تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

على القول بعدم بقاء الأكوان أو بقائها مع احتياج الباقي إلى المؤثّر على تقدير عدم اشتراك فعل أحد الضدّين وترك الضدّ الآخر في العلّة كما يلوح عن المصنّف ، أو أحيانيّا كالمثال المذكور على القول بالبقاء وعدم الاحتياج إلى المؤثّر ومثله الصلاة والغصب وغيرهما من المفهومين اللذين بينهما عموم من وجه ، فهذه أقسام أربع ينبغي النظر في حال كلّ منها بالخصوص ، فها هنا مقامات :

المقام الأوّل : فيما لو كان أحد المتلازمين علّة للآخر ، ولمّا كان البحث هنا راجعا إلى حال الحكم الشرعي وهو من عوارض فعل المكلّف فلابدّ وأن يكون مرادهم بالعلّة والمعلول هنا ما يكون من أفعال المكلّف ، فعلى هذا يلزم خروج التعرّض لحكم المسألة بالنسبة إلى هذا القسم قليل الجدوى ، إذ لا يكاد يتّفق من أفعال المكلّف ما يكون علّة تامّة لفعله الآخر الاختياري ، فكلّ فعل يفرض للمكلّف له مقدّمات من الشروط والأسباب أقلّها الإرادة والعزم ، وما خلا عنهما بالمرّة ليس بفعل اختياري له ، بل لا يكاد يعقل فعل اختياري غير مسبوق بالقصد والإرادة وإن كان من الغافل والمجنون ، لأنّ الغافل إنّما يغفل عن جهة الفعل لا عن إرادة ذاته وتصوّر إيجاده ، والمجنون بجميع أصنافه له في كلّ فعل يصدر عنه قصود وإرادات غايته عدم تعلّلها بغرض أصلا أو تعلّلها بغرض غير صحيح في نظر العقلاء خارج عن مقاصدهم.

ولو سلّم فهو خارج عن محلّ البحث إذ الكلام فيما يصلح لتعلّق التكليف به وأفعال المجنون ليست منه ، إلاّ أن يراد بالعلّة التامّة المجموع المركّب من الشرائط والأسباب وسائر المقدّمات.

وفيه : مع أنّه خلاف ما يظهر عن تتبّع كلماتهم أنّه خارج عن الفرض ، من حيث إنّ الكلام في علّة تكون بنفسها موردا لحكم أصلي تابع للصفة الكامنة فيها أو قابلة له ، وما فرض من العلّة ليس بتلك المثابة ، بل لا يكاد يوجد في الشرع ولا العرف ما يكون من المجموع المركّب من مقدّمات وجود الشيء موردا لحكم أصلي مشتملا على مصلحة واقعيّة منوطا به الثواب والعقاب أو المدح والذمّ ، بل لا يعقل له من الحكم إلاّ ما يكون تبعيّا ثابتا له من باب المقدّمة ، لكونه ممّا يتوصّل به إلى ما هو موردا لحكم الأصلي ، كيف وكثيرا مّا يكون كثير من أجزائه من المقدّمات الغير المقدورة الّتي لا يتعلّق بها حكم فضلا عن كونه أصليّا.

٧٢١

وربّما يذكر في المقام كون المراد بالعلّة هو السبب أو الجزء الأخير من العلّة التامّة كما في كلام بعض الأفاضل ، حيث قال ـ في توجيه كلام المصنّف ـ : « ثمّ إنّ المراد بالعلّة في المقام هو المقتضى لحصول الحرام إذا صادف اجتماع الشرائط ولا يريد به خصوص العلّة التامّة لخروجه عن المصطلح ، كيف ولو أراد به ذلك لزمه القول بوجوب الشرائط فإنّها من أجزاء العلّة التامّة.

ومن البيّن أنّ تحريم الكلّ يستدعي تحريم أجزائه ولا يقول المصنّف به ، ويمكن أن يريد به الجزء الأخير من العلّة التامّة فإنّه الّذي يتفرّع عليه حصول الحرام » إلى آخره.

وهو وإن كان يدفع الإشكال المذكور ويساعده بالنسبة إلى إرادة السبب ظاهر عبارة المصنّف ، حيث قاس اقتضاء تحريم اللازم لتحريم الملزوم على اقتضاء إيجاب المسبّب لإيجاب السبب ، غير أنّه مبنيّ على كون نزاعهم في الحكم التبعي المقدّمي وهو خلاف ما يظهر من الأكثر ، وينافي إنكار ثبوته مطلقا لإطلاق القول بوجوب المقدّمة كما صدر عن جماعة منهم البهائي القائل بوجوب المقدّمة ، المنكر لاقتضاء وجوب الملزوم لوجوب اللازم مطلقا.

وقضيّة ذلك كون من نفاه من وجوب اللازم هو الوجوب الأصلي لئلاّ يلزم التناقض.

وأمّا احتمال إرادة الجزء الأخير من العلّة فبعيد عن الصواب جدّا ، كيف وأنّه عبارة عن العزم المقارن للفعل ، ومن البعيد أن يحرم ذلك بحرمة الملزوم دون غيرها من المقدّمات ، مع أنّ منها ما هو أقوى منه في التأثير كالسبب ولا سيّما إذا قارن إيجاده العزم على الفعل ، ولا أظنّ من يحرم الجزء الأخير الّذي هو من مقولة الشروط دون السبب.

وأمّا ما ذكره من الوجهين في تعليل ما ذكر فغير وجيه ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

وبما قرّرناه في المقام من لزوم كون المراد بالعلّة والمعلول ما يكون من مقولة فعل المكلّف ، يتبيّن وهن ما أورده المدقّق الشيرواني على المصنّف في دعواه اقتضاء تحريم الملزوم لتحريم اللازم ، وتحريم أحد المعلولين لعلّة مشتركة بينهما لتحريم المعلول الآخر ، بقوله : « وأيضا لم يقل أحد بأنّ ما ينشأ من شرب الخمر مثلا من كثرة الأكل والمرّة والتنزّة والمشي وغير ذلك فهو حرام ، وما يترتّب على أكل الطعام المغصوب من شرب الماء وغيره حرام ، وأبعد من ذلك أن يكون رفع ظلم الغير الموجب للقتل حراما ، لكونهما معلولي علّة واحدة هي جزّ الرقبة فيكون القاتل لمثل هذا الشخص فعل أفعالا ثلاثة كلّها حرام ، ولو فرض عدم ترتّب شيء على قتله غير أنّه قتل نفسا معصومة فعل حرامين ، ولو فرض

٧٢٢

مباشرته لفعل الحرام من غير ترتّب شيء عليه فعل حراما.

وبالجملة ما ذكره المصنّف في هذا المقام بعيد عن الصواب ». انتهى.

فإنّ ما يترتّب على شرب الخمر ليس هو الأكل ولا كثرته ، بل هو قوّة نفسانيّة تقتضي كثرة الأكل ، وهي ليست من مقولة ما يتعلّق به التكليف ، وشرب الماء يترتّب على العطش لا على أكل الطعام وهو من صفات النفس ، والقتل ليس مغايرا لجزّ الرقبة إن اريد به ما يباشره المكلّف ، وإن اريد به غيره كالموت وزهوق الروح فهو ليس من فعل المكلّف حتّى يكون حراما عليه ، فلا يبقى للتحريم إن قلنا به في موضع رفع الظلم محلّ إلاّ جزّ الرقبة وهو علّة للرفع ، ولا يقول المصنّف باقتضاء تحريم العلّة لتحريم المعلول حتّى يتوجّه إليه الاستبعاد المذكور ، بل ولو قال به أيضا لم ينشأ منه محذور حتّى يكون مردودا عليه ، وكذا الكلام في باقي الأمثلة.

وعلى أيّ حال كان فلا إشكال في انتفاء العلّية فيما بين الأفعال الاختياريّة لو اريد بها كون الفعل الاختياري بانفراده علّة تامّة.

