تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

فعلى الأوّل يكون ذلك من أوّل حدوثه إلى انتهائه كونا واحدا متحقّقا في تلك المدّة.

وعلى الثاني يكون مركّبا من أكوان متكثّرة متعدّدة على حسب تعدّد الآنات المتخلّلة في تلك المدّة ، ويكون في كلّ آن من تلك الآنات كونا متجدّدا.

وعلى الأوّل اختلفوا في أنّ ذلك الكون الباقي في تلك المدّة هل يحتاج إلى المؤثّر في بقائه كما كان محتاجا إليه في حدوثه أو لا؟ بل هو كون واحد مستمرّ بلا افتقار له إلى تجدّد تأثير من المحلّ.

وبما قرّرناه تبيّن وجه ابتناء ما ذكر على أحد الأمرين ، إذ على القول بعدم البقاء يتجدّد منه في كلّ آن كون ، وهو تأثير والتأثير فعل فلا يمكن فرضه في شيء من آنات الترك خاليا عن الفعل ، وكذلك على القول بالبقاء والاحتياج إلى المؤثّر إذ يتجدّد منه أيضا في كلّ آن تأثير وهو الإبقاء ، فلا يكون خاليا عن الفعل أيضا.

وقد يورد عليه : بأنّ هذا التفصيل مبنيّ على أن يكون الأكوان على تقدير عدم البقاء مستندة إلى المكلّف ، والبقاء على تقدير الحاجة مستندا إلى علّة الحدوث وإن كانت علّة إعداديّة.

وكلاهما في محلّ المنع ، لجواز أن يقال : بعدم بقاء الأكوان ويلتزم بخلوّ المكلّف عن جميع الأفعال ، بأن يكون الكون الأوّل صادرا عنه وبقيّة الأكوان مستندة إلى علّة اخرى كالكون الأوّل من حيث إعداده لحصولها ، أو يكون كلّ كون لاحق مستندا إلى الكون السابق من حيث إعداده لحصوله ، وهذا هو الظاهر على هذا القول بدليل صدورها حال الغفلة وعدم الشعور.

أو يقال : بالبقاء واحتياجه إلى المؤثّر ويلتزم بالخلوّ نظرا إلى استناد البقاء إلى غير المقتضي للحدوث ـ أعني المكلّف ـ كما في كثير من الآثار الإعداديّة.

وأنت خبير بما فيه من الغفلة عن محلّ البحث بالمرّة وخروجه عن مقصد كلام الجماعة ، فإنّ مقصودهم بالبناء على أحد هذين القولين تخليص الأفعال اللازمة لترك الحرام عن حكم الوجوب وإبقاؤها على إباحتها الأصليّة ، قبالا للكعبي الذاهب إلى وجوبها جميعا ، وهو لا يستقيم إلاّ إذا كانت الأكوان المتجدّدة على تقدير عدم البقاء ، والتأثير في البقاء على تقدير بقاء الأكوان فعلا للمكلّف مستندا إليه لأنّه محلّ قابل لهما ، ولو فرض صدور ذلك عن غير المكلّف وإنّما هو وصف له مسبّب عن أمر آخر من العلل الإعداديّة فلا يقول

٧٤١

الجماعة بإباحته ولا الكعبي بوجوبه.

فإن قلت : استناد العلّة الاولى إلى المكلّف لصدورها عنه كاف في صحّة استناد الباقي إليه ، وإن لم يكن أثرا حاصلا من تأثيره.

قلت : إن اريد بالاستناد إليه ما يكون حقيقيّا فهو عدول عن الفرض ، إذ لا يكون كذلك إلاّ إذا كان تأثيرا له على سبيل الحقيقة ، وإن اريد به ما يكون مجازيّا باعتبار استناده حقيقة إلى ما يستند إليه حقيقة فيصحّ أن يستند إليه أيضا من جهة السببيّة فهو غير مجد في صحّة تعلّق التكليف به ، لإناطته بما يستند إليه بعنوان الحقيقة ويعدّ من أفعاله باعتبار الواقع ، على أنّه لو صحّ ذلك لزم أن يكون جميع الصفات التوليديّة الحاصلة فيه المستندة إلى فعله الاختياري المعدّ لها ـ كعلمه الحاصل عن نظره ، وحبّه وبغضه الحاصلين عن النظر في مبادئهما ، ولون يده الحاصل بتلطيخها بالحناء ، والحرارة والبرودة الحاصلتين بجلوسه عند النار والبرد ، ونحو ذلك ممّا لا يحصى عددا ـ محلاّ للتكليف ومناطا للثواب والعقاب ، فيلزم أن يكون اللون الحاصل بحناء مغصوب والسكر الحاصل من شربه للخمر حراما وهو كما ترى.

فإن قلت : قياس محلّ الكلام على الامور المذكورة مع الفارق لخروجها بالمرّة عن تحت قدرة المكلّف ، فهو بعد إيجاد أسبابها الموجبة لحصولها لا يقدر على رفعها وإزالتها عن نفسه بخلاف المقام ، فإنّ الأكوان المتجدّدة أو الكون الباقي وإن لم يستند إلى المكلّف استنادا تامّا ولكن لقدرته مدخل فيها قطعا ، لظهور أنّ تجدّدها آنا فآنا أو بقاءها في آنات متعدّدة مشروط بعدم إرادته رفعها ، وهذا القدر من الاستناد كاف في صحّة التكليف.

قلت : القدرة على رفع المسبّب فرع القدرة على رفع السبب ، والسبب إذا كان هو الكون أو الكون السابق على الكون اللاحق فهو معدوم والقدرة لا تتعلّق بالمعدوم ، مضافا إلى أنّه مرتفع ، فإنشاء التأثير في رفعه تحصيل للحاصل وهو أيضا محال ، فلابدّ وأن يكون متعلّق القدرة في تأثير الرفع هو الكون الحاصل فعلا أو الّذي هو في معرض الحصول ولا يعقل ذلك إلاّ إذا كان حصوله من تأثير المكلّف وهو خلاف الفرض.

وبالجملة ما ذكره الفاضل المورد احتمال سخيف لا ينبغي الالتفات إليه ، ولا يصلح إيرادا على الجماعة فيما ذكروه من البناء.

وقد سبقه إلى مثله المدقّق الشيرواني حيث قال ـ في جملة كلام له ـ : « على أنّ وجوب استناد الأكوان إلى محلّه ممنوع ، لجواز أن يستند الحركة والسكون في الجسم إلى

٧٤٢

وإن قلنا بالبقاء والاستغناء ، جاز خلوّ المكلّف من كلّ فعل ؛ فلا يكون هناك إلاّ الترك *.

__________________

غير ذلك الجسم المتحرّك وكذا الأمر في الاجتماع والافتراق ، فعلى هذا لو قلنا بتجدّد الأكوان واحتياجه مع بقائه إلى المؤثّر لا يلزم كون المؤثّر هو ذلك الجسم الّذي هو محلّ الكون ، فيمكن خلوّه عن كلّ فعل في هذه الصورة أيضا » وقد اتّضح وهنه.

وأمّا ما قيل : من أنّ الشبهة المذكورة مبنيّة على أحد هذين المذهبين لقيام ما يصلح لاتّصافه بالوجوب عند الكعبي وإلاّ فعلى المذهب الآخر وهو بقاء الأكوان مع عدم الاحتياج إلى المؤثّر فلا يتمّ تقريب الاستدلال على وجوب المباح كائنا ما كان وإن قلنا بالتوقّف والاستلزام ، لصيرورة الكون الباقي من باب المقدّمات الغير المقدورة الخارجة عن اختيار المكلّف فلا تصلح موردا للتكليف ، فلا وقع فيه أصلا بل هو اشتباه ناش عن قلّة التدبّر ، لما ذكره بعض الفضلاء في دفع ذلك من أنّ ترك الحرام على هذا التقدير يتوقّف على أحد الأمرين من التشاغل بفعل من الأفعال والخلوّ من الجميع أو يستلزمهما ، فإن جعلنا الخلوّ ممّا يصحّ أن يتعلّق به التكليف كان أحد أفراد الواجب المخيّر وإلاّ تعلّق الوجوب بالفرد الآخر على التعيين وإن سقط بحصول الخلوّ.

