تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المطلب الثاني

في الأوامر والنواهي *

وفيه بحثان :

__________________

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، إلى يوم الدين.

وبعد : فهذا جزء ثان ممّا علّقناه في الأصول على كتاب معالم الأصول ، نسأل الله التوفيق على ختمه ، فإنّه خير موفّق ومسؤول.

* ولا يخفى أنّ بناء جمع « الأمر » و « النهي » على « الأوامر » و « النواهي » هو المتعارف في ألسنة الأصوليّين والفقهاء ، بل الواقع في كتبهم المتداولة ، وكأنّه تصرّف منهم وارد على خلاف القانون ، فإنّ « فواعل » على ما صرّح به أئمّة الأدب لا يجمع بها إلاّ ما كان على زنة « فاعل » اسما أو وصفا ـ بمعنى « فاعلة » ـ كالكواهل والطوالق في « كاهل » و « طالق » أو « فاعله » اسما أو وصفا كالكواثب والضوارب في « كاثبة » (١) و « ضاربة ».

نعم ، ربّما يذكر البناء على هذا الجمع في اوزان على وجه الشذوذ ، ليس ما ذكر بشيء منها ، وكأنّه إطباق منهم على أنّ هذا الوزن لا يجمع ذلك الجمع.

مضافا إلى ظهوره في محلّ البحث خاصّة عن أئمّة اللغة ، حيث لم يذكروا للأوّل منهما جمعا سوى « الأمور ».

وإلى ما عن الحاجبي من أنّه لا يوجد في لسان العرب « أوامر » جمع « أمر » بل هذا شيء يذكره الفقهاء ، وجمع « الأمر » الواقع بمعنى الفعل والقول « امور » و « أوامر » جمع « آمرة ».

__________________

(١) موضع من عنق الفرس ، يضع عليه الفارس يده ( منه ).

٣

البحث الأوّل

في الأوامر *

__________________

ومن هنا تقرّر أنّ ما في كلام علماء الاصول في بحث أمارات الحقيقة والمجاز من عدّ بعضهم الاختلاف في صيغة الجمع من أمارات المجاز ، ممثّلين له بلفظ « الأمر » الّذي يجمع بمعنى القول المخصوص ـ الّذي هو حقيقة فيه ـ على « أوامر » وبمعنى الفعل ـ الّذي يشكّ في كونه حقيقة فيه ـ على « امور » فيكون مجازا فيه ، مع تقرير الآخرين إيّاه في دعوى كون جمعه على « أوامر » من دون قيام بمنعها لا ينهض دليلا على مجيئه على هذا الوزن بعد ما ذكر من الشواهد المعتبرة ، لابتنائه على ما أشرنا إليه من التصرّف المحدث الجاري على خلاف القانون.

وأمّا ما عن بعض فضلاء طلبة الدهر في توجيه ذلك من احتمال كونهما في كلامهم أيضا جمع « آمرة » و « ناهية » بإضمار لفظة « صيغة » ومثله ما حكي القول به في كلام بعض الأفاضل.

ففيه : مع أنّه تكلّف بارد مناف لتصريحاتهم ، أنّه لا يستقيم إلاّ بفرض « الآمرة » و « الناهية » وصفين للصيغة بدعوى : التجوّز في الإسناد ، أو اسمين لها بدعوى طروّ النقل والوضع الجديد في اصطلاحهم ، كما ادّعي نظيره في صيغة « افعل » بالقياس إلى كلّ فعل « أمر » والالتزام بهما كما ترى دونه أصعب من خرط القتاد ، وظنّي أنّ كون ذلك جريا على خلاف القانون ـ وفاقا لما نصّ عليه غير واحد من فضلاء أهل الفنّ ـ أولى من تلك التكلّفات الواهية.

نعم ، فيه احتمال كونه جمعا لل « أمور » على حدّ جمع الجمع ـ كما حكى القول به في الإحكام ـ غير أنّه يضعّف : بأنّه لو كان كذلك لكان جاريا مجرى « الامور » في الاستعمالات وليس كذلك ، لاختصاصه بالأقوال واختصاص « الامور » بالأفعال ، مع أنّه لو صحّ ذلك لما كان صادقا على أقلّ من تسعة كما هو القانون في جمع الجمع ـ على ما نصّوا به ـ وليس كذلك ، كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات.

* وفيه مطلبان :

المطلب الأوّل

ما يتعلّق من البحث بحال مادّة الأمر

وقد أسقطه عن البين جماعة منهم المصنّف ، إمّا لزعم قلّة الجدوى في التعرّض لحكمه ،

٤

أو التعويل على وضوحه في الخارج ، أو إحالة اتّضاحه بالنظر في الكتب المبسوطة من هذا الفنّ ، أو فنّ اللغة ، أو استفادته عمّا يبيّن من حكم الصيغة بتوهّم التطابق بينها وبين المادّة ـ على ما سبق إلى بعض الأوهام ـ وسيأتي الإشارة إلى ضعفه.

وعلى أيّ حال كان فالأنسب بما هو من ديدننا ـ من عدم الاكتفاء بما هو مسطور في زبر القوم ، ولا سيّما مع كونه من مطارح الأنظار ومزالّ الأقدام ـ صرف عنان الهمّة إلى النظر في تحقيق ذلك.

فنقول : لا خلاف بينهم ـ على ما يظهر بالتتبّع ـ في كون « الأمر » حقيقة في شيء طلبيّ في الجملة ، مردّد بين كونه قولا دالاّ على الطلب ، أو طلبا بالقول أو مطلقا ، على سبيل الاستعلاء ، أو مطلقا ، من العالي أو مطلقا ، على ما يأتي من الخلاف في جميع ذلك ، وإنّما خلافهم في دعوى الحقيقيّة وعدمها فيما عدا ذلك ، غير أنّه لا إشكال في كونه مع ما ذكر حقيقة في « الشأن » بمعنى الشغل ـ كما يقال : « أمر فلان كذا » أي شغله و « أمره مستقيم » ـ على طريق الاشتراك لفظا.

لنا : تبادره مع المعنى الأوّل عند الإطلاق ، تبادرا على نحو السويّة فيما لو قيل : « أمر فلان موافق للحكمة » و « أنّ أمره لا يخالف الحكمة » على سبيل الإجمال ، الموجب لتردّد الذهن وتحيّره ، وهو آية الاشتراك.

مضافا إلى عدم صحّة سلب الاسم عن شيء منهما ، ولو مع ملاحظة الخصوصيّة فيهما.

وقاعدة الإستعمال القاضية في مثل ذلك بالاشتراك ـ بالمعنى الّذي قرّرناه في محلّه ، لا المعنى المعروف عن السيّد ومن تبعه ـ إذ المفروض استعمال اللفظ فيهما على السواء ، إن لم نقل بكونه بالقياس إلى ثانيهما بحسب الوجود الخارجي أغلب وأكثركما لا يخفى على الناظر المنصف.