نعم ربّما يترتّب على الفعل الاختياري ما لا يفتقر إلى إرادة ولا يتوقّف على شيء سواه كضياء الوجه المترتّب على الصلاة ، والسكر المترتّب على شرب الخمر ، والقسوة والشقاوة المترتّبتين على سائر المعاصي ترتّب المعلول على علّته التامّة ، ولكنه خارج عن المبحث لعدم اندراج شيء من ذلك في جملة الأفعال حتّى يتعلّق به حكم الوجوب أو الحرمة أو غيرها ، وإن كان هو بنفسه حسنا أو قبيحا محبوبا أو مبغوضا في نظر الشارع ، وكذا الكلام في الألم الحاصل من اللطم بل وسائر التوليديّات الغير المباشريّة ، فإنّ العلّة في الكلّ إنّما هو فعل المكلّف ولكن لا يلزم من وجوبه أو حرمته وجوبها أو حرمتها ، بل ولو تعلّق الوجوب أو الحرمة في ظاهر الخطاب ببعض هذه الامور لوجب صرفه إلى ما هو علّة له حسبما قرّرناه في بحث المقدّمة ، هذا ولكن يبقى المناقشة في كون العلّة التامّة في هذه المذكورات هو الفعل بانفراده من جهة عدم انفكاكه عن المقدّمات الاخر كما لا يخفى.

وكيف كان فكلامنا في هذا المقام إنّما هو في كبرى القياس على فرض ثبوت صغراه ، سواء اريد بالعلّة ما يكون علّة تامّة أو مقتضيا وهو ممّا لا بأس به ، والنظر يقع تارة فيما لو ثبت الحكم الأصلي التابع للصفة الكامنة للمعلول دون علّته ، واخرى فيما لو ثبت الحكم الأصلي للعلّة دون المعلول ، فيبقى البحث في مرحلتين :

٧٢٣

أمّا المرحلة الاولى : ففي الملازمة من جانب المعلول ، فإذا كان المعلول بحسب أصل الشرع واجبا أو حراما أو مندوبا أو مكروها لا إشكال في أنّه يقتضي وجوب العلّة أو حرمتها أو ندبها أو كراهتها ، بل هو من أوّليات الوجدان كما تقرّر في بحث المقدّمة ، لا بمعنى أنّه يثبت له الحكم فعلا بالطلب التفصيلي ، بل بمعنى أنّ من شأنه أنّ الشارع لو أراد أن يجعل له حكما من حيث كونه مقدّمة لا يجعل له إلاّ مثل ما جعله للمعلول أصالة ، وليس له التصريح بخلافه لمنافاته المقدّمية ، من غير فرق بين كون المراد بها العلّة التامّة أو السبب.

فما في الضوابط : من جواز وجوب أحد المتلازمين مع إباحة الآخر أو ندبه أو تحريمه مع إباحة الآخر أو كراهته أو ندبه مع إباحة الآخر أو كراهته مع إباحة الآخر إن اريد بهما ما يعمّ العلّة والمعلول بإطلاقه ، ليس على ما ينبغي ، إلاّ أن يراد بإباحة العلّة أو ندبها أو كراهتها ما يكون من مقتضيات الجهة الكامنة في ذات العلّة المسويّة بين الفعل والترك ، أو المرجّحة للفعل أو الترك مع قطع النظر عن جهتها المقدّمية ، بمعنى اشتمالها في حدّ ذاتها على ما لو لا وجود المانع في جانب المعلول فعلا لاقتضى فيها الإباحة أو الندب أو الكراهة فعلا ، فهي مباحة أو مندوبة أو مكروهة بالذات وإن كانت واجبة أو محرّمة بالعرض من جهة عروض جهة التوصّل لها إلى الواجب أو المحرّم.

وإذا كان مباحا لا يستلزم إباحة العلّة لما سنقرّره.

وأمّا المرحلة الثانية : ففي الملازمة من جانب العلّة ، فإذا كانت العلّة واجبة بحسب أصل الشرع لا يلازم وجوبها وجوب المعلول ، بل يجوز كونه مباحا أو مندوبا لعدم افتقاره في الوجود الخارجي إليه وإن كان يمتنع انفكاكه عنها ، ولا يلزم به تكليف ما لا يطاق ولا محذور آخر.

نعم ينافي وجوبها حرمته أو كراهته من جهة اقتضاء الطلب كائنا ما كان الامتثال بالمطلوب ، فيؤدّي إلى تكليف ما لا يطاق لاستحالة الجمع بين فعل العلّة وترك معلولها ، فيقبح في حكمة الحكيم النهي عن المعلول ولو تنزيها مع إيجابه العلّة وإن اشتمل المعلول على قبح ذاتي.

وكذا الكلام فيما لو كانت العلّة محرّمة بحسب أصل الشرع فإنّه لا يلازم تحريم المعلول ، ولا سيّما إذا لم يكن من مقولة الأفعال بل يجوز كونه مباحا أو مكروها.

نعم ينافي تحريمها وجوبه أو ندبه لعين ما ذكر ، فلا يجوز في حكمة الحكيم أن يأمر به ـ ولو ندبا ـ مع تحريمها وإن اشتمل على حسن ذاتي ، نظرا إلى أنّ الحسن والقبح في الأشياء من قبيل المقتضيات لا العلل التامّة فيصادفهما ما يمنع عن اقتضائها فعلا.

٧٢٤

فإن قلت : كيف تنكر اقتضاء إيجاب العلّة وجوب المعلول وتحريمها حرمته ، مع أنّ ترك المعلول لا يتأتّى إلاّ بترك العلّة وفعله لا يتأتّى إلاّ بفعلها ، فتجويز تركه أو فعله في معنى تجويز ترك العلّة أو فعلها وهو ينافي إيجابها أو تحريمها.

وإن شئت فقل : إنّ فعل العلّة وتركها ملزومان لفعل المعلول وتركه ، وهما ملزومان للرضا ، ففعل العلّة وتركها ملزومان للرضا وهذا خلف.

قلت : أيّ ملازمة بين تجويز ترك المعلول وفعله وتجويز ترك العلّة وفعلها ، فإن اريد أنّ من يجوّز الأوّل لابدّ وأن يجوّز الثاني وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق أو قبح آخر.

ففيه : منع واضح لعدم توقّف العلّة على المعلول ، وامتناع الامتثال بالعلّة فعلا أو تركا يترتّب على فعل المعلول أو تركه المتضمّنين لفعل العلّة أو تركها لا على تجويزهما ، والمكلّف عاقل قادر على إيجاد العلّة ، وتجويز فعل المعلول أو تركه لا يوجب سلب قدرته عليه ، فينبغي أن لا يفعل المعلول ليتمكّن من ترك العلّة ولا أن يترك المعلول ليتمكّن من فعل العلّة ، فلو اختار فعله أو تركه المتضمّنين لفعل العلّة أو تركها لعصى بفعله المحرّم أو تركه الواجب واستحقّ العقاب لأنّه عصيان صدر عنه باختياره ، ولا يعقل في المقام محذور آخر من قبح عقلي ونحوه.

وإن اريد به أنّ الأوّل كاشف في فهم العرف أو إدراك العقل عن الثاني وهو يناقض ما فرض من منع فعلها أو تركها ، فهو أوضح منعا من الأوّل كيف وأنّ الدلالات لا يخلو عن أنواع ثلاث وليس شيء منها موجودا في المقام ، والقياس المذكور مغالطة لابتنائه على اشتباه فاحش في كبراه ، وهو أنّ ترك المعلول أو فعله ملزومان لتجويزهما والرضا بهما بالنسبة إلى المعلول لا مطلقا ، فإذا اخذ هذا المعنى محكوما به في النتيجة لم يلزم المحذور ، لكون الحاصل حينئذ : أنّ ترك العلّة وفعلها ملزومان للرضا بترك المعلول أو فعله ، وهو غير ما نجوّزه فكيف يصلح إيرادا علينا.

