضعيّا فلا يترجّح عليه غيره إلاّ مع المرجّح ، بخلاف الثاني لكونه حينئذ ظهورا عقليّا فربّما يترجّح عليه غيره ، بل لا يتحقّق بينهما تعارض في الحقيقة ، لكون حكم العقل بالاكتفاء تعليقيّا ناشيا عن السكوت وعدم وصول البيان فلا يعارض ما يصل بعده من البيان ، ولا فرق في ذلك بين شيء من محتملات الأوّل.

نعم فرق آخر بين ما عدا الأخير من محتملاته وبين الثاني فيما لو دلّ على وجوب المرّة الاخرى على الاستقلال ، لوقوع التعارض بينه وبين ظاهر الأمر على الأوّل كما لا يخفى بخلاف الثاني ، لمكان سكوته حينئذ عن المرّة الثانية نفيا وإثباتا ، فما عدا الأخير من محتملات الأوّل يمتاز عن البواقي بذلك الفرق ، وعن الثاني بالفرق الأوّل ، وهو عمّا عدا الأخير من المحتملات بالفرقين معا.

والفرق بين الفرقين أنّ الأوّل راجع إلى اعتبار التقييد والارتباط في المرّة الاولى وعدمه ، فإنّ ظاهر الأمر قاض بعدم ارتباط الغير بها فيجتزي بها في امتثال الأمر المتعلّق بها وإن تعلّق الأمر بغيرها من المرّات الاخر ، والدليل الخارج ربّما ينافيه.

والثاني راجع إلى وجوب ما عدا المرّة الاولى وعدمه وإن فرض المرّة الاولى مستقلّة في الوجوب ، فإنّ ظاهر الأمر فيما عدا الأخير من المحتملات قاض بعدم الوجوب بل التحريم في جملة منها ، والدليل الخارج ربّما يعارضه.

وأمّا على القول بالتكرار فيجب الإتيان بالمرّات الاخر ما دام ممكنا ، وهل يحصل الامتثال بكلّ مرّة أتى بها وإن لم يلحقها المرّة الاخرى أو لا؟ وجهان مبنيّان على ما تقدّم من اعتبار التكرار على طريق الاستقلال وتعدّد المطلوب أو على طريق الارتباط والتقييد ،

١٦٥

فحصول الامتثال على الثاني مراعى بلحوق جميع ما يمكنه من المرّات المتعاقبة ، فلو نقص منها بعض المرّات ولو واحدة لا امتثال أصلا ، ولا يخفى بعد هذا الاحتمال ولا سيّما بملاحظة مقايسة تكرار الأمر على تكرار النهي الّذي لا تقييد فيه جزما.

وأمّا على القول بالاشتراك فلابدّ من الأخذ بما يقتضيه القول بالمرّة أو التكرار مع وجود الدلالة على تعيين أحدهما وإلاّ فالتوقّف اجتهادا والرجوع إلى الاصول الفقاهيّة عملا حسبما يأتي الإشارة إلى تفاصيلها ، والمتوقّف كالقائل بالاشتراك في كلّ ما ذكر إلاّ على بعض وجوهه فيكون حينئذ كالقائل بالماهيّة ، وكذلك الكلام في حكم القولين بالنسبة إلي القسمين الباقيين.

وأمّا القسم الثاني : فلو أتى بعد قوله : « افعل » بأفراد الماهيّة تدريجا فعلى القول بالتكرار لا ريب في كونه ممتثلا بالنسبة إلى كلّ مرّة أتى بها وإن يكمل المرّات بأجمعها ، إلاّ على احتمال التقييد فلا امتثال حينئذ إلاّ واحدا بعد الإتيان بسائر المرّات المباينة.

وعلى القول بالمرّة يمتثل ويعصي في بعض تقاديره ولا يمتثل أصلا في التقديرين الآخرين ، وهل يعصي بمجرّد المرّة الثانية على تقدير كونها منهيّا عنها مع قطع النظر عن العصيان بعدم امتثال الأمر أو لا؟ وجهان مبنيّان على كون النهي فيها نفسيّا أو غيريّا ، ويمتثل أيضا على الاحتمالين الباقيين.

وهل يعصي حينئذ بما زاد على المرّة مع عدم دلالة اللفظ بالمنع عنه؟ قيل : نعم ، لدخوله حينئذ في عنوان البدعة والتشريع وهو من المحرّمات العامّة.

وبذلك يفرّق بينه وبين الدلالة على النهي ، لأنّ الحرمة حينئذ إنّما هي بنفس اللفظ وفيما ذكر بخارج من اللفظ ، وأصل الحرمة ثابتة مطلقا وهو موجب لانتفاء الثمرة.

ويشكل بأنّ محطّ نظر الاصولي في ذلك المقام ما يتفرّع على أقوال المسألة من حيث هي كذلك ، والحرمة التشريعيّة أمر جاء من الخارج فلا تعدّ ثمرة في القول ، وإنّما المقصود أنّ القول بالمرّة على تقدير كونه لا بشرط هل يلزمه ترتّب العصيان على فعل ما زاد على المرّة من حيث إنّه قول بالمرّة أو لا؟

ولا ريب أنّ ما ذكر من التحريم ليس بهذه المثابة ، ولو سلّم فهو بإطلاقه غير وجيه ، وإنّما يتوجّه على تقدير دلالة الأمر على عدم مطلوبيّة الزائد وإن لم يكن يدلّ على المنع عنه بالخصوص ، أو على تقدير سكوته نفيا وإثباتا مع إتيان المكلّف به بعنوان أنّه مشروع.

١٦٦

وأمّا على تقدير السكوت والإتيان به لرجاء كونه مطلوبا للآمر مشروعا عنده في الواقع فلا ، لانتفاء موضوع البدعة حينئذ كما لا يخفى ، بل ربّما يأتي به لا بقصد العبادة فلا وجه لإجراء قاعدة التشريع في مثل ذلك.

فمحصّل الكلام : إنّ الزائد على المرّة الاولى في غير محلّ الدلالة على النهي عنه بالخصوص قد يعدّ معصية ، وقد يعدّ طاعة ، وقد لا يعدّ معصية ولا طاعة ، فلا وجه لاطلاق الحكم بتحريمه من باب البدعة ، كما لا وجه للحكم بانتفاء الثمرة بين الاحتمالين ، ضرورة أنّ التحريم على تقدير دلالة الأمر على المنع ثابت على جميع الوجوه.

