تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

قلت : عدم حصول ذلك فرع لثبوت كون القصد المذكور وجها من وجوه المأمور وهو ليس بثابت ، فلذا يقال : إنّه أتى بالمأمور به.

وأمّا المثال الثاني : فلأنّ استحقاق العقاب والمؤاخذة إنّما هو من جهة البناء على عدم الإتيان بذي المقدّمة لا من جهة عدم الامتثال بالمقدّمة ، وبينهما بون بعيد.

وبما تقدّم في تقرير ما ذكرناه من الاعتبار تبيّن أنّ الغرض الأصلي من الخطابات الغيريّة إنّما هو بعث المكلّف على تحصيل حالة من أحواله ليتوصّل بها إلى ما هو الغرض الأصلي من الخطابات النفسيّة ، وهذه الخطابات فيما لم تكن الحالة مقدورة له أوّلا وبالذات كالطهارة المطلوبة بقوله : « توضّأ أو اغتسل عن الجنابة للصلاة » مثلا تحتمل وجهين :

إحداهما : كون المراد بها إيجاب تحصيل تلك الحالة حتّى يكون قوله : « توضّأ واغتسل » بمنزلة قوله : « تطهّر بالوضوء أو الغسل » من باب تسمية المسبّب باسم السبب.

وثانيهما : أن يراد بها طلب إيجاد نفس الوضوء والغسل ليترتّب عليه حصول ما هو مسبّب عنه من الحالة المقصودة بالذات ، كما أنّها فيما لو كانت الحالة مقدورة له أوّلا وبالذات كالاستقبال وستر العورة محتملة لوجه واحد كما لا يخفى.

وعلى أيّ تقدير كانت فإنّما تشمل إذا لم يسبق على المكلّف حصول هذه الحالة فيما قبل الوقت ولو بسبب استحبابي لنفسه ، كالوضوء إذا قصد به الكون على الطهارة الّذي هو مستحّب لنفسه ، أو لغيره كالوضوء إذا قصد به امتثال الأمر الاستحبابي الثابت لأجل قراءة القرآن ونحوها ، ضرورة استحالة طلب الحاصل فمن هنا ظهر أنّ المتطهّر لا يسوغ له التوضّي إلاّ على جهة التجديد.

ثمّ إنّ ما قرّرناه سابقا في منع لزوم قصد العنوان راجع إلى منع كون قصد العنوان شرطا للصحّة وحصول الامتثال ، وهو لا ينافي لكون قصد الخلاف مانعا ، فحينئذ لو أتى بالوضوء قبل دخول وقت الصلاة فإن قصد به الندب أو القربة المطلقة فلا إشكال ، وإن قصد به الوجوب فجوازه والاجتزاء به مبنيّ على جواز تقدّم المقدّمة على ذيها في وصف الوجوب ، وسيأتي تحقيق القول فيه إن شاء الله.

ولو أتى به بعد دخول الوقت فإن قصد به الوجوب أو القربة المطلقة أيضا فلا إشكال بناء على عدم وجوب قصد الوجه ، وإن قصد به الندب نظرا إلى الأمر الاستحبابي النفسي أو الغيري فلا إشكال في أنّه حينئذ ليس امتثال للأمر الإيجابي لقيام المانع فيشكل الأمر

٤٢١

بالنظر إلى الدخول معه في الصلاة ، من جهة عدم كون الإتيان به إتيانا بمقدّمتها.

وتوهّم كونه المندوب من الوضوء لاستحبابه لنفسه أو للقراءة ونحوها ، فالإتيان به من هذه الجهة كان امتثالا للأمر الاستحبابي فيكون وضوء شرعيّا ومعه يجوز الدخول في الصلاة ، مدفوع : بأنّ ذلك مبنيّ على جواز اجتماع الاستحباب والوجوب في الشيء الواحد ، بأن يكون مع كونه واجبا مستحبّا أيضا وهو في حيّز المنع لاستحالة اجتماع الضدّين في محلّ واحد ، فإنّ ماهيّة الوضوء بدخول وقت الصلاة قد صارت واجبة ومع ذلك كيف يعقل كونها مستحبّة ، وهما ضدّان لا يجتمعان.

وقضيّة ذلك أن لا يحصل الامتثال بالصلاة لو أتى بها مع ذلك الوضوء ، لأنّه ليس بوضوء واجب لقصد خلافه ، ولا وضوء مندوب لعدم الأمر الندبي مع فرض الأمر الإيجابي به لئلاّ يلزم واجبا مندوبا.

فالإشكال وارد بالنسبة إلى كونه امتثالا للأمر الندبي وإلاّ فبالنسبة إلى الأمر الإيجابي لا إشكال في عدم كونه امتثالا له.

ويمكن التفصّي عن الإشكال بتجويز اجتماع الوجوب والاستحباب معا ، ولكنّه مبنيّ على إحراز أحد الوجهين :

أحدهما : اعتبار تعدّد الجهة فيه بالنظر إلى كونه مقدّمة للصلاة ومقدّمة للقراءة المندوبة مثلا ، فيصير واجبا من جهة ومندوبا من اخرى.

وتحقيق القول في أنّ تعدّد الجهة في الأمر الواحد ـ ولو شخصيّا ـ هل يوجب تعدّد الحكم واجتماع المتضادّين في ذلك الشيء أو لا؟ يأتي في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وإن كان قد يقال هنا بأنّه لا يوجب جواز اجتماعهما كما لا يوجب جواز اجتماع المثلين في شيء واحد كالوجوبين في قتل زيد إذا [ وجب ] بأكثر من جهة واحدة ، وفيه نظر يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

وثانيهما : التزام تعدّد العنوان المستلزم لتعدّد الحكم ، نظرا إلى أنّ الشيء الواحد ـ وإن كان شخصيّا ـ قد يكون مصداقا لعنوانين كلّ منهما مورد لحكم غير حكم الآخر ، كضرب اليتيم الّذي هو بقصد التأديب حسن فواجب ، وبقصد التعذيب قبيح فحرام ، فهو واجب وحرام بالفعل ومورد لحكمين متضادّين.

والسرّ في ذلك : أنّ كلاّ من العنوانين مفهوم متغاير لمفهوم الآخر ، موضوع لحكم غير حكم الآخر ، وإذا تعدّد الموضوع لا ضير في تعدّد الحكم ، فالوضوء المأتيّ به بقصد

٤٢٢

الاستحباب مصداق لعنوانين أحدهما كونه مقدّمة للصلاة الواجبة والآخر كونه مقدّمة للقراءة المندوبة ، فلا ضير في كونه قبل الإتيان به في ذلك الوقت واجبا ومندوبا ، فإذا انتفى عنه بعد الإتيان به أحد العنوانين من جهة عدم قصد الامتثال به لا يلزم منه انتفاء العنوان الآخر ، فإذا صحّ وقوعه مصداقا لذلك العنوان نظرا إلى اختصاص القصد به جاز اتّصافه بحكم ذلك العنوان لانتفاء المانع كما عرفت.

ويمكن الاعتراض عليه : بأنّ العنوانين قد يكونان متلازمين في الوجود الخارجي فيقع الشيء الواحد الشخصي مصداقا لهما معا ، كضيافة زيد بالإضافة إليه وإلى عدوّه ، فإنّها إحسان له وإهانة لعدوّه وهما متلازمان معا ، سواء اختصّ القصد بأحدهما أو لا ، فحينئذ لا إشكال في عدم جواز اتّصافه بحكمين متضادّين لما سيأتي في بحث اجتماع الأمر والنهي.