فإن قلت : فأيّ فائدة في جعل الإباحة للمعلول والمكلّف لا يقدر أبدا على أحد طرفيه لمكان المانع الشرعي الّذي هو بمنزلة المانع العقلي ، وهو وجوب العلّة أو تحريمها فيكون في معنى الواجب أو الحرام.

قلت : لا يقصد من جعل الإباحة إلاّ رفع الحرج والضيق المعنوي عن المكلّف في كلا طرفي الشيء ولا ريب أنّه حاصل في المقام ، وفرق واضح بين أن يكون له ضيقان أو ضيق واحد.

٧٢٥

غاية الأمر أنّه إذا كان من أهل الإطاعة يختار دائما أحد الطرفين ، وإن عصى بترك العلّة فله إثم واحد ، وإن كانت على تقدير وجوبها من العبادات ليس عليه إلاّ قصد واحد للقربة ، وقد يظهر الفائدة أيضا في العدالة والفسق على تقدير كون العلّة تركا وفعلا من المعاصي الصغيرة ، وفي جواز أخذ الاجرة على المعلول ، وفي مواضع النذر وشبهه.

والمقام الثاني : فيما لو كان المتلازمان معلولين لعلّة ثالثة ، والكلام هنا بالقياس إلى محلّ البحث كما سبق في المقام الأوّل ، فلابدّ وأن يكون كلّ من العلّة ومعلوليها من مقولة الأفعال الاختياريّة ، فلو تخلّف العلّة كان راجعا إلى المقام الآتي ، ولو تخلّف أحد المعلولين دون العلّة كان راجعا إلى المقام السابق ، ولو تخلّف كلاهما دون العلّة أو معها كان خارجا عن محلّ البحث بالمرّة ، إذ لا حكم لها حينئذ حتّى ينظر في جواز الاختلاف وعدمه ، كما أنّ الكلام بالنسبة إلى الصغرى أيضا كما تقدّم ، ضرورة أنّه كلّما يفرض من الأفعال الاختياريّة للمكلّف معلولا لفعله الاختياري من متعدّد أو متّحد فهو مسبوق على إرادته الاختياريّة وقصده ، فلا يكون ما يفرض علّة له بعلّة تامّة ، وإلاّ لخرج المعلول عن كونه فعلا اختياريّا منوطا بإرادته الاختياريّة.

ألا ترى أنّ أظهر ما يصلح أن يذكر مثالا لهذا الباب إنّما هو غسل البدن وتبليله المعلولين لصبّ الماء عليه عند وجوب الغسل للجنابة ونحوها ، فإن الجميع فعل اختياري غير أنّ مجرّد الصبّ ليس بعلّة تامّة ، وإلاّ لوجب حصولهما بمجرّد حصوله وإن لم يكن المكلّف مريدا لهما وهو ضروري البطلان ، بل العلّة التامّة في الحقيقة هو الصبّ وإرادتهما الملزمة ، والمجموع سبب شرعي للطهارة بناءا على عدم رجوع قصد القربة فيما بين الشروط وقصد الرياء فيما بين الموانع إلى ماهيّة السبب ، بدعوى ارتباطهما بالتأثير وحصول الأثر وإلاّ كان من أجزاء السبب لا نفسه.

وأمّا الكلام في كبرى القياس فيظهر بالتأمّل فيما سبق ، فإن كان أحد المعلولين واجبا أو محرّما أو مندوبا أو مكروها يقضي بوجوب العلّة وحرمتها وندبها وكراهتها من باب المقدّمة ويبقى المعلول الآخر على إباحته بالمعنى الشامل للندب والكراهة حسبما تقدّم تفصيله.

نعم لا يجوز أن يكون ذلك المعلول محرّما أو مكروها مع وجوب العلّة أو ندبها ولا واجبا أو مندوبا مع حرمة العلّة أو كراهتها لعين ما تقدّم ، فإن كانت العلّة واجبة أو محرّمة فلا قضاء له بوجوب المعلولين ولا حرمتهما ، بل يجوز كونهما مباحين على كلا التقديرين

٧٢٦

أو مندوبين على التقدير الأوّل ومكروهين على التقدير الثاني ، أو أحدهما مندوبا والآخر مباحا على أحد التقديرين ، أو أحدهما مكروها والآخر مباحا على التقدير الآخر.

نعم إباحة العلّة تلازم إباحتهما معا كما لا يخفى.

المقام الثالث : في المتلازمين لمجرّد عدم انفكاك كلّ من الآخر على جهة الدوام ، وحكمه باعتبار موضع المنافاة وموضع عدمها كما تقدّم نعلا بنعل ، فمع وجوب أحدهما لا يجوز تحريم الآخر أو كراهته ، كما أنّ مع تحريم أحدهما لا ينبغي وجوب الآخر وندبه ، وكذلك الندب مع الكراهة وهي مع الندب والإباحة ، والكراهة يجتمعان مع الحرمة ، والإباحة والندب يجتمعان مع الوجوب ، والإباحة تجتمع مع الندب والكراهة.

وأمّا صغرى هذا القياس فلا نجد له في أفعال المكلّفين مثالا سوى فعل ضدّ وترك ضدّ آخر في ضدّين لا ثالث لهما كاليقظة والنوم والحركة والسكون ، ولكنّه مبنيّ على عدم كونهما من باب معلولي علّة واحدة كما رجّحناه في ذيل بحث التمانع.

وبيان ذلك هنا إجمالا : أنّ كلّ فاعل مختار إذا عزم إيجاد فعل اختياري يختار من الأفعال ما يوافق غرضه ، فإذا كان له غرض يوافقه أحد الضدّين ويخالفه الآخر أو لا يوافقه فينشأ من موافقة الأوّل ومخالفة الثاني رجحان الأوّل ومرجوحيّة الثاني أو عدم رجحانه ، فينشأ منهما الاعتقاد برجحان الأوّل ومرجوحيّة الثاني أو الاعتقاد بعدم رجحانه أو عدم الاعتقاد برجحانه ، فينشأ منهما إرادة الأوّل بمعنى الميل النفساني إليه مع قطع النظر عن إيجاده في الخارج وعدم إرادة الثاني بهذا المعنى.

ثمّ إن كان الأوّل مقدورا له تحقّق تمام مقتضيه ، وهو المجموع المركّب من الامور المذكورة مع القدرة ، وهو مقارن لانتفاء المقتضي لوجود الثاني ، وكلاهما مستندان إلى ما فرض من الغرض الّذي هو أمر وجودي ، بمعنى أنّه علّة لوجود مقتضي وجود الأوّل وفقد مقتضي وجود الثاني ، ولمّا كان كلّ من العلّة والمعلول ليس من مقولة الأفعال ولا هو مقدور للمكلّف لتركّب المعلول عن أجزاء غير مقدورة كما عرفت ، فلا يتعلّق بهما حكم تكليفي بل التكليف يتعلّق بالضدّ الموجود الّذي هو المقتضى ، ولما كان المقتضي قد يصادف عدم شرط من شروط الاقتضاء وقد يصادف وجود مانع عن الاقتضاء فما ذكر من المقتضي بمجرّده لا يكفي في حصول المقتضى ، بل لابدّ معه من تحقّق شرط الاقتضاء وفقد مانعه ، وشرطه هنا إنّما هو إرادة اخرى غير ما ذكر وهي العزم الجازم المقارن للفعل

٧٢٧

والتوجّه النفساني المتّصل بالإيجاد.

