تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

من أنّ الأجزاء لا وجود لها إلاّ عين وجود الصلاة فإذا فرض وقوعها منهيّا عنها لزم أن يقع الصلاة أيضا منهيّا عنها ، إذ ليس لها وجود سوى وجود الأجزاء وهو على القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي محال كما لا يخفى.

وبقيّة ما يتعلّق من الكلام بهذا المراد ستأتي في ذيل المسألة إن شاء الله تعالى.

المبحث الثاني

فيما يتعلّق بالكلمة الثانية من أجزاء القضيّة ، أعني « الواجب » الّذي أضيف إليه المقدّمة.

فالواجب لغة : اللازم ، والساقط ، ومن موارد استعمال الأوّل « وجب البيع وأوجبه » ومن الثاني « وجب الحائط » ومنه قوله تعالى : ( وَجَبَتْ جُنُوبُها )(١) أي سقطت إلى الأرض على ما قيل.

واصطلاحا يطلق على ما يطلب فعله بمتأكّد الطلب ، أو يطلب فعله ويمنع عن تركه ، وعلى ما أوجب تركه استحقاق ذمّ أو عقوبة في الجملة ، واختلفت كلمتهم في تحديد هذا المعنى ، فالعلاّمة في التهذيب : ما يذمّ تاركه مذيّلا له بقوله : ولا يرد المخيّر والموسّع والكفاية لأنّ الواجب في المخيّر والموسّع الأمر الكلّي ، وفي الكفاية فعل كلّ واحد يقوم مقام الآخر فكان التارك فاعل ، أو يراد في الحدّ لا إلى بدل ، يعني : أنّ الواجب في المخيّر ما يتناول الخصال المتعدّدة لا أنّ كلّ واحد بالخصوص هو الواجب حتّى يخرج به الحدّ غير منعكس ، وفي الموسّع إيقاع العبادة في تمام الوقت وهذا أمر كلّي صادق على إيقاعها في أوّل الوقت ووسطه وآخره. وفي الكفاية يقوم كلّ واحد من المكلّفين مقام الباقين في الفعل فتاركهم فاعل لوجود من قام مقامه.

ولمّا كان ذلك يحتاج إلى نوع تكلّف فذكر وجها آخر ليندفع به النقض بالواجب على الكفاية بلا تكلّف وهو انضمام قيد « لا إلى بدل » إلى ما ذكر فيقال : ما يذمّ تاركه لا إلى بدل ، ولا يخفى أنّه يدفع النقض بالمخيّر والموسّع أيضا من غير حاجة إلى اعتبار كون الواجب فيهما أمرا كلّيّا.

وقيل : المراد بالتارك والفاعل من هو مخاطب بالترك والفعل ، ولا يتوهّم صدق التعريف على تروك البهائم وأفعالهنّ.

وبعضهم ـ على ما حكي عنه ـ ما يعاقب تاركه.

__________________

(١) الحج : ٢٦.

٣٨١

واعترض عليه : بجواز العفو فاعتبر فيه الاستحقاق ، فقيل : ما يستحقّ تاركه العقاب. واعترض أيضا بالواجب التخييري فاضيف إليه « لا إلى بدل » واعترض عليه أيضا بأنّ العقاب لا يشمل بعض الأفراد فعدل عنه إلى « الذمّ » ليفيد العموم.

وإلى ذلك ينظر ما ذكره البهائي من أنّه ما يستحقّ تاركه لا إلى بدل ذمّا ، مذيّلا له بأنّه لا نقض بأخيرتي الأربع في الأربع لاعتبارها في الاوليين إذا تركتا ، وقس عليه الزائد على إحدى الثلاث في المسح والتسبيح الأربع ، يعني به دفع النقض بالركعتين الأخيرتين من الرباعيّات حيث تتركان في الأماكن الأربع من غير استحقاق تاركهما الذمّ.

وحاصل الدفع : قيام بدل عنهما فيهما وهو الركعتان الاوليان حيث تترك الأخيرتان ، نظرا إلى التخيير الثابت فيها بين القصر والإتمام ، ومثله الكلام فيما زاد على إصبع واحد في مسح الوضوء وتسبيحة واحدة في التسبيحات الأربع نقضا ، ودفعا لمكان التخيير فيهما أيضا بين الزائد والناقص.

وقال في الحاشية : وهذا الحدّ أولى من حدّ القاضي بما يذمّ تاركه بوجه مّا ، لأنّه وإن سلم عكسه من خروج الكفائي والموسّع لم يسلم طرده من دخول صلاة النائم وركعتي المسافر لذمّ تاركهما حال اليقطة والحضر كما قال الحاجبي.

وقد يذبّ عنه : بأنّ المراد ما يذمّ تاركه بسبب ذلك الترك الّذي هو تارك له بحيث لا يتغيّر ذلك الترك ، وترك النائم والمسافر حال النوم والسفر مغاير لتركهما حال اليقظة والحضر ولا يذمّ بالترك الأوّل وإنّما يذمّ بالثاني ، بخلاف ترك الكفائي فإنّه ترك واحد لا يتغيّر في نفسه بالأمر الخارجي أعني إتيان الغير به وعدمه ، بل له وجهان يجتمع مع كلّ منهما ويلحق الذمّ بسبب أحدهما دون الآخر.

وأمّا ترك الصلاة حال النوم والسفر فليس له هذان الوجهان هذا حاصل ما ذكره العضدي وحققّه السيّد الشريف في الحاشية ، ولي فيه نظر فإنّ ترك الكفائي حال ظنّ المكلّف قيام الغير به مغاير لتركه حال ظنّه عدمه ، ولا يذمّ بالترك الأوّل وإنّما يذمّ بالثاني ، فتأمّل.

وأيضا فمن نذر صلاة ركعتين في هذا اليوم إن قدم زيد فيه فإنّ تركهما قبل قدوم زيد وبعده ترك واحد لا يتغيّر بالأمر الخارجي أعني قدوم زيد وعدمه ، فيصدق عليهما قبل قدومه أنّهما يذمّ تاركهما بسبب تركه الّذي هو تارك له بوجه مّا ، فتدبّر انتهى.

وقال السيّد في المنية ـ شرح التهذيب ـ : وأجود رسوم الواجب ما نقل عن القاضي

٣٨٢

أبي بكر وهو قوله : « الواجب ما يذمّ تاركه شرعا على بعض الوجوه » فقولنا : « ما يذمّ » أجود من قولنا : « ما يعاقب » لأنّ الله تعالى قد يعفو عن تارك الواجب ولا يقدح ذلك في وجوبه ، وخير من قولنا : « ما يخاف العقاب على تركه » لأنّ ما ليس بواجب قد يخاف على تركه عند الشكّ في وجوبه ، وقوله : « شرعا » ليخرج به الواجب العقلي الّذي يذمّ تاركه عقلا عند من يقول به ، وقوله : « على بعض الوجوه » ليتناول التعريف الواجب الموسّع والمخيّر والكفاية ، فإنّ الموسّع يذمّ تاركه على بعض الوجوه وهو ما إذا تركه في جميع وقته ، والواجب المخيّر إذا أخلّ جميع الخصال ، والكفاية إذا تركه المكلّفون بأسرهم.

وهذا الرسم ارتضاه فخر الدين الرازي وأكثر المتأخّرين من الأشاعرة.

واعترض : بأنّه غير مطّرد ، فإنّ الساهي والنائم والمسافر وغيرهم من ذوي الأعذار لا يجب عليهم الصوم مثلا ويذمّون على تركه شرعا على بعض الوجوه ، وهو تقدير انتفاء أعذارهم.

فإن اجيب : بأنّ الوجوب ثابت على ذلك وإنّما يسقط بالنوم والسهو والسفر.

قلنا : فالواجب على الكفاية والموسّع والمخيّر يسقط بفعل البعض وبفعله في آخر الوقت ، وبفعل بدله ، فلا حاجة إلى القيد فيها كما لا حاجة إلى القيد في النائم والساهي والمسافر.

والمصنّف ـ قدّس الله روحه ـ حذف من الحدّ المذكور هذا القيد ، أعني قوله : « على بعض الوجوه » لذلك ، واقتصر على ما قبله مع حذف قوله : « شرعا » لأنّ الوجوب عنده قد يكون عقليّا كما يكون شرعيّا فيذمّ تاركه عقلا.