* بيان لزيادة وضوح فساد مذهب الكعبي لو كان في المسألة من أصحاب هذا القول ، لأنّه تجويز لانفكاك الترك عن كلّ أمر وجودي وفعل مضادّ للحرام ، وهو لا يلائم القول بكون المباح ممّا يتوقّف عليه ترك الحرام أو ملزوما له ، ضرورة امتناع تخلّف الموقوف عليه عن الموقوف والملزوم عن لازمه.

وأنت بالتأمّل فيما تقدّم تقدر على توهين ذلك من جهة أنّ ترك الحرام على هذا القول لازم أعمّ لفعل المباح ، وموقوف على أحد الأمرين : منه ومن الخلوّ عن جميع الأفعال ، فلا يكون المصير إليه إلزاما للمستدلّ ، فإنّ منظوره إثبات الوجوب للمباح حيثما يتحقّق الترك في ضمنه ، مع أنّ حصول الترك بالخلوّ لا يستدعي سقوط التكليف بالمرّة حتّى يبقى المباح الّذي هو أحد فردي المقدّمة أو الملزوم على إباحته ، كما هو قضيّة دوام التكليف في المحرّمات حيثما اجتمع سائر شرائطه كما لا يخفى.

إلاّ أن يقال : بأنّ هذا التقدير تأكيد لما ادّعي في المقام على أحد التقديرين الأوّلين من

٧٤٣

وأمّا مع انتفاء الصارف وتوقّف الامتثال * على فعل منها ـ للعلم بأنّه لا يتحقّق الترك ولا يحصل إلاّ مع فعله ـ فمن يقول بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به

__________________

أنّ ترك الحرام يستند إلى وجود الصارف بلا مدخليّة لفعل الضدّ في ضمنه ، فيكون استشهادا عليه بأنّه في عدم افتقاره إلى فعل الضدّ بحيث إنّه يتحقّق على التقدير الثالث بلا حصول فعل معه ، فيكون ذلك كاشفا عن أنّ الفعل الوجودي حيثما حصل في ضمنه كان من باب المقارنة الاتّفاقيّة والاستلزام الأحياني.

وقد يورد (١) على العبارة : بأنّ الكلام فيما يصحّ وصفه بالإباحة هل يخلو المكلّف عنه أو لا؟ ومن البيّن أنّ الكون الباقي وإن لم يتحقّق فيه التأثير يوصف بالإباحة.

ألا ترى أنّ الساكن في المكان المغصوب سكونا مستمرّا يوصف بفعل الحرام عند القائل باستغناء الباقي عن المؤثّر ، حتّى أنّ عقابه يزيد باستمرار السكون فيتّصف بالإباحة أيضا.

نعم لو لم يتعلّق ببقاء الفعل إباحة وحرمة عند القائل بالاستغناء لكان لما ذكره وجه في الجملة وليس الأمر كذلك.

وأنت بالتأمّل فيما قرّرناه تعرف ما فيه أيضا ، فإنّ صحّة وصف الباقي عند القائل بالاستغناء بالإباحة والحرمة إن اريد به وصفه بعنوان الحقيقة بهما ، ففيه منع واضح ، كيف وأنّ الأحكام لا تتعلّق إلاّ بما يكون للمكلّف فيه تأثير بعنوان الحقيقة والمفروض خلافه ، ولا ينتقض ذلك بتعلّق التكليف في ظاهر الخطاب بالمسبّبات الّتي تكون من مقولة التوليديّات الخارجة عن اختيار المكلّف ، لما تقدّم في بحث المقدّمة من أنّه تعلّق ظاهري ، بدليل أنّ المكلّف لا يتصوّر عند إنشاء التكليف إلاّ الأسباب فيكون متعلّقه في الواقع هو الأسباب ، ولا ينافيه التعبير في الخطاب بالمسبّبات لأنّه حينئذ من باب ذكر المسبّب وإرادة السبب مجازا ولا ضير فيه بعد قيام القرينة العقليّة.

وإن اريد به وصفه بهما باعتبار المبدأ الّذي هو منشأ له ولو على سبيل التجوّز فهو غير مجد في المقام ، لكون الكلام فيما يصحّ وصفه بهما بعنوان الحقيقة والمفروض خلافه.

* ولا يخفى أنّ الصارف إن اريد به هنا عدم الميل والشوق النفسانيّين التابعين لاعتقاد عدم الرجحان أو عدم اعتقاد الرجحان ـ حسبما تقدّم ـ أمكن فرض انتفائه في جميع

__________________

(١) المورد هو المدقّق الشيرواني ( منه ).

٧٤٤

مطلقا ، يلتزم بالوجوب في هذا الفرض ، ولا ضير فيه ، كما أشار إليه بعضهم. ومن لا يقول به فهو في سعة من هذا وغيره.

__________________

آنات التكليف مع عدم حصول الفعل ، ولكنّه لا يتمّ معه الفرض لعدم قضاء ذلك بتوقّف الترك على فعل منها ، وإن اريد به عدم الإرادة بمعنى العزم على الفعل المقارن له ، لم يمكن فرض انتفائه في الحال مع عدم حصول الفعل ليلزم توقّف الترك على فعل ، لأنّ انتفاءه جزء أخير من العلّة التامّة مقارن للفعل فلا يعقل مع حصول الفعل للترك محلّ حتّى يتحقّق توقّفه على فعل آخر ، فلابدّ وأن يكون المراد من انتفائه المعلوم معه توقّف الترك على فعل انتفاءه في غير الحال من الآنات المتأخّرة عنه اللاحقة به ، بمعنى أنّ المكلّف له صارف عن الحرام في الحال الحاضر ولكنّه يعلم بأنّه لو لم يتشاغل بفعل مّا لانتفى عنه الصارف في الآن اللاحق فوقع في الحرام ، فيكون ذلك الفعل حينئذ ممّا يتوقّف عليه الترك اللاحق بواسطة توقّفه على بقاء الصارف المتوقّف على ذلك الفعل.

وبذلك يندفع ما أورد عليه من الدور المقرّر : بأنّه سلّم عند الجواب عن الوجه الأوّل من احتجاج الخصم على دلالة الأمر على النهي عن الضدّ الخاصّ توقّف الفعل على ترك الضدّ الخاصّ.

فأجاب عن الاحتجاج بمنع وجوب المقدّمة الغير السببيّة وقد سلّم هاهنا أيضا توقّف أحد الضدّين على فعل الآخر ففيه دور.

وقد بسطنا الكلام في دفعه في بحث التمانع بما لا مزيد عليه حتّى في الصورة النادرة الّتي فرضها المصنّف هنا ولا نطيل الكلام باعادته.

وأورد عليه أيضا : بأنّه على ما ذكره يكون فعل مباح مّا أحد أفراد الواجب المخيّر الّذي هو أعمّ من وجود المانع وعدم الشرط فيكون واجبا مخيّرا ، ولا يندفع به شبهة الكعبي ولو فرض أنّ الصارف أمر غير اختياري لم يضرّ.

وقد أشرنا فيما سبق إلى ما يدفع ذلك ، فإنّ وجوب المباح في بعض الصور من باب مقدّمة المقدّمة لا تقضي بوجوبه في جميع الصور ولو تخييرا حتّى فيما لو لم يتوقّف المقدّمة وهو الصارف عليه وذلك واضح لا خفاء فيه.