والفرق بينها وبين الاولى أنّها تتعلّق بالإيجاد الّذي هو مبدأ للوجود والاولى ميل نفساني متعلّق بذات الفعل لرجحانه من دون ملاحظة إيجاده وهي خارجة عن اختيار المكلّف مترتّبة على ما سبق من الامور الغير الاختياريّة ، بخلاف الثانية فإنّها اختياريّة كما يشهد به ضرورة الوجدان غير مرتّبة على شيء من الامور المذكورة الغير الاختياريّة السابقة عليها بدليل مفارقتها عنها جميعا كما في صورة تقديم المرجوح على الراجح ، فإنّه ممكن عقلا بل واقع حسّا وهذه الإرادة هي الّتي تبطل الجبر ، كما أنّ ما سبق عليها من الامور الغير الاختياريّة الّتي منها القدرة تبطل التفويض ، وملاحظة المجموع بعين الإنصاف شاهد عدل بحقيقة ما ذهب إليه العدليّة ، ومحقّق لمصداق الحديث المعروف في نفي الجبر والتفويض.

فالفعل ليس بحيث يكون بجميع مقدّماته راجعا إلى الله سبحانه ولا هو بحيث يكون بجميع مقدّماته موكولا إلى المكلّف ، بل هو في بعض مقدّماته راجع إلى الله سبحانه وهو القدرة ونحوها بلا تفويض ، وفي بعضها الآخر راجع إلى المكلّف وهو الإرادة المتعلّقة بالإيجاد لكونها إنّما تحدث باختياره ، لقضاء الوجدان بأنّ له أن يعزم الإيجاد ولو مع عدم الرجحان ولا موافقة الغرض وله أن لا يعزمه أو يعزم عدمه ولو مع تحقّق سائر المقدّمات الراجعة إلى تحقّق المقتضي فلا جبر ، ولمّا كانت هذه الإرادة هي الجزء الأخير من العلّة التامّة وهي اختياريّة فاتّصف الفعل بواسطتها بكونه اختياريّا ، لأنّ المعلول إنّما يستند في حصوله الفعلي إلى الجزء الأخير من العلّة وهو ناش عن الاختيار ، فكان حصول الفعل ناشئا عن الاختيار.

وأمّا المانع عن الاقتضاء فالمراد به ما يوجب تقاعد المكلّف عن الإيجاد من إكراه وخوف ونحوه لا ما قد يتوهّم من إرادة الضدّ ، لأنّ المانع ما ينشأ منه العدم بعد إحراز المقتضي للوجود ، فإرادة الضدّ إن كان المراد بها ما يتبع الرجحان وغيره من الامور الخارجة عن الاختيار فعدم الضدّ الأوّل مستند إلى فقد مقتضيه لا إلى وجود المانع ، إذ لا يعقل وجود المقتضي في كلّ من الضدّين كما عرفت.

وإن كان المراد بها ما يحدث باختيار المكلّف المقارن للوجود فهي وإن كانت لا تنوط بوجود المقتضي ولكن انتفاء الضدّ الآخر حينئذ المشتمل على وجود المقتضي ليس من جهته بل من جهة انتفاء الجزء الأخير من علّة وجوده كما هو قضيّة جواز مصادفة

٧٢٨

إيجاب السبب ، فإنّ العقل يستبعد تحريم المعلول من دون تحريم العلّة. وكذا إذا كانا معلولين لعلّة واحدة ؛ فإنّ انتفاء التحريم في أحد المعلولين يستدعي انتفاءه في العلّة * ، فيختصّ المعلول الآخر الّذي هو المحرّم بالتحريم من دون علّته. وأمّا إذا انتفت العلّيّة بينهما والاشتراك في العلّة ، فلا وجه حينئذ لاقتضاء تحريم اللازم تحريم الملزوم ؛ إذ لا ينكر العقل تحريم أحد أمرين متلازمين اتّفاقا ، مع عدم تحريم الآخر.

وقصارى ما يتخيّل : أنّ تضادّ الأحكام بأسرها يمنع من إجتماع حكمين منها في أمرين متلازمين.

__________________

المقتضي لانتفاء بعض شروط الاقتضاء ، نظرا إلى أنّ الإرادة المنوطة بالاختيار لا تحدث بالنسبة إلى الضدّين ، لا بمعنى أنّ كلاّ مانع عن الاخرى حتّى يتفرّع عليه تمانع الأضداد الوجوديّة الّتي أبطلناه ، بل بمعنى كون انتفاء إحدى الإرادتين مع وجود الاخرى معلولين لعلّة مشتركة بينهما ، فإن كان الداعي إلى انتفاء إرادة ذي المقتضي هو الإكراه الّذي هو المانع عن الاقتضاء فهو الداعي إلى وجود الإرادة الاخرى ، وإن كان الداعي إلى الأوّل هو الخوف فهو الداعي إلى الثاني ، وإن كان الداعي إلى الأوّل التماس الغير فهو الداعي إلى الثاني.

وبالجملة لا تمانع بين الأضداد الوجوديّة ولا مقدّماتها الاختياريّة ولا الغير الاختياريّة ، فكلّ متقابلين من الوجود والعدم في تلك السلسلة من أوّل المقدّمات إلى آخرها متى يتحقّق ذي المقدّمة معلولان لعلّة واحدة ، ولأجل ذلك صار الضدّين ممتنعي الاجتماع.

والمقام الرابع : في المتلازمين لمجرّد عدم الانفكاك أحيانا ، فالكلام فيه بالنسبة إلى جواز اجتماع الوجوب مع غير الحرمة والكراهة واجتماع الحرمة مع غير الوجوب والندب كما تقدّم ، وبالنسبة إلى غيره يأتي تحقيقه في بحث اجتماع الأمر والنهي ، ولعلّنا نكتفي في محلّ البحث بهذا المجمل تحرّزا عن الإطناب.

* وكأنّ وجهه ما أشرنا إليه في تقرير الاعتراض عند ما قرّرناه من جواز تحريم العلّة وإيجابها دون المعلول : من أنّ ترك المعلول وفعله لا يتأتّيان إلاّ بترك العلّة وفعلها ، فتجويز تركه أو فعله تجويز لتركها أو فعلها وهو لا يجامع الإيجاب والتحريم ، وبذلك يندفع

٧٢٩

ويدفعه : أنّ المستحيل إنّما هو اجتماع الضدّين في موضوع واحد *. على أنّ ذلك لو أثّر ** ،

__________________

ما أورده عليه بعض الأفاضل من أنّ انتفاء التحريم من العلّة لأجل انتفاء سبب خاصّ لا يقضي بانتفائه لأجل سائر الأسباب ، فإنّ انتفاء السبب لا يقضي بانتفاء المسبّب العامّ ، وغاية ما هنا لك أنّ العلّة لا حرمة فيها من جهة انتفاء الحرمة عن أحد معلولها وهو لا ينافي حرمتها من جهة حرمة المعلول الآخر ، كيف ومن البيّن أنّ شيئا من المحرّمات لا تحريم فيها من جميع الجهات وإنّما يحرم من الجهة المقبّحة وكذا الكلام في المقام ، إلى آخره.

فإنّ الجهة ما لم تكن مقيّدة لا تجدي والقياس على المحرّمات الّتي لا تحريم فيها من جميع الجهات مع الفارق ، إن اريد بها الأعيان الّتي اضيف إليها التحريم في خطاب الشارع كالخمر والميتة والدم والامّهات ونحوها والوجه واضح.

* وفيه : كما أنّ استحالة اجتماع حكمين في موضع واحد تنشأ عن امتناع اجتماع الضدّين فكذلك قد ينشأ عن لزوم تكليف ما لا يطاق لعدم تمكّن الامتثال.

وهذا الوجه كما يجري في موضع واحد إذا اجتمع فيه تحريم وإيجاب ، فكذلك يجري في موضعين متلازمين إذا تعلّق بأحدهما التحريم وبالآخر الإيجاب كما عرفت ، فلا وجه لإطلاق كلام المصنّف في منع الاستحالة بالنسبة إلى الموضعين ولقد تنبّه بعض الأفاضل على ذلك أيضا.