ولا يرد عليه النقض في عكسه بالواجب المخيّر والموسّع والكفاية لتحقّق الوجوب فيها مع أنّ تاركها لا يذمّ ، لأنّ الواجب في المخيّر الأمر الكلّي ، إلى آخر ما قال.

ولا يذهب عليك انتقاض هذه الرسوم بأسرها عكسا بمقدّمة الواجب على القول بوجوبها ، إذ لا يستحقّ تاركها الذمّ ولا العقاب على تركها عند القائل بالوجوب ، وطردا بترك المندوبات إذا نشأ على جهة الاستكبار أو الاستخفاف مع عدم وجوبها جزما ، وكذلك بترك جميعها بحيث يؤدّي إلى التجرّي على ترك الواجبات بل بترك الجماعة لثبوت الذمّ في الشريعة على ما يشهد به الأخبار الواردة على تاركها مع كونها مندوبة ، بل بترك بعض المباحات أيضا حيث ورد الذمّ على تارك أكل اللحوم بالمرّة.

وقد يذبّ عن الأوّل : بأنّ المأخوذ في الحدّ هو استحقاق الذمّ أو العقوبة وهو يعمّ ما لو كان الاستحقاق المذكور على تركه أو ترك غيره وذلك حاصل في المقدّمة أيضا.

٣٨٣

ويدفعه : إنّ المأخوذ في الحدّ تعليق الذمّ على الترك الّذي هو مبدأ الاشتقاق في لفظ « التارك » وهو يفيد العليّة في محلّه الّذي هو المتروك بعينه دون غيره ، فتعميمه بالنسبة إلى غيره خلاف ظاهر يعيب ارتكابه في التعاريف الّتي مبناها على الوضوح والظهور ، فلذا لا يجوّزون أخذ المجازات أو المشتركات فيها بلا قرينة التعيين ، فيشترطون كون المعرّف أجلى من المعرّف.

والأولى أن يزاد على ما ذكر قولنا : « ولو من جهة غيره ».

ويمكن الذبّ عن البواقي : بأنّ الفرق بين ما يوجب تركه استحقاق الذمّ أو العقاب لذاته أو لعارض.

وظاهر الحدّ هو الأوّل واللازم في المذكورات هو الثاني ، فلا يندرج أحدهما في الآخر.

ولا يرد النقض بمقدّمة الواجب نظرا إلى أنّ مفاد القيد المذكور إنّما لزوم الذمّ بالعارض ، إذ المقدّمة لذاتها لا يوجب تركها استحقاق ذمّ لأنّ ذلك إنّما يصير بالعارض إذا اضيف الذمّ إلى ترك المقدّمة ، وأمّا إذا اضيف إلى غيره وهو ترك ذي المقدّمة فهو ذاتيّ ، والمقصود من القيد إفادة الثاني دون الأوّل كما لا يخفى.

ثمّ إنّهم ذكروا أنّ الواجب بهذا المعنى يرادفه « الفرض » و « اللازم » و « المحتوم » خلافا للحنفيّة ، حيث إنّهم خصّوا « الفرض » بما يثبت بدليل قطعي كالصلوات الخمس الثابتة بالتواتر ، و « الواجب » ما ثبت بدليل ظنّي كالوتر ثبت بخبر الواحد العاص أبو زيد ، وقالوا : إنّ « الفرض » التقدير ومنه قوله تعالى : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) لهنّ (١) إلى قدّرتم ، فما كان دليله قطعيّا علم أنّه يقدّر في الأزل علينا ، وما ثبت بظنّي لم يعلم أنّه مقدّر فكأنّه ساقط علينا فنخصّه باسم الوجوب وهو السقوط.

قال السيّد في المنية : وهذا الكلام لا يخفى على المتأمّل ضعفه ، فإنّ « الفرض » التقدير سواء كان طريق معرفته علميّا أو ظنّيا ، كما أنّ الساقط « الواجب » من غير اعتبار طريق ثبوته ، ولكن لا مشاحّة في الاصطلاح.

ثمّ إنّ التحقيق ـ على ما تقدّم في بحث صيغة « افعل » ـ أنّ الوجوب والإيجاب متغايران بالذات مفهوما ومصداقا ، فإنّ الثاني تأثير والأوّل أثر أو تأثّر ، والأوّل من مقولة الفعل والثاني من مقولة الكيف والانفعال وهما متقابلان فكيف يتّحدان بالذات ، خلافا

__________________

(١) البقرة : ٢٣٧.

٣٨٤

لبعض الفضلاء المصرّح بأنّ الفرق بينهما اعتباريّ ، فإنّ الصادر من الآمر واحد ، فإن قيس إليه باعتبار صدوره عنه كان إيجابا وإن قيس إلى الفعل باعتبار قيامه به كان وجوبا ، فهما متّحدان ذاتا متغايران اعتبارا.

وإلى ذلك ينظر ما في المجمع عن بعض الأفاضل ـ بعد تصريحه بأنّ الإيجاب والوجوب متقاربان في المعنى ـ من أنّ الفرق بينهما كالفرق بين الضارب والمضروب ، فالضارب هو المؤثّر للضرب والمضروب هو المؤثّر فيه ، فالضارب اسم اشتقّ لذات والمعنى قائم بغيرها ، والإيجاب معناه التأثير والوجوب هو حصول الأثر ، وكأنّ الله تعالى لمّا أوجب علينا شيئا وجب ، فالأوّل يقال له الإيجاب والثاني الوجوب.

ولا يخفى ضعف هذا الكلام ، ويكفي في ثبوت بطلانه قضاء الوجدان بضرورة الفرق بين الكسر والانكسار ، وأنّه يدركه جميع العقول والأذهان في جميع الملل والأديان.

غاية الأمر أنّهما متلازمان حيث لا كسر حقيقة إلاّ مع الانكسار ولا انكسار كذلك إلاّ مع الكسر ، ومجرّد التلازم بين الشيئين لا يقضي باتّحادهما ذاتا ، فإنّ الصادر من الآمر إيجاب وهو علّة لحصول الأثر في الواجب وهو الوجوب ، ومثله الكلام في الضارب والمضروب ، ومن البيّن تغاير المعلول لعلّته ذاتا واعتبارا.

والأقرب بالاعتبار كون الاتّحاد بينهما اعتباريّا من حيث إنّه ينظر في الصادر عن الفاعل وهو حدث واحد ، وكأنّ منشأ هذا التوهّم التلازم الّذي نبّهنا عليه الموجب لشبهة الاتّحاد وفيه ما عرفت.

ثمّ إنّ الواجب ينقسم عندهم تارة إلى المطلق والمقيّد ، وقد يعبّر عنهما بالمنجّز والمشروط ، واخرى إلى النفسي والغيري ، وثالثة إلى التعبّدي والتوصّلي ـ وقد تقدّم البحث عنهما ولا نعيده هنا ـ ، ورابعة إلى الأصلي والتبعي ، وقيل : خامسة إلى الشرطي وغيره ، وربّما يقال : بأنّ فيه وجهين ، فلنا في هذا المبحث مطالب ينبغي التكلّم في كلّ واحد بالخصوص مستوفى.

المطلب الأوّل

فيما يتعلّق بالواجب باعتبار انقسامه إلى المطلق والمشروط

فاعلم ، أنّ لأهل الاصول في تعريف هذين القسمين عبارات مختلفة.

منها : ما يستفاد عن العميدي في المنية : من أنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على أمر زائد على الامور المعتبرة في التكليف وهي البلوغ والعقل والعلم والقدرة ، كالصلاة الواجبة

٣٨٥

في حالتي الطهارة والحدث إلاّ أنّ وقوعها موقوف على الطهارة ، والمشروط ما يتوقّف وجوبه على أمر زائد على الامور المعتبرة في التكليف ، كالزكاة المتوقّف وجوبها على حصول المال ، والحجّ المتوقّف وجوبه على الاستطاعة.

منها : ما في كلام بعض الفضلاء من أنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه بعد حصول شرائط التكليف على شيء كالمعرفة.

ثمّ قال : وإنّما اعتبرنا الإطلاق بعد التقييد بتلك الامور لامتناع الإطلاق بالنسبة إليها عقلا أو شرعا ، ويقابله المشروط وهو ما يتوقّف وجوبه على غيره كالحجّ.