وقد يكونان متباينين على نحو يكون بينهما عموم من وجه ، سواء كان المكثّر والموجب للتعدّد فيهما غير القصد كإكرام زيد مع إكرام عمرو ، فإنّهما يجتمعان في إعطاء ولد هو ابن لأحدهما من ابنه وللآخر من بنته ، ويفترقان في إعطاء غلام كلّ منهما ، أو القصد كلطم اليتيم بقصد التأديب ولطمه بقصد التعذيب ، فإنّهما يجتمعان فيما لو حصل بقصد العنوانين معا ، ويفترق كلّ منهما عن الآخر بما لو اختصّ القصد به ، ومثله دخول دار الغرقى والمهدوم عليه بقصد إنقاذه أو بقصد شيء آخر كسرقة ماله مثلا ، فإنّهما يجتمعان عند اجتماع القصدين ويفترقان بافتراق القصدين ، فحينئذ لا إشكال في جواز الاتّصاف بحكمين متغائرين في مادّتي الافتراق في كلّ من القسمين ، كما لا إشكال في عدم جوازه بالنسبة إلى مادّة الاجتماع لما تقدّم.

ومحلّ البحث إن ثبت كونه من قبيل القسم الثاني يتمّ فيه الوجه المذكور لتجويز اتّصاف الوضوء بالاستحباب مع اتّصافه بالوجوب ، ولكنّ الظاهر أنّه ليس من هذا الباب بل هو من باب القسم الأوّل ، وهو كون العنوانين متلازمين في الوجود الخارجي ، فإنّ الوضوء قبل الإتيان به كما أنّه مصداق لمقدّمة الواجب فكذا مصداق لمقدّمة المندوب ، واختصاص القصد بأحدهما لا يوجب اختصاصه به بالنظر إلى الخارج لعدم مدخليّة القصد في المقدّمية ، فإنّه بالنسبة إلى المقدّمة ليس كالقصد بالنسبة إلى لطم اليتيم تأديبا وتعذيبا ، ودخول دار الغير للإنقاذ وغيره ليكون مغيّرا للعنوان ومحصّلا للتعدّد ، فلا يصحّ فيهما اجتماع الوجوب والاستحباب ، فالوضوء المأتيّ به بقصد قراءة القرآن مثلا بعد دخول

٤٢٣

الوقت ليس مصداقا للواجب لعدم قصد الامتثال به ، ولا للمندوب لعدم الأمر به من جهة عدم جواز اجتماعه مع الوجوب.

وأنت خبير بأنّ الاعتراض على تقدير صحّته إنّما يتوجّه على ما اخترناه من عدم اعتبار قصد الامتثال بذي المقدّمة في حصول امتثال الأمر بالمقدّمة.

وأمّا على ضابطة من يراه معتبرا فلا ، لكون النسبة حينئذ بين المقدّمتين عموم من وجه فيجتمعان فيما لو قصد بالمقدّمة امتثال الأمر بالصلاة الواجبة وامتثال الأمر بالقراءة المندوبة ويفترقان فيما لو قصد بها الامتثال بأحدهما خاصّة.

والعجب عن الشيخ الاستاد ـ دام ظلّه ـ كيف غفل عن ذلك فالتزم بورود الاعتراض ، مع ذهابه فيما تقدّم إلى اعتبار القصد المذكور في امتثال الأمر بالمقدّمة ، فإنّ هذا القصد على ذلك التقدير منوّع للموضوع ، ومعه يرتفع التلازم كما لا يخفى.

ويمكن الذبّ عن الاعتراض ـ على ما اخترناه أيضا ـ : بمنع حصر تعدّد العنوان الموجب لتعدّد الحكم فيما ذكر من القسمين ، فإنّ العنوانين قد يكونان متبائنين بالتبائن الكلّي مع اشتراكهما في خاصّة واحدة يعبّر عنها باللازم الواحد كالوضوء ، فإنّه مصداق للمقدّمة الواجبة إذا قصد به امتثال الأمر الإيجابي المتعلّق به ومصداق للمقدّمة المندوبة إذا قصد به امتثال الأمر الاستحبابي المتعلّق به ، وهما وإن كانا متبائنين إلاّ أنّهما يشتركان في لازم واحد وهو كونهما محصّلين للطهارة المبيحة للصلاة ، بل مقدّمة الصلاة في الحقيقة هي الطهارة كما عرفت.

والوضوء على أحد الوجهين مقدّمة للمقدّمة ، فالمكلّف إذا أتى بالوضوء المندوب لأجل القراءة بقصد الاستحباب فقد أتى بما يحصل معه مقدّمة الصلاة أيضا وهي الطهارة ، كما أنّه لو أتى بالوضوء الواجب بقصد الوجوب وأتى بما يحصل به المقدّمة فلا يلزم من فرض كون الإتيان بالوضوء للقراءة امتثالا للأمر الاستحبابي اجتماع حكمين متضادّين ، ولا يكون ذلك مبنيّا على جواز اجتماع الوجوب والاستحباب في شيء واحد ، كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أن ينقل الكلام إلى الطهارة الّتي هي لازم لقسمي الوضوء ، ويقال : إنّها واجبة ومندوبة بالإضافة إلى الصلاة والقراءة ، والمحذور لازم على هذا التوجيه أيضا.

ويمكن دفعه : بأنّ الطهارة بنفسها حكم وضعي متولّد عن الحكم التكليفي فلا يصلح معروضا للحكم التكليفي ، ولا ينافيه تعلّق الأمر به في بعض الأحيان كما في قوله : « تطهّر للصلاة » مثلا لأنّه راجع ـ على التحقيق ـ إلى إيجاد سببها ، كيف وهي من الأحوال الصرفة

٤٢٤

العارضة لذات المكلّف فلا تصلح موردا لما يختصّ بأفعاله أو ما هو بمنزلتها ، فلذا جعلت موضوعا لفنّ الفقه.

وربّما يقال ـ في دفع الإشكال بما لا محصّل له عند التحقيق ، وهو : ـ أنّ جهة الاستحباب لا تنافي جهة الوجوب ، لأنّ الأوّل طلب فعل مع الرجحان والثاني طلب لذلك الفعل مع شيء زائد ، فحصول ذلك الطلب لا يوجب سقوط الأوّل بل يؤكّده مع إيراثه شيئا زائدا عليه ، فلا ينافيه لئلاّ يمكن اجتماعهما.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يستقيم إذا كان الطلب الأوّل ثابتا لا بشرط شيء لئلاّ ينافيه الطلب الإيجابي الّذي هو طلب بشرط شيء ، وهو ضروريّ البطلان لأنّ الأوّل طلب مع الرجحان بشرط لا ، والثاني طلب معه بشرط شيء فهما يشاركان في الجنس ويتمايزان في الفصل فيحصل التنافي بينهما من هذه الجهة.

نعم على القول بأنّ الوجوب أمر بسيط عبارة عن الطلب المتأكّد فلا فصل له يستقيم ذلك أيضا ، ولكنّه مجرّد دعوى لا شاهد عليها مع مخالفتها للمذهب المشهور.

وقد يقال في دفع الإشكال أيضا ـ على تقدير عدم اجتماع طلبين في محلّ واحد ، وعدم جواز وقوع شيء واحد مطلوبا من وجهين ـ : بمنع كون الامتثال فرعا للمطلوبيّة بل هو فرع المحبوبيّة والفرق بينهما واضح ، وهو أيضا بعيد عن السداد كما لا يخفى.

الأمر الرابع : هل يعتبر في الواجب الغيري ـ سواء كان وجوبه بحكم العقل من باب المقدّميّة أو بحكم الشرع ـ حصول التوصّل فعلا إلى ذي المقدّمة ، بحيث لو لم يحصل التوصّل إليه بعد الإتيان بها لكشف ذلك عن عدم كون المأتيّ بها من المقدّمة الواجبة ، فلو أتى بالوضوء وترك الصلاة أو قطع مسافة الحجّ وترك الحجّ لم يكن آتيا بالمقدّمة الواجبة ، فلازمه انقسام المقدّمة إلى ما هي واجبة وهي الموصلة إلى ذيها ، وما ليست بواجبة وهي الّتي لا توصل إلى ذيها ، أو لا يعتبر ذلك بل الواجب الغيري ما من شأنه أن يتوصّل به إلى ذي المقدّمة سواء حصل التوصّل فعلا أو لا؟ فما فرض من المثالين إنّما هو مقدّمة واجبة قد حصل الامتثال الأمر بها من جهة الإتيان بها ، فالمقدّمة على هذا تنحصر في قسم واحد ، وجهان بل قولان اختار أوّلهما بعض الفضلاء.

