تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

والويل بواسطة التكذيب ، فإنّ الكفّار عندنا معاقبون على الفروع كعقابهم على الأصول ؛ وإن كانوا غيرهم لم يكن اثبات الويل لقوم بسبب تكذيبهم منافيا لذمّ قوم بتركهم ما امروا به.

وعن الثاني : بأنّه تعالى رتّب الذمّ على مجرّد مخالفة الأمر * ، فدلّ على أنّ الاعتبار به ، لا بالقرينة.

__________________

ومن البيّن أنّ الاحتمالات البعيدة لا ينافي الظهور ، وأنت خبير بأنّ قضيّة الظهور إن تمّت لقضت باندفاع ما أوردناه من الإشكال بحذافيره ، فعلى الناظر في الآية استقصاء النظر في ذلك ليتّضح عليه حقيقة الحال وينجلي له حجاب ذلك المقال بعون الله المتعال وحسن توفيقه.

* ووجه ذلك : ظهور أنّ « الأمر » في إفادته الوجوب لو كان منضّما إليه غيره لكان عليه تعالى ذكره معه في الآية ليتأتّى به المقصود ، ويحصل كمال المطلوب من كون ذلك الذمّ لاستحقاقهم إيّاه بالمخالفة ، فيكون عدمه دليلا على عدمه ومعه يتمّ الاستدلال.

ويمكن الاستدلال بوجوه اخر.

أوّلها : أنّ تارك المأمور به عاص ، وكلّ عاص متوعّد بالعذاب.

أمّا الصغرى : فلشهادة (١) العرف مضافة إلى قوله : « أمرتك أمرا جازما فعصيتني » وقوله تعالى : ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي )(٢)( وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً )(٣) و ( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ )(٤) وأمّا الكبرى : فلقوله عزّ من قائل : ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ )(٥) بتقريب : أنّ الموصول مفيد للعموم إمّا لقضيّة الوضع أو لتضمّنه معنى الشرط ، والعذاب ملازم لترك الواجب.

ويرد عليه أوّلا : منع الصغرى بأنّ العصيان ضدّ الطاعة ، وهي على ما يساعده العرف إمّا فعل المأمور به أو فعل المندوب ، فالعصيان أيضا بقرينة المقابلة إمّا ترك المأمور به أو ترك المندوب ، وقضيّة ذلك وجوب تقييد الكبرى بما يوجب خروج ترك المندوب ، ومعه يسقط الاستدلال بالآية لعدم كون مفادها حينئذ ممّا يتنازع فيه.

__________________

(١) وفي كلام القوم استناد الصغرى إلى مجرّد الآيات وإنّما أعرضنا عن تلك الطريقة لتوجّه المنع إلى كون مطلق ترك المأمور به عصيانا ، على أنّ الآيات المذكورة في المتن لا يقضي بأزيد من الاستعمال وهو جنس عامّ فلا يلازم الحقيقة كما لا يخفى. ( منه عفي عنه ).

(٢) طه : ٩٢.

(٣) الكهف : ٦٩.

(٤) التحريم : ٦.

(٥) الجنّ : ٢٣.

١٠١

ويدفعه : منع العموم في مفهوم « الطاعة » فإنّها على ما يساعده الفهم والعرف موافقة « الأمر » ولا أمر في المندوب.

ولو سلّم أنّها مطلق الامتثال والانقياد ـ كما توهّم ـ ولكن أيّ شيء دلّ على أنّ العصيان ضدّ الطاعة ، على أنّ المندوب طلب راجح للفعل متضمّن للإذن في تركه فإن أتى به فقد أخذ بمقتضى الطلب ، وإن لم يأت به فقد أخذ بمقتضى الإذن في الترك فلا عصيان فيه أصلا عرفا ولا شرعا ، كما لا مخالفة فيه ، فينحصر الصغرى في ترك المأمور به وينضمّ إليها الكبرى فيتمّ الاستدلال.

وثانيا : منع كلّيّة الكبرى بسند إضافة العصيان في الآية إلى الله ورسوله ، فلعلّه قاض بحكم الشرع دون العرف واللغة ، فلذا نرى من فصّل في حكم الصيغة ـ كالعلاّمة في النهاية ـ فجعلها لغة للطلب وشرعا للإيجاب ، إنّه تمسّك به لثاني مدّعاه خاصّة مع أنّ النزاع واقع على الوجه الأعمّ.

ويدفعه : ما أشرنا إليه مرارا من أنّ تمام المدّعى يثبت حينئذ بضميمة أصالة عدم النقل وغلبة الاتّحاد.