ولا جامع بينهما ليكون الاشتراك معنويّا ، ولا مناسبة معتبرة ليكون فيهما من باب الحقيقة والمجاز كما هو واضح ، وعلى فرض ثبوتها في الواقع ـ على ما نجوّزه من عدم لزوم العلم بخصوصيّة العلاقة الموجودة ، وإنّما نستكشف عنها بالمؤانسة الطبعيّة والملائمة الذوقيّة ـ فلا يلزم ذلك أيضا ، لعدم كفاية مجرّد وجودها في ثبوت المجاز ، لاشتراط اعتبارها والالتفات إليها من الجانبين عند الاستعمال في موضع الاشتباه ، بمعنى ابتناء صحّة الاستعمال على ملاحظتها ، وهو في خصوص المقام مقطوع بعدمه ، كيف ولو سلّم

٥

عدم القطع بالعدم لكفانا في نفي احتمال التجوّز نفي احتمال ملاحظتها عند الاستعمال بالأصل ، فإنّ انتفاء اللازم ـ ولو ظنّا ـ يقضي بانتفاء ملزومه.

فممّا قرّرنا تبيّن سقوط احتمال الاشتراك معنى ، مع فساد القول به كما عن الآمدي ، وبطلان استدلاله بالأصل القاضي بأولويّة الاشتراك معنى بالقياس إلى الاشتراك لفظا والمجاز ، لكونهما بكليهما على خلاف الأصل.

كما تبيّن أيضا فساد القول بالحقيقة والمجاز كما عليه الأكثر ، مع فساد مستندهم من أولويّة المجاز بالنظر إلى الاشتراك ، فإنّ هذه قاعدة تصلح مستندا إذا لم يقم هناك ما يقضي بخلافها ، وقد عرفت قيامه من وجوه شتّى فعليه المعوّل. وبملاحظة ما نبّهناك من انتفاء لوازم المجاز تعرف بطلان ما قد يستدلّ به أيضا على المجاز في « الشأن » من عدم الاطّراد ، إذ لا يصحّ إطلاق « الأمر » على الأكل والشرب ونحوهما ، وصحّة الاشتقاق منه على المعنى الأوّل دون الثاني ، واختلاف صيغة الجمع فيهما ، مع أنّها بأجمعها مدخول فيها عندنا ـ على ما حقّقناه في محلّه ـ مع توجّه المنع إلى منع الاطّراد ، كيف وأنّ كلّ فعل يصحّ التعبير عنه في العرف بـ « الشأن » يصحّ إطلاق « الأمر » عليه كما لا يخفى على المتدبّر.

وعدم صحّة إطلاق المشتقّات منه بهذا المعنى فعلا أو اسما ـ كما يصحّ إطلاق المشتقّات من سائر الأفعال ـ فإنّما هو من جهة انتقاء عمدة شرائط الاشتقاق ، وهي كون المشتقّ منه حدثا.

ثمّ إنّ هاهنا معان اخر ذكرها بعضهم.

منها : الفعل ، فقيل : بكون « الأمر » حقيقة بينه وبين المعنى الأوّل ، فإن اريد به ما يرجع إلى « الشأن » ـ كما هو ظاهر الأكثر ـ فلا كلام ، وإلاّ فيتوجّه المنع إليه ، لعدم تبادره عند الإطلاق ، بل وعدم ثبوت الاستعمال فيه بالخصوص.

وما يستدلّ به عليه من الاستعمال في قولهم : « أمر فلان مستقيم » وقوله تعالى : ( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ )(١) وقوله أيضا : ( وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ )(٢) وغير ذلك من الآيات المتكثّرة غير قاض بذلك جزما لظهور الجميع فيما ذكرنا ، مع إمكان أول ما عدا الأوّل إلى المعنى الأوّل ، أمّا في الآية الاولى فواضح الوجه بعد ملاحظة قوله : « فاتّبعوا » نظرا إلى أنّ المراد بالاتّباع الإطاعة ـ كما نصّ عليه جمع من

__________________

(١) هود : ٩٧.

(٢) القمر : ٥٠.

٦

الأصحاب ـ فالمناسب له حينئذ إنّما هو إرادة الطلب من « الأمر » كما لا يخفى ، بل هو المتعيّن نظرا إلى أنّ الاتّباع بمعنى التأسّي الّذي يعبّر عنه في الفارسيّة بـ « پيروى كردن » لا يضاف إلاّ إلى الذات فيقال : « اتّبع زيدا » ولا يقال : « اتّبع فعل زيد ».

نعم الاتّباع بمعنى الإطاعة والانقياد المعبّر عنه في الفارسيّة بـ « فرمان بردارى » يضاف إلى « الأمر » بمعنى الطلب ، فوجب حمله عليها ويلزمه حمل « الأمر » على المعنى الطلبي.

وأمّا الآية الثانية : فلجواز كون المراد به الأمر التكويني ، ويكون إثبات الوحدة له وتشبيهه بلمح البصر كفاية عن سرعة ترتّب الكون للكائنات على هذا الأمر بلا تراخ ومهلة ، بقرينة ما تكرّر منه تعالى أيضا من قوله : ( إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )(١).

ومنها : الحادثة ، نصّ عليها في القاموس وغيره ، وقضيّة حجّيّة قول اللغوي ـ على ما تقرّر في محلّه ـ ثبوت الوضع لهذا المعنى أيضا إن أفاد الوصف ، وإلاّ فأصل الاستعمال فيها بالخصوص غير ثابت ، وقوله : « عرض بي أمر » ليس نصّا في ذلك ، لجواز كونه مرادا به ما ذكر ، ومن هنا ـ مع ما سبق ـ ينقدح ما في القول بالاشتراك بينهما معنى ـ على ما حكاه الحاجبي والعضدي ـ كما في كلام بعض الأفاضل.

ومنها : الشيء والغرض والطريق والصفة ، كما نقل القول بالاشتراك بينها وبين المعنيين عن أبي الحسن البصري.

وممّا ذكرنا ينقدح ما فيه أيضا ، من عدم ثبوت أصل الاستعمال ، وأول الموارد المذكورة ـ لإطلاقه عليها ـ إلى ما ذكر ، والاستدلال عنه بتردّد الذهن وحصول [ الترديد ] عند سماع قول القائل : « أمر فلان كذا » بينها واضح المنع ، فإنّه بالنسبة إلى المعنيين مسلّم كما تقدّم ، وأمّا بالنسبة إلى غيرهما فهو فرع التبادر ، وهو غير حاصل جدّا.

وأمّا ما عن بعضهم من اشتراك « الأمر » بين القول المخصوص والأدلّة العقليّة على وجوب الأفعال ، فلعلّه غير مخالف لما سنحقّقه ، من كون « الأمر » بالمعنى الأوّل عبارة عن الطلب مع القيود المعتبرة فيه الّتي يأتي بيانها ، من غير فرق فيه بين كونه بالقول أو بغيره ، من كتابة أو إشارة أو روع في القلب ، أو رؤيا في النوم ، وأشباه ذلك ، فيندرج فيه ما يستقلّ بوجوبه العقل ، فينطبق عليه حينئذ الأدلّة العقليّة على وجوب الأفعال ، نظرا إلى أنّ الدليل العقلي عبارة ـ عندهم عن « حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي » ولكنّه مبنيّ على

__________________

(١) يس : ٨٢.

٧

كون حكم العقل من باب الإنشاء لا الإدراك ، فيصدق عليه حينئذ أنّه « أمر » بالمعنى الآتي جزما ، فما ذكره بعض الأعاظم في ردّ هذا القول ـ بأنّه مردود ، لعدم ثبوت الاستعمال في الأدلّة العقليّة بالخصوص ـ ليس بسديد.