** جواب آخر عن الاحتجاج بما تقدّم ، وكأنّه نقض إجمالي على إحدى مقدّمتيه المتضمّنة لدعوى كون مستلزم المحرّم محرّما.

ومحصّله ـ كما قيل (١) وهو ظاهر العبارة ـ : أنّ التلازم لو أثّر في امتناع اجتماع حكمين متضادّين في أمرين متلازمين لثبت قول الكعبي وهو الّذي فهمه أيضا بعض الأفاضل ، ويحتمل كون الضمير عائدا إلى تضادّ الأحكام فيكون المعنى : أنّ تضادّ الأحكام لو أثّر في تلازم الأمرين المتلازمين في الحكم وامتناع اختلافهما فيه لاتّجه قول الكعبي ، واستقامت شبهته المعروفة في نفي المباح.

وها هنا احتمال ثالث بعيد ذكره بعض المحقّقين وهو : أنّ كون مطلق التلازم مانعا من

__________________

(١) القائل هو المدقّق الشيرواني رحمه‌الله. ( منه ).

٧٣٠

لثبت قول الكعبيّ بانتفاء المباح * ،

__________________

اتّصاف كلّ من المتلازمين بحكم من الأحكام الخمسة المعروفة مضادّ لما اتّصف به الآخر لو صحّ وأثّر لثبت قول الكعبي.

* وهذه شبهة معروفة عن أبي القاسم الكعبي وقد تقدّم منّا في بحث المقدّمة ما يدفعها ، واتّفق الجمهور على بطلانها ، وقد يعبّر عنه بعكس عنوان المسألة وهو : أنّ النهي عن الشيء لا يستلزم الأمر بضدّه ، ولازم مذهب الكعبي أنّه قائل بالاستلزام.

واختلفت كلمتهم في تقريره وبيان مراده ، فمنهم من يستفاد منه أنّه قائل بوجوب المباح لذاته لكونه عين ترك الحرام وهو واجب لذاته ، كما في المنية عند نقله احتجاج هذا القول بأنّ المباح ترك الحرام وترك الحرام واجب فالمباح واجب.

ويستفاد ذلك عن المدقّق المحشّي أيضا في قوله : وذكروا في تقرير شبهة الكعبي أنّه ما من مباح إلاّ وهو ترك حرام ، فإنّ السكوت ترك للقذف والسكون ترك للقتل ، وترك الحرام واجب.

ومنهم من يستفاد منه ـ كما في مختصر الحاجبي وبعض شروحه ـ كونه قولا بوجوب المباح بالعرض الغير المنافي لإباحته بالذات ، حتّى أنّ العضدي جعله وجه جمع بين هذا القول وإجماعهم على وجود المباح ، حيث قال ـ في عبارته المحكيّة ـ : و « نؤوّل الإجماع على ذات الفعل لا بالنظر إلى ما يستلزمه جمعا بين الأدلّة ».

وذكر في شرح هذا الكلام : « أنّه إشارة إلى جواب سؤال وارد على الكعبي ، وتوجيه السؤال : أنّ الدليل الّذي ذكره الكعبي على أنّ كلّ مباح واجب يقتضي كون أفعال المكلّفين الّتي تعلّق بها الأحكام أربعة ، ضرورة كون المباح حينئذ واجبا وهو خلاف الإجماع ، لأنّ الجمهور أجمعوا على أنّ الأفعال تنقسم إلى خمسة واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرّم ، فيكون الدليل المذكور باطلا.

وتقرير الجواب : أنّ الإجماع يحمل على أنّ الأفعال نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عمّا يستلزمها من كونها تحصل بها ترك الحرام تنقسم إلى الخمسة ، فيكون الفعل المباح نظرا إلى ذاته لم يخرج عن كونه مباحا ، وبالنظر إلى ما يستلزمه من كونه تحصل به ترك الحرام يكون واجبا ، وإنّما أوّل الإجماع على هذا ليكون جمعا بين الدليلين » انتهى.

٧٣١

لما هو مقرّر من أنّ ترك الحرام لابدّ وأن يتحقّق في ضمن فعل من الأفعال * ،

__________________

وهذا المعنى ممّا يقتضيه احتجاجهم عن الكعبي بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به ، إلاّ أنّ المستفاد من شرح الشرح كون ذلك توجيها في احتجاجه المتقدّم الّذي نقله السيّد في المنية القاضي بكون فعل المباح عين ترك الحرام ، وإنّما وجّهوه بذلك لوضوح بطلانه في الأنظار المستقيمة.

فلأجل تلك الاختلافات في تقرير هذه الشبهة قال بعض الأعلام : « والمنقول عنه مشتبه المقصود ، فقد يقال : إنّ مراده أنّ كلّ ما هو مباح عند الجمهور فهو واجب عنده ، وقد يقال : إنّ مراده أنّ كلّ ما كان مباحا بالذات فهو واجب بالعرض ».

وأشار إلى التقريرين أيضا في الزبدة بقوله : « المباح موجود إجماعا واستدلال الكعبي على وجوبه بأنّ ترك الحرام لا يتمّ إلاّ به أو هو هو مع مصادمته للإجماع مدخول » مفسّرا لقوله : « هو هو » في الحاشية : بأنّ فعل المباح بعينه ترك الحرام ، كإطباق الفم فإنّه ترك للقذف.

وظنّي أنّ الصحيح من مذهبه على ما يشهد به التتبّع هو دعوى العينيّة القاضية بالوجوب الذاتي ، والصحيح من مستنده ما تقدّم عن المنية وذكره المدقّق أيضا ، وما ذكر من الدليل الآخر فهو توجيه لهذا المستند تصحيحا له على حسب الظاهر ، كما أنّ ما ذكر من إرادة الوجوب بالعرض تأويل في مذهبه جمعا بين دليله والإجماع على وجود المباح كما عرفت.

* وهذا وجه أخذه بعض الأعلام دليلا مستقلاّ على مذهب الكعبي ، ولم نجد من يذكره في جملة احتجاجه أو كلامه المنقول عنه بل المنقول عنه ، صريحا وتأويلا الوجهان المتقدّمان ، ولعلّه وهم أوقعه فيه كلام المصنّف غفلة عن أنّه ليس بصدد نقل الاحتجاج عن الكعبي ، بل غرضه من هذا الكلام إيراد نقض على من جعل الأمر بالشيء نهيا عن الضدّ الخاصّ من جهة قاعدة الاستلزام ، وقضيّة عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

ومحصّل مراده : أنّ المتشبّثين بذلك الوجه هنا يلزمهم الالتزام بشبهة الكعبي لجريان دليلهم المذكور في عكس القضيّة أيضا ، بتقرير أنّ فعل المباح مستلزم لترك الحرام وهو واجب ففعل المباح واجب ، لأنّ مستلزم الواجب واجب.

٧٣٢

ولا ريب في وجوب ذلك الترك ، فلا يجوز أن يكون الفعل المتحقّق في ضمنه مباحا ؛ لأنّه لازم للترك ويمتنع اختلاف المتلازمين في الحكم.

وبشاعة هذا القول غير خفيّة *. ولهم في ردّه وجوه **

__________________

* عن الصحاح « البشاعة » بالفتح الكراهة والمرارة وهو مصدر « بشع » بالكسر ، فحاصل المعنى : أنّ كون هذا القول من جهة كونه دفعا للضرورة والإجماع ممّا يكرهه الطباع والأنظار غير خفيّ على أحد من اولي الأفهام والأبصار.

** وقد تقرّر بما تقدّم أنّ الّذي يمكن أن يستند إليه لهذا القول لا يخلو عن وجوه ثلاث ، وإن كان الدليل التحقيقي الصادر عن الكعبي واحدا منها :

أحدها : أنّ فعل المباح بعينه ترك للحرام فيكون واجبا بعينه.