وقد يستظهر ذلك ممّن يقول ببطلان الوضوء الّذي يؤتى به لأجل قضاء الفائتة من دون تعقّبه بإتيانها.

٤٢٥

ونسبه في الهداية إلى كونه ممّا قد يتخيّل وصار إلى الثاني.

ويستفاد منه كونه مذهب الجمهور ، بل استظهر هذا الفاضل كون الأوّل مستفادا من المصنّف أيضا لأنّه قال : « وقد يستفاد من المصنّف في ذيل المسألة الآتية ، حيث قال : إنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة ـ على تقدير تسليمها ـ إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر ، وكأنّه إنّما خصّ الوجوب بها في تلك الحال من جهة حصول التوصّل بها عند إرادة ما يتوقّف عليها دون ما إذا لم يكن مريدا له إذ لا يتوصّل بها حينئذ إلى فعله » انتهى.

وأنت خبير بفساد هذا التوهّم من تلك العبارة ، فإنّها مسوقة لبيان أنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة مقتضية لكون وجوبها مشروطا بإرادة الإتيان بذيها ، فهو ناظر ـ على تقدير القول به ـ إلى دعوى كون إرادة الإتيان بذي المقدّمة من شرائط وجوب المقدّمة بحيث لولاها لا وجوب أصلا كالقدرة ونحوها من شرائط الوجوب.

ومحلّ الكلام ما كان التوصّل إلى ذي المقدّمة من شرائط الواجب من المقدّمة ـ غاية الأمر كون إرادة الإتيان به مقدّمة لوجود ذلك بحيث لو انتفت انتفى التوصّل فانتفى الواجب ـ لا الوجوب وبينهما بون بعيد ، فهو ليس بصدد تقسيم المقدّمة إلى ما هي واجبة وما ليست بواجبة ، بل بصدد منع أصل الوجوب ، كيف ولو كان بصدد ذلك لكان عليه فرض كلامه فيما إذا وجدت المقدّمة بدون ذيها كما هو محلّ البحث ، ومحلّ كلامه خلاف ذلك الفرض إذ لم يتحقّق المقدّمة فيما فرضه وهو ترك الضدّ في الخارج حتّى لا يكون هو الواجب من المقدّمة بسبب عدم اقترانها بوجوب ذيها.

فاستفادة ذلك القول من عبارة المصنّف إن كانت ولا بدّ منها فما ذكره قبل العبارة المذكورة أولى بكونه موهما لذلك ، حيث قال : « ولا ريب أنّه مع وجود الصارف عن فعل الواجب وعدم الداعي لا يمكن التوصّل فلا معنى لوجوب المقدّمة » وهو أيضا عند التحقيق ليس مسوقا لبيان هذا المعنى ، بل المراد به إبداء أنّ المقدّمة لمّا كان وجوبها للتوصّل إلى ذيها ـ حتّى قيل : إنّ الواجب حقيقة إنّما هو التوصّل ـ فوجوبها فعلا مشروطا بإمكان التوصّل إلى ذيها ، نظرا إلى أنّ القدرة والتمكّن من شرائط التكليف مطلقا ، ومحلّ البحث جعل فعليّة التوصّل بعد إحراز إمكانه قيدا في الواجب بحيث لو انتفت لكان المأتيّ به غير واجب ، وبين المقامين فرق واضح.

٤٢٦

ثمّ إنّ القول باشتراط فعليّة التوصّل في المقدّمة الواجبة لا اختصاص له بمن يرى قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة شرطا في حصول الامتثال بالمقدّمة ، لأنّ ممّن ينفي الاشتراط ثمّة من يقول بالاشتراط هنا كبعض الفضلاء ، وممّن يثبت الاشتراط ثمّة من ينفي الاشتراط هنا كشيخنا الاستاد ـ دام ظلّه ـ فلا ملازمة بين القولين.

وكيف كان فأنت بالتأمّل في كلامهم ودليل الطرفين تعرف أنّ النزاع الواقع فيما بينهم صغروي راجع إلى اشتباه الموضوع ، لتردّد الوجوب الغيري بين مطلوبيّة شيء للتوصّل إلى الغير ، ومطلوبيّة التوصّل إلى الغير بذلك الشيء.

والفرق بين التعبيرين واضح.

فإنّ التوصّل إلى الغير على الأوّل من باب الغايات الّتي لا يجب ترتّبها فعلا على ما لوحظ وسيلة إليها ، بل قد تترتّب فعلا من باب المقارنات الاتّفاقيّة كما هو الغالب ، وقد لا تترتّب والدواعي الّتي دعت إلى إيجاب ما من شأنه أن يوصل إليها سواء حصل التوصّل فعلا أو لم يحصل لمانع عقلي اضطراري أو اختياري ، ولو كان من باب صرف الإرادة وزوال الميل النفساني.

وعلى الثاني يكون هو المطلوب بالأمر الّذي سبق إلى إفادته الخطاب من باب ذكر السبب وإرادة المسبّب ، فلذا ترى بعض من يذهب إلى القول الأوّل يفرّع مختاره على ما ذكره في تفسير الواجب الغيري من أنّه ما يكون التوصّل به إلى غيره مطلوبا من المكلّف في مقابلة الواجب النفسي الّذي فسّره بما يكون المطلوب من المكلّف في إيجابه نفسه دون توصّله به إلى غيره.

فاحتجّ عليه : بأنّ مطلوبيّة (١) شيء للغير تقتضي مطلوبيّة ما يترتّب ذلك الغير عليه دون غيره ، لما عرفت من أنّ المطلوب فيه المقيّد من حيث كونه مقيّدا وهذا لا يتحقّق بدون القيد الّذي هو فعل الغير.

فعلى الأوّل يتنوّع المقدّمة باعتبار فعليّة الترتّب وعدمها على نوعين ، كما هو وظيفة كلّ ما اعتبر في مفهومه قيد « شأني ».

وعلى الثاني ليس لها إلاّ نوع واحد كما هو شأن كلّ ما اعتبر في مفهومه قيد « فعلي ».

__________________

(١) وقد يقرّر بأنّ المقدّمة ليست مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لأجل كونها موصلة إلى ذيها فالمطلوب الحقيقي هو الإيصال فيكون الواجب في الحقيقة هو المقدّمة الموصلة والمقدّمة الّتي لا يوجد معها ذوها لم يكن من المقدّمة الواجبة. ( منه ).

٤٢٧

والّذي يترجّح في النظر القاصر هو الوجه الأوّل ، لأنّه المنساق عرفا من الخطابات الواردة في هذا الباب ، كقوله : « توضّأ للصلاة » و « اغتسل للزيارة » و « سافر عند خروج الرفقة للحجّ ».

ألا ترى أنّه لو قال الأمير لبعض امنائه : « اجمع العسكر لفتح البلد الفلاني » فامتثل وصادف عدم حصول الغرض لقصورهم عنه مثلا خرج عن العهدة جزما ، وليس للأمير أن يؤاخذه بعدم الإتيان بما أمره به وهو المقدّمة الموصلة ، فلو أخذه والحال هذه لذمّه العقول ، بخلاف ما لو كان ذلك من تقصيره بأن لم يأت بكمال المأمور به فإنّه حينئذ يستحقّ الذمّ والمؤاخذة والعقاب مع اشتراكه مع الصورة الاولى في عدم الإيصال ، فلا يعقل بينهما فرق إلاّ أنّ المعتبر في المأمور به حينئذ إنّما هو شأنيّة الإيصال لا فعليّته ، وهي منتفية في الصورة الثانية دون الاولى وإلاّ لاشتركتا في استلزام توجّه الذمّ واستحقاق المؤاخذة كما لا يخفى.