والنسبة بينه وبين الأوّل ـ على ما يساعده التحقيق ـ الترادف وإن كان يتخيّل في بادئ النظر كونها عموما مطلق نظرا إلى أنّ المعتبر في الثاني ملاحظة الإطلاق والتقييد بعد حصول شرائط التكليف الأربع فيكون أخصّ من الأوّل إذ لم يعتبر فيه ذلك ، لأنّ مفروض الأوّل أيضا ملاحظتهما بعد حصول الشرائط الأربع لأنّهما وصفان للوجوب وهو فرع توجّه الخطاب مطلقا أو مشروطا ، وهو قبل اجتماع تلك الشرائط محال عقلا أو شرعا فلا إطلاق ولا تقييد إلاّ بعد حصولها.

ومنها : ما حكاه ذلك الفاضل من أنّ الواجب المطلق قد يطلق ويراد به ما لا يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على حصول أمر غير حاصل ، سواء توقّف على غير ما مرّ وحصل كما في الحجّ بعد الاستطاعة أو لم يتوقّف كما مرّ ، ويقابله المشروط وهو ما يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على حصول أمر غير حاصل.

ثمّ قال (١) : والنسبة بين كلّ من المطلقين ومشروطه التبائن ، وبين كلّ منهما وكلّ من الآخر عموم من وجه.

__________________

(١) وقال في الحاشية مفصّلا لما ذكره في المتن إجمالا : النسبة بين المطلقين عموم من وجه لاجتماعهما في المعرفة في [ حقّ ] واجد الشرط وافتراق الأوّل عن الثاني في الحجّ بعد الاستطاعة وافتراق الثاني عن الأوّل في المعرفة قبل البلوغ ، وكذلك النسبة بين المشروطين فإنّه يصدق الأوّل بدون الثاني في الحجّ بعد الاستطاعة ويصدق الثاني بدون الأوّل في المعرفة قبل البلوغ ويتصادقان في الحجّ قبل الاستطاعة وكذلك النسبة بين المطلق بالمعنى الأوّل والمشروط بالمعنى الثاني لتصادقهما في المعرفة قبل استكمال الشروط وصدق الأوّل بدون الثاني في المعرفة بعد الشرائط وصدق الثاني بدون الأوّل في الحجّ قبل الاستطاعة وكذلك النسبة بين المطلق بالمعنى الثاني والمشروط بالمعنى الأوّل لتصادقهما في الحجّ بعد الاستطاعة وصدق الأوّل بدون الثاني في المعرفة بعد الشرائط وصدق الثاني بدون الأوّل في الحجّ قبل الاستطاعة. ( منه عفي عنه ). راجع الفصول : ٧٩.

٣٨٦

وغرضه فرض النسبة بين ما اختاره أوّلا وما حكاه ثانيا من الإطلاق والتقييد ، فزعم أنّ النسبة في كلّ من المطلق والمشروط بين مختاره وما حكاه عموم من وجه ، فيجتمعان في مادّة ويفترقان في آخرين.

أمّا الاجتماع ففي شيء غير حاصل لم يكن ممّا مرّ من الامور المعتبرة في التكليف ، فإنّه على كلا التعريفين مطلق إن لم يتوقّف وجوبه عليه ومقيّد إن توقّف وجوبه عليه.

وأمّا الافتراق في مطلق الأوّل عن مطلق الثاني ومشروط الثاني عن مشروط الأوّل ففي شيء حاصل غير الامور المعتبرة في التكليف يتوقّف عليه وجوب الواجب ، فإنّه مطلق على الثاني لما يصدق عليه أنّه ما لا يتوقّف وجوبه على أمر غير حاصل دون الأوّل ، إذ لا يصدق عليه أنّه ما لا يتوقّف وجوبه بعد حصول شرائط التكليف على شيء ، وفي مطلق الثاني عن مطلق الأوّل ومشروط الأوّل عن مشروط الثاني ففي شيء غير حاصل من الشرائط المعتبرة في التكليف كالبلوغ مثلا ، فإنّه مطلق على الأوّل لأنّه وإن كان ممّا يتوقّف عليه وجوب الواجب ولكنّه ليس شيئا غير الشرائط الأربع ، فيصدق عليه أنّه ما لا يتوقّف وجوبه على شيء بعد حصول شرائط التكليف دون الثاني إذ لا يصدق عليه أنّه ما لا يتوقّف وجوبه على شيء غير حاصل ، بل هو ممّا يتوقّف وجوبه على ذلك.

ولا يخفى أنّ هذا التقرير من النسبة يجري بين هذا التعريف وتعريف العميدي أيضا ، فيكون مفاد هذا التعريف : « أنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على أمر غير حاصل ، سواء توقّف على أمر حاصل أو لا ».

ومفاد تعريف العميدي : « أنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على أمر زائد على الامور المعتبرة في التكليف ، سواء توقّف على الامور المعتبرة أو لا » وهذا معنى العموم من وجه.

وفيه ما لا يخفى من المنع عن مادّتي الافتراق ، أمّا عن افتراق الأوّل : فلمنع عدم صدق الأوّل على ما صدق عليه الثاني من الفرض ، أعني ما حصل من مقدّمات الوجوب الّذي يكون غير الشرائط الأربع ، بل يصدق عليه مع هذا الفرض أنّه ما لا يتوقّف وجوبه بعد حصول شرائط التكليف على شيء ، والّذي فرض حصوله ممّا عدا شرائط التكليف لا يصدق عليه بعد حصوله أنّه ممّا يتوقّف عليه وجوب الواجب ، ضرورة أنّ التوقّف إنّما تصدق قضيّته قبل حصول ما يتوقّف عليه ، فلذا يقال : إنّ الواجب المشروط بعد حصول شرطه مطلق.

وأمّا عن افتراق الثاني : فلمنع صدق الأوّل أيضا على ما ذكر من الفرض ، فإنّ الكلام

٣٨٧

إنّما هو في الواجب بعد إحراز وجوبه ، ولا يجب إلاّ بعد تحقّق الامور الأربع المعتبرة في التكليف وتوجّه الخطاب ، فمع فرض انتفاء بعضها لا وجوب حتّى ينظر إلى إطلاقه أو تقييده بالنظر إلى شيء.

والمفروض أنّ المطلق على الأوّل ما لا يتوقّف وجوبه بعد حصول شرائط التكليف على شيء ، وهذا المعنى ينافيه فرض بعض تلك الشرائط غير حاصل ، فما فرض من مادّة افتراق الثاني مبائن للأوّل أيضا ، فكيف يكون من مصاديقه حتّى يكون مادّة الافتراق بالقياس إلى الثاني ، وإنّما هو مبائن لهما معا.

فالّذي يقتضيه النظر الجليّ أنّ النسبة بين التعريفين هو الترادف أيضا ، فهذه التعاريف الثلاث مترادفة جزما.

ومنها : ما نسب إلى العضدي والتفتازاني والسيّد الشريف والسيّد صدر الدين من : أنّ الواجب المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده من حيث هو كذلك ، ويقابله المقيّد وهو ما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده من حيث هو كذلك ، وقد يقال : « على مقدّمة وجوده » بدلا عن قولهم : « على ما يتوقّف عليه وجوده ».

وفائدة الحيثيّة على ما ذكروه الاحتراز عن الواجب بالإضافة إلى جهته الّتي تبائن الجهة الّتي قد لوحظ ما فيه من الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى تلك الجهة.

وبيان ذلك : أنّ الإطلاق والتقييد في كلّ واجب من الامور الإضافيّة الّتي يمكن اجتماعها في شيء واحد باعتبارات مختلفة وحيثيّات متعدّدة ، ككون الشيء فوقا وتحتا مثلا ، فإنّه قد يتّصف بهما شيء واحد باعتبار اجتماعهما فيه كالسقف والسماء الاولى ، فإنّ الأوّل فوق بالنسبة إلى أرض البيت وتحت بالنسبة إلى سطحه ، كما أنّ الثاني فوق بالإضافة إلى الأرض وتحت بالإضافة إلى السماء الثانية ، والواجب أيضا قد يكون مطلقا بالإضافة إلى شيء ومقيّدا بالإضافة إلى شيء آخر ، كالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة وشراء الزاد والراحلة.

بل قد يقال : إنّه لا يوجد واجب مطلق إلاّ وهو مقيّد من وجه آخر ، كما لا يوجد واجب مقيّد إلاّ وهو مطلق من وجه آخر.

أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ واجب مقيّد بالبلوغ والعقل والقدرة والعلم ، وأمّا الثاني : فلأنّ كلّ واجب مطلق بالنسبة إلى السعي في تحصيله ، فلا يكون واجب حينئذ إلاّ ويصدق عليه التعريفان معا ، ولا يحصل الاحتراز عند صدق أحدهما عليه عن الآخر إلاّ بقيد الحيثيّة

٣٨٨

فلابدّ من اعتباره ليطّرد التعريفان.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام وارد على خلاف التحقيق ، فإنّ الحيثيّة إنّما تصلح قيدا للاحتراز إذا كانت مغايرة لجنس التعريف منوّعة له ، واردة مورد فصل من فصوله ، كما في تعريف الدلالات الثلاث من الحيثيّة الموجبة لعدم انتقاض بعضها ببعض بالنسبة إلى ما يكون مشتركا بين الكلّ وجزئه والملزوم ولازمه وهي في محلّ البحث ليست بهذه المثابة ، ضرورة عدم تغاير مفهومها لمفهوم التعريف ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده مقيّد بما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، لاتّحاد مفهوميهما ذهنا وخارجا فلا وجه لأخذها هنا من جملة أجزاء الحدّ لصدقه بدونها أيضا ، فتكون من باب القيود التوضيحيّة فيما لا حاجة إلى التوضيح (١).

نعم هي معتبرة فيما يضاف إليه الإطلاق والتقييد من المقدّمتين ، فيقال : إنّ الحجّ مثلا مقيّد من حيث كون الاستطاعة من مقدماته ممّا يتوقّف عليه وجوبه ، فالأولى إسقاطها عن الحدّ الّذي راجع إلى بيان الماهيّة وتوضيح المفهوم واعتبارها في المصداق ليصحّ الإطلاق عليه من باب الحمل المتعارف.

وبالجملة : هذا القيد معتبر فيما يطلق عليه الواجب المطلق أو المقيّد من المصاديق الخارجيّة كالحجّ الّذي يطلق عليه المطلق والمقيّد بالاعتبارين الراجعين إلى مقدّمتيه الوجوديّة والوجوبيّة إذ بدونه لا يصحّ الإطلاق ، لا فيما يفهم من الواجب المطلق أو المقيّد من المفهوم الكلّي الّذي يرجع إليه التعريف خاصّة لا إلى إطلاقه على مصاديقه الخارجيّة.

__________________

(١) هذا محصّل ما استفدناه عن الاستاذ مع تحقيق منّا في بيانه ، ولكنّه عند التحقيق محلّ نظر ، لأنّ الاعتراض المذكور إنّما يتوجّه لو أرجعنا الحيثيّة إلى جنس الحدّين وهو الموصول ، وأمّا لو أرجعناها إلى النفي والإثبات المعتبرين في الصلة الّتي هي بمنزلة الفصل فلا ، إذ يكون مفاد التعريفين حينئذ أنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على مقدّمة وجوده من حيث عدم توقّف وجوبه عليها ، والمقيّد ما يتوقّف وجوبه على مقدّمة وجوده من حيث توقّف وجوبه عليها ، فيكون فائدة القيد في الحدّ ، الأوّل عدم انتقاضه بالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة في طرده ، لأنّه وإن كان مطلقا لكن لا من حيث عدم توقّف وجوبه عليها بل من حيث عدم توقّف وجوبه على شراء الزاد والراحلة وفائدته في الحدّ الثاني عدم انتقاضه طردا بالحجّ بالنسبة إلى شراء الزاد والراحلة ، فإنّه وإن كان مقيّدا لكن لا من حيث توقّف وجوبه عليه بل من حيث توقّف وجوبه على الاستطاعة ، فيقال : الحجّ بالنسبة إلى الشراء مطلق من حيث عدم توقّف وجوبه ، وبالنسبة إلى الاستطاعة مقيّد من حيث توقّف وجوبه ، فالقيد ممّا لابدّ منه ومفاده في الحدّين ليس إلاّ ما هو مفاده في حدود الدلالات من غير فرق وإيراد الاستاد غير وارد. ( منه ).

٣٨٩

ثمّ إنّ جعل مقدّمات الوجود مناطا للإطلاق والتقييد يشعر بخروج الإطلاق والتقييد بالنظر إلى ما ليس بمقدّمة أصلا ، أو ليس بمقدّمة وجوديّة وإن كانت مقدّمة وجوبيّة وهو كما ترى ممّا لا دليل عليه ، إذ لم يظهر إلى الآن كون ذلك إصطلاحا بالقياس إلى هذه المقدّمات ، بل نقول : إنّ المعلوم من طريقتهم والمعهود من اصطلاحهم أنّ الواجب المطلق ما يكون الوجوب ثابتا له بالفعل من غير اشتراط وجوبه بشيء يفرض في عالم الإمكان ، سواء كان ذلك ممّا يتوقّف عليه وجوده كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة أو لا ، كحركة اليد أو الأصبع ونحوها بالنسبة إليها أيضا ، والمقيّد ما لا يكون الوجوب ثابتا له بالفعل بل كان مشروطا بشيء غير حاصل ، سواء كان ذلك الشيء ممّا يتوقّف عليه وجوده ـ كقدوم زيد عن الحجّ إن علّق وجوب إكرامه عليه ، وكيوم الخميس في الصوم المأمور به مقيّدا بكونه فيه ـ أو لا كاستطاعة الحجّ ونصاب الزكاة وانعقاد العدد في صلاة الجمعة إن لم نجعله شرطا لصحّته وإلاّ فيرجع إلى مقدّمة الوجود أيضا ، فعلى هذا يرد على هذا التعريف من جهة اشتماله على القيد المذكور اشكالان :

أحدهما : خروج الواجب بالنسبة إلى جملة من مقدّمات التكليف كالعقل والبلوغ عن كونه مطلقا ومقيّدا ، لعدم كونهما ممّا يتوقّف عليه وجوده فلا يكون مطلقا لمكان توقّف وجوبه عليهما ولا مقيّدا لعدم كونهما من مقدّمات الوجود وهو باطل ، لأنّ الإطلاق والتقييد قد يلاحظان بالنسبة إلى تلك المقدّمات فيتّصف بكلّ واحد من الوصفين بملاحظتها (١) وجودا وعدما ، إلاّ أن يلتزم بارتكاب تأويل في التعريف ليرتفع ذلك الإشكال.

__________________

(١) وفيه نظر من جهة كون العقل والبلوغ كالعلم والقدرة ممّا يتوقّف عليه وجود الواجب من غير فرق.

وبيان ذلك : أنّ الواجب قد يتوقّف وجوده على شيء مع قطع النظر عن وصفه العنواني وباعتبار ذاته مع قطع النظر عن الأمر به كما في العلم والقدرة وكذلك الإرادة والسعي في تحصيله إلاّ أنّهما ليسا كالأوّلين من جهة عدم توقّف الوجوب عليهما ، وقد يتوقّف على شيء باعتبار وصفه العنواني وكونه متعلّقا للأمر إمّا من جهة أنّه لا أمر بدونه أصلا ورأسا كما في العقل والبلوغ أو من جهة أنّ ما خلا عنه ليس موردا للأمر ومتعلّقا له كما في الطهارة وغيرها ممّا يعدّ عندهم من شرائط الصحّة فيكون العقل والبلوغ أيضا ممّا يتوقّف عليه وجود الواجب من حيث إنّه واجب ، إذ بدونهما لا وجوب فما يصدر عن الصبيّ والمجنون ليس بواجب لامتناع صدوره عنهما باعتبار فقدهما لوصف الوجوب الّذي هو وصف عنواني في الواجب فعلى هذا القول أنّ الصلاة بالنسبة إلى العقل والبلوغ واجب مقيّد كما أنّها بالنسبة إلى القدرة والعلم واجب مقيّد لتوقّف وجوبها بالنسبة اليهما على ما يتوقّف عليه وجودها متّصفة بوصف الوجوب فالإشكال مندفع بذلك جزما ولا حاجة إلى شيء من التكلّفات المذكورة في المتن. ( منه ).