نعم يرد على هذا القول في دعوى الحقيقيّة في القول المخصوص ، أنّ ذلك مبنيّ على ما يأتي منعه من دخول القول المخصوص في مفهوم « الأمر » ومسمّاه الحقيقي ، وأنّه بالقياس إلى الطلب لا يفترق الحال فيه بين أقسامه ، فلا وجه لتخصيصه بالأمر العقلي ، وهو الإلزام العقلي على الفعل الملازم لإلزام الشرع عليه ، بناء على ثبوت الملازمة بين حكمه وحكم الشرع.

وأمّا المعنى الأوّل الّذي أشرنا إليه إجمالا فلا بدّ من تحقيق حاله جنسا وفصلا ليتبيّن بعض الاشتباهات.

فنقول : ينبغي القطع بأنّ « الأمر » ليس من مقولة الألفاظ لغة وعرفا ، فقد أخطأ من فسّره بالقول المخصوص ، كما في كلام كثير من العامّة والخاصّة ، لعدم انسباقه إلى الذهن في شيء من استعمالاته العرفيّة ، وانسباق غيره إليه بالنظر إلى ما سيأتي في مثل قولك : « أنا آمر بكذا ومأمور بكذا » وعدم كونه ممّا يساعد عليه شيء من اطلاقات « الأمر » ولا سائر مشتقّاته عند أهل اللسان ، الذين لا يكون تعرف ذلك ونظائره إلاّ موكولا إليهم لعدم مدخليّة غيرهم فيه ، من حيث كون مفهومه عرفيّا كاشفا عن أصل اللغة ، ولو مع ضميمة بعض الأصول على ما هو الطريقة المستمرّة لديهم قديما وحديثا.

فلا وجه لما عن فخر الدين في بعض كتبه من تحديده : « باللفظ الدالّ على طلب الفعل على سبيل الاستعلاء » لوضوح البينونة بينه وبين المحدود.

مضافا إلى أنّ « اللفظ » إن اريد به الملفوظ ـ كما هو معناه المصطلح ـ لم يكن ملائما للفظ « الأمر » من حيث كونه مصدرا ، فلا يفسّر بما يبائنه ، مع أنّه ممّا يصحّ الاشتقاق منه بجميع الأنواع قولا واحدا ، مع شهادة الضرورة من العرف وأهل اللسان ، وليس كذلك « اللفظ » على هذا التقرير ، فهو آية المبائنة بينهما من وجه ثالث.

وإن اريد به التلفّظ لم يكن ملائما لتوصيفه بالدلالة ، الّتي هي وصف للّفظ بالمعنى الأوّل ، مع أنّ « آمر » أو « مأمور » إنّما يصدق على من قام به أو وقع عليه المحدود صدقا حقيقيّا بلا شائبة ريب ولا استهجان عرفي ، ولا يصدق عليهما « لافظ » ولا « متلفّظ » بالكسر والفتح ، لمكان الاستهجان عرفا على حدّ الوضوح ، وهو أيضا من آيات البينونة.

٨

وعلى هذا القياس صحّة إسناد « الأمر » إلى من هو له ، فيصحّ أن يقال : « فلان أمر أو يأمر بكذا » و « أنا أمرتك أو آمرك بكذا » وليس كذلك إسناد التلفّظ ، فلا يقال : « فلان تلفّظ أو يتلفّظ بكذا » و « أنا تلفّظت أو اتلفّظ بكذا » مع أنّ الحدّ يتناول لمثل ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ )(١) « والمؤمنون عند شروطهم » وليس من المحدود في شيء إجماعا (٢).

ويمكن دفع الجميع بعدم كون المراد من اللفظ هنا مفهومه بل مصداقه الّذي يعبّر عنه « بافعل » وموازينه ، نعم يرد عليه أنّه لا يتناول لما يصدر من العالي الغير الملتفت إلى علوّه على سبيل الحتم والإلزام ، لفقده القيد الأخير ، نظرا إلى أنّ إظهار العلوّ يستلزم القصد إليه ، وهو مناف للغفلة والذهول ، والمفروض كونه من أفراد المحدود جزما بأيّ معنى يحدّ.

كما لا وجه أيضا لما عن البلخي وأكثر المعتزلة من أنّه : « قول القائل لمن دونه : « افعل » وما يقوم مقامه » ولا لما عن القاضي والغزالي والجويني وأكثر الأشاعرة من تحديده بأنّه : « القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به » ولا لما عن أبي الحسين البصري من أنّه : « قول يقتضي استدعاء الفعل بنفسه لا على جهة التذلّل ».

فإنّ الأوّل وإن كان يناسب المحدود باعتبار كونه مرادا به المعنى المصدري ، غير أنّه لا يلائمه باعتبار عدم كونه ممّا يدور عليه المشتقّات الصادقة على ما صدق عليه مشتقّات « الأمر » وصفا وإسنادا بالتقريب المتقدّم. والباقيان لا يناسبه في شيء من الاعتبارين على ما هو ظاهر هما من إرادة المعنى الاسمي منهما وهو الكلام ، والدليل على كلّ ذلك ما تقدّم من الاستهجان العرفي ، مع ما في الأوسط من الاختلال من جهة اشتماله على كون الاقتضاء من أوصاف القول ، فإنّه وصف للآمر ، فكيف يصلح وصفا للأمر القائم به ، إلاّ على إرادة التجوّز في الإسناد وهو كما ترى.

مع أنّ الأوّل منقوض في طرده بما لو اريد من الصيغة ما عدا الإيجاب ، من الندب والتهديد والإباحة وغيرها ممّا يأتي من معانيها ، وما لو صدرت الصيغة من الهازل ، وما إذا كان القائل ناقلا له ، أو غيرها ممّا يفيد مفاد « الأمر » عن غيره لمن دونه ، وما لو كان القائل

__________________

(١) البقرة : ٢٢٣.

(٢) فإن قلت : كيف تدّعي الإجماع على عدم كونه أمرا مع أنّهم لا يزالون يستدلّون به وبنظائره على استفادة الأمر.

قلت : مفاده أمر ونحن نسلّمه ، والكلام في أنّ لفظه لا يسمّى أمرا عندهم والمفروض أنّ الحدّ يشمله ، فيخرج غير مطّرد. ( منه ).

٩

منزّلا نفسه منزلة المساوي أو الداني ، مع أنّه مندرج في الالتماس والدعاء حينئذ على ما يظهر من كلامهم ، بل المصرّح به في عبارة بعض الأفاضل ، وبما لو كان الخبر مرادا به الأمر والإيجاب لاندراجه في القيد الأخير ، مع أنّه ليس بأمر عندهم بهذا المعنى ، إلاّ أن يدفع ذلك بكون ذلك القيد مرادا به الصيغة من سائر اللغات ، كما فسّر بها في كلام جماعة التفاتا إلى صدق « الأمر » عليها حقيقة.