فمن هنا يتبيّن فساد احتجاج الخصم بما تقدّم ذكره ، فإنّ قوله : « مطلوبيّة شيء للغير تقتضي مطلوبيّة ما يترتّب ذلك الغير عليه دون غيره » ممنوع بأنّ مطلوبيّة شيء للغير تقتضي مطلوبيّة ما من شأنه أن يترتّب عليه ذلك الغير ، سواء حصل الترتّب فعلا أو لم يحصل لأنّه المنساق عند العرف كما عرفت ، وقوله : « لما عرفت من أنّ المطلوب فيه المقيّد من حيث كونه مقيّدا » إلى آخره.

يدفعه : أنّ كون المطلوب فيه هو المقيّد ، أعني المقدّمة الموصلة من حيث إنّها موصلة أوّل الدعوى ولا دليل عليها ، بل الدليل قاض بكون المطلوب هو المقدّمة دون غيرها ، فخرج ما لا يعدّ مقدّمة في نظر العرف لنقض فيه ببعض الشرائط أو الأجزاء أو نحو ذلك.

ومن جملة الشرائط إعدام المانع ، فلذا لا نقول بامتثال من كان له صارف اختياري عن الفعل لأنّه لم يكمل الشرائط الّتي منها إعدام ذلك الصارف ، فيرجع المحصّل إلى إبداء الدليل على أنّ المطلوب في الواجب الغيري ما من شأنه الإيصال إلى المطلوب ، وهو الّذي أشرنا إليه.

وربّما يقرّر الدليل المذكور : بأنّ المقدّمة ليست مطلوبة لنفسها بل هي مطلوبة لمطلوبيّة ذيها ، فإذا أتى بها المكلّف من دون ذيها فلا يخلو إمّا أن تكون هي المقدّمة المطلوبة أو غيرها ، والأوّل يوجب أن تكون المقدّمة مطلوبة لنفسها وهو خلاف الفرض ، فتعيّن الثاني إذ لا ثالث لهما.

والجواب : أنّ معنى كون المقدّمة مطلوبة لمطلوبيّة غيرها أنّ الداعي إلى طلبها التوصّل إلى الغير المطلوب من باب الغايات المطلوبة ، وهو لا يقتضي فيها أزيد من كونها صالحة

٤٢٨

ليتوصّل بها إلى ذلك الغير.

ولو اريد به صلاحيّة الإيصال فعلا ، ففيه : منع اعتبار وصف الإيصال فعلا في المقدّمة الواجبة ، فإنّ الحاكم بوجوبها إن كان هو العقل فهو لا يلاحظ فيها وصف الإيصال أبدا ، بل إنّما يحكم بوجوبها لمحض أنّ لها دخلا في وجود ذيها ، وملاحظة مجرّد المدخليّة ليست من ملاحظة وصف الإيصال في شيء.

وإن كان هو الشرع فكذلك لأنّ الشارع أيضا لا يلاحظ معها إلاّ مجرّد المدخليّة فيطلبها بواسطة طلب ذيها ، هذا كلام مع الخصم في دليله.

وأمّا الكلام معه في إبطال أصل مذهبه فبأنّا نرى أنّ الّذي يترتّب عليه وجود الغير فعلا من المقدّمات إنّما هو الإرادة ، فلو اريد أنّ ما عدا الإرادة من المقدّمات ليست بواجبة وإنّما الواجب هو الإرادة لأنّها الّتي لابدّ معها من وجود ذيها ، فهو في بداهة البطلان بمثابة لا حاجة معها إلى البيان ، لاستلزامه عدم اتّصاف غيرها من الشرط ونحوه بالوجوب ، وهو ممّا لم يقل به أحد بل الخصم أيضا لا يرضى بذلك.

ولو اريد أنّ المقدّمة مقيّدة بقيدين هي واجبة مع أحدهما وهو الإيصال المستلزم للوصول المستلزم لحصول ذي المقدّمة في الخارج ، وليست بواجبة مع الآخر وهو وصف عدم الإيصال.

ففيه : أنّ المقدّمة الموصلة مقيّد ، وكلّ مقيد لابدّ له من مطلق والمطلق جزء للمقيّد ، وجزء الشيء مقدّمة للشيء ، فالمقدّمة المطلقة مقدّمة للمقدّمة الموصلة.

فإمّا أن يقال بوجوب تلك المقدّمة أو لا ، والثاني عدول عن القول بوجوب المقدّمة أو تفصيل بما لا يرضى به القائل ، والثاني اعتراف بضدّ المطلوب.

ولو فرض نقل الكلام إلى وصف الإيصال الّذي هو ذو مقدّمة لما فرضناه مقدّمة ، ويقال بأنّه الواجب من المقدّمة فهو معارض بنقل الكلام إليه أيضا ، لأنّ الإيصال إلى ذي المقدّمة مقيّد له مطلق هو كالجزء منه ، فيكون الإيصال المطلق مقدّمة للإيصال المستلزم لحصول ذي المقدّمة الأصلي ، وهكذا إلى أن يتسلسل وهو محال.

فقضيّة ذلك كون مطلق المقدّمة واجبا ، وإن كان من باب مقدّمة الإيصال الّذي هو مقدّمة للوصول.

وبالجملة المقيّد الّذي هو المقدّمة الموصلة لا يتحصّل في الخارج إلاّ بتحصّل المطلق الّذي هو ذات المقدّمة ، فيكون الذات حينئذ مقدّمة لما له القيد ، فلابدّ للمستدلّ إمّا من القول

٤٢٩

بعدم وجوب المقدّمة أصلا ولا يقول به ، أو بوجوبها لا بقيد الإيصال.

ولو فرض الكلام في ذات المقدّمة ويقال : بأنّ المقدّمة من الذات إنّما هي الموصلة فيها لا مطلقا ، فننقل الكلام إليه أيضا ونقول فيه بمثل ما ذكر ، نظرا إلى أنّ الوصف مع الموصوف بدون ذات الموصوف محال تحقّقه ، فيكون كلّ ذات مجرّدة مقدّمة لها موصوفة ، فلابدّ من الالتزام بوجوب مطلق المقدّمة أو العدول عن القول بوجوبها مطلقا ، وهكذا لو فرض في الثالثة إلى أن يتسلسل وهو باطل.

فلا يبقى مناص من القول بوجوب المقدّمة مع قطع النظر عن وصف الإيصال ، وفيه تأمّل يظهر وجهه فيما نورده في ذيل المسألة من الامور.

مع أنّ بديهة الوجدان وضرورة الحسّ والعيان قاضية في المقدّمات المرتّبة في الوجود الخارجي بوضوح الفرق من جهة سقوط الطلب وعدمه بين ما يحصل منها وما لم يحصل ، فكلّ ما يحصل منها سقط طلبه وبقي الباقي بالنسبة إلى الباقي على العهدة ، فإنّ من تدرّج بعض درجات السلّم لابدّ وأن يكون ممتثلا بالنسبة إلى ذلك البعض بحكم الوجدان الّذي إنكاره إنكار لبديهة العقل ، وإن كان بانيا على عدم الإتيان بالبعض الآخر ليتوصّل إلى الصعود الّذي هو المطلوب لنفسه ، وشبهة القائل تدعوه إلى أن يجعل سقوط الطلب عن الحاصل من المقدّمات مراعى بحصول سائر المقدّمات حتّى المقدّمة الأخيرة الّتي قام بها وصف الإيصال.

وقضيّة ذلك عدم الفرق بين الحاصلة منها وغيرها ، وهو خلاف ما يحكم به الضرورة وبداهة العقل.

وبقي الكلام في الإشارة إلى ثمرات هذا الخلاف.