نعم إنّما يرد على أصل هذا الكلام منع المقدّميّة حتّى في تلك الصورة ، فإنّ مقدّمة الصارف

٧٤٥

ـ وهو عدم الإرادة ـ لابدّ وأن يكون نقيض ما هو مقدّمة لنقيض الصارف وهو الإرادة.

ولا ريب أنّ مقدّمة إرادة الحرام في الصورة المفروضة إنّما هو البقاء في المكان المذكور عند الأجنبيّة ، فيكون مقدّمة الصارف ترك هذا البقاء وكون فعل المباح كالخروج مثلا مقدّمة لا يستقيم إلاّ إذا فرض كونه عين ترك البقاء أو مقدّمة سببيّة له ، والكلّ [ كما ترى ] إذ ليس الخروج بالإضافة إلى ترك البقاء إلاّ كالحركة بالإضافة إلى ترك السكون ، وكما أنّ الحركة ليست بعين ترك السكون ولا علّة له إلاّ على القول بالتمانع ، فكذلك الخروج بالقياس إلى البقاء.

فالتحقيق في الصورة المفروضة أنّه يحرم على المكلّف البقاء في المكان المفروض لا أنّه يجب عليه الخروج ، وأنّ أحدهما ليس بعين الآخر.

وقد يجاب عن الشبهة أيضا : بأنّها على تقدير صحّتها لا توجب نفي المباح رأسا ، فإنّ المكلّف قد لا يتمكّن من فعل الحرام فلا يجب عليه تركه ، لأنّ النهي عن الممتنع قبيح كالأمر بالواجب فلا يجب عليه مقدّمة أصلا ، وذلك كالمتشاغل حال الغفلة عن الحرام أو تعذّره منه وهذا ممّا لا حصر له.

واعلم أنّ المصنّف تعرّض هنا لدفع شبهة الكعبي استطرادا ، وإلاّ فهو بصدد إبطال حجّة الخصم المدّعي للنهي عن الضدّ الخاصّ استنادا إلى امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم.

وقد عرفت أنّ له في تلك الشبهة طرقا ثلاث ، فكان الأولى تعرّضه لدفعها في جميع طرقها ، وكان الاقتصار بدفعها في طريقها المعروف من جهة إحالة دفع طريقها الأوّل إلى وضوح فساده ، والاكتفاء في دفع طريقها الثالث بما ذكره إجمالا ويذكره تفصيلا في دفع احتجاج خصمه لكون مبناهما على أمر واحد ، فلا يرد على المصنّف أنّ إبطال الشبهة في بعض طرقها لا يقضي ببطلانها مطلقا بعد ما كان لها طرق عديدة.

ثمّ إنّ المعروف من مذهب الكعبي أنّه قائل بنفي المباح فقط مع أنّ حجّته تجري في المندوب والمكروه أيضا.

غاية الأمر كون كلّ مع المباح فردا للواجب المخيّر ، وقضيّة ذلك سقوطهما أيضا عمّا بين الأفعال.

وقد يقال : بإمكان إرادة القدر الجامع للامور الثلاث ، ولكن يدفعه : أنّه خلاف ما في كلام كثير منهم ، حتّى أنّهم أوردوا عليه : بأنّه قد خالف الإجماع في انقسام الأفعال إلى

٧٤٦

إذا تمهّد هذا فاعلم : أنّه إن كان المراد باستلزام الضدّ الخاصّ لترك المأمور به ، أنّه لا ينفكّ عنه ، وليس بينهما علّيّة ولا مشاركة في علّة ، فقد عرفت : أنّ القول بتحريم الملزوم حينئذ لتحريم اللازم ، لا وجه له *. وإن كان المراد أنّه علّة فيه ومقتض له ، فهو ممنوع ، لما هو بيّن ، من أنّ العلّة في الترك المذكور إنّما هي وجود الصارف عن فعل المأمور به وعدم الداعي إليه ** ، وذلك مستمرّ مع فعل الأضداد الخاصّة ؛

__________________

الخمسة المعروفة فجعلها منقسمة إلى الأربعة ، وكأنّ ذلك ناش عن قصور عبارته في بيان المذهب أو قصور من القوم في نقل مذهبه ، ومع ذلك فالأمر فيه سهل.

* أي حينئذ لم يكن الملزوم علّة للازم ولا مشاركا له في العلّة لا وجه لتوهّم أنّه يحرم بتحريم اللازم ، والتعبير عن الأوّل بالملزوم وعن الثاني باللازم لعلّه جري على ما هو المذكور في الاستدلال من استلزام فعل الضدّ ترك المأمور به المصرّح بكون الفعل ملزوما والترك لازما محرّما ، وإلاّ فاللزوم بالقياس إلى المتلازمين ثابت لكلّ منهما ، فكلّ لازم وملزوم ، فيصحّ أن يقال مكان العبارة : « لا وجه للقول بتحريم اللازم لتحريم الملزوم » كما لا يخفى.

** العطف فيما بين وجود الصارف وعدم الداعي يمكن كونه عطف تفسير ، فيراد بهما عدم الشوق والميل النفساني التابعين لعدم موافقة الغرض أو مخالفته ، ولكن يرد عليه حينئذ : بطلان الحصر المستفاد من كلمة « إنّما » إذ العلّة في الترك كثيرا مّا تكون انتفاء الإرادة بمعنى العزم على الإيجاد المقارن للفعل مع وجود الشوق والميل ، لما عرفت من أنّها الجزء الأخير من العلّة التامّة للوجود لا مجرّد الشوق والميل ، أو يراد بهما عدم الإرادة بهذا المعنى فيصحّ ، ولكن لا يساعده ظهور « الداعي » من حيث إنّه في كلماتهم ظاهر في العلّة الغائيّة الّتي تنشأ منها الرجحان واعتقاده والشوق والميل النفساني ، ويمكن كونه عطف بينونة فإمّا أن يراد « بالواو » حينئذ الجمع أو أحد الأمرين بتنزيله منزلة « أو ».

والأوّل غير مستقيم لعدم مدخليّة الانضمام في العلّيّة وكفاية مجرّد وجود الصارف في ترتّب الترك عليه سواء انتفى معه الداعي أيضا أو لا.

والثاني سليم عمّا ذكر ، ولكن يبقى المناقشة في جعل عدم الداعي قسيما لوجود

٧٤٧

فلا يتصوّر صدورها ممّن جمع شرائط التكليف مع انتفاء الصارف * ،

__________________

الصارف ، مع أنّه لا ينفكّ عنه عند ترتّب الترك عليه ، إذ الصارف على كلّ تقدير من تقادير الترك لابدّ وأن يتحقّق معه.

إلاّ أن يقال : بأنّ الترك مع عدم الداعي يستند إليه فقط ، لكون وجود الصارف حينئذ تابعا له.

ويدفعه : أنّ إرادة الإيجاد على تقدير الفعل غير منوطة بالداعي ، بل هي اختياريّة تجامع كلاّ من وجود الداعي وعدمه ، فيستند إليها الفعل وهي مستندة إلى الاختيار.

غاية الأمر أنّ الاختيار قد يتعلّل بوجود الداعي وقد لا يتعلّل به ، وكذلك الترك فإنّه مسبوق بعدم إرادة الإيجاد لا محالة فيستند اليه دائما ، وهي اختياري يستند إلى الاختيار ، غايته كون الاختيار ممّا يتعلّل تارة بانتفاء الداعي واخرى بغيره وثالثة لا يتعلّل بشيء.