ومختلّ طردا بصدقه على الوعد والوعيد بالثواب والعقاب على الامتثال وتركه ، بل بالإخبار بهما كما في وعظ الواعظ ، ونصح الناصح ، مع عدم كون شيء من ذلك من « الأمر » في شيء ، وعلى الجمل الخبريّة إذا اريد بها الإيجاب ، وباشتماله للفظي « المأمور » و « المأمور به » الموجب للدور ، بل واشتماله على لفظ « الطاعة » الّتي هي عبارة عندهم عن موافقة الأمر ، إلاّ أن يراد بهما الذات من دون اعتبار الوصف فيها ، وبها مطلق الامتثال والانقياد ، ولكن يبقى حينئذ الحاجة إلى ارتكاب تجريد فيهما وهو تجوّز ركيك لا يصار إليه في أمثال المقام ، مع افضائه إلى خروج الحدّ غير مفيد ، لكونه حينئذ من باب تحديد المجهول بالمجهول كما لا يخفى.

وأنّ الثالث ينتقض في طرده بمثل : « لا تترك » و « لا تكفّ نفسك » لاقتضائهما استدعاء الفعل بأنفسهما لا على جهة التذلّل ، مع أنّ ظاهر أصحاب القول بكونه قولا مخصوصا عدم كونهما منه ، مع انتقاض الجميع في عكسها بما يصدق عليه المحدود لغة وعرفا ممّا يستفاد من الكتابة أو الإشارة ونحوها ممّا يأتي.

وبما تقرّر يتّضح أنّ تحديده بأنّه : « صيغة « افعل » مع تجرّدها عن القرائن الصارفة لها عن جهة الأمر إلى جهة التهديد وغيره » كما عن بعضهم ، وتحديده : « بأنّه صيغة « افعل » بإرادات ثلاث : إرادة وجود اللفظ ، وإرادة على الأمر ، وإرادة الامتثال » بدعوى : أنّه يخرج بالأولى اللفظ الصادر عن النائم ونحوه ، وبالثانية ما إذا اريد بها سائر معاني الصيغة من التهديد والإباحة ونحوها ، وكذا إذا ذكر اللفظ هزلا ، وبالثالثة ما إذا كان القائل حاكيا لها عن الغير ، فإنّه لا يريد بها الامتثال ـ كما عن بعض المعتزلة ـ أوضح فسادا ممّا تقدّم ، فإنّهما مع مبائنتهما للمحدود بكلا الاعتبارين المتقدّمين يوجبان الدور ، لاشتمالها على لفظ « الأمر ».

وما يقال في دفعه في الأوّل ـ وعساه يقال أيضا في دفعه عن الثاني ـ : من أنّ « الأمر » المأخوذ في الحدّ غير ما هو المقصود من المحدود ، فإنّ المراد به في الحدّ مدلول الصيغة

١٠

وفي المحدود نفس الصيغة ، فقد اخذ مدلول الصيغة في حدّها ولا دور فيه ، لا يكاد يجدي في دفعه نفعا ، فإنّ « الأمر » بمعنى نفس الصيغة لا يعرف إلاّ بمعرفة « الأمر » بمعنى مدلول الصيغة كما هو قضيّة التحديد ، فلو توقّف معرفة « الأمر » بمعنى مدلول الصيغة على معرفته بمعنى نفس الصيغة ـ نظرا إلى أنّ معرفة مدلول الشيء فرع معرفة ذلك الشيء ـ لزم الدور.

لا يقال : إنّ معرفة مدلول الشيء ملزومة لمعرفة نفس ذلك الشيء ، واللزوم ليس من التوقّف في شيء فلا دور ، حيث لا توقّف في إحدى المقدّمتين ، لأنّ الموقوف على الملزوم موقوف على اللازم ، ألا ترى أنّ حركة المفتاح تتوقّف على حركة اليد ، وهي ملزومة لإرادة المختار ، فالحركة موقوفة على إرادة المختار ، والمفروض أنّ اللازم الموقوف عليه هاهنا نفس الموقوف في المقدّمة الاولى ، فالدور بحاله.

هذا مضافا إلى ما اورد عليهما أيضا من قضاء التخصيص لصيغة « افعل » بخروج سائر الصيغ الموضوعة له في العربيّة وغيرها.

وعلى الأوّل خاصّة من تناوله للصيغة الصادرة على سبيل الهزل ، مع خلوّ المقام عمّا يدلّ عليه من القرائن ، فإنّها ليست بأمر في الواقع وإن اعتقده المأمور أمرا أوّلا ، وتناوله لما إذ استعملت الصيغة في غير الطلب خالية عن القرائن ثانيا.

وعلى الثاني خاصّة من أنّ « الأمر » المأخوذ في الحدّ إن كان بمعنى الصيغة فكيف يراد بالصيغة الدلالة عليه ، وإن كان غير الصيغة فكيف يفسّر بها أوّلا ، وأنّ إرادة الامتثال لا يوجب خروج الصيغة الصادرة عن المبلّغ ، إذ قد يقصد بتبليغه حصول الامتثال.

وبالجملة : لا ينبغي الارتياب في عدم انطباق شيء من تلك الحدود ـ مع فسادها باعتبارات شتّى كما عرفت ـ على شيء من موارد إطلاقات « الأمر » عرفا ولغة ، وكأنّ التحديد بها وهم نشأ عن الخلط بين معناه الأصلي الثابت له في العرف واللغة وما اصطلح عليه فيه علماء الأدب من أهل المعاني وأصحاب النحو ، حيث يطلقه الأوّلون في مقابلة النهي والاستفهام والعرض والتمنّي على صيغة « افعل » و « ليفعل » كما يطلق الآخرون فعل « الأمر » في مقابلة فعلي الماضي والمضارع على خصوص صيغة « افعل » وما شابهها ، ولا ريب أنّ الغرض الأصلي في هذا المقام ونظائره التوصّل إلى ما يتداوله العرف وينصّ عليه اللغة ليظهر ثمرته في خطابات الشرع ، ومن البيّن عدم إناطة شيء من ذلك بالامور الاصطلاحية المتجدّدة ، ولا سيّما مع العلم بورودها على خلاف العرف واللغة.

١١

ثمّ إنّه ينبغي أن يقطع أيضا بكون ذلك المعنى الّذي بإزائه « الأمر » من مقولة الطلب ، بمعنى إنشاء الاقتضاء على حسبما تعلّق به الإرادة المنبعثة عن الحبّ والبغض النفسانيّين ، فمالا طلب فيه بهذا المعنى ليس من « الأمر » في شيء بحكم العرف والوجدان ، فلا وجه لتحديده ـ كما عن جماعة من المعتزلة ـ بإرادة الفعل ، بناء على ما سنحقّقه من كون الطلب مغايرا للإرادة ، مضافا إلى تناوله الالتماس والدعاء اللّذين هما في الطرف المقابل من « الأمر » اتّفاقا ، مع تناوله أيضا لما يحدث لا بعنوان الإيجاب.

وممّا قرّرنا يتبيّن إنّه قد أخطأ من قال في تحديده ـ كما عن بعض الأشاعرة ـ : « بأنّه عبارة عن الخبر بالثواب على الفعل والعقاب على الترك » فإنّ فساده بمكان من الوضوح.

مضافا إلى ما أورده عليه في النهاية من أنّه باطل ، لامتناع دخول الصدق والكذب في « الأمر » ودخولهما في الخبر ، ولأنّ خبره تعالى صدق فيجب الثواب والعقاب وهو باطل ، أمّا الثواب فلجواز الإحباط بالردّة ، وأمّا العقاب فلجواز العفو والشفاعة.