نعم ربّما يتوجّه إليه في بادئ النظر أنّ التوعيد بالعذاب يصلح قرينة على اختصاص الحكم بأوامر الشارع ، وغاية ما يتعدّى إليه في المقام إنّما هو العالي على الإطلاق فيبقى غيره من المساوي والسافل غير معلوم الحكم ، ضرورة عدم ترتّب استحقاق العذاب على ترك ما صدر عنهما ، ولا تأثير لما ذكر من الأصلين بعد قيام الدليل على الخلاف.

ولكن يدفعه أيضا : أنّ استحقاق العذاب على الترك إنّما يترتّب مع تحقّق أمرين أحدهما الطلب الإيجابي ، فلذا لا يترتّب على الطلب الندبي وإن كان من العالي ، والآخر صدوره من العالي فلا يترتّب على ما صدر عن غيره.

والّذي يقتضيه النظر أنّ الأوّل منه بمنزلة الشرط والثاني بمنزلة السبب ، وقضيّة ذلك كون العلوّ من لوازم الاستحقاق للعذاب ، لأنّه الّذي يترتّب عليه ذلك وجودا وعدما لذاته ، دون الإيجاب الّذي ينفكّ عنه بانفكاك لازمه عنه وهو العلوّ.

ومن هنا جعلناه من مقولة الشروط ، نظرا إلى أنّه ممّا يترتّب على عدمه العدم ولا يترتّب على وجوده الوجود كما في إيجاب المساوي والسافل ، فالّذي قام الدليل على اختصاصه بالعالي إنّما هو الاستحقاق للعذاب وهو ليس من محلّ البحث في شيء حتّى

١٠٢

يصلح ذلك نقضا للاستدلال ، دون الإيجاب الّذي هو صار من حيث استفادته من اللفظ وضعا من محلّ النزاع ، والمفروض عدم قيام دليل على اختصاصه أيضا من حيث إنّه من المفاهيم ، بل الدليل قائم على خلاف ذلك كما عرفت.

وأمّا هو من حيث انفهامه من لفظ خاصّ لغة وعرفا وشرعا فقد صار من مطارح الأنظار ولم يقم دليل على العدم ، فينهض الوجه المذكور مع انضمام الأصلين دليلا على الوجود وهو المطلوب ، ثمّ يتمّ بالقياس إلى سائر الأصناف أيضا بثاني الأصلين مضافا إلى أصالة عدم تعدّد الوضع.

وثالثا : بمنع انطباق الدليل على المدّعى ، فإنّ أقصى ما يستفاد عن ذلك الوجه إنّما هو كون لفظ « الأمر » للوجوب ولا كلام فيه ، فيبقى الصيغة غير معلوم الحال حيث تقرّر سابقا إنّه لا ملازمة في البين ، اللهمّ إلاّ أن يدفع ذلك أيضا بما أشرنا إليه في دفع ما ورد نظير ذلك على الاستدلال ببعض الآيات المتقدّمة من أنّ الطلب الإيجابي إذا صدر من العالي بتوسّط الصيغة يصدق عليه أنّه « أمر » حقيقة ، فيبقى التشكيك في أنّ الإيجاب الّذي هو مناط صدق الأمريّة حقيقة هل أفادته الصيغة بمجردها أو هي بمعونة العلوّ أو غيره من القرائن العامّة أو الخاصّة مدفوعا بأصل آخر منحلّ إلى اصول عديدة ، وبذلك يندفع الإيراد عليه بنحو ما تقدّم على الوجوه المتقدّمة من أنّ ذلك إنّما يفيد إفادة « الأمر » للوجوب مع الإطلاق ، وهو أعمّ من وضعه له بالخصوص ، إذ قد يكون من جهة انصراف الإطلاق إليه.

وتوضيح الجواب : ما تقدّم أيضا من أنّ الانصراف بعد انفهام الطلب من اللفظ منه إلى غيره لا يتحصّل إلاّ مع ملاحظة مؤونة زائدة على اللفظ ، واعتبارها من كمال الفرد على زعم من يجعله موجبا للانصراف ، أو غلبة وجوده ، أو غلبة الإطلاق عليه كما في اللفظ بالقياس إلى معناه المجازي.

غاية الأمر أنّ الّذي ينصرف إلى المعنى المجازي في المجازات بملاحظة القرينة إنّما هو اللفظ وإلى الفرد في المطلقات بملاحظة أحد الامور المذكورة إنّما هو الماهيّة المنفهمة من اللفظ أوّلا ، فكما أنّ احتمال قيام المؤونة الزائدة على اللفظ منفيّ بالأصل في المجازات فكذلك في المطلقات ، وقضيّة ذلك استناد فهم الوجوب إلى اللفظ بمجرّده.