وكيف كان ففي كلام بعض الأفاضل : أنّه قد يكون مجرّد وجود الصارف وعدم الداعي إلى الفعل كافيا في ترك المأمور به ، من دون حاجة إلى حصول ضدّ من أضداده ، وقد لا يكون ذلك كافيا ما لم يحصل الضدّ كما إذا نذر البقاء على الطهارة في مدّة معيّنة يمكن البقاء عليها فيها ، فإنّه إذا تطهّر حينئذ لم يكن رفعها إلاّ بايجاد ضدّها ، ومجرّد انتفاء الداعي إلى البقاء عليها لا يكفي في انتفائها ، فيتوقّف رفعها إذن على وجود الضدّ الخاصّ ، فيكون وجود ذلك الضدّ وهو السبب لترك المأمور به وإن كان مسبوقا بالإرادة ، وكذا الحال في الصوم بعد انعقاده إن قلنا بعدم فساده بارتفاع نيّة الصوم إلى آخره.

ويمكن دفعه : بأنّ البقاء على الطهارة عبارة عن الاستمرار على عدم إيجاد سبب الانتقاض ، والصارف عنه عدم إرادته بالمعنى المقارن للإيجاد وهو ملزوم لإيجاد السبب إن لم يكن عينه فلا فرق.

* قرينة على أنّ مراده بالصارف في محلّ البحث هو عدم الإرادة بمعنى العزم المقارن للإيجاد ، لأنّه الّذي لا يتصوّر معه صدور الأضداد الخاصّة دون الإرادة بمعنى الشوق والميل ، وغرضه من هذا الكلام تتميم ردّ الاحتجاج المنحلّ إلى ترديد علّية فعل الضدّ للترك بين وجود الصارف وانتفائه ، فعلى الأوّل يستند الترك إلى الصارف دون الضدّ ، وعلى الثاني يمتنع وجود الضدّ فضلا عن علّته.

ووجهه : إنّه أيضا مسبوق بإرادته المقارنة للإيجاد ، ولا يجتمع الإرادتان المقارنتان

٧٤٨

إلاّ على سبيل الإلجاء ، والتكليف معه ساقط *. وهكذا القول بتقدير أن يراد بالاستلزام اشتراكهما في العلّة ، فإنّه ممنوع أيضا ** ؛

__________________

لإيجادي المتضادّين وقد فرضناها حاصلة بالنسبة إلى المأمور به ، فلا يمكن صدورها بالنسبة إلى ضدّه أيضا وإلاّ لزم اجتماع الضدّين.

* استثناء عن المنفيّ ، أي يتصوّر صدور الضدّ مع انتفاء الصارف في صورة الإلجاء وهو إكراه الغير على الترك ، فلا يريد بذلك بيان أنّ الترك يستند في تلك الصورة إلى فعل الضدّ ، حتّى يرد عليه : منع ذلك لاستناده حينئذ إلى الإلجاء المفروض كاستناد فعل الضدّ إليه ، فلا وقع لما في كلام بعض الأفاضل من الإيراد عليه بذلك.

ولكن قوله : « والتكليف معه ساقط » ربّما يوهن إرادة هذا المعنى ، لكفايته على تقدير كونه مرادا في ردّ الخصم ، ولا حاجة معه إلى إبداء كون الفرض خارجا عن محلّ البحث لعدم حرمة في الترك المفروض ليحرم بها الضدّ الحاصل معه.

إلاّ أن يقال : بوروده من باب التنزّل والمجاراة مع الخصم بزعم أنّه لعلّه لا يكتفي بدعوى عدم استناد الترك في تلك الصورة أيضا إلى فعل الضدّ ، أو لا يسلّم استناده كفعل الضدّ إلى ما فرض من الإلجاء.

ولكن يشكل الفرض بما تقدّم من أنّ فعل الضدّ أيضا مسبوق بإرادة إيجاده ، فكيف يعقل صدور مع انتفاء الصارف بالنسبة إلى المأمور به.

ويمكن دفعه : بأنّ إرادة الإيجاد شرط للفعل الاختياري والمفروض صادر إلجاء فليس باختياري حتّى يستلزم إرادة مضادّة لإرادة المأمور به ، والمفروض أنّ إرادة إيجاد المأمور به ليس بنفسه علّة تامّة بل هو شرط ، والشرط إنّما يؤثّر مع عدم وجود المانع والالجاء مانع ، ولا ينافيه ما تكرّر ذكره من كونها جزءا أخيرا للعلّة التامّة ، لأنّ ذلك على تقدير إحراز سائر الأجزاء منها عدم المانع ، فهي مع عدم المانع جزءان يتسابقان في كونهما جزءا أخيرا فقد يسبق تحقّق عدم المانع على الإرادة ، وقد تسبق الإرادة ، فأيّ منهما سبق يكون الآخر جزءا أخيرا غير أنّ الغالب سبق إحراز عدم المانع على حصولها ، فكونها جزءا أخيرا باعتبار الغالب.

** هذا المنع إنّما يتّجه لو اريد بالعلّة المشتركة بينهما العلّة التامّة أو السبب القريب ،

٧٤٩

لوضوح أنّ لإرادة الضدّ وعدم إرادة المأمور به أو إرادة تركه مدخليّة في فعل الضدّ وترك المأمور به وهما متقابلان ، فكيف يعقل كون العلّة التامّة فيهما واحدة ، ولا اشتراك لهما أيضا في السبب القريب لتعدّده فيهما غالبا.

نعم قد يتّحدان في السبب القريب كما في صورة الإكراه الموجب لانتفاء إرادة المأمور به وحدوث إرادة ضدّه.

وأمّا لو اريد بها ما يعمّ السبب البعيد أيضا فلا ، لإمكان دعوى انتهائهما بوسائط إلى أمر واحد وهو الغرض المعبّر عنه بالغاية المطلوبة ، فإنّه علّة لحصول ما يوافقه وعدم حصول ما يخالفه ، فإذا كان غرض المكلّف وغايته المطلوبة له في دار التكليف ملازمة التقوى والتقرّب إلى الله جلّ شأنه أو إدراك مثوباته والتحرّز عن سخطه وعقوباته حسبما هو من وظيفة الأولياء والمطيعين ، فالصلاة وغيرها من أنواع العبادات توافق غرضه ذلك ، والنوم وغيره من الأفعال المباحة لا يوافقه ، والزناء وغيره من الأفعال المحرّمة يخالفه ، فقضيّة ذلك رجحان الأوّل ومرجوحيّة الثاني في نظره واعتقاده بهما ، ثمّ ميله النفساني إلى الأوّل وانقباضه عن الثاني ، ثمّ إرادة إيجاد الأوّل وعدم إرادة إيجاد الثاني أو إرادة عدم إيجاده ، فينتهي كلّ من الفعل والترك بالأخرة إلى أمر واحد.

ومثله الكلام في عكس القضيّة كما لو كان غرض الإنسان والغاية المطلوبة له متابعة الهوى والتعبّد بشهوة النفس وطلب راحتها وتربية البدن بملازمة اللذائذ الجسمانيّة من الأطعمة والأشربة والألبسة والأنكحة ونحوها على ما هو من شأن الأشقياء والعاصين ، فالنوم والاشتغال في تحصيل ما يحصل به غرضه كائنا ما كان يوافقه ، والصلاة ونحوها من أنواع العبادات الشاقّة لا يوافقه بل يخالفه.

فقضيّة ذلك رجحان الأوّل ومرجوحيّة الثاني في نظره ، إلى أن آل الأمر بعد الاعتقاد بهما إلى الميل إلى الأوّل فالانقباض عن الثاني ، ثمّ إرادة إيجاد الأوّل وعدم إرادة إيجاد الثاني أو إرادة عدم إيجاده نعوذ بالله من تلك الرتبة الدنيّة ، وإن كان مكافاتها المثوبات الاخرويّة.

ولا ريب أنّ الترك والفعل وإن تقارنا في الحصول من غير علّية بينهما غير أنّ انتهاءهما إلى شيء واحد هو علّة لهما وإن كانت بعيدة ، فالمنع عن ذلك بإطلاقه ليس في محلّه.

وأورد عليه أيضا : بأنّه إنّما يتوجه في صورة الاختيار وأمّا في صورة الإلجاء فلا ، لأنّه يمكن أن يكونا معلولي علّة واحدة ، نعم يسقط التكليف.