٣٩٠

وهو أن يقال : ليس المراد بالمعرّف ذات الواجب مع قطع النظر عن الامور المذكورة ليلزم المحذور ، بل الواجب مع اعتبار وصف الوجوب فيه فلا يلزم الإهمال بالنسبة إلى تلك الامور من جهة جهالة حالها ، لأنّ الواجب لا يصلح متّصفا بذلك الوصف إلاّ بعد إحراز هذه الامور بأجمعها ، فجنس التعريف حينئذ ما اعتبر فيه تلك الامور ، وما لم يعتبر فيه ذلك كلاّ أم بعضا لم يكن واجبا حتّى يصحّ انقسامه إلى المطلق والمقيّد ، ضرورة أنّهما وصفان لما اعتبر فيه الوصف العنواني ، وهو كما ترى تأويل لا ينطبق عليه اصطلاحهم حيث نراهم يطلقون المطلق والمقيّد على ما يلاحظ معه هذه الامور أيضا وجودا وعدما ، إلاّ أن يلتزم بورود ذلك الإطلاق على سبيل المسامحة والتوسّع ، بدعوى : أنّ هذا التقسيم إنّما حصل على تقدير توجّه الخطاب ، ولا خطاب مع انتفاء هذه الامور كلاّ أم بعضا أصلا حتّى يصحّ اندراجه في أحد القسمين ، والمفروض أنّهما وصفان للخطاب والواجب يتّصف بهما باعتبار كونه مدلولا له.

وهو أيضا في غاية الإشكال لما نراهم يصفون الواجب بهما على سبيل الاستقلال دون التبع ، فلذا يأخذون المقسم فيهما نفس الواجب دون الخطاب ، إلاّ أن يلتزم بتعدّد اصطلاحهم في ذلك فحيث يلاحظ الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى هذه الامور فإنّما يلاحظان في الخطاب ، فالمطلق حينئذ خطاب ورد مطلقا والمقيّد خطاب ورد مشروطا ، وحيث يلاحظان بالنسبة إلى ما عدا تلك الامور فإنّما يلاحظان في الواجب ، فالمطلق حينئذ واجب لم يعتبر لوجوبه قيد والمقيّد واجب اعتبر لوجوبه قيد ، وهو أيضا مشكل من جهة عدم دليل على ذلك والأصل عدم التعدّد.

وثانيهما : خروج حدّ المطلق غير منعكس على تقدير وغير مطّرد على آخر ، وحدّ المقيّد غير منعكس على التقديرين ، إذ لو جعل العبرة في النفي والإثبات في قولهم : « ما لا يتوقّف وجوبه وما يتوقّف وجوبه » بمقدّمة الوجود في قولهم : « على ما يتوقّف عليه وجوده » لا بالتوقّف على مقدّمة الوجود لانتقض التعريفان عكسا.

فالمطلق بما لا يكون وجوبه متوقّفا على ما لا يكون ممّا يتوقّف عليه وجوده كقدوم زيد بالنظر إلى وجوب الصلاة على عمرو بعد الزوال ، والتمكّن عن السير في المسير لوجوب الحجّ ، والمقيّد بما يكون وجوبه متوقّفا على ما ليس بما يتوقّف عليه وجوده كالحجّ والزكاة بالنظر إلى بلوغ المال حدّ الاستطاعة أو النصاب ، مع أنّ الأوّل مطلق والثاني

٣٩١

مقيّد باتّفاقهم نصّا وعملا.

وقضيّة ذلك انتقاض الأوّل طردا بالفرض الثاني وانتقاض الثاني كذلك بالفرض الأوّل وهو باطل بضرورة من اصطلاحهم ، ولو جعل العبرة فيهما بالتوقّف على مقدّمة الوجود حتّى يكون المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على مقدّمة الوجود خاصّة سواء توقّف على ما ليس بمقدّمة الوجود أو لم يتوقّف ، ويكون المقيّد ما يتوقّف وجوبه على مقدّمة وجوده خاصّة ، لانتقض تعريف الأوّل طردا وتعريف الثاني عكسا بالحجّ والزكاة ونحوهما ، لخروجهما عن المقيّد ودخولهما في المطلق ، بل ينتقض الأوّل عكسا والثاني طردا بما لا يتوقّف وجوبه على ما ليس بمقدّمة الوجود ولا مقدّمة الوجوب كما مرّ ، واللوازم (١) كلّها باطلة بالضرورة ، فلابدّ وأن يجعل العبرة فيهما بمجرّد التوقّف من غير إضافته إلى مقدّمة الوجود ولا غيرها.

ويقال : الواجب المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على شيء غير مقدّمات التكليف ، والمقيّد ما يتوقّف وجوبه على شيء.

فمن جميع ما قرّرناه ظهر أنّ التعريف الّذي نقلناه عن العميدي أجود من هذا التعريف وأوفق باصطلاحهم.

وبالجملة : الواجب إمّا مطلق بالإضافة إلى كلّ شيء يفرض تقيّد وجوبه به ، بمعنى عدم توقّف وجوبه على شيء سواء كان ذلك الشيء مقدّمة لوجوبه أو مقدّمة لوجوده أو

__________________

(١) وفيه نظر واضح يظهر وجهه ممّا تقدّم في الحاشية السابقة ، فإنّ ما يتوقّف عليه الوجوب على ما قرّرناه لا يكون إلاّ ما يتوقّف عليه الوجود كائنا ما كان ، وليس ممّا يتوقّف عليه الوجوب ما لا يكون ممّا يتوقّف عليه الوجود ، فالاستطاعة أيضا ما يتوقّف عليه وجود الواجب باعتبار وصفه العنواني.

غاية الأمر أنّ توقّف الوجوب مع توقّف الوجود بالنسبة إليها متلازمان ، ضرورة أنّ فرض التوقّف للوجوب عليها يستلزم كونها ممّا يتوقّف عليها الوجود أيضا بعنوان الوجوب فيسلّم حدّ المقيّد طردا وعكسا ، وكذلك حدّ المطلق أيضا إذ يصدق على الصلاة بالنسبة إلى حركة اليد مثلا أنّها ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، ضرورة أنّ توقّف وجوبها عليها فرضا يستلزم كونها ممّا يتوقّف عليه وجودها ، فهي ما يتوقّف عليه وجود الصلاة على تقدير كون وجوبها متوقّف عليها.

وبالجملة : المراد بما يتوقّف عليه الوجود في تعريف المطلق أعمّ ممّا كان كذلك محقّقا كالطهارة للمصلّي أو مقدّرا كحركة اليد فيها ، فإنّها على تقدير توقّف الوجوب عليها كان ما يتوقّف عليه الوجود فيصدق على الصلاة إنّما مطلق بالنسبة إليها أى لا يتوقّف وجوبها على الحركة الّتي هي مقدّمة لوجودها بعنوان أنّها واجبة على تقدير توقّف وجوبها عليها ، فليتدبّر فإنّه دقيق هدانا الله سبحانه إلى التفطّن به. ( منه عفي عنه ).

٣٩٢

لم يكن بشيء من المقدّمتين كما هو الراجح في النظر ، أو مطلق بالإضافة إلى ما عدا مقدّمة الوجوب سواء كان مقدّمة للوجود أو لا ـ كما اختاره العميدي ـ أو مطلق بالإضافة إلى مقدّمة الوجود خاصّة ـ كما عليه العضدي وغيره ممّن ذكروا ـ وهو أخصّ من الأوّلين كما أنّ الثاني أخصّ من الأوّل ، ولمّا كان من عرّفه بأحد الأخيرين يدّعي تخصيص الاصطلاح بما عدا الأمر الخارج عن المقدّمتين لظهور التعريفين فيه فلا يسمع منه ذلك إلاّ مع الدليل ، والمفروض فقده في المقام بل الدليل على خلافه كما عرفت.

فيترجّح في النظر القاصر كون الأوّل أنسب بمذاق القوم وأوفق باصطلاحهم ، وبمقايسته يعرف المقيّد أيضا وهو ما كان وجوبه موقوفا على شيء مّا سواء كان بواحدة من المقدّمتين أو لم تكن بشيء منهما ، فما يضاف إليه الواجب المقيّد ويعتبر تقييده بالنسبة إليه أعمّ من الأقسام الثلاث ، كما أنّ ما يضاف إليه الواجب المطلق ويعتبر إطلاقه بالنسبة إليه أعمّ من الجميع هذا.