ثمّ إنّ هاهنا إيرادات اخر مذكورة في الكتب المبسوطة كنهاية العلاّمة وهداية المسترشدين لبعض الأفاضل ، فمن أراد العثور عليها فليرجع إليهما يجدها مندفعة

١٠٣

بما هو مذكور فيهما أو بأدنى تأمّل.

وثانيها : ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه دعا أبا سعيد الخدري وهو في الصلاة فلم يجبه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما منعك أن لا تستجيب وقد سمعت قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ )(١).

بتقريب : أنّ التوبيخ على عدم الاستجابة فرع لوجوبها ، وتوجّهه من الحكيم إلى أبي سعيد دليل على فهمه إيّاه من الدعاء وهو من أهل اللسان فيكون فهمه حجّة ، مضافا إلى احتجاجه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصيغة الواردة في الآية ، فإنّه ينبئ عن فهمه الوجوب عنها وهو أيضا حجّة لما ذكر.

واحتمال استناده في المقامين إلى خارج من اللفظ يندفع بما هو معمول به في سائر التبادرات ، فيندفع به ما عن الإحكام من أنّ القرينة على وجوب الأمر المذكور ظاهرة ، حيث إنّ فيه تعظيما لله ورسوله ودفعا للإهانة والتحقير الحاصل بالإعراض ، كما يندفع به ما عساه يتوهّم من اختصاص الحكم للأمر الوارد في الآية الشريفة ، وما في كلام بعض الأفاضل من أنّ غاية ما يستفاد منها كون الصيغة مفيدة للوجوب ظاهرة فيه وهو أعمّ من كون ذلك بالوضع أو من جهة ظهور الطلب فيه ، والظاهر أنّه على الوجه الثاني.

وأمّا ما قيل : من أنّ دعاءه لم يعلم كونه بصيغة الأمر ، ولم يعلم أيضا كون التوبيخ الوارد عليه من جهة مجرّد عدم إجابة الدعاء ، بل قد يكون من أجل الأمر الوارد في الآية الشريفة المقرونة بقرينة الوجوب.

ففيه : ظهور الدعاء مفهوما ومصداقا في كونه بصيغة الأمر كما هو الغالب الشايع ، ولو سلّم لكان في ثاني وجهي الاستدلال كفاية في ثبوت المدّعى مع المنع عن اقتران الآية بقرينة الوجوب.

نعم ، ربّما يستشكل في ذلك من جهة أنّ تتميم الاستدلال به ونظائره فرع ثبوت الصغرى ، وخبر الواحد ولا سيّما إذا كان مرسلا بل ونبويّا غير صالح لذلك. ودعوى : أنّه صالح لإفادته الظنّ وهو حجّة في اللغات ، مع توجّه المنع إليها لا تكاد تجدي في المقام ، فإنّ الظنّ الّذي هو حجّة في اللغات ما قام الدليل باعتباره بخصوصه من إجماع العلماء أو

__________________

(١) الأنفال : ٢٤.

١٠٤

بناء العرف وأهل اللسان ، والظنّ الّذي قام الدليلان على اعتباره ما إذا تعلّق بوصف التبادر وهو كونه من حاقّ اللفظ ناشئا عن الاصول الاجتهاديّة لا ما إذا تعلّق بذاته ، بل الظاهر من طريقة القوم بل العرف لزوم القطع به ، فلذا يوجبون الفحص التامّ عند العمل بالتبادر وغيره من الأمارات ، فتأمّل جدّا (١).

وثالثها : إجماع الصحابة على الاحتجاج بالأوامر الواردة في الشريعة كتابا وسنّة من غير نكير على الوجوب ، كما حكاه في النهاية وحكى نقله عن جماعة من الخاصّة والعامّة ، بتقريب : أنّه كاشف عن فهمهم الوجوب منها ، فهو الحجّة في اللغات لكونهم من أهل اللسان ، ثمّ بضميمة أصالة عدم النقل ونحوها يتمّ المدّعى ، كما أنّ احتمال استناد فهمهم إلى الخارج من اللفظ يندفع بالأصل ، فلا يرد عليه ما تقدّم في كلام بعض الأفاضل من أنّ قضيّة الإجماع المذكور انصراف « الأمر » إلى الوجوب وهو كما عرفت أعمّ من وضعه له.

وأمّا المناقشة فيه تارة : بكونه إجماعا سكوتيّا فلا عبرة به ، واخرى : بكونه منقولا بالآحاد فلا يفيد العلم.