وثانيها : أنّ ترك الحرام واجب ، ولا يتمّ إلاّ بفعل المباح لكونه مانعا عنه ، والمانع من الأسباب المقتضية للعدم ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به واجب.

وثالثها : ما أشار إليه المصنّف من أنّ فعل المباح مستلزم لترك الحرام وهو واجب ، ومستلزم الواجب واجب لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم.

أمّا الوجه الأوّل : فلم نجد في ردّه من كلام القوم ما يدفعه ويسلم عن المناقشة إلاّ ما في كلام بعض الأفاضل ، حيث قال : « إنّ الإتيان بالضدّ ليس عين رفع الفعل وإنّما يلابسه ويقارنه ، وإنّما الواجب هو الترك المقارن له ، فلا قاضي بوجوب الضدّ المقارن لذلك الواجب » إلى آخره ، وهو في كمال المتانة.

ولكن الأولى في تقرير الدفع أن يقال : إنّ العينيّة إن اريد بها اتّحادهما مفهوما ومصداقا.

ففيه : أنّه دفع للضرورة وإنكار لمقتضى الحسّ والوجدان ، كيف وأنّ الفعل والترك متقابلان تقابل الإيجاب والسلب ، مضافان إلى متقابلين تقابل التضادّ فكيف يعقل اتّحادهما بحسب المفهوم.

وإن اريد بها اتّحادهما مصداقا وإن تغايرا مفهوما كما في الاثنين ونصف الأربعة ، حيث يتّحدان في الخارج وإن تعدّدا في الذهن.

ففيه : أنّ هذا الاتّحاد ينشأ عن كون أحد المفهومين لازما للمفهوم الآخر ، ولا يلزم من

٧٣٣

وجوب اللازم وجوب الملزوم ، ولا من وجوب الملزوم وجوب اللازم ، كما في وجوب إكرام زيد إذا استلزم إهانة عمرو وبالعكس إلاّ إذا كان أحدهما علّة للآخر وثبت الوجوب للمعلول ، وكون محلّ البحث من هذا الباب ممنوع وسنده ما تقدّم من نفي التمانع وإثبات كون وجود أحد الضدّين مع عدم الضدّ الآخر متلازمين في الوجود.

وبما ذكر يتبيّن الجواب عن الوجهين الآخرين ، ولقد تقدّم تفصيله بما لا مزيد عليه.

وأمّا الوجوه الّتي أشار إليها المصنّف ذكروها في دفع الوجه الثاني ، فمنها : ما تقدّم من منع وجوب المقدّمة مطلقا ، أو إذا كانت غير سببيّة أو إذا كانت غير شرط شرعي.

ومنها : منع مقدّميّة فعل الضدّ لترك الضدّ الآخر ، وإنّما يحصل معه في الوجود من باب المقارنة الاتّفاقيّة وعليه بعض المحقّقين.

ومنها : أنّ ترك الحرام قد يحصل بفعل الواجب فلا حاجة له حينئذ إلى فعل المباح ليكون واجبا.

وأورد عليه : بأنّه لا يرفع الإشكال بحذافيره ، لكون المباح حينئذ أحد فردي الواجب المخيّر ، فلم يلزم نفي الوجوب التخييري وهو كاف في ثبوت الشبهة.

وردّ : بأنّ القاعدة في الواجب المخيّر سقوط الوجوب بحصول بعض الأفراد عن البعض الباقي كما في خصال الكفّارة ، فعلى هذا لو حصل ترك الحرام بفعل الواجب يبقى المباح الّذي هو أحد فردي الواجب المخيّر على إباحته ، ولقد أشرنا في بحث المقدّمة إلى ما يدفع ذلك ولا نطيل الكلام بذكره هنا.

ومنها : أنّه لو صحّ ذلك لقضى بوجوب المحرّم فيما لو توقّف ترك حرام على فعل حرام آخر ، كالقذف إذا توقّف على الزنا.

وفيه : أنّ المقدّمة الغير المقدورة لا تجب على القول بوجوب المقدّمة ، والمقدّمة المحرّمة غير مقدورة بالمنع الشرعي فيكون المباح هو الواجب على التعيين.

وأورد عليه : أيضا باعتبار تعدّد الجهة حينئذ ، فلا مانع عن كون شيء حراما من جهة وواجبا من جهة اخرى.

ويدفعه : أنّ الجهتين إذا كانتا تعليليّتين استحال اجتماع الوجوب والحرمة معهما كما اعترف به المورد وهو بعض الأعلام.

ولعلّ ما ذكره مبنيّ على توهّم جواز اجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام كما صرّح به

٧٣٤

في بعضها تكلّف * ، حيث ضايقهم القول بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به مطلقا ** ؛ لظنّهم أنّ الترك الواجب لا يتمّ إلاّ في ضمن فعل من الأفعال ؛ فيكون واجبا تخييريّا.

__________________

في غير المقام ، وقد ذكرنا وهنه في بحث المقدّمة ويأتي تحقيقه مفصّلا في بحث اجتماع الأمر والنهي.

وأورد عليه أيضا بعض الأفاضل : « بأنّ ذلك مسقطا للواجب وليس الإتيان بالحرام من أفراد الواجب وإن حصل به الأداء إلى ترك حرام آخر ، إذ ليس كلّ موصل إلى الواجب مندرجا في المقدّمة الواجبة » بعد ما دفع الإيراد المذكور : « بأنّ ذلك مبنيّ على جواز اجتماع الأمر والنهي من جهتين ، فلا يتمّ على المشهور المنصور من المنع منه ، وعليه مبنى الجواب » وهذا الإيراد متين وقد أشرنا إلى ما يقضي به في بحث المقدّمة عند الكلام في المقدّمة المحرّمة.

* أشار بذلك إلى ضعف بعض الوجوه المذكورة كالوجهين الأخيرين ، فإنّ فيهما من التكلّف ما لا يخفى على أحد ، بل لا يكاد شيء منهما ينطبق على القواعد المقرّرة ، ولا أنّه يجدي في دفع الشبهة كما عرفت.

** تعليل لقوله : « في بعضها تكلّف » ومفاده : أنّ قولهم بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به على الإطلاق حتّى ما لو لم يكن سببا أدخلهم في الضيق ، فاضطرّوا إلى التشبّث بتلك التكلّفات ، بضابطة قولهم : الغريق يتشبّث بكلّ حشيش.

قال بعض المحقّقين في شرح العبارة : وأشار بذلك إلى اختصاص الضيق بمن قال بهذا الإطلاق ، إذ المصنّف في سعة من ذلك إذ لا يقول بوجوب المقدّمة في غير السبب ، فلا يلزم عليه نفي المباح كما ذكره الكعبي.

واعترض عليه المدقّق : بأنّ جميع ما نقل في المقام يدلّ على أنّ مراد الكعبي أنّ كلّ مباح ضدّ الحرام والضدّ لو كان مقدّما على ترك الضدّ الآخر بالتقدّم الذاتي لكان سببا مستلزما لا شرطا غير مستلزم ، فشبهة الكعبي كما ترد على القائل بوجوب المقدّمة مطلقا ترد على القائل بوجوب السبب فقط أيضا ، إلى آخره.

وردّه بعض الأفاضل : بأنّ ترك الحرام لا يتسبّب عن فعل الضدّ ، وإنّما السبب المؤدّي

٧٣٥

والتحقيق في ردّه : أنّه مع وجود الصارف عن الحرام ، لا يحتاج الترك إلى شيء من الأفعال * (١) ،

__________________

إليه هو الصارف عن فعل الحرام ـ أعني عدم إرادته من أصله ، أو لإرادة ضدّه المفروض المتقدّمة على فعله ـ ولو سلّم كون فعل الضدّ سببا فهو من أحد الأسباب ، إذ كما يستند عدم الشيء إلى وجود المانع فقد يستند إلى عدم المقتضي أو انتفاء الشرط فلا يتوقّف ترك الحرام على خصوص الإتيان بفعل الضدّ ، ولا يقضي ذلك بوجوب كلّ من تلك الأسباب على وجه التخيير ليعود المحذور ، إلى آخره.