وعلى القول بالماهيّة فإن قلنا بحصول الامتثال بما زاد يلزم انتفاء الثمرة بينه وبين القول بالتكرار إلاّ بالاعتبار ، من حيث إنّ دلالة الأمر على التكرار على القول به إنّما هي من حيث كونه تكرارا مأخوذا في الوضع ، وعلى القول الآخر من حيث تحقّق الطبيعة في ضمنه كتحقّقها في ضمن المرّة.

إلاّ أن يقال : بكون التكرار على هذا القول تخييريّا أو استحبابيّا كما قد يتوهّم ، فيحصل الفرق بحسب المعنى حينئذ كما لا يخفى ، إلاّ أنّه مبنيّ على كون الأمر للوجوب أو للندب مع كون التكرار ـ على القول به ـ في معنى تعلّق الأمر بالمجموع من حيث المجموع ، إذ لو كان للندب مع كون التكرار في معنى تعلّق الأمر بالآحاد انحصرت الثمرة في الاعتباري.

ولا يبعد إبداء الثمرة بينهما أيضا عند وجود المعارض القاضي بنفي التكرار ، فعلى القول به يحصل المعارضة بينه وبين ظاهر الأمر بخلاف القول الآخر لما تقدّم ، وبذلك يفرّق بينهما أيضا على تقدير كون الأمر للوجوب مع عدم حمل التكرار على هذا القول على التخييري أو الاستحبابي كما لا يخفى ، فلا وجه للحكم بانتفاء الثمرة بينهما حينئذ بدعوى انحصارها في الاعتباري كما في كلام بعض الفضلاء.

وإن قلنا بعدم الامتثال بما زاد تحقّقت الثمرة بين القولين ، إلاّ أنّه يلزم انتفاؤها عمّا بين القول المذكور والقول بالمرّة ، لقضائه أيضا بسقوط الأمر بها من حيث إنّ الأمر بظاهر اللفظ لم يتعلّق إلاّ بها ، والامتثال عبارة عن موافقة الأمر أو الإتيان بالمأمور به على وجهه ، فلا أمر بالنسبة إلى ما سواها ليعقل الامتثال عقيب الامتثال بها.

ولا يذهب عليك أنّه بناء على اعتبار المرّة لا بشرط ، أو تفسير البدعة بإدخال ما

١٦٧

ليس من الدين في الدين ، أو الإغماض عن وجود المعارض ، وإلاّ فمع عدم الاغماض ربّما يتحقّق الثمرة بينهما على حذو ما سبق ، ومع تفسير البدعة بإدخال ما علم خروجه عن الدين في الدين يخصّ الانتفاء بما لو اريد بالمرّة لا بشرط السكوت عمّا زاد نفيا وإثباتا ، ضرورة ظهور الثمرة أيضا لو اريد بها الدلالة على مجرّد عدم المطلوبيّة ، ولكنّه مبنيّ على صلوح قاعدة التشريع مناطا للفرق في أقوال المسألة كما توهّمه جماعة وقد تقدّم الإشكال فيه ، ومع اعتبار المرّة بشرط لا تظهر الثمرة أيضا في كمال الظهور إن اريد بها كون المأمور به مقيّدا بترك ما زاد من غير فرق في ذلك بين الدلالة على المنع عنه أيضا وعدمها ، ولا بين تفسيري البدعة ولا بين القول بالتحريم من جهتها على القول بالماهيّة وعدمها ، ولو اريد بها مجرّد المنع عمّا زاد فقد يتوهّم حينئذ انتفاء الثمرة لثبوت المنع في الطرف المقابل أيضا من باب البدعة.

وأنت خبير بأنّه ـ لو سلّم عمّا ذكر من الإشكال ـ مبنيّ على تفسير البدعة بإدخال ما ليس من الدين فيه وهو خلاف التحقيق ، لاعتبار العلم في مفهومها عرفا ، فلذا لا يعدّ الإتيان بمظنون الخروج عن الدين تعويلا على احتمال دخوله ولو مرجوحا بدعة ، ففي مشكوك الخروج وموهومه بطريق أولى ، وعلى ذلك يبتنى ما قرّر في محلّه من عدم وقوع التعارض بين قاعدتي البدعة والاحتياط ، إذ مع عنوان الاحتياط يرتفع موضوع البدعة فالسالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا القسم الثالث : فلو أتى بأفراد عديدة دفعة واحدة فربّما قيل بحصول الامتثال بالجميع على القول بالماهيّة ، لتحقّق الطبيعة المأمور بها في ضمن الجميع كتحقّقها في ضمن الواحد فلا سبيل إلى تعيينها.

وأمّا على القول بالمرّة فإن اريد بها ما ينحلّ إلى أمر ونهي ، فيبنى حصول الامتثال حينئذ على جواز اجتماع الأمر والنهي مع اختلاف الجهة.

فإن قلنا بجوازه يستخرج المطلوب بالقرعة إن احتيج إلى التعيين ، ويكون غيره معصية تعليلا : بأنّ الظاهر إرادة الفرد الواحد من المرّة لا مجرّد كونه في الزمان الواحد ، وإن لم نقل بجوازه فلا امتثال أصلا.

وإن اريد بها ما لا ينحلّ إليهما فلا إثم والمطلوب واحد ، ويستخرج بالقرعة في موضع الحاجة ، ولا يخفى أنّ كلّ ما ذكر ثمرة بين القول بالماهيّة والقول بالمرّة.

١٦٨

وأمّا على القول بالتكرار فقضيّة ما ذكر من كون المراد بالمرّة الفرد الواحد كون الجميع امتثالا على هذا القول أيضا لشهادة القرينة المقابلة ، لأنّه إتيان بالأفراد في مقابلة الفرد الواحد ، وهو ـ مع بعده بعدم مساعدة العرف على صدق التكرار على مثل ذلك ـ يوجب انتفاء الثمرة بينه وبين القول بالماهيّة لاشتراكهما في تلك الثمرة ، إلاّ أن يكتفي فيها بالثمرة الاعتباريّة على حذو ما تقدّم ، أو يلتزم بما يتحقّق منها في مقام وجود المعارض كما عرفت.