فيدفعها : ما أشرنا إليه من أنّ التمسّك به إنّما هو لكشفه عن الحجّة في المقام ، لا لأنّه بنفسه دليل حتّى يقدح فيه كونه سكوتيّا ، فإنّ الفهم من أهل اللسان حجّة ولو من واحد منهم فلا حاجة إلى كونه من الكلّ حتّى يمنع عن تحقّقه بالقدح المذكور ، وكونه منقولا بالآحاد إنّما يقدح في حصول العلم بالمجمع عليه لا ما هو معتبر في اللغات وهو الظنّ ، إلاّ أن يؤول ذلك إلى منع اعتبار الظنّ في صغرى القياس أيضا كما تقدّم ، لأنّ الظنّ بالإجماع هاهنا ظنّ بأصل الفهم.

ثمّ إنّ في المقام وجوها اخر استدلّ بها ، ولكن كلّها واهية جدّا لا ينبغي التعويل عليها.

منها : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لبريرة الّتي كانت جارية لعائشة ، وقد زوّجتها من عبد فلمّا اعتقتها وعلمت بخيارها في نكاحها وهي كارهة لزوجها ، فأرادت مفارقته فاشتكى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ارجعي إلى زوجك فإنّه أبو ولدك ، وله عليك حقّ فقالت : يا رسول الله أتأمرني بذلك؟ فقال : لا إنّما أنا شافع ، فقالت : لا حاجة لي فيه » بتقريب : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نفى « الأمر » وأثبت الشفاعة الدالّة على الندبيّة ، فلو كان « الأمر » حقيقة في الندب لما كان لذلك وجه كما لا يخفى.

__________________

(١) وجه التأمّل : أنّ الفحص الّذي يوجبه القوم في العمل بالتبادر ونحوه ، إنّما هو لتحقيق وصف التبادر على طريق العلم أو الظنّ لا لتحقيق أصله ، فلعلّ الظنّ بالتبادر كاف عندهم وفيه إشكال واضح ( منه عفى عنه ).

١٠٥

وفيه : أنّ أقصى ما يفيده ذلك كون لفظ « الأمر » مجازا في الطلب الندبي أو غلطا فيه من غير دلالة له على كون الصيغة حقيقة خاصّة في الوجوب مجازا في الندب كما هو محلّ البحث.

لا يقال : إنّما يدلّ على ذلك فهم بريرة الوجوب عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ارجعي » كما يشعر به حسن الاستفهام في قولها : « أتأمرني بذلك؟ » وهي من أهل اللسان أو تبعتهم فيكون فهمها حجّة ، فإنّ الاستفهام إنّما يحسن عند الإجمال الكاشف عن الاشتراك فهو على خلاف المدّعى أدلّ ، مع أنّ الاستفهام قد يحسن عند قيام الاحتمال ولو مرجوحا ، بل ربّما يعدّ في نظر العقول بالنسبة إلى المعنى الحقيقي قبيحا من حيث إنّه على هذا التقدير منبئ عن عدم الاعتداد بأصالة الحقيقة الّتي عليها مدار جميع اللغات في الأعصار والأمصار ، فحسنه في المقام يوهن كونه في مورد فهم المعنى الحقيقي ، مقوّيا لكونه في مورد احتمال مرجوح أو مساو وكلّ منهما خلاف المدّعى.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لولا أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة » بتقريب : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نفى « الأمر » بحسب مفهوم كلامه مع ثبوت الندبيّة بالإجماع وغيره من الأخبار الكثيرة ، وهو آية مجازيّة « الأمر » في الندب ، وكون المسلوب هو الوجوب فيكون حقيقة فيه وهو المطلوب.

وفيه : أيضا نظير ما تقدّم ، فلا قضاء له بكون إطلاق الصيغة في الندب على طريق المجاز دون الحقيقة ، ودعوى أنّها ممّا يصدق عليه « الأمر » عرفا في كلا المقامين ، يدفعها : المنع المتقدّم في محلّه مفصّلا.

نعم إنّما يستقيم الاستدلال بذلك الوجه وسابقه على رأي من يجعل « الأمر » عبارة عن الصيغة بنفسها أو صادقة عليها وعلى الطلب بها ، وقد عرفت أنّه عندنا بمعزل عن التحقيق.

ومنها : إنّ حمله على الوجوب احتراز عن الضرر المظنون ـ ذكره في التهذيب ـ وفيه : أنّ المراد بالضرر المظنون الّذي يدفعه حمل « الأمر » على الوجوب إمّا ما يظنّ في مجموع الأوامر من حيث هو ، فيجب حمل كلّ واحد منها على الوجوب من باب المقدّمة ، لعدم العلم بما يظنّ فيه الضرر بالتفصيل ، أو ما يظنّ في كلّ واحد واحد منها.