مع أنّه يرد عليه أيضا : اندراج الوعد والوعيد بجميع أنواعه من الله سبحانه أو النبيّ صلى الله عليه وسلم أو الأئمّة عليهم‌السلام بل وعظ الوعّاظ ونحوه ، كما أنّه قد أصاب من هذه الجهة من ذكر في تحديده : « أنّه طلب الفعل على وجه يعدّ فاعله مطيعا » ـ كما عن بعض الأشاعرة ـ أو أنّه : « طلب الفعل على جهة الإستعلاء » ـ كما عن الآمدي في الإحكام ـ أو أنّه : « إقتضاء فعل غير كفّ على جهة الاستعلاء » ـ كما عن الحاجبي ـ ولكنّهم أخطأوا باعتبارات اخر من لزوم الدور ، واندراج الطلب الاستحبابي في الحدّ كما في الأوّل ، وخروج ما طلبه العالي إيجابا من دون أن يظهر علوّه كما في الثاني والثالث ، مضافا إلى استلزام الثالث أيضا لخروج الإيجاب الّذي يراد بـ « اترك » أو « كفّ نفسك » أو « اترك الصلاة » فإنّ الأوّل والثاني باعتبار معناهما المادّي والأخير باعتبار المتعلّق أمر ، وإن كان باعتبار الهيئة ـ كالأوّلين باعتبار المتعلّق ـ نهيا. ومن هنا يتّضح أنّ متعلّق ذلك الطلب لابدّ وأن يكون فعلا ، لا بمعنى الأمر الوجوديّ الصرف حتّى يلتزم بخروج ما يراد بمثل « اترك » من الطلب الإيجابي التفاتا إلى كون متعلّقه أمرا عدميّا ، بل بمعنى الحدث المدلول عليه بالوضع المادّي ، فإنّه بهذا الاعتبار في المثال المذكور مندرج في المأمور به ، للصدق العرفي الّذي يكشف عنه عدم صحّة السلب عرفا بعنوان الجزم واليقين ، فيدخل فيه أيضا مثل « علّمني » و « فهّمني » ويخرج منه مثل « أزيد قام أم عمرو؟ » و « هل يقوم زيد؟ » وإن شاركا الأوّلين في أصل

١٢

المفاد ، لعدم كون المطلوب فيهما حدثا بهذا المعنى ، والضابط في الكلّ دخولا وخروجا إنّما هو صحّة السلب وعدمها ، الكاشفين عن الصدق العرفي وعدمه.

وهل يعتبر فيه كونه مستفادا من القول أو أعمّ منه وممّا يستفاد من الفعل؟ وجهان بل قولان ، اختار أوّلهما العلاّمة في التهذيب والنهاية ، فلذا عرّفه فيهما بأنّه : « طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء » وإلى ذلك ينظر ما عن إمام الحرمين في بعض تصانيفه من تحديده : « بأنّه استدعاء الفعل بالقول عمّن دونه على سبيل الوجوب » وعلّله في المنية بكونه احترازا عن طلب الفعل بالإشارة ونحوها كالكتابة فإنّه لا يسمى « أمرا » إذ « الأمر » نوع من أنواع الكلام ، ولا يخفى ما في هذا التعليل من الفساد المتقدّم ذكره.

وصار إلى ثانيهما جمع من متأخّري الأعلام ، منهم ابن عمّنا السيّد (١) قدّس الله روحه ، وإلى ذلك ينظر ما تقدّم عن بعض الأشاعرة والآمدي والحاجبي ، وعلّله السيّد في ضوابطه : بأنّ المتبادر عند الإطلاق وإن كان هو الأوّل ، ولكنّه إطلاقيّ لعدم صحّة السلب عن طلب الأخرس بالإشارة أو بالكتابة ، على أنّه لو كان منحصرا في القول لزم عدم كونه تعالى آمرا على مذهب الأشاعرة لقولهم بالكلام النفسي له تعالى لا اللفظي والحال أنّهم يقولون بأنّه تعالى آمر.

وفي الوجه الأخير ما لا يخفى ، من أنّ الملازمة إذا كانت مستندة إلى مدرك فاسد لا توجب المطلوب ، لأنّ وجود ما يفسد بفساد مدركه بمنزلة عدمه ، فلا ملازمة في البين.

وتحقيق المقام : أنّ ما يحصل بالإشارة والكتابة وغيرها من المواضعة من الطلب الإيجابي إذا اشتمل على سائر القيود لا إشكال في صدق « الأمر » عليه عرفا ، وعدم صحّة سلب الاسم عنه ، ولا سلب سائر مشتقّاته عمّن يوجب بها ، وإنّما الإشكال في أنّ دلالة هذه الأشياء على « الأمر » هل هي لقيامها مقام القول فيراد به ما يعمّ التحقيقي والتقديري ، أو لكونهما في الطرف المقابل من القول فيراد به التحقيقي خاصّة؟ وجهان ، أقربهما الأوّل من أنّه يقصد بوضعها القول ، كما يشهد به الوجدان ، نظرا إلى أنّ الذهن إنّما ينتقل إلى ما يستفاد منها بعد الانتقال إلى القول المخصوص الّذي يحلّ محالّها عند انتفاء موجباتها ، كما لا يخفى على من تأمّل في موارد وضعها جيّدا.

فقضيّة ذلك شمول القول لها في كلام من اعتبره في التحديد ، لأنّه قد يكون مقدّرا يكشف عنه المواضعة بشيء ممّا ذكر ، فلا وجه لما أشرنا إليه عن المنية من حكاية الاحتراز به

__________________

(١) وهو السيّد إبراهيم القزويني صاحب ضوابط الأصول ( المتوفى ١٢٦٢ ه‍ ق ).

١٣

عنها إلاّ على إرادة الجمود بما يقتضيه ظاهر اللفظ من كونه تحقيقيّا ، فيرد على الحدّين الأخيرين حينئذ خروجها غير منعكس ، لما قرّرناه من قضيّة الصدق وعدم صحّة السلب ، مع أنّ الالتزام بذلك مع الغضّ عمّا ذكر متفرّع على ما بيّنا بطلانه من عدّ « الأمر » من أنواع الكلام.

فالحقّ أنّ أخذ القول فصلا في حدّ « الأمر » خطأ ، كما كان أخذه جنسا له خطأ ، لا لما ذكروه من قضائه بخروج الحدّ غير مطّرد بالقياس إلى الإشارة والكتابة ، بل لخروجه قيدا مستدركا فيه من جهة ما حقّقناه من كون الأمور المذكورة حكايات عن القول المقدّر ، فيتناوله المذكور في الحدّ ، فلا احتراز به عن شيء ليكون مفيدا.

والعجب عن بعض الأفاضل حيث جمع بين الخطأين بدعوى : ثبوت المعنيين للأمر في العرف ، وإن كان المتداول عندهم في الاصطلاح هو القول المخصوص ، إذ قد يراد به في العرف القول الخاصّ ، وقد يراد به الطلب المخصوص ، فعلى الأوّل يكون حدّه : « القول الّذي اريد بمقتضى وضعه إنشاء طلب الفعل مع استعلاء الطالب ، أو علوّه مع عدم ملاحظة خلافه » وعلى الثاني يكون حدّه : « طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء أو العلوّ كذلك ».