وكيف كان فاورد (١) عليه : بعدم الفرق في الامتثال بالجميع بين القول بالمرّة والقول بالماهيّة ، ضرورة امتناع عدم الامتثال لمكان الإتيان بالمطلوب على وجهه ، ولا الترجيح لفقد المرجّح ، ولا القرعة لأنّها إنّما تصلح لتعيين ما هو معيّن في الواقع غير معيّن في الظاهر وظاهر أنّ المقام ليس منه ، فلا ثمرة بين القولين.

وربّما يورد (٢) أيضا : بأنّ الطبيعة وإن حصلت في ضمن الجميع دفعة ، وكان حصولها في ضمن كلّ واحد من الأفراد قبل سقوط الأمر بها ، لكن حصولها في ضمن الجميع ليس بحصول واحد ، بل هناك حصولات متعدّدة والإتيان بالطبيعة حاصل بواحد منها ، فلا داعي إلى الحكم بوجوب الجميع مع حصول الطبيعة بواحد منها ، القاضي لسقوط التكليف بها.

والحاصل : ليس حصولها في ضمن الجميع إلاّ عين حصولها في ضمن كلّ منها ، فبعد الاكتفاء في حصول الطبيعة بواحد منها لا داعي إلى اعتبار كلّ من حصولاتها ، ولا باعث لوجوبها فيتخيّر في التعيين أو يستخرج ذلك بالقرعة إن احتيج إلى التعيين ، فلا يبقى ثمرة حينئذ بين القولين.

وتحقيق القول في ذلك : أنّه على تفسير المرّة بالفرد فالوجه هو التفصيل بما نقلناه ، ولكن في غير احتمالي تقييد المطلوب بترك ما زاد والسكوت عمّا زاد لفوات الامتثال على الأوّل بالمرّة ، وتوقّف عدم كون ما زاد امتثالا موجبا للثواب على تحقّق موضوع البدعة على الثاني ، فعلى ذلك تظهر الثمرة بين الأقوال كلّها. وعلى تفسيرها بالدفعة فإمّا أن نقول بكون الجميع امتثالا أو لا ، وعلى التقديرين ينتفي الثمرة بين القول بالمرّة والقول بالماهيّة إلاّ على الاكتفاء بالثمرة الاعتباريّة أو ما يتحقّق عند وجوب المعارض.

__________________

(١) والمورد بعض الفضلاء ( منه ) ـ وهو صاحب الفصول رحمة الله عليه.

(٢) المورد هو الشيخ محمّد تقي ( منه ) ـ صاحب هداية المسترشدين.

١٦٩

ـ الأمر الثاني ـ

اختلف القائلون بكون الأمر لطلب الماهيّة في كون ما زاد على المرّة الاولى من الثانية والثالثة امتثالا وعدمه ، على أقوال :

أحدها : كونه امتثالا ، وهو ظاهر المصنّف فيما ذكره ردّا على حجّة القائل بالمرّة ، والمحكيّ عن العضدي والتفتازاني.

وثانيها : العدم ، وهو لجماعة من المحقّقين منهم بعض الأعلام ، وبعض الأعاظم ، وابن عمّنا السيّد قدّس الله روحه (١).

وثالثها : التفصيل بين ما لو وجد الأفراد دفعة أو على التعاقب ، فعلى الأوّل يحصل الامتثال بالجميع وعلى الثاني لا امتثال إلاّ بالمرّة.

حجّة الأوّلين : شهادة العرف بأنّ الصيغة إذا كانت للقدر المشترك بين المرّة والتكرار ـ وهو طلب الحقيقة ـ فلا جرم يحصل الامتثال بأيّهما اتّفق.

واورد عليه تارة : بأنّه بعد الإتيان بالطبيعة في ضمن المرّة يتحقّق أداء المأمور به قطعا فيحصل الامتثال ، وهو قاض بسقوط الأمر ، ومع سقوطه لا مجال لصدق الامتثال ثانيا وثالثا.

وقد يعلّل ذلك : بأنّ الامتثال عقيب الامتثال مع وحدة الطلب غير معقول ، لأدائه إلى تحصيل الحاصل.

واخرى : بأنّ الامتثال بما زاد على المرّة مبنيّ على تعلّق الأمر به إمّا إيجابا أو ندبا ، فيلزم إمّا القول بالتكرار أو استعمال الأمر في الحقيقة والمجاز ، وكلاهما فاسدان.

ولا يخفى ما فيه من عدم صلوحه ردّا في هذا المقام ، لتمكّن الخصم عن دفعه باختيار كلّ من الشقّين ، ويقول : إنّ التكرار عند أصحاب القول به ما كان مدلولا للّفظ ناشئا عن الوضع ، وما التزمنا به من الامتثال الوجوبي فيما زاد على المرّة إنّما هو من مقتضيات العقل بعد دلالة اللفظ على طلب أصل الطبيعة ، بملاحظة أنّها لا توجد في الخارج إلاّ في ضمن الفرد ، فكما أنّها توجد في ضمن واحد من أفرادها فكذلك توجد في ضمن متعدّد منها ، فلابدّ من الإتيان بأحدهما مقدّمة لإيجادها الّذي هو المأمور به ، وبين المقامين بون بعيد.

وإنّ طريق إفادة الأمر كلاّ من الوجوب والندب غير منحصر في الاستعمال فيهما بالخصوص بما هو غير جائز أو مرجوح حتّى يلزم المحذور ، لجواز تعلّق الإرادة بما هو

__________________

(١) والمراد منه هو صاحب الضوابط قدس‌سره.

١٧٠

قدر مشترك بينهما من باب عموم المجاز الّذي لا خلاف في جوازه ، بل ثبوته في الخطابات الشرعيّة ولو في خصوص المقام كالأوامر المتعلّقة بعدّة امور بعضها واجب وبعضها مندوب كما لا يخفى.

ولكنّه يبعّد الأوّل : أنّ العقل كما يقضي بلزوم الإتيان بالفرد مقدّمة للإتيان بالطبيعة فكذلك يقضي بحصول الامتثال وسقوط الأمر بها بعد حصولها في المرّة الاولى ، فحصول الامتثال بالثانية والثالثة يحتاج إلى دليل قاض بالأمر بهما أيضا.