فإن كان الأوّل ، ففيه : مع أنّه لا وجه لإطلاق الظنّ عليه لكون الضرر في مجموع الأوامر معلوما بالإجمال ببديهة من العقل ، وأنّه مبنيّ على وجوب المقدّمة ولعلّ الخصم ينكره ، أنّ ذلك إذعان بما ينافي المدّعى من عدم كون كلّ أمر للوجوب لعدم ظنّ الضرر في كلّ ، ولو

١٠٦

سلّم فهو وجوب ظاهري لكون المقدّمة علميّة فلا ربط له بما هو معقد النزاع كما لا يخفى.

ولو سلّم (١) فهو حكم عقليّ لا يكون من مقتضيات الوضع اللغوي ليثمر في محلّ الخلاف.

ألا ترى أنّه لا ينافي شيئا من أقوال المسألة ، فيجامع القول بكون الصيغة للوجوب خاصّة أو للندب كذلك أو مشتركة بينهما لفظا أو معنى ، مع انضمام الإباحة وغيرها ممّا تقدّم إليهما فيهما أولا.

وإن كان الثاني فالسبب الداعي إلى ذلك الظنّ في كلّ أمر إن كان هو الوضع اللغوي بإزاء الوجوب نظرا إلى أصالة الحقيقة عند التجرّد عن القرينة.

ففيه : مع أنّه مصادرة بالمطلوب ، أنّ ذلك يرفع الحاجة إلى التمسّك بالقاعدة المذكورة في الحمل على الوجوب ، لكفاية أصالة الحقيقة عنها وعن نظائرها في ذلك.

وإن كان غيره ، ففيه : مع توجّه المنع إلى دعوى حصول الظنّ بالضرر في كلّ أمر على فرض انتفاء الوضع للوجوب ، أنّ ذلك أيضا وجوب جاء من قبل ذلك السبب أو من قبل العقل نظرا إلى حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون ، فلا يكون من محلّ الخلاف في شيء ، ضرورة أنّ النزاع لم يقع في أصل الوجوب بل في كونه مفادا للوضع اللغوي ، ليثمر في موارد التجرّد عن القرائن الصارفة عن المعنى الحقيقي.

ومنها : أنّ الوجوب معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب أن يوضع بإزائه لفظ مفرد يدلّ عليه ، لوجود القدرة عليه والداعي إليه وانتفاء المانع عنه ، ولا يصلح له إلاّ صيغة « افعل » لانتفاء غيرها بالإجماع ، أمّا على مذهب الخصم فلأنّه ينكر ذلك على الإطلاق ، وأمّا على ما صرنا إليه فلأنّا لا نقول به في غيرها.

وفيه : مع أنّ الندب أو الطلب أو الإباحة أيضا ممّا تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب أن يوضع له لفظ مفرد يدلّ عليه إلى آخر الدليل ، أنّ الحاجة ترتفع بوضع الصيغة للطلب مع عموم الفائدة على هذا التقدير ، أو بجعلها مشتركة على الوجوب والندب بل الإباحة أيضا لتساوي الجميع في العلّة المذكورة.

ومنها : ما دلّ على وجوب طاعة الله ورسوله والأئمّة من الآيات والروايات ، بتقريب : أنّ الطاعة هو الإتيان بالمأمور به على ما يشهد به العرف واللغة ، والمناقشة فيه بأنّ غايته إفادة دلالة « الأمر » على الوجوب بحسب الشرع دون اللغة ، مدفوعة بأصالة عدم النقل.

__________________

(١) أي ولو سلّم العموم في محلّ الخلاف بجعله أعمّ من الوجوب الظاهري والواقعي. ( منه ).

١٠٧

وفيه : ـ مع أنّ هذه الأوامر على ما يساعده النظر لا يراد منها إلاّ بيان الواقع لكونها إرشاديّة فتناول المندوبات أيضا ، فلذا يقال : إنّ الإتيان بالمندوب أيضا طاعة ، مع أنّه لا وجوب فيها جزما ـ أنّ تلك الآيات والروايات تصلح قرينة عامّة للأوامر الخاصّة ، فيدور الأمر فيها بين كونها مؤكّدة أو غيرها من الأنواع الاخر.

ومن البيّن أنّ الاستدلال لا يستقيم إلاّ على فرضها مؤكّدة ، وهو ممّا ينفيه أولويّة التأسيس من التأكيد ، لا لما أفاده أرباب المعاني والبيان من أنّ في التأسيس إفادة وفي التأكيد إعادة ، والإفادة أولى من الإعادة لوضوح ضعفه عندنا ، بل لما قرّرناه في مباحث الأمارات من الجزء الأوّل من الكتاب من غلبة القرائن المؤسّسة على المؤكّدة صنفا وشخصا كما لا يخفى على المتدرّب.