٧٥٠

لظهور أنّ الصارف الّذي هو العلّة في الترك ليس علّة لفعل الضدّ *. نعم هو مع إرادة الضدّ من جملة ما يتوقّف عليه فعل الضدّ ** ، فإذا كان واجبا كانا ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به.

وإذ قد أثبتنا سابقا عدم وجوب غير السبب من مقدّمة الواجب ، فلا حكم فيهما بواسطة ما هما مقدّمة له ***

__________________

وكأنّه اريد بالعلّة الواحدة في تلك الصورة السبب القريب ، فيرجع إلى ما أشرنا إليه دون العلّة التامّة ، وإلاّ فيردّه ما أشرنا إليه أيضا ، والإلجاء ليس بنفسه علّة تامّة كما عرفت.

* والوجه في ذلك : أنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادة إيجاده وهو أخصّ من الصارف الّذي هو عدم إرادة إيجاد المأمور به أو إرادة عدم إيجاده ، وظاهر أنّ الأعمّ لا يستلزم الأخصّ ، وكون علّة الشيء أعمّ من علّة شيء آخر لا يقضي بترتّب معلول الأخصّ على العلّة الأعمّ كما لا يخفى.

** اعترض المحقّق السلطان : بأنّ هذا ممنوع في الصارف ، بل لا توقّف لفعل الضدّ على الصارف أصلا ، وإنّما هو المقارنة من الجانبين بلا توقّف من الجانبين ، وهو في محلّه ، ولا مصادمة فيه للاصول المقرّرة كما توهّمه المدقّق.

*** قرينة واضحة على أنّ مراده بالسبب هنا وفي بحث المقدّمة المقتضي الّذي هو أعمّ من العلّة التامّة لا الجزء الأخير منها ، كيف وإرادة الضدّ مع الصارف عندهم جزء أخير من العلّة ، فلو كان مراده بالسبب هنا وفي بحث المقدّمة الجزء الأخير من العلّة لكان قوله : « فلا حكم فيهما بواسطة ما هما مقدّمة له » مع فرضه الضدّ واجبا مناقضا لمختاره في مقدّمة الواجب من وجوب السبب الّذي أشار إليه هنا أيضا.

والعجب من المحقّق المشار إليه كيف غفل عن ذلك فاحتمل كون مراده بالسبب في كلا المقامين الجزء الأخير من العلّة.

فقال : لعلّ المراد بالسبب ليس العلّة التامّة إذ تسليم وجوبها يستلزم وجوب كلّ جزء من أجزائها إذ جزء الواجب واجب اتّفاقا ، فلا يتصوّر بعد تسليم وجوب السبب بمعنى العلّة التامّة هنا منع وجوب كلّ واحد ممّا ذكر أنّه من جملة ما يتوقّف عليه فعل الواجب مع كونهما جزئين للعلّة ، فلعلّ المراد بالسبب هاهنا وفي بحث مقدّمة الواجب مطلقا هو الأخير من العلّة التامّة الّذي هو علّة قريبة للفعل عرفا ، كالصعود على السلّم للكون على

٧٥١

لكنّ الصارف باعتبار اقتضائه ترك المأمور به ، يكون منهيّا عنه ، كما قد عرفت *.

__________________

السطح على ما مثّلوا به ، إلى آخره.

ولا يخفى ما في تعليله بتوهّمه الفاسد من فساد آخر لمنع الملازمة بين وجوب الكلّ ووجوب كلّ واحد من أجزائه ، وقرّرنا في بحث المقدّمة جريان الخلاف في الأجزاء أيضا كسائر المقدّمات الخارجة ، والاتّفاق المدّعى على خروج الأجزاء عن موضع النزاع في محلّ المنع ، ولو سلّم فهو اتّفاق على وجوب الجزء بوجوب الكلّ ، ومحلّ الخلاف وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة والفرق بينهما واضح ، من حيث إنّ الوجوب على الأوّل واحد له إضافة إلى الكلّ أصالة وإلى الجزء تبعا ، وعلى الثاني يتعدّد الوجوب أحدهما نفسي أصلي والآخر غيري تبعي ، مع ما في قوله : « كالصعود على السلّم » من بطلان توهّم كونه جزءا أخيرا ، بل الجزء الأخير هو الإرادة المتحقّقة عند الكون على الدرجة الأخيرة من درجات السلّم المقارنة لحصول الكون على السطح ، مع أنّ ما ذكره من اللازم يجري في المثال المذكور من جهة أنّ الصعود على السلّم أيضا له أجزاء وشرائط كالصعود على كلّ درجة درجة وإرادة ذلك الصعود ، ولا ريب أنّ كلّ واحد بانفراده ليس سببا بل السبب هو المجموع ، فلو وجب المجموع لزم وجوب كلّ جزء وهو خلاف ما يقول به المصنّف.

* إشارة إلى ما حقّقه سابقا من أنّ تحريم اللازم يستلزم تحريم الملزوم إذا كان علّة له ، والمفروض أنّ علّة الترك المحرّم هو الصارف بلا مشاركة لغيره له في التأثير ، فلذا لو اجتمع سائر شرائط الوجود كان الصارف بانفراده مؤثّرا في العدم ، فهذا هو المؤثّر أيضا على تقدير انتفاء بعض الشرائط أيضا غير ما هو راجع إلى انتفاء الصارف ، فإنّه إنّما يؤثّر إذا امتنع الفعل ولو مع انتفاء الصارف وهو خلاف البديهة.

ولكن يبقى الكلام معه في جعل ذلك علّة أو سببا بمعناهما المصطلح ، لعدم اندراجه في شيء منهما كما يشهد التأمّل في حدّيهما المعروفين.

ولعلّ المراد بالعلّة والسبب هنا وفي بحث المقدّمة ما يستند إليه خاصّة الفعل أو الترك في نظر العقل أو العرف ، وإن لم يكن علّة تامّة أو سببا بمعناهما المعروف ، فيصحّ عدّ الصارف حينئذ علّة بهذا المعنى لأنّه الّذي يستند إليه الترك عقلا وعرفا ، كما لو صادف اجتماع سائر شرائط الوجود أو عرفا فقط كما لو صادف انتفاء سائر الشرائط كلاّ أم بعضا.

٧٥٢

فإذا أتى به المكلّف عوقب عليه من تلك الجهة *. وذلك لا ينافي التوصّل به إلى الواجب ، فيحصل ، ويصحّ الإتيان بالواجب الّذي هو أحد الأضداد الخاصّة **. ويكون النهي متعلّقا بتلك المقدّمة ومعلولها ، لا بالضدّ المصاحب للمعلول.

* الضمير المجرور بالباء عائد إلى الضدّ الّذي فرضه واجبا لا يتمّ إلاّ بإرادته مع الصارف الّذي فرضه منهيّا عنه لاقتضائه ترك المأمور به ، والتقييد بالجهة بيان لعدم كون العقاب المترتّب على فعل الضدّ حينئذ من جهة نفسه ، حتّى يقال : إنّه فرع النهي ، بل من جهة اشتماله على مقدّمة محرّمة وهو الصارف لمكان النهي عنه باعتبار كونه مقدّمة سببيّة للحرام ، فالعقاب حقيقة مترتّب عليه لا على فعل الضدّ ، وهذا المعنى كما ترى لا يلائم ما ذكره بعد ذلك من قوله : « وذلك لا ينافي التوصّل به إلى الواجب » لكون الضميرين في سياق واحد ، والمفروض أنّه في الثاني لا يعود إلاّ إلى الصارف فليكن الأوّل أيضا عائدا إليه ، فيكون المعنى حينئذ : أنّ الصارف لكونه منهيّا عنه باعتبار اقتضائه ترك المأمور به إذا أوجده المكلّف يعاقب عليه لا من جهة نفسه بل من جهة اقتضائه ترك المأمور به.