فإنّها على ما ذكروه كثيرة :

منها : ما أشار إليه بعض الأفاضل من أنّ المكلّف إذا صادفه صارف عن أداء الواجب لم يكن ما يقدم عليه من ترك المقدّمات المرتبطة بذلك الواجب ممنوعا عنه على القول الأوّل ، لعدم كون تلك المقدّمات مع وجود الصارف موصلة فلا تكون واجبة ليلزم حرمة تركها.

ثمّ فرّع عليه صحّة أداء الواجب الموسّع عند مزاحمته للواجب المضيّق مع وجود صارف عنه ، فحينئذ لا يكون ما يأتي به من الموسّع منهيّا عنه ليقضي النهي بفساده ، بخلاف ما لو قيل بالثاني لتعلّق النهي به حينئذ لكون تركه مقدّمة للواجب فيكون واجبا من حيث كونه موصلا إلى الواجب.

٤٣٠

وفيه ما لا يخفى : فإنّ الصارف المفروض لو كان أمرا اضطراريّا من مانع عقلي أو شرعي فلا إشكال في أنّه يوجب رفع التكليف عن الواجب ، ومعه لا فرق بين القولين في عدم ممنوعيّة ترك مقدّماته ، نظرا إلى أنّ المنع عن تركها فرع لوجوب فعلها ، ولا وجوب لها مع عدم وجوب ذيها لأنّه مبنيّ عليه فحيث انتفى انتفى ، ولو كان أمرا اختياريّا كعدم إرادة الإتيان به اختيارا فلا ريب في خروجه عن فرض وجود المقدّمة الغير الموصلة ليظهر فيه فائدة القولين ، لأنّ المقدّمة كما أنّها قد تكون عبارة عن إيجاد أمر وجودي يتوقّف على وجوده وجود الواجب كالشرط ونحوه ، فكذلك قد تكون عبارة عن رفع أمر وجودي يتوقّف على عدمه وجود الواجب كالمانع.

ومن البيّن أنّ الصارف الاختياري مانع ورفعه مقدّمة موصلة إلى الواجب بلا تأمّل فيكون واجبا ، ويترتّب عليه وجوب سائر المقدّمات أيضا إن كان هناك توقّف. وقضيّة ذلك حرمة تركها على القولين.

ومن هنا يتبيّن فساد ما فرّع على الثمرة المذكورة من مسألة دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه الخاصّ في قسمي الواجب الموسّع والمضيّق ، فلزوم الصحّة مشترك بين القولين على تقدير ، كما أنّ لزوم عدمها مشترك بينهما على تقدير آخر ، فلا يظهر في ذلك فائدتهما جزما.

ومنها : ما أشار إليه الفاضل المذكور أيضا من أنّه لو أتى بالوضوء بقصد الوجوب لغاية مندوبة عند اشتغال الذمّة بالغاية الواجبة فإنّه يقع صحيحا على الثاني دون الأوّل ، إذ لا يجوز حينئذ قصد الوجوب إلاّ إذا أتى به لأداء الغاية الواجبة ، ولا أقلّ من ظنّه بأدائه إليها إذا لم يلاحظ الغاية الواجبة حال أداء الفعل.

وفيه أيضا : أنّه من فروع ما تقدّم في المسألة السابقة من اشتراط حصول الامتثال بالواجب الغيري بقصد امتثال الأمر بذلك الغير حال أداء الفعل وعدمه.

بل الّذي يناسب فرضه من فروع محلّ الكلام هو أنّه لو أتى بالوضوء بقصد الوجوب لغاية واجبة فبدا له فلم يأت بتلك الغاية فعلى الأوّل لا يجوز معه الاشتغال بغاية اخرى مشروطة بالوضوء كالطواف ومسّ كتابة القرآن ونحوه ، لعدم وقوعه على الوجه الصحيح من جهة عدم كونه المقدّمة الواجبة بخلاف الثاني ، للزومه كون المأتيّ به على كلّ تقدير من الوضوء الواجب الّذي يصحّ معه الاشتغال بكلّ مشروط به ، كما هو لازم القول الأوّل على تقدير أداء الغاية الواجبة سابقا أو لاحقا.

٤٣١

ومنها : ما ذكره الفاضل المذكور من جواز أخذ الاجرة على فعل المقدّمة إذا لم يترتّب عليها ذوها وعدم جوازه على القولين ، بناء على ما تقرّر من عدم جواز أخذ الاجرة على فعل الواجبات ، مع عدم الفرق في ذلك بين الواجبات النفسيّة والغيريّة.

ومنها : ما ذكره ذلك الفاضل أيضا من برء النذر بفعلها في الصورة المتقدّمة لو تعلّق بفعل واجب على الثاني ، إذا قلنا بشمول الواجب عند الإطلاق للواجبات الغيريّة ، أو صرّح الناذر بالتعميم بخلاف الأوّل.

ومنها : ما أشار إليه بعض الفضلاء من أنّه لو نذر أن يغتسل غسل الزيارة فاغتسل لها ثمّ بدا له فلم يزر أو منعه مانع منها لم تبرأ ذمّته على الأوّل دون الثاني.

ومنها : ما أفاده ذلك الفاضل من مسألة التيمّم في سعة وقت الفريضة لغاية غيرها بناء على مراعاة الضيق ، فإنّه إذا لم يترتّب عليه الغاية كشف عن بطلانه فيبطل الفريضة إن صلاّها به ولو في آخر وقتها ، وكذا لو تيمّم للفريضة عند ضيق وقتها ففاتته. نعم لو ترتّب على تيمّمه في المقامين غايته كان تيمّمه حين وقوعه مطلوبا لها أيضا صحّ وجاز الدخول به في غاياته المتأخّرة ، إذ قصد الغاية بالمقدّمة غير معتبر في مطلوبيّتها.

هذا كلّه على الأوّل وأمّا الثاني فيعرف حكمه بما علم.

الأمر الخامس : هل الواجب الغيري يوجب لفاعله استحقاق الثواب غير ما يوجبه له الغير المشروط به ، ولتاركه استحقاق العقاب غير ما يوجبه له الغير المشروط به أو لا؟ بل لا استحقاق في ثواب ولا عقاب إلاّ من جهة الغير المشروط به فعلا وتركا ، وجوه بل أقوال.

ثالثها : الفرق بين الاستحقاقين ففعل الواجب الغيري ـ بل كلّ مقدّمة للواجب ـ يوجب الاستحقاق للثواب وتركه لا يوجب استحقاق عقاب غير ما يترتّب على ترك الغير ، عزاه بعض الأعلام إلى بعض المحقّقين وحكى نقله عن الغزالي.

ثمّ قال : و « لا غائلة فيه ظاهرا إلاّ أنّه قول بالاستحباب وفيه إشكال ، إلاّ أن يقال : باندراجه تحت الخبر العامّ في « من بلغه ثواب على عمل ، وفعله التماس ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن كما بلغه » فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ حتّى فتوى الفقيه. فتأمّل ».

وستعرف ما في كلامه من الاستدراك بكلمة « إلاّ » فهو مع تسليمه هنا جواز ترتّب المدح والثواب على الفعل يصرّح في ذيل المسألة بما يقضي بتجويزه ترتّب الذمّ والعقاب على الترك أيضا ، حيث قال : « بل لا نضائق في ترتّب العقاب على ترك الوضوء من جهة

٤٣٢

خصوص الأمر به وإن كان وجوبه للغير ، كما هو مدلول أصل لفظ الأمر ومصرّح به في كلام جماعة من المحقّقين » ولكن يظهر منه تخصيص ذلك بما ثبت له وجوب أصلي كالوضوء ونحوه فخرج سائر المقدّمات فلا يترتّب على تركها عقاب.

وربّما يسند القول بترتّب استحقاق العقاب على الترك إلى ظاهر كلام السيّد الطباطبائي في المناهل حيث حكم في بحث الوضوء بوجوبه لمشروط به ، ثمّ رتّب امورا.

منها : بيان أنّ المراد بالوجوب هنا ما يوجب استحقاق الذمّ بالترك ، ووجه كونه ظهورا احتمال اعتقاد التعميم في معنى القضيّة بحيث يمكن كونه في الوضوء من جهة إفضاء تركه إلى ترك ما يوجب تركه ذلك.