ثمّ إنّه تراهم في أكثر عنوانات المسألة أنّهم يعتبرون فيها قيد الإطلاق راجعا إلى الأمر أو الإيجاب أو الوجوب وقيد المقدوريّة راجعا إلى المقدّمة ، حتّى ذكر جماعة في توجيه الأوّل إنّه لإخراج الواجب المشروط عن العنوان إذ لا نزاع في مقدّماته ، وفي توجيه الثاني إنّه لإخراج المقدّمات الغير المقدورة لخروجها عن المتنازع فيه ، وربّما يرجع ذلك إلى الأوّل ويعلّل الخروج بأنّ النزاع إنّما هو في مقدّمات الواجب المطلق والواجب بالنسبة إلى المقدّمة الغير المقدورة مشروط ، بل ربّما يؤخذ ذلك التعليل اعتراضا على من اعتبر هذا القيد بعد ما اعتبر القيد الأوّل المخرج للواجب المشروط ، لعدم الحاجة إليه حينئذ.

ولنا على اعتبار كلّ من القيدين كلام يأتي تفصيله عند شرح عبارة المصنّف المشتملة عليهما.

ولا يذهب عليك أنّ انقسام الواجب إلى المطلق والمقيّد إنّما هو بحسب الاصطلاح وإلاّ فهو بحسب العرف واللغة ـ وفاقا لغير واحد من الأجلّة ـ حقيقة في المطلقة خاصّة.

لنا : ما تقدّم تحقيقه في بحث المشتقّ من كونه حقيقة فيما تلبّس بالمبدأ حال حصول النسبة بينه وبين الذات كائنا ما كان ، ومجازا فيما لم تلبّس به بعد اتّفاقا محقّقا ومحكيّا على حدّ الاستفاضة ، فيكون إطلاق الواجب على المقيّد قبل حصول شرطه مجازا بعلاقة ما يؤول لكونه ممّا سيصير واجبا.

ودعوى أنّ إطلاق الواجب على الحجّ ونحوه في مقام عدّ الواجبات حقيقة لعدم صحّة

٣٩٣

السلب متّضح الفساد ، لأنّ المراد به هنا أيضا ما تلبّس بالمبدأ بحسب النوع ، لأنّ في النوع من حصل له شرط الوجوب فعلا لا محالة وإن لم يعلم بالتفصيل ، فإطلاق الواجب عليه إنّما هو من جهة كونه ما تلبّس بالمبدأ نوعا ، فلذلك لو أضافه الغير الواجد للشرط إلى نفسه يصحّ له السلب.

أو يقال : إنّ هذا الإطلاق إنّما يرد على الاصطلاح ، ولا ملازمة بينه وبين العرف واللغة.

والعجب عن بعض مشايخنا ـ دام ظلّه العالي ـ في تصريحه بما قرّرناه مع ذهابه في الأمر إلى كونه حقيقة في الأعمّ من المطلق والمقيّد وهو الأمر المردّد بينهما القابل لكلّ من اعتباري الإطلاق والتقييد ، فإنّ الجمع بين هذين الكلامين ممّا لا يكاد يمكن ، إذ الواجب ليس له مبدأ إلاّ الوجوب وهو في كونه مفادا للأمر إذا كان أعمّ من المطلق والمقيّد ـ المعبّر عنهما بالمنجّز والمشروط ـ فكان في وقوعه مبدأ للواجب أيضا أعمّ ، ضرورة أنّه أثر من الأمر متعلّق بذات الواجب.

وقضيّة ذلك ورود الواجب تارة لما تلبّس بالوجوب المنجّز واخرى لما تلبّس بالوجوب المشروط.

والمفروض أنّهما فردان على طريق الحقيقة ، فلابدّ أن يكون المشتقّ منهما أيضا واردا على طريق الحقيقة في معنييه المستعمل فيهما ، إذ لا يراد بالواجب ما لم يتعلّق به وجوب أصلا حتّى يكون من باب ما لم يتلبّس بعد بالمبدأ.

نعم يتّجه المنع عن الحقيقيّة في الثاني إذا توجّه المنع عن كون الوجوب المشروط فردا حقيقيّا لما يستفاد عن الأمر كما سنحقّقه.

وهل الأصل في الوجوب هو الإطلاق أو لا؟ ولمّا كان الوجوب يستفاد تارة من دليل لفظي ، واخرى من دليل لبّي فلابدّ من النظر إلى ما هو من مقتضى الأصل فيهما معا فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : فيما يستفاد من الوجوب من الأدلّة اللفظيّة من مادّتي الأمر والوجوب كانت أو من الصيغة ، فهل الأصل فيه حيثما كان عاريا عن الاقتران بقيد كونه مطلقا أو لا؟ ووهاهنا عنوان آخر ، وهو أنّ الأمر إذا قيّد بشيء فهل الأصل كونه قيدا للواجب أو الوجوب؟ وعنوان ثالث وهو أنّ الأمر إذا اشتمل بحسب اللفظ على ما علم أنّه ليس بمقدّمة وجوده بالمعنى المعروف ، فهل يتقيّد به الوجوب المستفاد منه فيثبت مع حصوله

٣٩٤

وينتفي بانتفائه أو لا؟

والظاهر وقوع الكلام في كلّ من الوجوه الثلاث أمّا الأخير فلما يرشد إليه عنوانهم المعروف المعبّر عنه بالأمر المعلّق على كلمة « إن » وسيأتي تقرير الخلاف فيه عند إيراد المصنّف البحث عنه.

وأمّا الثاني فهو الّذي صار السيّد فيه ـ على ما يساعده ظاهر عبارته الّتي نقلها المصنّف ـ إلى التوقّف التفاتا إلى ورود أوامر الشريعة على قسمين الموجب لدورانه في محلّ الاشتباه بين تقييدين ، والباقون يظهر منهم المخالفة والبناء على ترجيح أحدهما على الآخر ، وسيأتي الإشارة إلى تحقيق الحال فيه أيضا.

وأمّا الأوّل : فهو النزاع المعروف المبنيّ على كون الأمر المطلق حقيقة في الواجب المطلق خاصّة أو فيه وفي المقيّد على طريق الاشتراك لفظا أو معنى؟ وعليه فانفهام المطلق منه هل هو من باب الانصراف أو الإطلاق وعدم التقييد بترك ذكر القيد معه؟ وجوه بل أقوال ، أظهرها وفاقا لجماعة من فحول الأعلام الأوّل ولعلّه المشهور فيما بينهم.

لنا على ذلك : تبادر الإطلاق عند الإطلاق ، وهو أمارة الحقيقة والأصل فيه كونه وضعيّا ، مضافا إلى عدم استحقاق العبد المبادر إلى امتثال الأمر للذمّ مع قيام احتمال توقّف وجوبه على شيء غير حاصل ، وإلى استحقاقه الذمّ لو أخّر الامتثال معتذرا بقيام الاحتمال المذكور.

والفرق بينه وبين الأوّل ـ مع رجوعه إليه ـ واضح يلتفت إليه المتأمّل ، فلا يرد أنّه تكرار في دليل واحد.

ويدلّ عليه أيضا صحّة السلب عمّا قيّد وجوبه قبل حصول شرطه ، فيصحّ أن يقال : « إنّه ليس بواجب الآن ، ولا بلازم ، ولا بمأمور به » وهو من أقوى علائم الوضع.

لا يقال : إنّه لا ملازمة بين الموادّ والصيغة كما في السؤال وكذلك الالتماس فإنّه ليس بمأمور به مع أنّ الصيغة تستعمل فيهما حقيقة.

لأنّا نقول : فرق واضح بين ما ذكر وبين محلّ البحث ، فإنّ صحّة السلب ثمّة من جهة انتفاء قيد « العلوّ » عن السؤال والالتماس المعتبر في مفهوم الأمر ، وصدق الصيغة عليهما حقيقة إنّما من جهة عدم اعتبار ذلك القيد في مفهومها.

وأمّا هنا فيصحّ السلب وإن صدرت الصيغة عن العالي على جهة الاستعلاء وليس ذلك إلاّ من جهة انتفاء مفهوم الوجوب الّذي هو الموضوع له في الصيغة.