وقضيّة ذلك دوران الأوامر بين كونها مجازات في الوجوب أو مشتركات بينه وبين الندب لفظا أو معنى ، وأيّا مّا كان فهو مناف للمطلوب جزما.

ومنها : أنّ « الأمر » ضدّ للنهي ، وهو حقيقة في طلب الترك حتما ، فيكون « الأمر » حقيقة في الوجوب.

وفيه : بطلان القياس في اللغات بوفاق من المؤالف وجمهور المخالف.

ومنها : أنّ الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده ، وقد عرفت مقتضى النهي فيكون فعل المأمور به واجبا.

وفيه : ـ مع أنّه مفض إلى الدور ، إذ النهي الضمني لا يكون مطلوبا به الترك حتما إلاّ إذا كان « الأمر » حتميّا ، فلو توقّف ذلك على كون ذلك النهي حتميّا لزم الدور ـ أنّ النهي في كونه حتميّا وعدمه يتبع « الأمر » فإذا كان « الأمر » عند الخصم للندب يكون ما تضمّنه من النهي للتنزيه ، فكيف يستدلّ على بطلان مذهبه بما ذكر ، مع أنّه مبنيّ على كون « الأمر » للوجوب وهو لا يسلّمه.

ومنها : أنّ صيغة « افعل » تدلّ على اقتضاء الفعل وإيجاده ، فيكون مانعا من نقيضه كالخبر ، فإنّه لما دلّ على المعنى منع من نقيضه ، والجامع أنّ اللفظ وضع لإفادة معنى فيكون مانعا من النقيض تكميلا لذلك المقصود وتقوية لحصوله.

وفيه : مع أنّه قياس لا تعويل عليه في العلميّات ولا سيّما اللغات ، أنّ كون الصيغة للندب لا ينافي حكم المقيس عليه ، لعدم الفرق بينه وبين كونها للوجوب في ذلك الحكم ، فإنّ مدلول

١٠٨

احتجّ القائلون بأنّه للندب بوجهين :

أحدهما : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » *. وجه الدلالة : أنّه ردّ الاتيان بالمأمور به إلى مشيّتنا ، وهو معنى الندب **.

__________________

الخبر ثبوت المعنى المصدري للمخبر عنه ونقيضه خلاف ذلك ، ومعنى كونه مانعا عن ذلك كون مدلوله هو الأوّل ، ضرورة أنّه يستلزم ممنوعيّة الثاني ، وهذا المعنى بعينه موجود في الصيغة إذا كانت للندب ، فإنّ معناها حينئذ طلب إيجاد الفعل بعنوان أنّ تركه مرضيّ به ، ونقيضه انتفاء ذلك الطلب والأوّل مانع عن الثاني جزما ، كما أنّ مدلولها إذا كانت للوجوب طلب إيجاد ذلك الفعل بعنوان الحتم والإلزام ، وهو مانع عن نقيضه وهو انتفاء الطلب بالمرّة.

* واعلم أنّ هذه فقرة مذكورة في ذيل رواية نقلها بعض الفضلاء مرسلة ، وهي ـ على ما في كلامه ـ أنّه خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّ الله كتب عليكم الحجّ ، فقام عكاشة ويروى سوادة بن مالك فقال : أفي كلّ عامّ يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتّى عاد مرّتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم؟ والله لو قلت : نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.

** ولا يخفى أنّ الاستدلال بذلك إنّما يتمّ بإحراز مقدّمات :

أحدها : إرادة العموم من لفظة « إذا » لكون الأمر الّذي مرادا به الندب في الجملة ممّا لا نزاع فيه حتّى يفتقر إلى الاستدلال ، مع عدم قضائه على هذا التقدير بما هو المدّعى في المقام.

وثانيتها : كون المراد بالأمر الندب أو الطلب المطلق ، أو الصيغة الدالّة على أحدهما ، لئلاّ يلزم التناقض بينه لو اريد به الوجوب أو الصيغة الدالّة عليه وبين قوله : « ما استطعتم » على تقدير إرادة المشيّة منها ، ضرورة تنافي التعليق على المشيّة للوجوب المانع عن النقيض.

وثالثتها : كون المراد بقوله : « فأتوا » الندب ليتمّ التقريب ، ويندفع التنافي بينه لو اريد به الوجوب وبين الأوامر الّتي اريد منها الندب كما هو الفرض.