وقيل : إنّ هذا الكلام ظاهر في ترتّب العقاب على ترك المقدّمة ، وهو ضعيف لما قرّر في محلّه من أنّ المقدّمة من حيث هي لا توجب ثوابا ولا عقابا ، ولكن قوله : « من تلك الجهة » يأبى عن إرادة [ هذا ] المعنى لقضائه بكون العقاب الّذي يترتّب عليه هو العقاب المترتّب على الحرام لا ما يزيد عليه حتّى يتعدّد العقاب ، فظهور الكلام فيما ذكر ممنوع.

** إشارة إلى دفع توهّم فساد ضدّ المأمور به إذا كان من الواجبات.

وتوضيحه : أنّ فساد الضدّ إمّا من جهة أنّه لولاه لزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو غير جائز ، فلابدّ من ارتكاب خلاف ظاهر في أحد الخطابين وليس إلاّ تقييد الأمر بالضدّ بغير صورة المعارضة لكونه قابلا له من جهة أنّه موسّع ، أو أنّه لولاه لزم الأمر بالمتضادّين وهو محال لقبح تكليف ما لا يطاق ، نظرا إلى امتناع الجمع بينهما في الامتثال على ما يقتضيه الأمر بهما معا ، فلابدّ من التصرّف في الخطاب بالوجه المذكور ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّه فرع اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ وقد منعناه بجميع طرقه.

٧٥٣

وأمّا الثاني : فلأنّ المحذور إنّما يلزم إذا كان الأمران عينيّين مرادا بهما الامتثال في زمان واحد وليس كذلك لمكان توسعة الأمر بالضدّ ، فليس متعلّقه خصوص ما يعارض المأمور به المضيّق بل الكلّي الّذي شموله له ولغيره من الأفراد المفروضة باعتبار أجزاء الزمان بدلي ، فكونه موجبا للامتثال ليس من جهة أنّه مأمور به بالخصوص ، بل من جهة انطباق المأمور به عليه كما لو كان الامتثال حاصلا في ضمن غير هذا الفرد ، فالأمر بالكلّي الشامل له بدلا مع الأمر بالمضيّق لا يعدّ أمرا بالمتضادّين اللذين لا يمكن الامتثال بهما كما هو مناط المنع ، كما يشهد به طريقة العرف حيث يعدّ العبد الآتي بفرد من الموسّع في مكان المضيّق مطيعا بالنسبة إلى الموسّع عاصيا بالنظر إلى المضيّق حيث تركه عن سوء اختياره.

ولا يذهب إلى أنّه أتى بما ليس من المأمور به ولكن كان مسقطا عن المأمور به ، وقد تقدّم زيادة توضيح في هذا المقام في دفع كلام بعض الأفاضل الوارد في منع الثمرة المعروفة الّتي ذكروها للقول باقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ.

فإن قلت : أنّ الحكم بصحّة الضدّ إنّما يصحّ على ما اختاره المصنّف من تجويز اختلاف المتلازمين في الحكم مطلقا في غير العلّة والمعلول ومعلولي علّة واحدة ، وأمّا على ما اخترته من منع ذلك مطلقا بالنسبة إلى الوجوب والحرمة فلا ، لمكان التلازم بين فعل الضدّ وترك المأمور به ، وصحّة الضدّ فرع الأمر به فيلزم أن يكون أحد المتلازمين واجبا والآخر هو ترك المأمور به حراما ، وهو ممّا صرّحت مرارا بعدم جوازه.

قلت : إنّما حكمنا بعدم جواز ذلك من جهة عدم إمكان الامتثال الّذي كان يقتضيه كلّ من الحرمة والوجوب فهو إنّما يسلّم فيما لو كان الأمر بالضدّ عينيّا كالأمر بالمضيّق ، وليس المقام كذلك لكون وجوب الضدّ على فرض كونه واجبا على سبيل التوسعة والمكلّف متمكّن عن امتثاله مع امتثال الحرمة في ترك المأمور به المضيّق بتقديم الإتيان به أوّلا ثمّ الإتيان بالموسّع عقيبه من دون محذور ، فلا يلزم منافاة لحكمة الحكيم لو عصى المكلّف بترك المضيّق فأتى بالموسّع في وقته الخاصّ به ، لعدم كونه عين المأمور به وصحّته عبارة عن كونه موجبا لامتثال الأمر بالكلّي الّذي لم يكن الحكيم خصّه بذلك الفرد.

فلا وقع لما ذكره بعض الأفاضل في هذا المقام اعتراضا على المصنّف في حكمه بالصحّة ، من أنّ المتلازمين إذا لم يكن بينهما علّية ولا مشاركة في علّة وإن جاز اختلافهما في الحكم حسبما ذكره لكن لا يصحّ الحكم بوجوب أحدهما وحرمة الآخر ، وإن اختلف

٧٥٤

وحيث رجع حاصل البحث هاهنا إلى البناء على وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به وعدمه * ، فلو رام الخصم التعلّق بما نبّهنا عليه ، بعد تقريبه بنوع من التوجيه ، كأن يقول : « لو لم يكن الضدّ منهيّا عنه ، لصحّ فعله وإن كان واجبا موسّعا. لكنّه لا يصحّ في الواجب الموسّع ** ؛ لأنّ فعل الضدّ يتوقّف على وجود الصارف عن الفعل المأمور به ، وهو محرّم قطعا. فلو صحّ مع ذلك فعل الواجب الموسّع ، لكان هذا الصارف واجبا باعتبار كونه ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به.

__________________

محلّ الحكمين لعدم إمكان العمل على مقتضى التكليفين لاستحالة الانفكاك بين الأمرين بحسب العقل والعادة ، فإيجاب أحدهما وتحريم الآخر من قبيل التكليف بالمحال ومن الواضح أنّه كما يستحيل التكليف بما يستحيل الإتيان به كذا يستحيل حصول تكليفين أو تكاليف يستحيل الجمع بينهما في الامتثال وخروج المكلّف عن عهدتها ، وحينئذ فلا يصحّ الحكم بحرمة الصارف ووجوب الضدّ المتوقّف عليه. انتهى.

ووجه عدم كونه ممّا لا وقع له : إنّا لا نقول بكون الصارف مقدّمة لفعل الضدّ وإلاّ يكون من باب الأمر بواجب له مقدّمة محرّمة مع الانحصار ، وقد نبّهنا في بحث المقدّمة على عدم جوازه.

نعم هذا الاعتراض على المصنّف وكلّ من يقول بمقالته في محلّه.

* فعلى مذهب المصنّف لا يكون الصارف المحرّم واجبا وإن كان ممّا لا يتمّ الضدّ الواجب إلاّ به لكونه غير السبب ، وعلى مذهب غيره المعمّم في وجوب المقدّمة بالنسبة إلى غير السبب الصارف واجبا مع كونه محرّما ، لكونه سببا للمحرّم وهو ترك المأمور به.

** يمكن كون الصحّة هنا مرادا بها معناها الظاهر أعني موافقة الأمر على وجه يشمل الضدّ بجميع أنواعه من المباح والمكروه والمندوب والواجب بإدخال التقدير في تعلّق الأمر حتّى يكون المعنى : أنّه لو لم يكن منهيّا عنه لوافق فعله الأمر على تقدير كونه مأمورا به وإن كان واجبا موسّعا ، وذكر كلمة « إن » للترقّي من الأدنى إلى الأعلى كما لا يخفى.

وإنّما خصّ الواجب الموسّع في استثناء نقيض التالي بالذكر مع أنّ موضوع المقدّم أعمّ منه ومن غيره لوجود جهة الاستثناء على وجه يلتزم بها الخصم ، وهو لزوم اجتماع الأمر والنهي في الصارف فيه خاصّة ، فإذا حصل من استثناء نقيض التالي رفع المقدّم بالنسبة إلى

٧٥٥

الواجب الموسّع يتمّ المطلوب في الباقي بعدم القول بالفصل ، إذ لم يكن أحد فصّل في إثبات النهي عن الضدّ بين الواجب وغيره.