وقضيّة ذلك الظهور القول بترتّب استحقاق المدح على الفعل بطريق أولى كما لا يخفى.

والقول بالفرق صرّح به أيضا بعض الأفاضل وتبعه أخوه في ذلك.

وأمّا القول بالمنع مطلقا فاختاره شيخنا ـ دام ظلّه ـ.

وأمّا القول بالإثبات مطلقا فلم يعهد إلاّ ما أشرنا إليه عن بعض الأعلام.

وكيف كان فالمسألة خلافيّة ، وظاهر أنّ الخلاف لا يرجع إلى مفاد الأمر ولا مفهوم الوجوب أو الواجب ، لأنّ الاستحقاق للثواب والعقاب أمر خارج عن هذه الامور بحسب العرف واللغة ، وإنّما هو لازم شرعي للواجب يثبت فيما قام عليه دليل شرعي فيه وينتفي فيما ينتفي الدليل الشرعي ، وظاهر أيضا أنّ الّذي يليق بأن ينازع فيه نفيا وإثباتا إنّما هو ترتّب الثواب والعقاب على الفعل والترك على جهة الاستحقاق وإن كان ذلك قد خفي على كثير منهم فلذا وقع الخلط في كلامهم ، وإلاّ فترتّب الثواب على الفعل أحيانا في بعض المقدّمات على ما ورد عليه الروايات من جهة كونه ممّا فضّله الله سبحانه ليس ممّا ينبغي لأحد إنكاره ، كيف وأخبار فضل الوضوء والخروج إلى المسجد للصلاة والمسير إلى الحجّ والمسافرة لزيارة قبور الأئمّة والحجج ـ سلام الله عليهم ـ لا يكاد يخفى أمرها على أحد ، والظاهر أنّه لا خلاف لأحد في أنّ فعل المقدّمة بنفسها مجرّدة عن ذيها لا يترتّب عليه استحقاق مدح ولا ثواب.

ووجهه : أنّ إيجاب المقدّمة لم يتعلّق به غرض ولا اقتضته حكمة إلاّ التوصّل إلى ذيها ، بحيث لو لا ذلك لكان وجودها مع عدمها في نظر الآمر على نهج سواء ، فما يكون حاله هذا فكيف يعقل استحقاق مدح أو ثواب بفعله المجرّد عن جهة التوصّل ، ولا ينافيه كونها

٤٣٣

أحد فردي الواجب على هذا التقدير ـ بناء على ما حقّقناه ـ إذ لا ملازمة بين الإيجاب وترتّب الاستحقاق ، فإنّ الاقتضاء دائما على ما عليه بناء العقلاء في جميع الأعصار والأمصار ينوط بشأنيّة الحصول ، بخلاف الأجر والثواب لاناطة الاستحقاق لهما دائما على فعليّة الحصول ، فالتوصّل هو الداعي إلى الإيجاب أثّر في مقام الاقتضاء في تعلّق الوجوب بما من شأنه ترتّب الحصول ، وفي مقام الإعطاء لا تأثير له إلاّ في ترتّب الأجر على ما حصل منه فعلا.

فيعود النزاع إلى أنّ حكمة التوصّل إلى شيء كما أنّها أوجبت إلى إيجاب المقدّمة فهل توجب ترتّب استحقاق الثواب على فعلها زيادة على ما يترتّب على فعل ذيها أو لا؟ وعلى كلّ تقدير فهل توجب ترتّب استحقاق العقاب على تركها زيادة على ما يترتّب على ترك ذيها أو لا؟

فنقول : إن كان نزاعهم في الإمكان فالحقّ أنّه لا دليل من عقل ولا نقل على العدم ، وإن كان في الوقوع فلا دليل أيضا على شيء من الاستحقاقين عقلا ولا نقلا.

أمّا العقل : فلاستقلال عقولنا بأنّ العقاب عند ترك المقدّمة المؤدّي إلى ترك ذيها واحد ، وهو الّذي يترتّب على ترك ذيها عند ترك المقدّمة كما عليه المحقّق السبزواري على ما حكي عنه ، وكذلك الثواب عند الإتيان بهما معا فإنّه واحد وهو الّذي يترتّب على فعل ذي المقدّمة خاصّة.

ألا ترى أنّ العبد التارك لاشتراء اللحم المأمور به لا يعاقب إلاّ على ترك الاشتراء ، كما أنّه لا يستحقّ المدح عند الإتيان به إلاّ على أصل الاشتراء دون مقدّماته.

وأمّا النقل : فلفقد ما يصلح دليلا على استحقاق العقاب بترك المقدّمات إلاّ ما تمسّك به من إطلاق قوله تعالى ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ )(١) وانتفاء ما يصلح دليلا على استحقاق الثواب إلاّ قوله تعالى : ( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )(٢)( وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ )(٣).

وجملة من الأخبار الدالّة على ترتّب الثواب على مقدّمات بعض العبادات مثل ما ورد

__________________

(١) الجن : ٢٣.

(٢) التوبة : ١٢٠.

(٣) النحل : ١٢١.

٤٣٤

في كلّ خطوة من خطوات المشي إلى المسجد.

وما في الفقيه قال الصادق عليه‌السلام : « من مشى إلى المسجد لم يضع رجله على رطب ولا يابس إلاّ يسبّح له إلى الأرضين السابعة ».

وما ورد في المسافرة لحجّ بيت الله الحرام مثل ما عن أبي جعفر عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال ـ في رواية طويلة لأنصاري ـ : « فاعلم أنّك إذا توجّهت إلى سبيل الحجّ ثمّ ركبت راحلتك وقلت : بسم الله ومضت بك راحلتك لم تضع راحلتك خفّا ولم ترفع خفّا إلاّ كتب الله عزّ وجلّ لك حسنة ومحا عنك سيّئة (١) » إلى آخره.

وما في مسافرة الزيارات ونحوها ممّا لا يكاد يخفى.

وهي كما ترى لا دلالة في شيء منها على ما هو المطلوب في المقام ، أمّا آية العصيان فلخروج محلّ البحث عن مورد الإطلاق أو العموم من جهة عدم العصيان على ترك المقدّمات عرفا ، بل الّذي يعدّ منه إنّما هو ترك ذيها من غير نظر معه إلى ما تحقّق معه من تركها أصلا.

وأمّا الآية الاخرى مع الأخبار فلأنّ أقصى ما يستفاد منها كون ما يترتّب على المقدّمات من المثوبات ممّا فضله الله عزّ وجلّ وهذا ليس من المدّعى في شيء ، بل لا ينكره أحد.

أو يقال : إنّ ذلك وإن اسند إلى المقدّمات إلاّ أنّه ليس لأجل المقدّمات بل هو ممّا يترتّب على ذيها وإنّما اسند إليها توزيعا ، وذلك لما فيها من المدخليّة في حصوله من باب السببيّة في الجملة فيوزع عليها ما قرّر له من الأجر والثواب.

ويشهد بما ذكرنا من التوجيهين امور :

منها : ما في رواية الحجّ من أنّه عليه‌السلام بيّن ذلك ثوابا للحجّ كما ينبّه عليه قوله عليه‌السلام ـ قبل ما تقدّم ـ : وأمّا أنت يا أخ الأنصاري فإنّك جئت لتسألني عن حجّك وعمرتك وما لك فيهما من الثواب.

ومنها : ما ورد في النظر إلى الكعبة الّذي ليس من المقدّمات ولا من ذيها من قول الصادق عليه‌السلام : « من نظر إلى الكعبة فعرف من حقّنا وحرمتنا مثل الّذي عرف من حقّها وحرمتها غفر الله له ذنوبه كلّها ، وكفاه همّ الدنيا والآخرة كلّها ».