ولا يخفى عدم مساعدة شيء من إطلاقات « الأمر » ولا سائر مشتقّاته لشيء ممّا ذكره عرفا إن اريد به العام ، وإلاّ فلا ربط له بما هو الغرض الأصلى في المقام من تحديد « الأمر » باعتبار ما ثبت كونه حقيقة فيه بحسب العرف العام قبالا لما ادّعى إطلاقه عليها من المعاني المتقدّمة ، ولا ريب أنّ جميع تلك المعاني على فرض ثبوتها ممّا يراد عنه ـ ولو مجازا ـ بحسب ذلك العرف ، وقرينة المقابلة بينها وبين ما ذكر في وصفي الحقيقة والمجاز ، بل الاشتراك لفظا أو معنى بينه وبين بعض منها ـ على حسبما تقدّم من الاختلاف في جميع ذلك ـ أن يقصد بتحديده ما هو بحسب ذلك العرف ، فكيف يتعرّض مع ذلك لتحديده بحسب ما يقابله من العرف الخاصّ إلاّ على الخلط والاشتباه.

ثمّ إنّ في اعتبار الاستعلاء وحده في « الأمر » أو العلوّ كذلك ، أو هما معا ، أو أحدهما على البدل ، أو عدم اعتبار شيء منهما أقوالا.

وقد صار إلى أوّلها ابن عمّنا السيّد ، وهي محكيّ عن جماعة من الخاصّة والعامّة ، منهم الفاضلان ، والشهيد الثاني والبهائي ، وأبو الحسين البصري ، والرازي ، والحاجبي ، والتفتازاني ، بل يحكى نسبته إلى أكثر الاصوليّين ، وعن الشيخ الرضيّ الإجماع على أنّ « الأمر » عند الاصولي صيغة « افعل » الصادرة على جهة الاستعلاء ، من دون فرق حينئذ بين

١٤

كون الطالب عاليا بحسب الواقع ، أو مساويا ، أو دانيا على ما صرّحوا به.

وعن السيّد وجمهور المعتزلة وبعض الأشاعرة المصير إلى الثاني ، وصار إليه بعض الفضلاء أيضا ، ورجّح الثالث بعض الأعلام وحكاه عن جماعة أيضا ، ووافقه بعض الأعاظم.

والرابع ما أختاره بعض الأفاضل ، كما أنّ الخامس عزاه في النهاية إلى بعض الناس ، وفي كلام بعض الأفاضل أنّه يظهر من العضدي ، ويعزى إلى ظاهر البيضاوي والاصفهاني والمنقول من حجّة أصحاب القول الأوّل وجهان :

أحدهما : أنّ من قال لغيره : « افعل » على سبيل الاستعلاء ، يقال : إنّه أمره ، ومن قال لغيره : « افعل » على سبيل التضرّع لم يصدق ذلك وإن كان أعلى.

وثانيهما : إنّهم فرّقوا بين الأمر والالتماس والدعاء بأنّه إن كان الطلب على سبيل الاستعلاء كان أمرا ، إلى آخر ما ذكروه ، مضافا إلى ما عرفت من إسناده إلى الأكثر ونقل الاتّفاق.

واحتّج في الضوابط بعدم صحّة سلب « الأمر » عن طلب الداني المستعلي ، فإنّه لا يصحّ سلبه عنه لغة وإن كان ذلك قبيحا عقلا باعتبار كون العلوّ من الشروط العقليّة لصحّة الأمر.

وحجّة القول الثاني ـ على ما نقلت أيضا ـ وجهان :

أحدهما : أنّه يستقبح أن يقال : « أمرت الأمير » ولا يستقبح أن يقال : « سألته » ولو لا اعتبار الرتبة في ذلك لما كان كذلك.

وثانيهما : جعلهم الرتبة فارقة بين « الأمر » وأخويه.

وحجّة القول الثالث على ما قرّره بعض الأعاظم : التبادر وصحّة السلب عن العاري عنهما أو أحدهما ، كأن يطلب العالي بتذلّل ، أو الداني ولو مع الاستعلاء ، والاستقباح عرفا إذا قيل : « أمر الرعيّة الأمير بكذا ».

وقد حكى بعض الأفاضل الاستدلال عليه بظهور « الأمر » عرفا في علوّ الآمر ، إذ هو المفهوم في العرف من قولك : « أمر فلان بكذا » فإذا انضمّ إلى ذلك ما يرى من عدم صدق « الأمر » مع استخفاضه لنفسه دلّ على عدم الاكتفاء في صدقه بمجرّد العلوّ فيعتبر الاستعلاء معه ايضا.

واحتجّ ذلك الفاضل على ما اختاره من القول الرابع فعلى الاكتفاء بمجرّد الاستعلاء وإن خلا عن العلوّ بظهور صدق « الأمر » بحسب العرف على طلب الأدنى من الأعلى على سبيل الاستعلاء ، ولذا قد يستقبح منه ذلك ويقال له : « ليس من شأنك أن تأمر من هو أعلى منك » وقد نصّ عليه جماعة.

١٥

وعلى الاكتفاء بالعلوّ الخالي عن ملاحظة الاستعلاء بأنّ من الظاهر في العرف إطلاق « الأمر » على الصيغ الصادرة من الأمير بالنسبة إلى الرعيّة والسيّد بالنسبة إلى العبد ، وإن كان المتكلّم بها غافلا عن ملاحظة علوّه حال الخطاب كما يتّفق كثيرا.

وممّا يرشد إلى ذلك انحصار الطلب الصادر من المتكلّم في الأمر والالتماس والدعاء ، ومن البيّن عدم اندراج ذلك في الأخيرين فلابدّ من اندراجه في الأوّل.

والمحكيّ من حجّة القول الخامس أوّلا : قياس « الأمر » على الخبر ، وثانيا : قوله تعالى حكاية عن فرعون لملائه ( فَما ذا تَأْمُرُونَ )(١) وقول عمرو بن العاص لمعاوية : « أمرتك أمرا جازما فعصيتني » وقول الآخر ليزيد بن المهلب : « أمرتك أمرا جازما فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادما ».

والجواب أمّا عن حجّة القول الأوّل فعن وجهها الأوّل : بأنّ ما ذكر في الاستدلال من صدق « الأمر » مسلّم إن كان القائل عاليا ولكنّه لا يقضي باعتبار الاستعلاء ، وإنّما هو لأجل العلوّ من دون أن يكون للاستعلاء مدخل فيه ، والّذي يرشد إليه صدق « الأمر » فيما لو صدر عنه الصيغة مع ذهوله عن علوّه وارتفاعه ، مع أنّه لا استعلاء فيه من جهة أنّ إظهار علوّ النفس وارتفاعها باعتبار الرتبة يلزمه عدم الغفلة والذهول. وأمّا لو كان مساويا بجميع الجهات الآتية أو دانيا بواحد من الاعتبارات فقول « الأمر » بما صدر منه من الصيغة بمكان من المنع ، كيف ولو أخبر المساوي عن نفسه بالأمر أو أسنده إلى نفسه بقوله : « أمرته بكذا » مع ثبوت مساواته يوجب الضحك ويرمي بكونه مزاحا واستهزاء ، كما أنّه لو قال به الداني بالقياس إلى من هو أعلى منه رتبة بعد ظهور حاله يكون مستهجنا ومستقبحا ، وكلّ ذلك آية ورود هذا الإطلاق في غير محلّه.