فعلى هذا لا حاجة إلى ما تكلّفه بعضهم من حمل « الصحّة » على المعنى المتناول للإباحة موافقة المأمور به ، بأن يكون تحقّقه بالنسبة إلى غير الواجب الموسّع في ضمن الإباحة وبالنسبة إليه في ضمن الموافقة المذكورة ، أو حملها على الجواز المتناول لغير الحرام.

نعم يرد عليه على كلّ تقدير : أنّ غاية ما تقضي به جهة المنع بالنسبة إلى الواجب الموسّع انتفاء الأمر عنه حال كونه ضدّا للمأمور به المضيّق لئلاّ يلزم اجتماع الأمر والنهي في الصارف ، فيلزم أن لا يكون الضدّ مأمورا به في هذه الحالة وهو أعمّ من كونه منهيّا عنه ، فلم يلزم من استثناء نقيض التالي رفع المقدّم.

ولعلّ الأمر بالشيء ملزوم لعدم الأمر بالضدّ ـ كما يراه بعض المتأخّرين ـ لا خصوص النهي عنه كما هو المطلوب ، والظاهر أنّه لا خلاف بين المحشّين في توجيه هذا الإيراد إلى عبارة الاستدلال.

ويمكن دفعه : بأنّ مطلوب الخصم في توجيه هذا الاستدلال بالنسبة إلى الضدّ إذا كان واجبا موسّعا متضمّن لجزءين :

أحدهما : عدم كونه مأمورا به حال كونه ضدّا ، ويثبته بأنّه لو كان مأمورا به في تلك الحال لزم اجتماع الوجوب في الحرمة الصارف وهو باطل.

وثانيهما : كونه منهيّا عنه على تقدير عدم كونه مأمورا به ويثبته بمقدّمة اخرى أحرزها أوّلا وهو عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

وبيان ذلك : أنّ فعل الضدّ ملزوم للصارف عن المأمور به مع إرادته ، كما أنّ الصارف عن المأمور به مع إرادة الضدّ ملزوم لفعل الضدّ ، فالتلازم ثابت من الطرفين ولمّا كان اختلاف المتلازمين في الحكم ممتنعا فرفعه يتأتّى تارة بتسرية حكم الملزوم ـ وهو الوجوب على تقدير كونه مأمورا به ـ إلى الصارف ، واخرى بتسرية حكم اللازم ـ وهو الحرمة ـ إلى الملزوم ، والأوّل وإن كان يثبته مضافا إلى تلك القاعدة قاعدة وجوب المقدّمة على تقدير وجوب ذي المقدّمة ، غير أنّه ممّا لا سبيل إليه لأدائه إلى أمر محال وهو لزوم اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد شخصي ، فتعيّن الثاني.

وقضيّة ذلك كون فعل الضدّ كلازمه محرّما ومنهيّا عنه وهو المطلوب ، وليس لأحد أن

٧٥٦

فيلزم إجتماع الوجوب والتحريم في أمر واحد شخصيّ * ، ولا ريب في بطلانه » **

لدفعناه ، بأنّ صحّة البناء على وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به ، تقتضي تماميّة الوجه الأوّل من الحجّة ، فلا يحتاج إلى هذا الوجه الطويل ***.

__________________

يقول : بأنّ المصنّف دفع تلك المقدّمة سابقا فلا يمكن التثبّت بها في ذلك المقام ، لأنّ المصنّف عدل عمّا ذكره أوّلا ووجّه الاستدلال بنحو ما ذكر من باب التنزيل ومع الإغماض عمّا ذكره أوّلا من منع امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ، وهو مبنيّ على فرض تسليمه تلك المقدّمة ، فتأمّل (١).

* والوجه في كون الصارف أمرا واحدا شخصيّا واضح ، من جهة أنّه لا ينفكّ عن فعل الضدّ لكونه ممّا لا يتمّ الضدّ إلاّ به ، فليس أمرا كلّيّا له أفراد يكون واجبا في بعضها وحراما في البعض الآخر.

** مبنيّ على ما يراه المصنّف في باب اجتماع الأمر والنهي عن عدم كون اختلاف الجهة مجديا في الجواز على ما يراه جماعة منهم بعض الأعلام ، وإلاّ أمكن له دفع الاحتجاج بغير ما يذكره فيما بعد ذلك من تجويز اجتماعهما إذا كان الوجوب للتوصّل.

*** محصّله : أنّه لو كان قاعدة وجوب المقدّمة نافعة في إثبات تحريم الضدّ لكان الوجه الأوّل من دليلي المفصّل ـ وهو كون ترك الضدّ ممّا لا يتمّ المأمور به إلاّ به فيكون واجبا ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، فيكون فعل الضدّ محرّما ـ كافيا في ذلك ، فلا حاجة معه إلى ذكر هذا الوجه الطويل المتضمّن لبيان أنّ الصارف الّذي هو محرّم ممّا لا يتمّ فعل الضدّ إلاّ به فيكون واجبا على تقدير وجوب الضدّ.

ولكن قد ذكرنا أنّ هذا الوجه ليس بنافع إمّا لعدم وجوب غير السبب من مقدّمات الواجب كما عليه المصنّف ، أو لعدم كون ترك الضدّ ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به كما عليه بعض المحقّقين وهو الموافق للصواب ، فإذا ثبت بطلان هذا الوجه الّذي هو الأصل في الاستدلال

__________________

(١) قوله : « فتأمّل » إشارة إلى أنّ ما ذكره المصنّف في توجيه الاستدلال عن قبل الخصم فإنّما ذكره بعد إلزامه الخصم في استدلاله بعدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ، فيكون حاصل التوجيه : أنّ الخصم لو رام ـ بعد ما صار ملزما ـ التمسّك بطريق آخر لإثبات مطلوبه من باب أنّ الغريق يتشبّث بكلّ حشيش لنلزمه بما سيأتي ذكره من منع بطلان اجتماع الوجوب والحرمة في خصوص المقام فليتدبّر. ( منه عفي عنه ).

٧٥٧

على أنّ الّذي يقتضيه التدبّر ، في وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به مطلقا ، على القول به ، أنّه ليس على حدّ غيره من الواجبات *. وإلاّ لكان اللاّزم ـ في نحو ما إذا وجب الحجّ على النائي فقطع المسافة أو بعضها على وجه منهيّ عنه ـ أن لا يحصل الامتثال حينئذ ؛ فيجب عليه إعادة السعي بوجه سائغ ، لعدم صلاحية الفعل المنهيّ عنه للامتثال ، كما سيأتي بيانه. وهم لا يقولون بوجوب الاعادة قطعا ؛ فعلم أنّ الوجوب فيها إنّما هو للتوصّل بها إلى الواجب. ولا ريب أنّه بعد الإتيان بالفعل المنهيّ عنه يحصل التوصّل ؛ فيسقط الوجوب ، لانتفاء غايته.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : الواجب الموسّع كالصلاة مثلا يتوقّف حصوله ـ بحيث يتحقّق به الامتثال ـ على إرادته وكراهة ضدّه ؛ فإذا قلنا بوجوب ما يتوقّف عليه الواجب كانت تلك الإرادة وهاتيك الكراهة واجبتين ، فلا يجوز تعلّق الكراهة بالضدّ الواجب ؛ لأنّ كراهته محرّمة ، فيجتمع حينئذ الوجوب والتحريم في شيء واحد شخصيّ. وهو باطل ، كما سيجيء.

__________________

تثبت بطلان ذلك الوجه الطويل لكونهما من باب واحد.