وفي رواية اخرى : « إنّ من نظر إلى الكعبة لم يزل يكتب له حسنة ويمحى عنه سيّئة حتّى يصرف ببصره عنها » إلى غير ذلك من الروايات.

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٠٣ ، ح ٢١٣٨.

٤٣٥

ومنها : ما ورد في بعض الأخبار لبيان فضيلة زيارة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ممّا يقضي بأنّ كلّ خطوة من ذهابه حجّ ، وكلّ خطوة من إيابه حجّان ، مع أنّ الإياب وخطواته ليس من المقدّمات ، فلا يكون ذلك إلاّ من جهة التوزيع أو حاصلا على جهة الفضل والإحسان ، فإذا لم يكن هناك دليل على شيء من الاستحقاقين كان عدمهما هو الّذي يقتضيه القاعدة.

ولكن يشكل ذلك بما ورد في الروايات من ترتّب الثواب على الوضوء وغيره من الطهارات ، وعلى أنّه لكلّ قطرة من الماء الّذي يقطر كذا ، ولغسل كلّ عضو يغسل كذا ، بل وفي رواية : « أنّ الوضوء حدّ من حدود الله ليعلم من يطيعه ومن يعصيه ».

وفي اخرى قال الصادق عليه‌السلام : « بينا أمير المؤمنين ذات يوم جالس مع محمّد ابن الحنفية ، إذ قال : يا محمّد ائتني بإناء من ماء أتوضّأ للصلاة ، فأتاه محمّد بالماء ـ إلى قوله ـ : ثمّ رفع رأسه فنظر إلى محمّد فقال : يا محمّد من توضّأ مثل وضوئي وقال مثل قولى خلق الله تبارك وتعالى من كلّ قطرة ملكا يقدّسه ويسبّحه ويكبّره ، فيكتب الله عزّ وجلّ ثواب ذلك له إلى يوم القيامة ».

مع أنّ الأمر فيها غيري وليس ذلك لأجل ما ثبت فيها من الاستحباب النفسي.

أمّا أوّلا : فلأنّ الثواب على هذا التقدير مترتّب على الاستحباب الفعلي والطهارات إذا أتى بها لأجل الأمر الإيجابي الغيري ـ كما هو المفروض ـ ليس فيها استحباب فعلي ليكون الثواب المدلول عليه بالروايات مترتّبا عليه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الثواب لو كان لأجل الاستحباب النفسي لكان خارجا عن الفرض ، إذ المفروض أنّ ما يترتّب عليها من الثواب إنّما هو لأجل الأمر الغيري كما لا يخفى على من تأمّل في صدر الرواية المذكورة حيث قال عليه‌السلام : « يا محمّد ائتني بإناء من ماء أتوضّأ للصلاة » والأمر في إطلاق ما ورد منها مطلقا سهل بعد إعمال قاعدة حمل المطلق على المقيّد.

نعم ربّما يشهد بما ذكر من احتمال ترتّب الثواب على الأمر الاستحبابي الثابت فيها عدّهم إيّاها من التعبديّات المحتاجة إلى قصد التقرّب وصريح حكمهم بلزومه ، فلو كان الأمر لمجرّد الغيريّة ـ على ما هو مفروض البحث ـ لما كان لذلك وجه لعدم افتقار الواجب الغيري إلى قصد الامتثال ، إلاّ أن يراد بذلك الامتثال بالأمر الغيري الثابت فيها.

وفيه : أنّ امتثال الأمر الغيري مع ملاحظة ذلك الغير لا يرجع إلى محصّل إلاّ إذا اريد به الامتثال بذلك الغير ولازمه أن يكون الثواب لأجله ، وهو خلاف ما يستفاد من الأخبار من

٤٣٦

كون الثواب مترتّبا على نفس تلك الأفعال.

ولكن يدفعه : أنّ كونها من الغيريّات لا شبهة فيه لأنّه المفروض مع شهادة بعض الأخبار ، مضافا إلى ما مرّ بذلك ، كما روي من : أنّه كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا توضّأ لم يدع أحدا يصبّ عليه الماء ، فقيل له يا أمير المؤمنين لم لا تدعهم يصبّون عليك الماء؟ فقال : لا احبّ أن اشرك في صلاتي أحدا ، وقال الله تبارك وتعالى : ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )(١).

ومثله ما عن الصادق عليه‌السلام : « من أنّ الوضوء لأجل الصلاة وهي عبادة ولا احبّ أن اشرك في عبادتي » إلى غير ذلك ممّا يدلّ على غيريّة الوضوء وغيره ، فالأمر حينئذ مشكل والتفصّي عن الإشكال أشكل ، ومع عدمه ينتقض ما أسّسناه من القاعدة.

اللهمّ أن يقال في محلّ الإشكال بنحو ما سبق من قضيّة التوزيع ، بدعوى : أنّ الثواب المدلول عليه بالأخبار إنّما هو لأجل ذي المقدّمة ولكنّه يوزّع على حسب أجزاء المقدّمات ، وهو بعيد مخالف لما يظهر من الأخبار من كون الثواب لأجل مجرّد هذه الأعمال.

نعم يمكن التفصّي عنه بحمله على جهة التفضّل والإشفاق ، فلا ينافيه عدم ثبوت الثواب على جهة الاستحقاق كما هو محلّ الكلام.

ويرشد إلى ذلك ما ورد في علّة الوضوء في الفقيه ، وكتب أبو الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله : « إنّ علّة الوضوء الّتي من أجلها صار على العبد غسل الوجه والذراعين ومسح الرأس والقدمين فلقيامه بين يدي الله تعالى ، واستقباله إيّاه بجوارحه الظاهرة وملاقاته بها الكرام الكاتبين ، فيغسل الوجه للسجود والخضوع ، ويغسل اليدين ليقلبهما ويرغب بهما ويرهب ويتبتّل ، ويمسح الرأس والقدمين لأنّهما ظاهران مكشوفان يستقبل بهما كلّ حالاته وليس فيهما من الخضوع والتبتّل ما في الوجه والذراعين ».

فإنّ ظاهره أنّ الوضوء من حيث هو لا يوجب استحقاقا وليس مبناه على إيراث الأجر والثواب ، فيبقى ما في الروايات الاخر من ترتّب المثوبات عليه لأجل كونه من باب التفضّل.

أو يقال : بمنع ظهور ما أشرنا إليه من الروايات في كون ذلك لأجل الوضوء بما هو وضوء ، بل ظاهر ما تقدّم في قضيّة محمّد بن الحنفيّة ـ حيث قال عليه‌السلام : « يا محمّد من توضّأ مثل وضوئي وقال مثل قولي خلق الله » ـ خلاف ذلك ، ووجه الظهور : أنّ قوله عليه‌السلام : « وقال

__________________

(١) الكهف : ١١٠.

٤٣٧

مثل قولي » إشارة إلى ما قرأه عليه‌السلام من الأدعية والأذكار عند إيجاد كلّ من جزء من أجزاء الوضوء ، وهو عطف على سابقه.

وقضيّة العطف في مثل ذلك مشاركة المعطوف والمعطوف عليه في السببيّة لترتّب الجزاء ، فإنّه المنساق عرفا فيما عطف على الشرط قبل ذكر الجزاء كما يقال : « إن دخل زيد داري وجلس فأعطه درهما ».

بل يمكن أن يقال : بكون المعطوف عين المعطوف عليه في مثل ذلك ، ويكون ذكره للتفسير كما في قوله : « من خرج عن دينه وقتل إمامه فله كذا » وقضيّة ذلك كون الثواب المذكور مترتّبا على المجموع أو على الدعاء في ضمن الوضوء ، فلم يظهر أنّ الوضوء بما هو وضوء يوجب الاستحقاق.