والثاني (١) : أنّ الاستعمال المفروض مع جوازه لا يلتزم به إلاّ مع قيام دلالة معتبرة ، لأنّه مجاز لا يصار إليه عند الإطلاق والتجرّد ، ولو قدّر ثبوت الدلالة عليه من الخارج فهو خروج عن المتنازع فيه ، لأنّ الكلام في أنّ القول بالماهيّة من حيث إنّه قول بها هل يستلزم بقاء الامتثال عقيب الامتثال بها في ضمن المرّة الاولى أو لا؟ والمفروض ينافيه.

والأولى في الجواب عن الاستدلال أن يقال : إنّ قضيّة قولكم : « بكون ما زاد على المرّة امتثالا » إمّا مطلقة أو مهملة ، والأوّل لا سبيل إليه لأنّ الامتثال عقيب الامتثال لا معنى له إلاّ مع تعدّد الأوامر أو انحلال الأمر الواحد إلى أوامر متعدّدة ، والأوّل خلاف الفرض ، والثاني عدول عن القول بالماهيّة إلى القول بالتكرار.

ولا يرد عليه ما أوردنا على ما ذكره القوم إذ الانحلال إن كان ولابدّ فهو من دلالة اللفظ وما قرّرناه في دفع الإيراد لم يكن من باب الانحلال ، وإنّما هو ـ على تقدير استقامته ـ إلزام من العقل بايجاد المتعدّد من أفراد الطبيعة للتوصّل إلى إيجادها وهو ليس من تحليل الأمر بالطبيعة إلى أوامر عديدة في شيء كما لا يخفى.

والثاني لا يجديكم نفعا إذ المفروض من القضيّة المهملة لا مورد لها إلاّ في مثل قول القائل : « احفظ دابّتي » و « اخدم ولدي » و « أطع زوجتي » و « لازم أمري » ونحو ذلك ، ولا ريب أنّ التعويل بمثل ذلك في ردّ الخصم خروج عن محلّ البحث ، نظرا إلى أنّ الكلام في الأوامر المطلقة وما ذكر من الموارد مقترنة بقرائن خاصّة أفادت هذا المعنى من عادة أو حالة أو غيرها ممّا يوجب انفهام إرادة ما يقضي بكون كلّ مرّة امتثالا.

حجّة القول بالمنع : بالنسبة إلى تدريجي الوجود انقطاع الطلب بايجاد المأمور به ، مضافا إلى أنّه لولاه لزم إمّا القول بالتكرار ، أو استعمال الأمر في الحقيقة والمجاز ، وبالنسبة إلى

__________________

(١) عطف على قوله : « لكنّه يبعّد الأوّل » الخ.

١٧١

دفعي الوجود عدم شمول الأمر له ، فإنّ مدلول الأمر طلب إيجاد الطبيعة وهو لا يتيسّر إلاّ بإيجادها في ضمن الفرد ، والمجموع من حيث المجموع ليس فردا فلا يكون متعلّق الأمر.

ولا يخفى أنّ المدّعى في الشقّ الأوّل حقّ ودليله الأوّل متين دون الثاني لضعفه بما سبق ، وفي الشقّ الثاني ممنوع ودليله غير قاض بالمنع ، لمنافاة قوله : « لعدم شمول الأمر » لقوله : « فإنّ مدلول الأمر طلب إيجاد الطبيعة » فإنّ الأمر على القول بتعلّقه بالطبائع لا إشعار له بفرد حتّى يلاحظ فيه الشمول وعدمه اللذين هما من أحوال اللفظ ، وعدم تيسّر إيجاد الطبيعة إلاّ في ضمن الفرد مقدّمة عقليّة لا تنوط بما هو من أحوال اللفظ كما لا يخفى ، إلاّ أن يكون المراد به عدم الانصراف ، بدعوى : أنّ الطبيعة الّتي تعلّق بها الأمر لا تنصرف إلاّ إلى ما هو موجود منها في ضمن فرد واحد.

فيردّه حينئذ : وضوح منع تلك الدعوى ، كيف وعدم كون المجموع من حيث المجموع فردا لا يرتبط بالمقام أصلا ، إذ الّذي لا وجود للطبيعة إلاّ في ضمنه إنّما هو آحاد المجموع ، فلا مانع من تعلّق الأمر بها تبعا من باب المقدّمة ولو بحكم العقل.

غاية الأمر أنّ الموجود منها في الخارج إن كان فرد واحد قامت الطبيعة به فحصل المطلوب في ضمنه ، وإن كان أكثر من فرد واحد في آن واحد قامت بالجميع فحصل المطلوب في ضمن الجميع لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح ، نظرا إلى انتفاء الترتّب بينها في الوجود من حيث التقدّم والتأخّر.

فتحقّق ممّا قرّرناه : أنّ الأقوم في المقام هو ثالث الأقوال وهو المختار ، وفاقا لما في الهداية والفصول ، فهاهنا دعويان :

الاولى : انحصار الامتثال فيما حصل تدريجا بالمرّة الاولى من المرّات المترتّبة في الوجود.

الثانية : حصول الامتثال في ضمن الجميع من الأفراد الموجودة دفعة.

لنا على الدعوى الاولى : القطع بأنّ الأمر إذا كان قد تعلّق بالطبيعة يرتفع بمجرّد الإتيان بها على أنّها مأمور بها ، ومعه لا معنى لامتثال آخر ، لابتنائه على أمر آخر وهو إمّا متعلّق بالطبيعة أيضا كالأوّل أو بغيرها ، والأوّل طلب للحاصل فيكون سفها ، والثاني خلاف الفرض ، فلا سبيل إلى شيء منها.

فإن قلت : إنّ الأمر إذا كان قد تعلّق بالطبيعة يكشف عن حسنها الباعث عليه المستلزم له ، وظاهر أنّها غير منفكّة عن شيء من أفرادها فكذلك وصفها العارض لها تبعا لها وهو

١٧٢

ملزوم للأمر ، فيدلّ الأمر المتعلّق بها على طلبها مطابقة وطلب أفرادها التزاما ، ولا يكون ذلك عدولا إلى القول بالتكرار ليخرج دفعا لما ذكر ، لأنّ دلالة الأمر عليه عند أهله مطابقيّة على ما هو المفروض من كون المتنازع فيه مفهوم الصيغة بحسب الوضع واللغة.

قلت : الحسن الّذي يكشف عنه الأمر في الطبيعة إما حسن فيها إلى الأبد أو في الجملة.

والأوّل عين القول بالتكرار على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع.