٣٩٥

والسرّ في ذلك أنّ الوجوب عبارة إمّا عن الطلب المتأكّد أو عن الطلب المتفصّل بالمنع عن النقيض ، وظاهر أنّ الطلب والمنع مفهومان فعليّان (١) والمقيّد قبل حصول الشرط خال عنهما ، فيكون استعمال الصيغة فيما لا وجوب له بهذا المعنى مرادا بها الطلب التقديري المشروط بحصول ما يوجب عدم حصوله عدم تحقّق الطلب الفعلي مجازا ، لأنّه حينئذ خلاف ما وضع له الصيغة.

فالاعتراض على ما ذكرناه من التبادر ـ بما في الهداية ـ من أنّه تبادر إطلاقيّ حاصل من ظهور الإطلاق لكون التقييد على خلاف الأصل كما هو الحال في سائر الإطلاقات ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، من جهة ابتنائه على قلّة التدبّر لوضوح الفرق بين محلّ البحث وسائر الإطلاقات ، فإنّ المطلق والمقيّد ثمّة وصفان للّفظ ويفارقان بحسب المعنى مفارقة اللابشرط وبشرط شيء ، وهنا وصفان للمعنى ويفارقان مفارقة بشرط شيء ، وبشرط شيء مناقض للشيء الأوّل ، لما اعتبر في مفهوم الأوّل من الطلب الفعلي وفي مفهوم الثاني من الطلب التقديري وهو ليس بفرد من الأوّل ، وكونه فردا من الطلب المطلق لا يجدي لكونه قدرا مشتركا بين المفهوم الحقيقي والمفهوم المجازي ، فلذا يصحّ لفاقد الشرط القول بأنّ الحجّ ليس بواجب عليّ ، أي ليس بمطلوب منّي طلبا حتميّا مع ثبوت الطلب التقديري في حقّه جزما ، فلولا عدم كفاية الطلب التقديري في الصدق الحقيقي لما صحّ ذلك.

ومن البيّن أنّ المأخوذ في مفهوم الأمر ما هو من ماهيّة الطلب حقيقة والتقديري ليس منها فليس بداخل في مفهومها ، فالمطلق والمقيّد هنا متناقضان وفي المقيس عليه متصادقان ، لكون الأوّل كلّيّا صادقا على الثاني الّذي هو من جزئيّاته ولو إضافيّا ، وإطلاق ثبوت الطلب في الأوّل من قسمي المقيس بالنسبة إلى حالتي وجود ما يظنّ كونه شرطا وعدم وجوده إنّما هو من لوازم فعليّته حين الخطاب لا أنّ الملحوظ حين الوضع هو الطلب المطلق ، كما أنّ تقيّد ثبوته بحالة وجوده في قسمه الثاني من لوازم تقديريّة الطلب بخلاف المقيس عليه ، فإنّ الإطلاق فيه من جهة كون المسمىّ بالوضع هو الماهيّة المطلقة والتقييد من جهة ما ينضمّ إليها ممّا يوجب تشخّصها وكون ما يحصل منهما فردا لها والمقيّد

__________________

(١) ولنا في تحقيق هذا المطلب كلام أوضح ممّا ذكر هنا أوردنا في البحث في حكم الواجب بالنسبة إلى النفسي والغيري وإن شئت فارجع إليه ، لتنتقل إلى ما حقيقة المقصود ولقد ذكرناه بعد ما أجبنا عن دليل من يخاصمنا ثمّة في دعوى كون الواجب مطلقا مجازا في الغير أيضا. ( منه عفي عنه ).

٣٩٦

في المقيس ليس بهذه المثابة ، مع أنّ تبادر الإطلاق في المقيس عليه إن اريد به تبادر الماهيّة المطلقة فهو تبادر لعين الموضوع له فكيف يقال : بأنّه تبادر إطلاقي.

وإن اريد به تبادر الشمول البدلي بالنسبة إلى أفراد تلك الماهيّة نظرا إلى حكم العقل به لئلاّ يلزم تأخير البيان الموجب للإغراء بالجهل ، فهو ليس مناط الاستدلال لأنّه تبادر ثانويّ يحصل عقيب تبادر الماهيّة المطلقة فلا يصحّ موردا للمناقشة ، مع أنّ المقيّد هنا بما هو مقيّد لا كلام لأحد في كونه معنى مجازيّا للمطلق بما هو مطلق.

نعم لهم كلام في أنّ المراد به في مقام التقييد هل هو المقيّد بما هو مقيّد ليلزم المجاز ، أو الماهيّة المطلقة والخصوصيّة إنّما تفهم من الخارج ليكون الاستعمال حقيقة؟

وهذا الكلام كما ترى لا يجري في محلّ الكلام ، لأنّ المقيّد ليس فردا من المطلق لينوط حقيقيّة الاستعمال ومجازيّته بإرادة الخصوصيّة من اللفظ وعدمها.

والعجب عن بعض الأفاضل كيف يتعلّق بما مرّ من الاعتراض الّذي لا يليق صدوره عمّن دونه بمراتب فضلا عنه.

وأعجب منه قوله ـ عقيب ما تقدم ـ : « ومن البيّن أنّ تقييد الأمر بشرط أو شرائط لا يزيد على تقييد المأمور به بذلك مع إطلاق الأمر ، فكما أنّ الثاني يكون على وجه الحقيقة فكذا الأوّل من غير فرق أصلا ، فإنّ المأمور به مفهوم لا بشرط فلا ينافيه ألف شرط والواجب المطلق مفهوم بشرط شيء فينافيه ما بشرط شيء آخر.

وتوضيح ذلك : أنّ « الرقبة » في « أعتق رقبة » إنّما وضعت للماهيّة اللابشرط ، لا بمعنى كونه قيدا لها بل بمعنى العراء عن جميع الشروط والقيود المعتبرة في أفرادها ، فإذا قيل « رقبة مؤمنة » لم يكن التقييد المذكور يستلزم تجوّزا فيها لأنّ المراد بها حينئذ هو الماهيّة حال وجودها في ضمن فردها المؤمنة ، والحالة مفهومة عن تركيبها مع القيد ، كما أنّ الخصوصيّة مرادة من القيد فلا يدخل في الموضوع له شيء ولا يخرج عنه شيء.

نعم ربّما نتردّد فيما لو كان القيد قد ورد بمقيّد منفصل مؤخّر وروده عن المطلق ، بناءا على جعله بيانا له إذا لم نتحقّق عن بناء العرف أنّهم يريدون من اللفظ حين إطلاقه مع البناء على إيراد قيده في الزمن المتأخّر الماهيّة مع وصفها بما يقتضيه ذلك القيد من أوصاف أفرادها ، فيكون يلزم أن يتجوّز فيه لا محالة أو الماهيّة المطلقة حال وصفها بالوصف المذكور فيكون يلزم كونه على وجه الحقيقة ، بخلاف ما لو كان التقييد بمقيّد

٣٩٧

متّصل ، فإنّ فهم العرف وبناءهم قائم فيه قاض بعدم تعلّق الإرادة من اللفظ إلاّ بالماهيّة المطلقة.

وأمّا في محلّ البحث ، فمن البيّن أنّ تقييد المطلق بما فرض مع الأمر من الشرط يوجب أن يخرج عنه شيء ممّا اعتبر في مفهومه ويدخل مكان ذلك شيء آخر مناقض له ، وهو على تقدير كونه الموضوع له خاصّة يستلزم التجوّز جزما ، ولو فرض معه الوضع له مع ذلك القيد أيضا لكان قولا بالاشتراك لفظا وهو لا يرضى به ، وكونه من باب الاشتراك المعنوي ممّا لا يكاد يعقل للقطع بانتفاء ما يصلح قدرا مشتركا بين القسمين وفقد ثالث يكون جامعا لهما ، لأنّ الطلب إمّا تنجيزي أو تعليقي ولا ثالث بينهما.

وعلى فرض ثبوته فالوضع له مقطوع بعدمه لعدم وقوع استعمال الأمر إلاّ في أحدهما بالخصوص ، فلو صحّ الفرض يلزم المجاز بلا حقيقة في غاية الكثرة وهو كما ترى.

فمن هنا تبيّن أنّ ما في كلام بعض الفضلاء من « أنّ مطلق الأمر موضوع للأعمّ من القسمين وأنّه حقيقة مع كلّ من الاعتبارين » وارد على خلاف التحقيق إن كان غرضه دعوى الوضع للقدر المشترك ، وإن كان غرضه دعوى الوضع للمطلق بتوهّم أنّه أعمّ من المقيّد فيكون اللفظ حقيقة مع كلّ من الإطلاق والتقييد كما في سائر المطلقات بالقياس إلى مقيّداتها فقد اتّضح ضعفه ، بأنّ المطلق هنا مبائن للمقيّد لا أنّه أعمّ منه جتّى يندرج فيما ذكر.