والجواب عنهما يرد على سياق واحد ، فالمصنّف يدفعهما لعدم وجوب المقدّمة الغير السببيّة والصارف ليس بسبب كما أنّ ترك الضدّ ليس بسبب ، وعلى مذهب الحقّ يدفع أصل المقدّميّة ، إذ الصارف ليس بمقدّمة لفعل الضدّ بل يقارن معه في الوجود ، كما أنّ ترك الضدّ ليس بمقدّمة لفعل المأمور به.

* جواب آخر ذكره مع الإغماض والتنزّل عمّا هو الحقّ في الجواب عنده الّذي ذكره أوّلا ، لأنّه مبنيّ على فرض تسليم وجوب غير السبب من مقدّمات الواجب والمصنّف لا يرضى به ، فالجواب بما هو مبنيّ عليه تنزّل ومماشاة مع الخصم ، ولا بأس به لكونه غير عزيز في طريقة العلماء. وغرضه من هذا الجواب إبداء الفرق بين الوجوب الثابت للمقدّمة وما يثبت لغيرها من الواجبات الأصليّة ، فإنّه وجوب يثبت لمجرّد التوصّل إلى واجب آخر وليس بحيث يكون منوطا بالصفة الكامنة في الشيء الموجبة لكونه مطلوبا بالذات مقصودا

٧٥٨

لكن قد عرفت : أنّ الوجوب في مثله إنّما هو للتوصّل إلى ما لا يتمّ الواجب إلاّ به. فإذا فرض أنّ المكلّف عصى وكره ضدّا واجبا ، حصل له التوصّل إلى المطلوب ؛ فيسقط ذلك الوجوب ؛ لفوات الغرض منه ، كما علم من مثال الحجّ.

__________________

بالأصالة على ما تقرّر في بحث المقدّمة ، فإذا حصل بينه وبين غيره من وجوب سائر الواجبات ذلك الفرق الواضح فلا مانع من اجتماعه مع الحرمة ، وكأنّه مبنيّ على ما يراه جماعة من جواز اجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام وقد أشرنا إلى ضعفه في غير موضع.

وتفصيل القول فيه هنا : أنّه لا فرق في نظر العقل ولا العرف في عدم جواز وصف المحرّم بالوجوب ولا وصف الواجب بالمحرّم بين كون الواجب توصّليّا أو غيره.

فإنّ غاية ما يمكن أن يتمسّك به المجوّز هنا ما ذكره الجماعة من أنّ المناط في اجتماع الوجوب مع الحرمة هو المعاندة بين محبوبيّة الفعل ومطلوبيّته في نفسه لمبغوضيّته ومطلوبيّة تركه فلا يجتمعان في محلّ واحد ، وهذا المعنى غير حاصل في المقدّمة لعدم كونها مطلوبة في حدّ ذاتها ، وإنّما يتعلّق بها الطلب لأجل إيصالها إلى غيرها ، وتلك الجهة تحصل بكلّ من المحلّل والمحرّم ، فلا مانع من طلبها حتما ولو كانت في حدّ ذاتها محرّمة ، وهذا معنى اجتماع الوجوب مع الحرمة.

ولا يخفى وهنه ، فإنّ مجرّد طروّ جهة الإيصال لا يصلح مقتضيا لتعلّق الطلب بما هو مبغوض ذاتا ومطلوب تركه أصالة ، كيف ومعنى وجوب الحرام أنّ الشارع تصوّر ما هو مبغوض في نظره لاشتماله على منقصة ذاتيّة مع اعتقاد مرجوحيّته وكراهة عن حصوله وعدم رضاه به بل ومنعه عنه فطلبه من المكلّف حتما وألزمه به ، وهو ممّا لا يكاد يعقل إلاّ في شيء ذي منقصة ذاتيّة طرءه جهة خارجيّة مقتضية لرجحانه بالعرض رجحانا فائقا على المرجوحيّة الحاصلة فيه من جهة منقصة ذاته بالغا إلى حدّ أوجب لطلبه حتما وإلزام المكلّف به ، كالكذب إذا أوجب إنجاء نبيّ ، وإهلاك النفس إذا أوجب إحياء دين ، والغصب إذا أوجب حفظ نفس محترمة ، وغير ذلك من المحرّمات السائغ استعمالها في مقام الضرورة وموضع الاضطرار لحفظ نفس أو عرض أو دين أو مذهب.

وكون محلّ البحث من هذا الباب لا يسلّم إلاّ إذا انحصر مقدّمة الواجب الذاتي في المحرّمة مع بلوغ رجحانه الذاتي حدّا يغلب معه على ما في المقدّمة من المرجوحيّة الذاتيّة ،

٧٥٩

ومن هنا يتّجه أن يقال بعدم اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ الخاصّ ، وإن قلنا بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به ؛ إذ كونه وجوبه للتوصّل يقتضي اختصاصه بحالة إمكانه ، ولا ريب أنّه ، مع وجود الصارف عن الفعل الواجب وعدم الداعي ، لا يمكن التوصّل ؛ فلا معنى لوجوب المقدّمة حينئذ. وقد علمت أنّ وجود الصارف وعدم الداعي مستمرّان مع الأضداد الخاصّة.

__________________

كحفظ بيضة الإسلام ودفاع المعاندين عن ربقة المسلمين إذا توقّف على ركوب دوابّ أو استعمال آلات مغصوبة غير محلّلة ، وهو كما ترى غير مطّرد في جميع جزئيّات المبحث ، وفيما يتّفق ذلك أيضا لا يبقى فيه حرمة وطلب فعلي للترك ، بل هو واجب صرف ومطلوب فعله ولا يبقى فيه مبغوضيّة لطروّ الجهة المحبوبيّة بالعرض.

نعم فيه منقصة ذاتيّة مقهورة في جنب المزيّة الحاصلة فيه لعارض ولا تأثير لها حينئذ في إفادة المرجوحيّة أو المبغوضيّة أو الإلزام بتركه.

فإن اريد باجتماع الوجوب التوصّلي مع الحرمة ما يكون من هذا القبيل ، فهو ـ مع أنّه غير سار في جميع أفراد المسألة فلا يلائم إطلاق القول بالجواز ـ ليس من الاجتماع في شيء.

وإن اريد به كون ما هو مبغوض ومطلوب تركه فعلا محبوبا ومطلوبا فعله فعلا ، فهو غير معقول ، كيف وأنّ الطلب الفعلي مع قطع النظر عن عدم تعلّقه بالمبغوض أبدا لا يقصد به إلاّ الامتثال ، سواء تعلّق بإيجاد شيء أو تركه في غير موضع الابتلاء والامتحان وإلاّ كان سفها منافيا للحكمة ، والشيء إذا تعلّق بإيجاده وتركه طلبان فعليّان فإن قصد بهما معا الامتثال بمتعلّقهما لزم التكليف بالمحال ، وإن قصد بأحدهما الامتثال خاصّة أو لم يقصد الامتثال بشيء منهما لزم السفه ، وتعدّد الجهة على ما اكتفى به بعضهم في تجويز الاجتماع لا يجدي إلاّ إذا كانت الجهة بنفسها موضوعا للحكم وموردا للحسن والقبح ، لا منشأ للحكم وعلّة للحسن والقبح كما في ضرب اليتيم للتأديب والتعذيب ، فإنّ موضوع الحكمين في الحقيقة هو التأديب والتعذيب ضرورة أنّ تأديبه حسن ذاتا وتعذيبه قبيح أصلا ، غايته أنّ الضرب قد يرد في موضع التأديب فيكون حسنا مأمورا به ، وقد يرد في محلّ التعذيب فيكون قبيحا منهيّا عنه فالتأديب والتعذيب جهتان داخلتان في موضوعي الحكمين ، فها هنا حكمان فعليّان لموضوعين ممتازين ، وكون الضرب محلاّ لهذين

٧٦٠