وعن وجهها الثاني فأوّلا : بمنع جعلهم الفارق بين الامور المذكورة كون الطلب على سبيل الاستعلاء وغيره ، كيف وأنّ الواقع في كلامهم ليس إلاّ إناطة الفرق بعلوّ الرتبة ومساواتها ودنائتها.

وثانيا : منع اعتبار هذا الفرق ـ على تقدير تسليمه ـ في كلام بعضهم ، كيف وما قرّرناه من شواهد العرف يوجب الوهن في ذلك.

ومن هنا ينقدح ما في الإسناد إلى الأكثر ونقل الاتّفاق من الوهن الموجب لسقوط

__________________

(١) الشعراء : ٣٥.

١٦

التعويل عليهما ، ولا سيّما في اللغات الّتي لا يدار أمرها إلاّ على الأسباب المعهودة عند العرف ، المتعارفة لدى أهل اللسان الّذين هم المرجع في معرفة أحكام لسانهم ومعالم لغتهم.

واجيب عن أوّل حجّتي القول الثاني : بأنّ الاستقباح قد يكون من جهة نفس الاستعمال بحسب اللغة ، وقد يكون من جهة ما يدلّ عليه اللفظ بحسب العرف نظرا في ذلك إلى خصوصيّة المقام ، والّذي يشهد بالخروج عن الوضع هو الأوّل دون الثاني ، فإن أريد بالاستقباح المدّعى هذا المعنى كان ممنوعا ، بل هو على إطلاقه فاسد قطعا ، لجواز الاستعمال فيه في الجملة عند الجميع ولو على سبيل المجاز ، ولا قبح فيه أصلا.

نعم لو كان الاستعلاء منفيّا في ذلك المقام أيضا فربّما أمكن ما ذكر ، إلاّ أنّه لا يفيد المدّعى بل يوافق القول باعتبار الاستعلاء.

وإن أريد به الثاني فهو لا يفيد المنع اللغوي ، بل فيه شهادة على الاكتفاء فيه بالاستعلاء ، نظرا إلى كون القبح فيه من جهة استعلائه على الأمير المخالف للتأدّب معه ، ألا ترى أنّه لو طلب شيئا من الأمير على جهة الاستعلاء صحّ أن يقال له على جهة الانكار : « أتأمر الأمير؟ » من غير استقباح.

وأنت خبير بما في هذا الكلام من أوّله إلى آخره من الفساد وخروجه عن نهج السداد ، فإنّ الاستقباح قد ينشأ عن عدم انطباق الاستعمال على قانون الوضع واللغة كما في قول القائل : « خذ هذا الكتاب » مشيرا إلى الفرس ، وقد ينشأ عن عدم انسياق مدلول اللفظ ولو بحسب الوضع واللغة إلى ما يقتضيه المقام بحسب العرف والعادة ، بأن يكون جاريا على ما لا يناسبه في نظرهما من خصوص ذلك المقام ، كما لو قال : « أدّبت أبي » أو « أهنته » من فعل بأبيه ما يقتضي تأديبه أو إهانته ، فإنّه لم يخالف شيئا من قانون الوضع واللغة مع إفادته القبح الواضح ، وقد ينشأ عن الأمرين معا كما في قول القائل : « يا ديّوث » خطابا إلى أبيه العدل والورع ، فلذلك ترى أنّه يحصل لو قيل بمثل ذلك لعدل آخر غير الأب ، إلاّ أنّه في حقّه أشدّ استقباحا منه في غيره ، وليس ذلك إلاّ من جهة الاعتبار الثاني.

وظاهر أنّ قول القائل : « أمرت الأمير » من هذا الباب ، وأقوى ما يشهد به ما لو قال بعد القول الأوّل : « وما أمرت بل سألته » لكان صحيحا من دون استهجان ولا استقباح ، فلو لا صدق هذه القضيّة ـ وكذلك نظرا إلى استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ـ لما كان لذلك وجه ، فينتهض تلك دليلا على عدم كون إطلاق « الأمر » هنا في محلّه ، لكون صحّة السلب

١٧

من أقوى أمارات خلاف الحقيقة.

فلذلك ترى لو قال ـ في القسم الثاني بعد المثال المزبور ـ : « ما أهنت أبي بل أكرمته » لاستفيد منه استهجان آخر كاشف عن كذب القضيّة الثانية لما ذكر دون القضيّة الاولى ، لما عرفت من وقوع الاستعمال فيها على طبق الوضع واللغة وانطباق ما استعمل فيه اللفظ على مدلوله اللغوي.

ومن هنا جعل عدم صحّة السلب من أقوى شواهد الحقيقة.

وبالجملة لو كان إطلاق « الأمر » هنا في محلّه لما صحّ السلب عنه ثانيا ، كما لم يكن صحّ في باب الإهانة.

ووجه بطلان التالي مع الملازمة ما عرفت.

وممّا يفصح عن كون الاستهجان هنا لمجرّد خصوصيّة في اللفظ ـ وهو تضمّنه علوّ القائل المنتفي هنا ـ أنّه لو كان لأجل ورود المعنى في محلّ غير مناسب لوجب حصول الاستهجان فيما لو ورد المعنى بلفظ آخر ، كما لو قال الداني للأمير : « اطلب منك الشيء الفلاني ولا أرضى بتركه » مع أنّ الوجدان السليم يحكم بعدمه.

وأمّا ما ذكره ثانيا من الحكم بفساد إطلاق هذه الدعوى بتوهّم جواز الاستعمال فيه في الجملة عند الجميع.

ففيه : أنّ المتّجه إطلاق المنع ولو على سبيل المجاز على تقدير انتفاء العلوّ بالمرّة ولو ادّعاء.

كيف وأنّه لا يطلق على هذا التقدير إلاّ على طريق السخريّة والاستهزاء أو مع إرادة المزاح كما هو شأن الأغلاط في جميع اللغات ، وإسناد جوازه مجازا إلى الجميع موضع منع.

ولو سلّم فهو مبنيّ في صدق « الأمر » على الاكتفاء بالعلوّ في الجملة ولو ادّعاء ، نظرا إلى أنّ الاستعلاء الّذي يسلّمه المجيب في ذلك الإطلاق مآله إلى ادّعاء العلوّ.

غاية الأمر أنّه قد يصادف الواقع فيصدق معه « الأمر » حقيقة لتحقّق ما به مناط الحقيقة ، وقد لا يصادفه فينتفي معه الصدق الحقيقي ، ولو كان هنا صدق في بعض الأحيان على سبيل المجاز ، فإنّما هو لتحقّق العلوّ الادّعائي (١) لكون النتيجة تابعة لأخسّ مقدّمتيها

__________________

(١) ومحصّل ذلك الكلام : أنّ هذا الاستعمال على فرض صحّته عند الكلّ إنما هو لتنزيل المستعلي منزلة العالي بعد ادّعائه العلوّ فيطلق على طلبه ما هو من خواصّ المشبّه به مجازا ، وكذلك إذا أطلق المستعلي لفظ « الأمر » على طلبه وهو غير عال على فرض صحّته ، فإنّ اعتبار تلك العلاقة في النفس أقوى شاهد على أنّه مأخوذ في الموضوع

١٨

وأنّ المقيّد أو المركّب ينتفي بانتفاء أحد قيوده أو أجزائه.