ولا يخفى ما فيه من خروجه عن السداد ، والأولى في دفع الاعتراض أن يقال : إنّ من يقول باختصاص وجوب المقدّمة بالسبب ليس مراده بالسبب ما يطلق عليه اسم السبب بل ما اعتبر فيه الاستلزام من

الطرفين ، وفعل المباح الّذي هو مانع عن ارتكاب الحرام ليس بهذه المثابة ، كما يرشد إليه تعريف المانع بأنّه ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه الوجود.

غاية الأمر أنّه يرد عليه : أنّ الحجّة المقامة على وجوب السبب بهذا المعنى تقضي بوجوب غيره من المقدّمات أيضا ، إذ كما أنّ القدرة لا تتعلّق على المسبّبات بدون الأسباب فكذلك لا يتعلّق بالمشروط مع عدم الشروط ومنها عدم المانع ، وهذا كلام آخر لا مدخل للاعتراض المذكور فيه وقد نبّهنا عليه في بحث المقدّمة.

ثمّ إنّ من جملة من ضاق عليه الأمر في هذا المقام لإطلاق قوله بوجوب المقدّمة الآمدي على ما حكاه بعض الأفاضل ، حيث قال : « وقد استصعب ذلك على الآمدي فعجز عن حلّ الإشكال لاختياره وجوب المقدّمة ، قائلا : بأنّه لا مناص عنه إلاّ بمنع وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به وفيه خرق للقاعدة الممهّدة على اصول الأصحاب.

ثمّ ذكر أنّ ما ذكره الكعبي في غاية الغموض والإشكال ، وعسى أن يكون عند غيري حلّه » انتهى.

وفي ظنّي أنّ هذا إشكال تولّد عن توهّم المقدّمية المبنيّة على تمانع الأضداد الوجوديّة ، فيكون من أقوى الشواهد على بطلان التوهّم وفساد مبناه.

* وتوضيح مقصوده : أنّ ترك الحرام وإن كان واجبا ولكنّه يتوقّف على وجود الصارف ، فيكون الواجب على المكلّف على القول بوجوب المقدّمة مطلقا حتّى في غير

٧٣٦

السبب هو الصارف ، والمراد به عندهم ـ على ما يظهر بالتتبّع ـ عدم الإرادة ، ولكن لا بالمعنى الّذي ينشأ عن الرجحان والاعتقاد به ، لأنّه كنفس الاعتقاد من الأمور الخارجة عن اختيار المكلّف كالقدرة ونحوها فلا يصلح موردا للتكليف حتّى يكون واجبا ، بل بمعنى العزم على إيجاد الفعل الّذي كان منوطا باختيار المكلّف ومشيّته ، فيجب على المكلّف مقدّمة أن لا يعزم على إيجاد المحرّم ومعه يحصل الترك بلا افتقار له إلى فعل آخر من مباح أو غيره ، بحيث لو حصل في ضمنه فعل آخر لكان من باب المقارنة بلا تأثير له في حصوله ، فكان وجوده وعدمه بالقياس إليه على حدّ سواء ، فلا يكون فعل المباح مقدّمة حتّى يجب ، لا أنّه مقدّمة وليس بواجب لينافي إطلاق القول بوجوب المقدّمة ، وقد تقدّم في ذيل بحث المقدّمة عند البحث عن مقدّمة الحرام ما يوضح ذلك.

وبيانه الإجمالي هنا : أنّ مقدّمة الشيء عبارة عمّا يتوقّف عليه ذلك الشيء ، ومعنى توقّفه عليه كونه مؤثّرا في وجوده وأنّه لا يتّفق له الوجود على تقدير عدمه ، بل ولا يعقل ولو في نظر العرف والعادة ، ولا يصحّ فرض الوجود لذلك الشيء على كلا تقديري وجوده وعدمه كما هو لازم انتفاء المقدّميّة ، كقطع المسافة للحجّ حيث لا يعقل للحجّ وجود على تقدير عدمه ، ولا يصحّ فرض الوجود له على كلا تقديري القطع وعدمه ، بل هو ممكن الوجود على تقدير حصول القطع ويمتنع وجوده على تقدير عدم حصول القطع ، وليس الحال في فعل المباح مع وجود الصارف بالنظر إلى ترك الحرام كذلك ، إذ بمجرّد وجود الصارف يحصل الترك جزما سواء حصل معه مباح أو لم يحصل ، كيف ولو كان مقدّمة لزم أن لا يحصل الترك لو فرض مصادفة عدمه لوجود الصارف ، كما أنّه لا يحصل على تقدير مصادفة عدمه لانتفاء الصارف وهو بديهي البطلان.

وقضيّة ذلك عدم وجوب المباح عند ترك الحرام عينا ولا تخييرا.

أمّا الأوّل : فلأنّ وجود الصارف من المقدّمات جزما.

وأمّا الثاني : فلأنّ وجوبه التخييري فرع كونه من أفراد المقدّمة وقد فرضنا خلافه.

وبذلك يندفع الاعتراض الّذي حكاه بعض الأفاضل على العبارة ، بأنّ الصارف عن الحرام إن كان خارجا عن قدرة المكلّف واختياره كان الإتيان بالمحرّم ممتنعا بالنسبة إليه ، ومعه يرتفع التكليف فلا تحريم وهو خروج عن الفرض ، وإن كان تحت قدرته فقضيّة التقرير المذكور كون كلّ من الصارف وفعل الضدّ كافيا في أداء الواجب أعني ترك الحرام ،

٧٣٧

واللازم من ذلك تخيير المكلّف بين الأمرين فيكون الإتيان بالضدّ المباح أحد قسمي الواجب التخييري بل هو عين مقصود المستدلّ.

ومراده بالتقرير المذكور ما ذكره في شرح العبارة من أنّه إن تحقّق الصارف عن الحرام تفرّع عليه الترك ولم يتوقّف على أمر آخر من الإتيان بالضدّ أو غيره ، وإن لم يتحقّق الصارف عنه وتوقّف الترك على فعل ضدّ من أضداده لزم القول بوجوبه بناءا على القول بوجوب المقدّمة ولا يلزم منه نفي المباح رأسا.

فإنّ الاعتراض إنّما يتوجّه إلى هذا التقرير لو كان مفاده كون القضيّة فيما بين فعل الضدّ وحصول الصارف على حدّ الانفصال الحقيقي ، أو منع الجمع كما هو الشأن في كلّ واجب مخيّر بالقياس إلى فرديه أو أفراده ، ونظيره في مقدّمات الواجب قطع مسافة الحجّ إذا كان له طريقان أو أكثر ، ونصب السلّم للكون على السطح إذا كان هناك سلّمان أو أكثر ، فلابدّ في وجوده من أحد الأمرين إمّا هذا أو ذاك على نحو لو تحقّق كلّ منهما كان الآخر لازم المفارقة عنه ولا يجتمع معه في ظرف الوجود أو حال التأثير ، وليس كذلك الحال في المقام إذ الصارف بمعنى عدم الإرادة لا يفارق الترك أبدا ، ومعنى كون المباح أحد الفردين من الواجب المخيّر إمكان استناد الترك إليه مفارقا عن الصارف وهو في غير صورة الاكراه غير معقول (١) ومعه يستند الترك إلى الإكراه لا فعل الضدّ الحاصل في ضمنه.