والثاني لا يجدي نفعا في إثبات المدّعى ، لجواز كون ذلك الحسن بمقدار ارتفع معه بالإتيان بها في المرّة الاولى ، مع أنّ حسن الشيء إنّما يلاحظ فيه بما هو هو من دون نظر إلى الخصوصيّات المنضمّة إليه ، فربّما يعارضه قبح ناش عن الخصوصيّات المنضمّة فإمّا يكافئ حسنه أو يغلب عليه ، وعلى الأوّل يستحيل الأمر لقبح الترجيح بلا مرجّح ، وعلى الثاني يجب النهي لقبح ترجيح المرجوح ووجوب ترجيح الراجح ، فلا معنى لفرض الامتثال حينئذ.

ولو قيل : بأنّ المطلوب على القول المذكور أيضا طبيعة الامتثال لا الفرد الحاصل منه بفعل المرّة ، وإن كان الفرد مطلوبا بالتبع عند أصحابه من باب المقدّمة ، إذ الكلام في المطلوب الأصلي.

ومن البيّن أنّ طبيعة الامتثال إذا لوحظت من حيث هي لم يكن لها تعدّد في صورة التكرار حتّى يلزم التعاقب ، فلا يلزم من بقائه القول بالتكرار الّذي اعتبر فيه التعاقب عند أصحابه.

لقلنا : إنّ الامتثال لا معنى له إلاّ الخروج عن عهدة التكليف بفعل المأمور به على وجهه ، وظاهر أنّ المسبّب لا يتخلّف عن سببه ، فلا معنى لمطلوبيّة الامتثال الحاصل بوجود سببه إلاّ مطلوبيّة الحاصل ، وهو ممّا لا يكاد يتصوّر.

فإن قلت : كلّ ما ذكر من التحقيق إنّما يقضي بأنّ الصيغة بمجرّدها باعتبار الوضع لا تفيد الوجوب فيما زاد على المرّة ، فلا ينافيه لو قام حجّة من الخارج تقضي بوجوب ذلك الموجب للامتثال ، بدعوى : أنّ الطبيعة المأمور بها أمر وحدانيّ وقد اتّصفت بصفة الوجوب والمطلوبيّة ، وقضيّة الاستصحاب بقاؤها بعد الإتيان بها مرّة إلى أن يتبيّن زوالها.

قلت : الاستصحاب إنّما يتمسّك به في موضع الشكّ في الزوال ، وظاهر أنّ بملاحظة ما قرّرناه من القاطع يزول الشكّ ويقطع بالزوال.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون الحجّة الخارجة عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » نظرا إلى أنّ المراد : ما دمتم مستطيعين ، لا الّذي استطعتم ولا شيئا

١٧٣

استطعتم ، من دون فرق بين تفسيره بالفرد أو القدر بمعنى الجزء ، كما يشهد به ما قبله على ما روي من أنّه خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « إنّ الله كتب عليكم الحجّ ، فقام عكاشة ويروى سوادة بن مالك ، فقال : أفي كلّ عام يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فأعرض عنه حتّى عاد مرّتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم؟ والله لو قلت : نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ».

قلت : الرواية بضعف سندها قاتلة لنفسها ، مع ابتناء نهوضها دليلا على ثبوت مقدّمات متعارضة بمثلها ، وظهور السياق فيما يدفع المعارضة من ظهور كلمة « ما » في كونها وقتيّة مصدريّة معارض بظهور ما يقضي بكونها موصولة أو موصوفة ، مرادا بهما الفرد أو القدر بمعنى الجزء ، المنطبق على الأوّل على مفاد قوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » من عدم سقوط الواجب بتعذّر أو تعسّر بعض أفراده مع التمكّن عن بعض آخر كالصلاة قياما وقعودا مثلا ، وعلى الثاني على مفاد قوله : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » من انتقال الوجوب عن الكلّ المتعذّر أو المتعسّر إلى ما تيسّر من أجزائه ، وهو لفظة « منه » لظهوره في مفعوليّة « ما » وهي لا تلائم كونها وقتيّة ، كيف ولو لا ذلك لكان الواجب تركها بتعدية الفعل إلى مفعوله بنفسه كما لا يخفى ، فتكون الرواية سبيلها سبيل المجملات فلا تصلح للاستناد إليها لو سلّمت عن المناقشة من حيث السند ، ومن حيث ظهور سياقها فيما ذكر ، وإلاّ فهو أيضا في حيّز المنع.

وأمّا ما قد يتوهّم من إمكان ابتناء ذلك على التخيير بين الأقلّ والأكثر ، فالأكثر من المرّة الاولى إنّما يجب لكونه أحد فردي الواجب التخييري.

فيدفعه : أنّ التخيير إن اريد به ما كان من قبل الآمر.

ففيه : الجزم بانتفائه ، لانتفاء ما هو من لوازمه نظرا إلى أنّ التخيير الآمري يستلزم اعتبار الترديد في القضيّة الصادرة منه في مقام الإنشاء كما يشهد به الطريقة الجارية في المحاورة ، وخلوّ القضيّة المبحوث عنها عمّا يفيده ممّا لا شبهة فيه ، أمّا لفظا فظاهر ، وأمّا معنى فلعدم مساعدة العرف بانفهامه بشيء من وجوه الدلالات.

وإن اريد به ما كان من قبل العقل.

ففيه : أنّ العقل لا قضاء له في محلّ البحث إلاّ بلزوم إيجاد فرد مّا من أفراد الطبيعة

١٧٤

المأمور بها مقدّمة لإيجادها.

نعم يستلزم ذلك تخييرا في مصاديق فرد مّا ، نظرا إلى عدم اعتبار تعيين في ذلك الفرد حذرا عن لزوم الترجيح بغير مرجّح ، ولكنّه ليس من التخيير بين الأقلّ والأكثر في شيء ، لعدم اندراج الأكثر المبحوث عنه في مصاديق فرد مّا من حيث اعتبار الوحدة في مفهومه كما لا يخفى.