أو يقال : إنّ الكلام في الأمر الغيري الّذي لا يقصد منه إلاّ التوصّل ، والوضوء وغيره من الطهارات الثلاث ممّا ثبت فيها جهة تعبّديّة أيضا فلذا يتوقّف صحّتها على نيّة التقرّب ، فلم لا يجوز أن يكون الثواب المدلول عليه بالأخبار تابعا لتلك الجهة ، على أنّ قصد التقرّب في كلّ شيء يوجب استحقاق المثوبات وارتفاع الدرجات ولو كان ذلك من المباحات ـ كما يشهد به روايات اخر ـ قاضية بمطلوبيّة القصد في كلّما يفعله العبد ، فلا إشكال ولا نقض لعدم كون الطهارات باعتبار جهتها التوصّليّة من حيث إنّها توصّليّة ممّا اعتبر فيها قصد الامتثال ولا التقرّب على ما هو الأصل فيها ، بل في كلّ واجب ـ كما تقدّم تحقيقه ـ ولا ممّا يترتّب عليها ثواب ، فلا منافاة أصلا.

ودعوى : أنّ فرض الكلام فيما لو كان الأمر غيريّا لا غير ، مدفوعة : بأنّ محلّ النقض والإشكال إنّما هو الطهارات ، وهي على ما صرّحوا به فيما بين الواجبات ممّا اجتمعت فيها جهة التعبّديّة مع التوصّليّة في مقابلة التوصّليّة الصرفة والتعبّديّة الصرفة.

أو يقال : إنّ ما ذكر في الواجبات الغيريّة من عدم استلزامها الاستحقاق إنّما هو من باب القاعدة وهي قابلة للتخصيص ، وروايات الطهارات صالحة لكونها مخصّصة فيخصّص بها القاعدة ولا بأس به ، لأنّه ليس بأوّل قارورة كسرت في الإسلام ، فتأمّل.

المطلب الثالث

فيما يتعلّق بالواجب باعتبار انقسامه إلى الأصلي والتبعي

فاعلم أنّ الشيء قد يكون مستقلاّ بالخطاب ومسوقا لبيانه الكلام وقد لا يكون كذلك ،

٤٣٨

والأوّل ينقسم إلى كونه مستقلاّ من جهة الاستفادة والمستفاد معا ، أو من جهة الاستفادة فقط ، أو المستفاد فقط.

والمراد بالأوّل ما يستفاد عن الخطاب المختصّ به وهو في حدّ ذاته أصيل ، وبالثاني ما يستفاد من الخطاب المختصّ به وهو في حدّ ذاته تابع للغير ، وبالثالث ما يستفاد من الخطاب المختصّ بغيره وهو في حدّ ذاته أصيل.

وأمّا القسم الآخر المقابل لتلك الأقسام فهو الّذي لا يكون مستقلاّ من جهة الاستفادة ولا المستفاد ، والمراد به ما يستفاد من الخطاب المختصّ بغيره وهو في ذاته تابع لذلك الغير ، فهذه أقسام أربع بني عليها اصطلاحهم في الواجب الأصلي والتبعي.

فالواجب الأصلي ما يكون من أحد الثلاث الاول على طريق منع الخلوّ والتبعي لا يكون إلاّ من الرابع.

والأولى في تحديد الأصلي أن يقال : « ما تعلّق به الطلب بالأصالة » ولا يكون إلاّ إذا تصوّره الشارع بالخصوص فطلبه ، ويلزمه أن يكون مقصودا بالخطاب أصالة ، ولا يفرق حينئذ بين كونه مطلوبا لنفسه كالواجب النفسي أو لغيره كالواجب الغيري ، فهو أعمّ منهما كما أنّه لا يفرق بين كونه مستقلاّ من جهة الاستفادة والمستفاد معا كما إذا استفيد طلبه عن خطابه المختصّ به كالمنطوق في مقابلة المفهوم بكلا قسميه من المخالفة والموافقة ، ومنه حرمة التأفيف المستفاد عن قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ )(١) أو من جهة المستفاد فقط فهو من جهة الاستفادة تبعيّ ، والمراد به استفادة طلبه المقصود بالأصالة عن الخطاب المختصّ بغيره كالمفهوم بكلا قسميه ، ومنه حرمة الضرب والقتل المستفاد من خطاب حرمة التأفيف ، فإنّ المستفاد أصلي وإن كانت الاستفادة تبعيّة ، ومن هذا الباب وجوب المقدّمة ـ على القول بكونه أصليّا ـ ويقابله التبعي وهو ما لم يتعلّق به الطلب بالأصالة ، ويلزمه عدم كونه مقصودا بالخطاب من جهة الاستفادة ولا المستفاد ، ولا يكون إلاّ أن يكون طلبه لازما لطلب آخر كوجوب المقدّمة على القول بعدم كونه أصليّا.

وأمّا النسبة بينه وبين الواجب الغيري فعموم مطلق ، لأنّ كلّ واجب تبعي فهو غيريّ ، لما عرفت من عدم انفكاكه عن المقدّمة الّتي وجوبها على القول به غيريّ ولا عكس ، لجواز كون الغيري أصليّا كالوضوء مثلا أو المقدّمة على القول الآخر بوجوبها ، فما يقال

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

٤٣٩

في تحديدهما : بأنّ الأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقلّ ـ أي غير لازم لخطاب آخر وإن كان تابعا لوجوب غيره ـ والتبعي بخلافه ، وهو ما فهم وجوبه تبعا لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلاّ كما في المفاهيم ، ليس على (١) ما ينبغي إلاّ أن يكون الغرض إحداث اصطلاح جديد فلا مشاحّة.

فبما ذكر تقرّر أنّ العبرة في الأصلي بما كان مقصودا بالإفادة من الخطاب سواء كان مدلولا مطابقيّا حقيقيّا أو مجازيّا ، أو التزاميّا بيّنا بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ ، وسواء كانت الدلالة ناشئة عن اللفظ أو عن العقل بملاحظة اللفظ ، فيندرج فيه المفهوم بقسميه والمنطوق الصريح والغير الصريح إذا كان من باب دلالة الاقتضاء أو التنبيه والإيماء ، لأنّ الكلّ مقصود بالإفادة من الخطاب وإن استقلّ بإفادة بعضها الخطاب واحتاج في إفادة البعض الآخر إلى انضمام العقل إليه ، والمراد بالخطاب ما يعمّ اللفظي واللبّي ليشمل في الأقسام ما أثبته الإجماع أو أدركه العقل على نحو الاستقلال.

والعبرة في التبعي بما لم يكن مقصودا بالإفادة بل كان لازما للمقصود بتصرّف من العقل كما في دلالة الإشارة ، سواء كان في محلّ له مدخليّة في وجود محلّ ما هو المقصود كما لو كان موقوفا عليه كوجوب المقدّمات على القول بكونه غير أصلي ، أو لم يكن له مدخليّة بل كان من لوازمه بأن يكون بحيث لا ينفكّ وجود المأمور به عنه وإن لم يكن موقوفا عليه كالاستقبال إلى الامور الواقعة في جهة القبلة اللازم لاستقبال نفس القبلة حيثما وقع مأمورا به.

فالقول بأنّ الوجوب التبعي لا ينفكّ عن المقدّمة فعلى القول بعدم وجوبها مطلقا يلزم سقوط الواجب التبعي عمّا بين الواجبات ـ كما استفدنا عن الشيخ الاستاد دام ظلّه ـ ليس بسديد.

المطلب الرابع

فيما يتعلّق بالواجب باعتبار انقسامه إلى الشرطي وغيره

فاعلم أنّ هذا التقسيم تعرّض لذكره بعض الأجلّة ولكن لم نجده في سائر الكتب الاصوليّة ، وربّما يحكى توهّم أنّ هذا اصطلاح مستحدث من متأخّر المتأخّرين.

ويجاب : بأنّه ليس كذلك ، تعليلا بأنّه حكي عن الشهيد وصاحب المدارك تسمية

__________________

(١) وجهه : أنّه أدرج ما لو كان مستقلاّ من جهة المستفاد فقط في التبعي وهو خلاف ما يظهر من اصطلاحهم. ( منه عفي عنه ).

٤٤٠