ومعنى قولهم : « مع انتفاء الصارف يتوقّف الترك على فعل المباح فيجب ولا يلزم منه محذور » ليس أنّ فعل المباح قد يتوقّف عليه ترك الحرام بلا توسّط شيء ، بل معناه : أنّه قد يتوقّف عليه من جهة توقّف حصول الصارف الّذي هو من اللوازم المساوية للترك عليه في بعض الصور ، كما لو علم المكلّف أنّه لو لم يفعل المباح لانتفى عنه الصارف فوقع في المحرّم فيكون فعل المباح مقدّمة للمقدّمة في تلك الصورة ، لتوقّف حصول الصارف فيما بعد ذلك على حصوله في ذلك الآن ، فلا يلزم من ذلك كونه ممّا يتوقّف عليه الترك في

__________________

(١) لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته أبدا وهى مضادّة لإرادة الحرام فيكون وجود الصارف من لوازم إرادة الفعل على مذهبنا ، ومن مقدّمات الفعل على مذهب المصنّف وغيره ، ففعل الضدّ أبدا مسبوق بوجود الصارف الّذي فرض كونه سببا لترك الحرام ، فالترك دائما مستند الى وجود الصارف فيبقى فعل المباح على إباحته.

نعم قد يستند وجود الصارف إلى فعل المباح ويتوقّف عليه في بعض الأحيان فيجب هذا الفعل حينئذ من هذه الجهة ولا يلزم منه وجوبه فيما لو لم يتوقّف عليه ترك الحرام ولا سببه الّذي هو الصارف فليتأمّل. ( منه عفي عنه ).

٧٣٨

جميع الصور حتّى يتفرّع عليه وجوبه مطلقا حسبما ادّعاه الكعبي.

ونظير ذلك تسخين الماء لاستعماله في الطهارة إذا توقّف حصوله على الماء الحارّ من جهة جراحة في العضو أو برودة أو نحوها ، فيجب حينئذ لكونه مقدّمة المقدّمة ولا يلزم منه وجوبه في غير موضع الحاجة وعدم توقّف الاستعمال عليه.

ومثله قطع مسافة الحجّ إذا افتقر لمرض أو كبر إلى الركوب على السرير فيجب تحصيل السرير حينئذ لمقدّمة المقدّمة ، ولا يلزم ذلك وجوبه في غير هذا الموضع لعدم توقّف للمقدّمة عليه حينئذ.

وأمّا ما يجاب أيضا عن الاعتراض : بأنّه إذا حصل الصارف الّذي هو أحد الأمرين انتفى وجوب الآخر فيبقى سائر الأضداد الخاصّة على إباحتها.

ففيه : ما أشرنا إليه سابقا وذكرناه في بحث المقدّمة.

وأجاب الفاضل المذكور عن الاعتراض بما يقضي بكون المراد بالصارف عدم الإرادة بالمعنى الأوّل الخارجة عن اختيار المكلّف مع اعترافه بذلك ، مفسّرا لها بميل النفس إلى أحد الجانبين من الفعل والترك بعد ملاحظة ما يترتّب عليهما من الثمرات والغايات التابع لما عليه النفس من السعادة والشقاوة وغلبة جهة الحقّ والباطل وغير ذلك من الصفات التابعة للأفعال.

فقال ـ بعد ما فسّره به ـ : « إن كان الصارف عن الفعل حاصلا حصل الترك من غير أن يتوقّف حصوله على الإتيان بضدّ من الأضداد ، وإنّما يكون الإتيان به من لوازم وجود المكلّف إن قيل بامتناع خلوّه عن الفعل ، وإن لم يكن حاصلا وتوقّف الترك على الإتيان بالضدّ وجب ذلك من باب المقدّمة ».

وهو ليس بسديد لا لما قيل من أنّ خروج الداعي عن اختيار المكلّف لا ينافي تخييره بين ذلك وما يكون حصوله باختياره ، نظرا إلى قيام الوجوب في المخيّر بأحدهما ، ومن الظاهر أنّه إذا كان واحدا منهما مقدورا كان القدر الجامع بينهما مقدورا فيصحّ التكليف به ، فإن حصل الغير المقدور اكتفى به في سقوط الواجب وإلاّ وجب عليه الإتيان بالآخر.

ليرد عليه : أنّ تعلّق الوجوب بالقدر المشترك هنا غير معقول وإنّما يجب المقدور بعينه ، وغيره حيثما يحصل من باب الاتّفاق مسقط عنه لا أنّه أحد الفردين ، بل لمنافاة تصريحهم بوجوب الصارف من باب المقدّمة دون غيره من الأضداد الوجوديّة ، وفي كلام المصنّف فيما يأتي تصريح بوجوبه إذا كان عن الحرام وبحرمته إذا كان عن الواجب ، وهو لا يستقيم

٧٣٩

وإنّما هي من لوازم الوجود * ، حيث نقول بعدم بقاء الأكوان واحتياج الباقي إلى المؤثّر **.

__________________

إلاّ إذا كان مقدورا والمفروض ليس منه كما اعترف به المجيب.

* بمعنى أنّ الأفعال إذا حصلت مع الترك المستند إلى الصارف تكون من قبيل لوازم وجود المكلّف ، ولا يخفى أنّ ذلك إنّما يستقيم على المختار من عدم التوقّف من الجانبين ، وعدم كون ترك الضدّ مقدّمة لوجود الضدّ من غير فرق فيه بين العدم الأزلي أو العدم المسبوق بالوجود المعبّر عنه بالارتفاع ، فإنّ عدم الضدّ إذا كان مؤثّرا في وجود الضدّ الآخر فكيف يعقل عدم كون وجوده مؤثّرا في العدم ، وأنّ المشروط يعدم بانعدام شرطه وانتفاء الشرط يؤثّر في انتفاء المشروط.

وقضيّة اشتراط الوجود بالعدم كون الوجود الّذي هو انعدام للشرط مانعا ، والمانع عندهم هو الّذي يؤثّر في العدم فكيف يعقل عدم إستناد العدم إليه ، فيؤول قضيّة كلامهم إلى أن يقال : إنّ عدم الضدّ وإن كان شرطا ولكن هذا الشرط ليس بما يلزم من عدمه العدم ، بل العدم يلزم من أمر آخر خارج عن ماهيّة الشرط مقارن لعدمه ، وهو ممّا لا يتفوّه به جاهل فضلا عن العالم ، ولا ندري أنّهم كيف يجمعون بين قولهم : « ترك المباح شرط لفعل الحرام » وقولهم : « إنّ ترك الحرام إنّما يحصل بلا توقّف على فعل المباح » ولا نعقل من ذلك إلاّ تدافعا بيّنا.

** محصّله : أنّ كون حصول الأفعال الوجوديّة عند ترك الحرام من لوازم وجود المكلّف مبنيّ على القول بأحد الأمرين ، من عدم بقاء الأكوان أو احتياج الباقي على تقدير بقائها إلى المؤثّر على طريقة المنفصلة المانعة الخلوّ ، فكلمة « الواو » واقعة موقع « أو » مؤدّية لمؤدّاها.

واعلم : أنّ ما ذكر من الأمرين من جملة المسائل الكلاميّة ، فإنّهم بعد ما اتّفقوا على أنّ كلّ متجدّد يحتاج إلى مؤثّر وبدونه لا يعقل له التجدّد كما هو من أوّليات النظر كيف ولو لا ذلك لانسدّ باب إثبات الصانع ، وعلى أنّ كلّ جسم ملزوم للكون من الحركة أو السكون والاجتماع أو الافتراق ، وأنّ أحد الكونين من كلّ من الصنفين لازم له ولا يعقل انفكاكه عنه ، اختلفوا في أنّ الكون الواحد هل يبقى بعد حدوثه أو لا؟

ويظهر الفائدة في الكون الطويل المستمرّ في مدّة طويلة كالسكون إلى ساعة مثلا ،

٧٤٠