فإن قلت : أنّ الأمر على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع من حيث هي كما ذكرت ، وأمّا على القول بعدم تعلّقها بها إلاّ باعتبار وجودها في الخارج ـ كما عليه بعض الفضلاء ـ فلا ، لإمكان أن يقال : بأنّ الطبيعة إذا اخذت بهذا الاعتبار كانت مردّدة بين المرّة والتكرار ، سواء فسّرناهما بالفرد والأفراد أو الدفعة والدفعات بحيث لا يمكن تجريدها حينئذ عنهما ، بحيث لا دليل على تعيين أحدهما يتعيّن التخيير بينهما دفعا للترجيح بلا مرجّح ، إلاّ أنّ مرجع التخيير على أوّل التفسيرين إلى وجوب الخصوصيّات لا على وجه التعيين ، وعلى ثانيهما إلى وجوب ملزومهما لا على وجه التعيين ، بناء على استلزام الدفعة للفرد وإلاّ فمرجعه إلى عدم تعيين شيء منهما ، فيتخيّر المأمور بينهما.

فلا يرد حينئذ محذور لزوم الامتثال عقيب الامتثال الغير المتعقّل ، إذ الامتثال بالمرّة إنّما يقع حينئذ إذا لم يتعقّب التكرار ومعه يقع الامتثال به لا بالمرّة ، كما هو الحال في التخيير بين الأقلّ والأكثر.

ولا ما قيل من استلزام الخروج عن القول بالماهيّة إلى القول بالتكرار ، لأنّ القائل بالتكرار إنّما يريد به تعيين التكرار في مفهوم الأمر وضعا ونحن نقول به على وجه التخيير ، ولا ما قيل أيضا من أنّ مدلول « الأمر » عند الإطلاق لم يكن إلاّ طلب الحقيقة ـ كما تمسّكوا به على نفي المرّة والتكرار ـ فمن أين يستفاد مطلوبيّة المرّة وما زاد عليها ، لأنّ الدلالة المذكورة غير ناشئة عن نفس الصيغة بل عن اعتبار خارج ، فلا تنافي ما ذكر من أنّ مدلول الصيغة ليس إلاّ طلب الحقيقة.

قلت : لا فرق فيما ذكر بين القولين أصلا ، إذ لا معنى لوجود الطبيعة في الخارج إلاّ وجودها في ضمن الفرد ، وأقلّ مراتبه الفرد الواحد ، وظاهر أنّه لا يوجد في الخارج إلاّ وهي متحقّقة في ضمنه.

وقضيّة ذلك خروج المكلّف عن عهدة التكليف بها بالمرّة ، سواء فسّرناها بالفرد أو

١٧٥

الدفعة ، ومعه لا وجه لاعتبار التخيير بينها وبين التكرار أصلا.

نعم لو اعتبر ذلك بين الفرد الواحد والأفراد الموجودة دفعة لكان له وجه ، ولكنّه خارج عن معقد الكلام في هذا المقام.

وأمّا ما توهّم في المقام أيضا من ندبيّة الامتثالات المتأخّرة عن المرّة الاولى. ففيه : أيضا ما لا يخفى من أنّه احتمال بلا دليل ووجه بلا شاهد.

لا يقال : إنّ الطلب الحتمي بمقتضى الأمر قد تعلّق بالطبيعة ، فبإيقاعها مرّة زالت الحتميّة وبقى الطلب فأقلّ مراتبه الاستحباب ، لأنّ بقاء الطلب على الوجه المذكور غير معقول ، سواء فرضناه بالنسبة إلى المرّة المأتيّ بها أو المرّات المتأخّرة ، أمّا الأوّل فلأدائه إلى تحصيل الحاصل ، وأمّا الثاني فلإفضائه إلى تبعّض الطلب وهو أمر بسيط لا تركّب فيه أصلا حتّى يتبعّض.

نعم لو كان المقام ممّا جرى فيه احتمال رجحان ناش عن ملاحظة فتاوى من صرّح بكونها امتثالا ـ ولا سيّما بملاحظة الرواية المتقدّمة ـ لو سلم متنها عن معارضة ما تقدّم ، التفاتا إلى أنّها بضعف سندها لا تصلح دليلا على الوجوب ، مع منافاته لما فيها من التحذير على السؤال عن التكرار لو حملت عليه ـ لكان المصير إلى الاستحباب تسامحا في أدلّة السنن غير بعيد ، إلاّ أنّ الظاهر خروجه عن المتنازع فيه ، لظهور كون نظرهم في مدلول الصيغة من حيث إنّه أمر بالطبيعة ليستعلم أنّه هل يستلزم الامتثال فيما زاد على المرّة أو لا؟

ولا يذهب عليك أنّ ظاهر كلامهم في كون الأمر بالطبيعة مستلزما للامتثال بما زاد تعدّد الامتثال بتعدّد المرّات ، كما يومئ إليه أيضا ما في كلام المانعين من عدم معقوليّة الامتثال عقيب الامتثال.

ولنا ـ على الثانية من الدعويين ـ : القطع بأنّ الفرد لا مدخليّة له في أداء الطبيعة المأمور بها إلاّ كونه مقدّمة لوجودها ، فكما أنّها في وجودها عند اتّحاد الفرد قائمة بذلك الفرد فكذلك عند تعدّد الموجود من أفرادها قائمة بتلك الأفراد على نهج سواء.

وقضيّة ذلك قيام امتثال الأمر بها بجميع تلك الأفراد لتساويها في نسبة وجود الطبيعة إليها ، فلا سبيل إلى التعيين حذرا عن الترجيح من غير مرجّح ، ولا إلى إعمال القرعة كما احتمله بعضهم لتعيين أحدها ، لأنّه في موضع الشبهة والإشكال ، وظاهر أنّ استناد الامتثال إلى الجميع موجب لانتفائهما ، على أنّها لتعيين ما هو المعيّن في الواقع المجهول في الظاهر ، ولا تعيين هنا بحسب الواقع لقبح الترجيح من غير مرجّح ، ولا إلى التخيير بينها لأنّه في

١٧٦

موضع العلم بالوحدة المردّدة كما في المحذورين وأفراد الواجب إذا كانت تدريجي الوجود.

وبما قرّرناه من تساوي نسبة الطبيعة في الوجود إلى الجميع ، يندفع ما قيل : من أنّ الطبيعة وإن حصلت في ضمن الجميع دفعة وكان في ضمن كلّ من الأفراد قبل سقوط الأمر بها ، لكن حصولها في ضمن الجميع ليس بحصول واحد بل هناك حصولات متعدّدة ، والإتيان بالطبيعة حاصل بواحد منها ، فلا داعي إلى الحكم بوجوب الجميع مع حصول الطبيعة بواحد منها القاضي بسقوط التكليف بها.