ورابعتها : كون لفظة « ما » مصدريّة أو كانت موصولة أو موصوفة ، مع كون المراد بـ « شيء » كلّ له أجزاء لا كلّي له أفراد ، سواء كانت كلمة « من » ابتدائيّة أو تبعيضيّة ، إذ لو كانت موصولة أو موصوفة مع كون المراد بـ « الشيء » كلّي له أفراد لكان مفادها التخيير بين

١٠٩

أفراد المأمور به في مقام الامتثال فلا ينافي وجوبه ، لانطباقه على التخيير العقلي الثابت في جميع الواجبات بالقياس إلى أفرادها ، فلا يتمّ التقريب بكون الإتيان بأصل المأمور به مردودا إلى مشيّتنا كما في كلام الأكثرين ، أو بأنّ الردّ إلى مشيّتنا في بعض المأمور به يفيده في الكلّ فيفيد الندب كما في كلام بعض الأعاظم ، والفرق بين التقريرين ابتناء الأوّل على فهم الابتدائيّة من كلمة « من » وابتناء الثاني على فهم التبعيض كما لا يخفى.

وخامستها : كون المراد بـ « الاستطاعة » المشيّة كما هو مناط كلام المستدلّ ، إذ لو اريد بها القدرة لقضت بما هو مفاد قوله : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » و « الميسور لا يسقط بالمعسور » وإن قدّرنا لفظة « ما » موصولة أو موصوفة ، أو بوجوب التكرار في المأمور به إنّ قدّرناها مصدريّة ، ولا ينافي شيء من ذلك وجوب المأمور به بل يؤكّده (١).

وأنت خبير بأنّ المقدّمة الاولى وإن لم يساعدها اللفظ من حيث كونه من أدوات الإهمال ـ على ما صرّح به غير واحد ، ويشهد به الفهم والعرف ـ إلاّ أنّها ثابتة بقيام قرينة قاضية بإرادة العموم في خصوص المقام ، من حيث كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام ضرب قاعدة وتأسيس ضابطة ، كما يشهد به سوق الرواية صدرا وذيلا فلابدّ من كونها كليّة مطّردة ، فلا وجه لما اورد على الاستدلال بأنّ « إذا » من أدوات الإهمال فلا تفيد العموم ، كما في قولك لعبدك : « أكرم زيدا إذا جاءك » والمفروض إنّ النكرة في سياق الإثبات أيضا لا تفيد العموم ، فلعلّ في هذا المقام أمرا واحدا يصدر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مقرونا بدلالة قاضية بإرادة الندب ، فتكون [ في ] هذه الرواية دلالة على أنّ المكلّف في ذلك الأمر مخيّر في القدر المأتّي به وفي الإتيان ، فهو معلّق على مشيّته وإرادته ، فلا حاجة إلى أن يجاب عنه حينئذ بأنّ كلمة « إذا » متى فهم منها السببيّة كقولك : « إذا أشبعت فاحمد الله » تكون بمعنى « متى » فتفيد العموم وإلاّ فمهملة وما نحن فيه من الأوّل دون الثاني ، حتّى يتوجّه إليه المنع ، إلاّ أن

__________________

(١) ولا يخفى أنّ في قوله : « فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » احتمالات كثيرة جدّا متجاوزة عن ألف وخمسمأئة ، إذ الأمر في قوله : « أمرتكم » يحتمل أن يراد منه الطلب الحتمي أو الندبي أو الطلب المطلق أو الصيغة الدالّة على الطلب الحتمي أو الندبي أو المطلق ، وعلى جميع التقادير فالمراد بـ « إذا » إمّا العموم أو الإهمال ، وعلى جميع التقادير فالمراد بـ « الشيء » إمّا كلّي له أفراد أو كلّ له أجزاء أو أعمّ منهما ، وعلى جميع التقادير فالمراد بقوله : « فأتوا » إمّا الوجوب أو الندب أو الإرشاد أو الإباحة ، وعلى جميع التقادير فالجارّ إمّا ابتدائيّة أو تبعيضيّة ، وعلى جميع التقادير فلفظة « ما » إمّا مصدريّة أو موصولة أو موصوفة ، وعلى جميع التقادير فالمراد « بالاستطاعة » إمّا القدرة أو المشيّة ، وأنت بعد التأمّل واستخراج الصور تعرف مفاد كلّ احتمال وصحّته وسقمه ( منه عفي عنه ).

١١٠

يكون مرجعه إلى ما قرّرناه.