كما يتّضح أيضا أنّ ما أفادنا بعض مشايخنا ـ دام ظلّه ـ من أنّ الحقّ في صيغة الأمر كونها موضوعة للقدر المشترك بين المطلق والمقيّد وهو الماهيّة المهملة القابلة لكلّ من الإطلاق والتقييد من باب الاشتراك ، مع كون انفهام المطلق منها حيثما اطلقت مجرّدة عن القيد إنّما هو من باب الإطلاق وترك ذكر البيان في مقام الحاجة ، موردا على من توهّم كونه من باب الانصراف كما في المطلقات المنصرفة إلى بعض أفرادها بأنّ الانصراف لابدّ وأن ينشأ من غلبة الوجود أو غلبة الإطلاق والاستعمال.

ولا ريب أنّ الغلبة بكلا معنييها منتفية هنا لعدم غلبة بالنسبة إلى المطلق الّذي هو أحد فردي مدلول الأمر لا من حيث الوجود ولا من حيث الاستعمال ، ليس بسديد لابتنائه على أصل فاسد علم فساده ، ولعلّ الاشتباه نشأ عن الانس في المطلق والمقيّد في باب المطلقات إسما وحكما غفلة عن أنّ ذلك اصطلاح مبائن للاصطلاح الآخر المعروف ، فالقول بالاشتراك المعنوي بكلّ من وجهيه بالنظر إلى انفهام المطلق ساقط.

٣٩٨

وأمّا القول بالاشتراك اللفظي فعزاه كثير منهم إلى السيّد ودليله ـ على ما في كلام جماعة منهم ـ الاستعمال ، فإنّ الأمر يستعمل تارة في الإطلاق واخرى في التقييد فيشترك بينهما ويتوقّف في التعيين إلى أن يجد دلالة ، وجوابه بعد ملاحظة عموم الاستعمال واضح.

مضافا إلى أولويّة المجاز من الاشتراك مع وجود بعض خواصّه كما لا يخفى.

والاعتراض عليه : بأنّه لو صحّ ذلك لكان جميع الأوامر الواردة في الشريعة مجازات ، لوضوح كونها مقيّدة بشرائط عديدة كما في كلام بعض الأفاضل.

يدفعه : أنّ المراد بالشرائط العديدة إن كان شرائط التكليف الأربع ، ففيه : أنّ الأوامر المقيّدة بها لا تتعلّق إلاّ بواجدي تلك الشرائط ، فلا ترد في الخطابات إلاّ مطلقة ضرورة انقلاب المقيّد عند وجود شرطه مطلقا ، وإن كان ما عدا تلك الشرائط.

ففيه : أنّ الأوامر المقيّدة بذلك ليس في الكثرة على حدّ يوجب ما ذكر ، وعلى تقديره نقول إنّها أيضا لا تتوجّه إلاّ إلى واجديه كما صرّح به المحقّقون.

ثمّ يبقى الكلام في نسبة هذا القول إلى السيّد ، فإن كانوا قد استفادوه عن تصريح منه أو كلام له ظاهر فيه فلا كلام.

وإن كانوا استفادوه عن عبارته في الذريعة والشافي الّتي نقلها المصنّف ، ففيه : أنّ غاية ما يستفاد من تلك العبارة إنّما هو التوقّف فيما لو ثبت مع الأمر شرط واشتبه فدار بين كونه قيدا لنفس الأمر أو للمأمور به دورانه بين التقييدين.

ومن البيّن أنّ التوقّف بهذا المعنى غير ملزوم للاشتراك ، بل القول به يجامع سائر الأقوال أيضا ، وذلك أنّه في تلك العبارة بعد ما قسّم الأوامر الواردة في الشريعة على قسمين :

أحدهما : ما لا يقتضي الأمر بالشيء إيجاب مقدّماته ، كالأمر بالزكاة والحجّ الّذي لا يقتضي وجوب تحصيل النصاب ولا تحصيل الاستطاعة علينا من جهة كونه مشروطا ، والواجب المشروط لا وجوب في مقدّمات وجوبه اتّفاقا.

والآخر : ما يقتضي إيجاب الشيء إيجاب مقدّماته كالأمر بالصلاة ونحوها بالنسبة إلى الوضوء ، فرّق في مقدّمات القسم الثاني بين السبب فقال فيه بالوجوب وبين غيره فلم يقل فيه بالوجوب ، لا من جهة أنّه مفصّل في المسألة بين السبب وغيره كما هو المعروف منه ، بل من جهة أنّ غير السبب من المقدّمات متردّد بين كونه مقيّدا للأمر شرطا للوجوب أو مقيّدا للمأمور به شرطا للواجب ، وجعل سببيّة بعض المقدّمات قرينة على كونه قيدا

٣٩٩

للمأمور به ودليلا على تعيين تقييد الواجب بخلاف غيره كالطهارة للصلاة ، فإنّها مع كونها مقدّمة لوجود الصلاة محتملة لكونها مقدّمة لوجوبها أيضا كالزكاة والحجّ ، فلا يجب علينا الصلاة إلاّ إذا تكلّفنا بتحصيل الطهارة ، وعدم كونها شرطا للوجوب فتكون واجبة علينا بوجوب الصلاة ، والقاعدة في مثل ذلك يقتضي الرجوع إلى الخارج فإن وجد منه شيء يقضي بأحد الأمرين يؤخذ به جزما ، وإلاّ يتوقّف لدوران شرط الوجود بين كونه شرطا للوجوب وعدمه ، من جهة فقد القرينة الدالّة على كون الشيء مع كونه شرطا للوجود شرطا للوجوب أيضا أو شرطا للوجود الصرف وهو موضع التوقّف من حيث الاجتهاد ، والرجوع إلى الاصول العمليّة من حيث الفقاهة ، من غير فرق في ذلك بين القول بالاشتراك ولا غيره حتّى القول بالحقيقة والمجاز ، فمجرّد التوقّف لا يقضي بالاشتراك كما زعموه لكونه أعمّ.

لا يقال : قضيّة ما ذكر في تقرير الاشتباه كون الكلام في مقدّمة كونها شرطا للوجود محرز وإنّما الشبهة في اعتبار أمر زائد وهو كونها مع ذلك شرطا للوجوب أيضا ، ومثل ذلك ليس من مواضع التوقّف لاندفاع الشكّ من جهة كونه في الحدوث بالأصل ، فيبقى احتمال كون الواجب مطلقا والمقدّمة شرطا للوجود سليما عن المعارض.

لأنّا نقول : ليس المراد بشرط الوجود هاهنا ما هو المعهود منه أعني كونه شرطا للوجود الصرف ، حتّى يقال : إنّ كونه شرطا للوجود ثابت وإنّما الشكّ في كونه شرطا للوجوب أيضا فيدفع بالأصل ، ضرورة استحالة كون شرط الوجود الصرف شرطا للوجوب أيضا ، لاستلزامه كون الشيء واجبا وغير واجب ، فإنّ ذلك من جهة كونه شرطا للوجود الصرف يستدعي كون المشروط به بمجرّد الأمر به واجبا وإن لم يكن حاصلا ، ومن حيث كونه شرطا للوجوب يستلزم عدم كونه واجبا بمجرّد الأمر ما دام غير حاصل ، ويلزم ذلك بالنسبة إلى الشرط أيضا على القول بوجوب المقدّمة وهو كما ترى ممّا لا يتعقّل إلاّ على تجويز الجمع بين النقيضين ، بل المراد به الأمر المجمل الدائر بين شرط الوجود بهذا المعنى وشرط الوجوب المقابل له الّذي يعبّر عنه بالقدر المشترك وهو شرط الصحّة ، فإنّ كون الشيء شرطا لصحّة المأمور به إمّا باعتبار أنّه قيد فيه كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، أو قيد في الأمر كاستطاعة الحجّ.

وعلى كلا التقديرين يلزم من انتفائه انتفاء الصحّة ، ضرورة أنّها عبارة عن موافقة الأمر فهو على فرض كونه قيدا في المأمور به لا موافقة للأمر بدونه.

٤٠٠