ومن هنا ينقدح ما في الفقرة الأخيرة من دعوى الشهادة على الاكتفاء فيه بالاستعلاء ، نظرا إلى كون القبح فيه من جهة استعلائه على الأمير المخالف للتأدّب معه من الفساد ، بل قيامه شاهدا على اعتبار العلوّ في « الأمر » فإنّ القبح إنّما ينشأ عمّا فهموه من العلوّ الّذي ادّعاه القائل بقوله : « أمرت » نظرا إلى عدم مصادفته الواقع من جهة عدم علوّ له على الأمير ، فلو لا اعتبار ذلك في حاقّ معنى اللفظ لما كان لانفهامه عند الإطلاق وجه سيّما إذا لم يكن القائل موصوفا به أصلا ، ولا سيّما محلّ الفرض الّذي لم يقم فيه ما يقضي باستفادة ادّعاء العلوّ من غلظة أو رفع صوت في الكلام أو نحو ذلك سوى مادّة الأمر.

ومن هنا ظهر أيضا أنّه لا كرامة لما ذكره أخيرا بقوله : ألا ترى لو طلب شيئا من الأمير على جهة الاستعلاء صحّ أن يقال له على جهة الإنكار : « أتأمر الأمير؟ » من غير استقباح.

واجيب عن ثاني الحجّتين : بأنّ الطلب الحاصل بالأمر والالتماس والدعاء إنّما ينقسم إلى ذلك بملاحظة علوّ الطالب أو مساواته أو دنوّه بحسب الواقع أو في ملاحظته على سبيل منع الخلوّ والعرف شاهد عليه.

والظاهر أنّ الطلب لا يكون إلاّ على أحد الوجوه المذكورة ، ففي ذلك شهادة على كفاية أحد الأمرين من العلوّ والاستعلاء في « الأمر » لا مجرّد العلوّ.

وفيه : ما يتبيّن بالتأمّل فيما تقدّم ، فإنّ شهادة العرف بالنظر إلى العلوّ مسلّمة دون الاستعلاء الفاقد له ، كيف وأنّ صحّة السلب في أكثر الموارد واستهجان العرف في جملة كثيرة منها ، مع وروده كثيرا مّا أو غالبا أو دائما عن غير المستعلي أيضا في موضع السخريّة والمزاح ينافيها جزما ، لقضاء الجميع بكون المعتبر في الصدق على سبيل الحقيقة إنّما هو العلوّ لا غير ولو عمّمنا العلوّ بالنسبة إلى الادّعائي أيضا ـ كما في كلام بعض الفضلاء ـ لما كان لصدق « الأمر » مع الاستعلاء فقط ـ على فرض تسليمه ـ دلالة على ما ادّعاه المجيب

__________________

له ، فلذا يعتبر في خلافه ليصحّ الاستعمال.

ويمكن أن يقال أيضا : إنّ صدق « الأمر » على طلب المستعلي ولو على سبيل الحقيقة مع الغضّ عمّا ذكر لا ينافي ما ذكره المستدلّ من اعتبار العلوّ في صدق « الأمر » نظرا إلى دعوى أنّ العلوّ أعمّ من الحقيقي والادّعائي. كما صرّح به بعض الفضلاء الموافق لنا في المذهب.

وقد ذكرنا في المتن أنّ مرجع الاستعلاء إلى دعوى العلوّ سواء كان من العالي أو غيره ، إلاّ أنّ المدّعى في الأوّل مصادف للواقع وفي الثاني غير مصادف له ، فلا يثبت بما ذكر مذهب المجيب من نفي اعتبار العلوّ في الأمر (منه عفى عنه).

١٩

أصلا كما لا يخفى.

والجواب عن حجّة القول الثالث فممّا قرّره بعض الأعاظم : بأنّ تبادر العلوّ مسلّم دون الاستعلاء جدّا ، كما أنّ صحّة السلب عن العاري عن العلوّ مسلّمة دون العاري عن الاستعلاء مع تحقّق العلوّ ، كيف وأنّه يقضي بصحّة سلبه عن طلب العاري الغافل عن علوّه إذا كان على سبيل الحتم والإلزام وهو كما ترى.

وإطلاق دعوى صحّة ذلك عن طلب العالي بتذلّل بمكان من المنع ، فإنّ العالي قد يتذلّل في طلبه مع أنّه قاصد للحتم والإلزام ، فيصدق عليه أنّه « أمر » حقيقة من دون أن يعتريه شكّ وريب.

وما يرى من صحّته في بعض الأحيان فإنّما هو لأجل انتفاء هذا القيد لا لعدم الاكتفاء بمجرّد العلوّ وخلوّ المقام عن الاستعلاء ، فلذا صار الأكثرون إلى عدم اندراج الندب في « الأمر » وسيأتيك ما يقضي باعتباره مع العلوّ في صدق « الأمر ».

ومن ذلك يتّضح الجواب عمّا قرّره بعض الأفاضل من الاحتجاج على هذا القول وعمّا احتجّ به على ما اختاره من القول الرابع ، بضميمة ما تقدّم في ردّ ما أجاب به عن حجّتي القول الثاني ، فإنّ ظهور « الأمر » عرفا في علوّ الآمر مسلّم ولكن عدم صدقه على الإطلاق ومع استخفاضه لنفسه في حيّز المنع.

والوجه ما ذكرنا ، وصحّة القول على الداني الطالب عن العالي استعلاء بأنّه ليس من شأنك أن تأمر من هو أعلى منك ، أظهر دلالة على اعتبار العلوّ في « الأمر » وعدم الاكتفاء بمجرّد الاستعلاء ، فإنّه في معنى القول بأنّه ليس من شأن طلبك عمّن هو أعلى منك أن تطلق عليه « الأمر » وإن تزعمه في نفسك أمرا بادّعاء العلوّ الكاشف عنه لفقدانك ما هو مناط الصدق الحقيقي من العلوّ الحقيقي فيكون ذلك من صحّة السلب الّتي جعلت من أقوى الأمارات.

والجواب عن حجّة القول الخامس : بمنع اعتبار القياس في اللغات باتّفاق المخالف والمؤالف ، ولا سيّما مع وضوح الفارق بين المقيس والمقيس عليه ، كيف وإنّه لو صحّ ذلك لقضى بعدم دخول الصدق والكذب في مفهوم الخبر أو دخولهما في مفهوم « الأمر » أيضا وهو كما ترى ، مع أنّه مبنيّ على ما أفسدناه رأسا من كون « الأمر » من مقولة الكلام ، وعليه يخرج المقام عن كونه من مجاري القياس لاشتراطه بوجود الجامع بين طرفيه ، ولا جامع بين ما يكون من مقولة الألفاظ وما هو من مقولة المعاني كما لا يخفى ، ومنع دلالة الآية

٢٠