ولا ينافي ما ذكرناه من قيام الامتثال بالجميع القاضي بكون كلّ واحد تبعا للكلّ في ذلك ، لكون كلّ مستقلاّ في وجود الطبيعة في ضمنه ، إذ الاستقلال في الوجود والعدم لا مدخليّة لهما في ذلك ، وإنّما الداعي إليه تساوي نسبتها في الوجود إلى الجميع باعتبار وحدة الزمان القاضي بلزوم التحكّم لو خصّ الامتثال بواحد وإن كان مستقلاّ في وجودها في ضمنه ، فلا يرد حينئذ ما قيل أيضا من صدق حصول الطبيعة حينئذ بالمرّة أيضا فقضيّة حصولها بها وجوبها استقلالا.

وقضيّة وجودها بالكلّ وجوب الكلّ ، ووجوب المرّة في ضمنه تبعا لوجوبه ، ولا وجه لالتزام وجوبين.

فإنّا لا نقول بوجوب الأفراد وإنّما نقول بوجوب الطبيعة في ضمنها ، وهي أمر واحد لا تعدّد فيه ، ولو سلّم فلا يلزم الالتزام بوجوبين إذ الوجوب الاستقلالي للفرد ما لم ينضمّ إليه فرد آخر في الوجود ، ومعه ينحصر وجوبه في التبعي.

فمن هنا يتبيّن أنّ معنى حصول الامتثال بالجميع كون الحاصل بها امتثالا واحدا لوحدة الطبيعة المأمور بها المتحقّقة في ضمنها ، لا أنّه امتثالات متعدّدة كما في صورة حصولها تدريجا.

ـ الثالث من الامور ـ

في تأسيس أصل يكون مرجعا في الموارد المشتبهة ، ومنها فقد الدليل الاجتهادي على أحد الأقوال ، والنظر هاهنا في جهات :

الاولى : النظر في حكم الأصل التوقيفي ، ولا ريب أنّ مقتضاه التوقّف من جميع الجهات لولا دليل اجتهادي على شيء منها ، لكون المسألة لغويّة والأصل فيها التوقّف كما في نظائرها.

الثانية : النظر في حكم الأصل اللفظي الاجتهادي ، ولا ريب أنّ مقتضاه تعيّن الماهيّة

١٧٧

من باب الوضع للقدر المشترك بين التكرار والمرّة ، أخذا بموجب ما ينفي التفات الواضع إلى ما زاد عليها من الخصوصيّتين ، لكونه زائدا على ما هو القدر المتيقّن حدوثه منه من الالتفات إليها.

ولا يرد عليه : أنّ الالتفات يقيني ومتعلّقه مشكوك فيكون من باب الشكّ في الحادث المانع عن جريان الأصل ، لأنّ المتيقّن تعلّقه بالماهيّة لتحقّقه مع جميع الاحتمالات ، وإنّما الشكّ في تعلّقه بما زاد عليها من أحوالها أو أفرادها فينفى بالأصل لكونه حادثا مسبوقا بالعدم الأزلي.

ولا يقال تشكيكا : بأنّ بناء العرف في مثل ذلك غير ثابت على الاعتبار ، بل الثابت خلافه ، لثبوت ذلك البناء منهم كما يظهر لمن تأمّل في مظانّ عملهم.

الثالثة : النظر في الاصول العمليّة الفقاهيّة ، وإنّما ينظر ذلك بالنسبة إلى دوران الأمر بين كلّ احتمالين من الاحتمالات الجارية على جميع الأقوال ، والصور في ذلك كثيرة جدّا (١).

منها : الدوران بين الماهيّة والتكرار التقييدي أو الاستقلالي ، وقضيّة الأصل فيهما البناء على الماهيّة المستلزمة للامتثال بالمرّة ، لرجوع الأوّل إلى الأقلّ والأكثر الارتباطيّين كرجوع الثاني إلى الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، فينفى وجوب الزائد فيهما بأصالة البراءة.

أمّا في الثاني فواضح من حيث سلامتها عن معارضة غيرها ، للقطع بارتفاع الأمر والاشتغال المقطوع بهما بالنسبة إلى الأقلّ بعد الإتيان به ، نظرا إلى عدم ارتباطه بالزائد فلا يبقى بالنسبة إليه إلاّ شكّ صرف فينفيه الأصل.

وأمّا الأوّل فلما سيأتي في محلّه من البناء على الأصل فيه ، كما شكّ في جزئيّته أو شرطيّته للعبادة أو المعاملة ، ولا يقدح فيه ورود استصحاب الأمر في غير المعاملة مضافا إلى قاعدة الاشتغال على خلافه ، لوروده عليهما في خصوص المقام الّذي يضبطه كون الشكّ الّذي هو العمدة من أركانهما مسبّبا عن الشكّ المتعلّق بما ينفيه الأصل وإن كانا واردين عليه في سائر المقامات ، فلذا ترى المحقّقين مع اعترافهم بقضيّة الورود بنوا في المسألة المشار إليها

__________________

(١) واعلم أنّ الصور المتصوّرة في المقام يرتقي إلى ثمانية وسبعين ، إذ المرّة لها احتمالات خمس كما تقدّم ، وعلى جميع التقادير فالمراد بها إمّا الفرد أو الدفعة ، والحاصل من ضرب الاثنين في الخمسة عشرة ، والتكرار له احتمالان فيحصل بانضمامهما إلى العشرة مع انضمام الماهيّة إليها ثلاثة عشرة ، ومضروب كلّ منها في آخر بعد اسقاط المكرّرات ما ذكر من العدد. وطريقه ملاحظة الماهيّة مع الاثني عشر الباقي ، ثمّ أحد احتمالي التكرار بعد إسقاط الماهيّة مع الأحد عشر الباقي ، ثمّ الاحتمال الآخر بعد إسقاط الاحتمال الأوّل مع العشرة الباقي ، وهكذا إلى آخر المراتب ، وضابطه جمع الآحاد المترتّبة من الواحد إلى اثني عشر فيرتقي المجموع إلى ما ذكر كما لا يخفى. ( منه عفي عنه ).

١٧٨

على نفي احتمال الجزئيّة والشرطيّة تعويلا على ذلك الأصل ، وكأنّ السرّ في ذلك أنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ » الّذي هو عمدة مداركه يوجب علما شرعيّا بعدم الجزئيّة والشرطيّة الموجب لزوال الشكّ الّذي عليه مدار الأصلين ، فلا يبقى لهما موضوع حتّى يقضيا بخلاف ما يقتضيه الأصل ، بخلاف ما لو لم يكن ذلك الشكّ مسبّبا عمّا ذكر.

ومنها : الدوران بين الماهيّة والمرّة اللا بشرط بمعنى السكوت ، أو المرّة اللا بشرط بمعنى الدلالة على عدم المطلوبيّة فقط ، ولا يخفى أنّهما خاليين عن أصل يرجّح أحد الطرفين فيهما ، إلاّ أن يلاحظ ذلك بالنسبة إلى لوازمهما كوجوب قصد الخصوصيّة فيهما على احتمال المرّة عند النيّة ، مضافا إلى تحريم ما زاد من باب البدعة بناء على تفسيرها بإدخال ما علم خروجه على الثاني منهما خاصّة ، لاستلزامه العلم بالخروج دون الأوّل ، فالأصل براءة الذمّة عن وجوب قصد الخصوصيّة ووجوب الاجتناب عمّا زاد ولا معارض له هنا.

أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلرجوع الشكّ إلى شرطيّة شيء في النيّة ، ولقد تقرّر ورود الأصل في مثل ذلك على استصحاب الحال مع قاعدة الاشتغال.

ومنها : الدوران بين الماهيّة والمرّة بشرط لا بجميع وجوهها الثلاث ، فبأصالة البراءة عن جزئيّة ترك الزائد للمأمور به أو شرطيّته فيه بالنسبة إلى وجهين منها مضافة إلى أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عنه في أحد الوجهين مع انضمام الوجه الآخر من الثلاث إليه ، يعود الدوران إلى ما بين الماهيّة والمرّة لا بشرط فيأتي فيه جميع ما تقدّم في سابقه قاضيا بتعيّن الماهيّة.

ومنها : الدوران بين وجهي التكرار ، ولا ريب أنّ المتعيّن حينئذ التكرار التقييدي لتطابق الاصول عليه بأجمعها ، ضرورة أنّ أصالة البراءة عن تعدّد العقاب الّذي يوجبه الوجه الآخر قاضية بذلك ، فينهض كلّ من الأصلين الآخرين ـ نظرا إلى الاشتغال والأمر المقطوع بهما قبل الإتيان بالمرّة الاولى ـ عاضدا لها ، ولو فرض معارضتها بأصالة البراءة عن شرطيّة الزائد وجزئيّته للامتثال بالمرّة الاولى المستفادة من قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ » لبقي الأصلان سليمين عن المعارض لمكان التساقط الناشئ عن التكافؤ.

ومنها : الدوران بينهما وبين المرّة لا بشرط بكلا قسميها ، فالمتعيّن هو المرّة لعين ما تقدّم فيما بينهما وبين الماهيّة لعين ما تقدّم ، وأصالة البراءة عن وجوب قصد الخصوصيّة القاضية بخلافها في جانبها غير منافية له ، لكونها مشغولة بمعارضة مثلها في جانب التكرار.

١٧٩

ومنها : الدوران بين التقييدي من التكرار والتقييدي من المرّة بكلا وجهيه ، فلا أصل في البين يقضي بتعيّن أحدهما فيه ، لكونه من باب ثبوت مدخليّة شيء في العبادة في الجملة ، ولم يعلم بأنّ الثابت اعتباره هل هو وجود ذلك الشيء ليكون شرطا أو عدمه ليكون وجوده مانعا ، نظير التكفير في الصلاة على ما يراه العامّة شرطا والخاصّة مانعا ، وأصالة البراءة عن شرطيّة التكرار معارضة بأصالة البراءة عن شرطيّة تركه وكذلك على تقدير الجزئيّة ، وليس في البين قدر متيقّن في مقام الامتثال ليكون من مجاري قاعدة الاشتغال لدوران الأمر بين المتبائنين ، أو الشبهة في أنّ المكلّف به هل هو ما اعتبر فيه التكرار أو ما اعتبر فيه ترك التكرار واستصحاب الأمر يجامع كلاّ منهما.

وقضيّة ذلك أن لا يكون من البناء على التخيير بدّ حذرا عن المخالفة القطعيّة ولكن ينبغي أن يكون التخيير بدويّا أخذا بموجب أصالة الاشتغال.

ولا يقدح فيها ما توهّم من استصحاب التخيير الثابت قبل الاختيار لاشتغاله بمعارضة مثله ، وهو استصحاب اليقين بالنسبة إلى ما اختاره في أوّل المرّة ، ضرورة تعيّنه بمجرّد الاختيار ، وزواله بعد الفراغ عنه يحتاج إلى دليل.

اللهمّ إلاّ أن يستفاد الاستمراري عن رواية عمر بن حنظلة المذيّلة بقوله عليه‌السلام : « إذن فتخيّر أحدهما ، وتأخذ بما فيه ، وتدع الآخر » نظرا إلى كون النهي للدوام والاستمرار كما توهّم ، ولكنّه مبنيّ على شمول الرواية ونظائرها لمحلّ البحث وأمثالها وهو أمر يختلف باختلاف الأنظار.

ومنها : الدوران بين التكرار التقييدي والمرّة التعدّدي ، فأصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عمّا زاد عن المرّة معارضة بأصالة البراءة عن شرطيّته أو جزئيّته لدورانه بين كونه حراما نفسيّا أو واجبا غيريّا ، نظرا إلى أنّها كما تدفع الوجوب والحرمة النفسيّين فكذلك الغيريّين.

غاية الأمر أنّ العقاب على الأوّل يترتّب عليه لمخالفته بنفسه ، وعلى الثاني لإفضاء مخالفته إلى مخالفة ما اعتبر فيه ، وهو لا يوجب فرقا بينهما في الحكم.

فقضيّة ما ذكر تعيّن التكرار لسلامة الاستصحاب وأصالة الاشتغال عن المعارض.

ومنها : الدوران بين التكرار التعدّدي والمرّة التقييدي بكلا وجهيه.

وظاهر أنّ التكليف بالمرّة الاولى ثابت يقينا على جميع الاعتبارات ، وأمّا المرّات

١٨٠