وأمّا المقدّمة الثانية فمع مخالفتها ظهور اللفظ عرفا في الوجوب كما هو التحقيق ، أو الصيغة الدالّة عليه كما زعمه جماعة ، فلا يصار إليها إلاّ مع دلالة معتبرة منتفية في المقام ، يدفعها : قيام قرينة قاضية بإرادة الوجوب خاصّة كصدر الرواية وسياقها والتوبيخ المستفاد منها.

وقضيّة ذلك حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فأتوا » على الوجوب دفعا للتنافي حسبما أشرنا إليه ، فلا وجه لما أورده بعض الفضلاء على جوابهم عن الاستدلال بمنع الردّ إلى مشيّتنا بل إلى استطاعتنا فيفيد الوجوب ، من أنّ الردّ إلى استطاعتنا لا دلالة له على كون « الأمر » للوجوب إلاّ إذا ثبت أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فأتوا » للوجوب وهو يفضي إلى الدور ، بل الصواب أن يقال : فلا يفيد الندب.

وأمّا الثالثة : فمع أنّها مفضية إلى الدور (١) كما يظهر بأدنى تأمّل ، يدفعها : ما أشرنا إليه في دفع المقدّمة الثانية ، ومع الغضّ عن ذلك فهو ظاهر في الإرشاد بناء على ما يشهد به السياق ، فيراد به بيان المصلحة الواقعيّة بالمعنى العامّ المتناول كلاّ من ما في الوجوب والندب ، فأيّ شيء خصّته بالثاني دون الأوّل ، فقضيّة ذلك خروج الرواية غير واضحة الدلالة على ما رامه المستدلّ ، فتسقط به عن صلوح الدليليّة ، مع أنّه لو دلّ على التعليق على المشيّة لكان أظهر في إرادة الإباحة منه ، القاضية بالتسوية بين طرفي الفعل والترك كما لا يخفى على المتدرّب.

فقضيّة ذلك كون الأوامر مرادا منها الإباحة وهو خلاف مطلوبكم.

وأمّا الرابعة : ففيها منع واضح ، لعدم ترجيح لأحد هذين الاحتمالين على ما يقابلهما ، على أنّ لفظة « ما » كما يحتمل كونها مصدريّة فكذلك يحتمل كونها موصولة أو موصوفة ، وأنّ النكرة كما يحتمل كونها كلاّ له أجزاء فكذلك يحتمل كونها كليّا له أفراد ، أو الأعمّ منهما من دون رجحان لما هو مناط الاستدلال على ما ينافيه ، وقضيّة ذلك ـ بعد الغضّ عمّا ذكر في منع المقدّمات السابقة ـ خروج الرواية مجملة.

وأمّا الخامسة : فيبطلها ظهور « الاستطاعة » عرفا ولغة في القدرة فلا يصار إلى خلافها إلاّ بدلالة واضحة ، وهي إن لم نقل بكونها بملاحظة ما قرّرناه في إبطال المقدّمات السابقة في جانبها ، فلا أقلّ من عدم كونها في جانب خلافها.

__________________

(١) وجهه : أنّ هذا الأمر لا يكون للندب إلاّ على تقدير كون مطلق الأمر للندب ، فلو توقّف ذلك على كون ذلك للندب كما هو مناط الاستدلال لزم الدور. ( منه ).

١١١

واجيب بالمنع من ردّه إلى مشيّتنا * ، وإنّما ردّه إلى استطاعتنا وهو معنى الوجوب **.

__________________

ولو سلّم فهو لنفي وجوب التكرار لا نفي أصل الوجوب ، كما أنّها بناء على حملها على القدرة تفيد وجوب التكرار ، فتنهض دليلا على القول بالتكرار ، فلذا تمسّك بها بعض الفضلاء على هذا المطلب ، مع أنّ إطلاق التعليق على المشيّة ـ لو سلّم ـ من دون تنبيه على رجحان الفعل ولا إشارة إلى مرجوحيّة الترك يلائم الإباحة ، وهو خلاف المطلوب كما عرفت.

* اجيب عنه تارة : بأنّ الرد إلى المشيّة يشير إلى الإباحة ولا أقلّ من كونه أعمّ منه ومن الندب ، فمن أين يصحّ كونه بمعنى الندب.

ثمّ إنّه لا دلالة فيه على كون اللفظ موضوعا للندب ، إذ غاية الأمر أن يكون ذلك مرادا منه وهو أعمّ من الحقيقة.

واخرى : بأنّ غاية ما يقتضيه الرواية كون « الأمر » للندب وهو غير الصيغة وهو جيّد ، وإن كان اجيب عنه بالإجماع المركّب ، لأنّ كلّ من قال بكون المادّة للندب فقط قال بكون الصيغة له كذلك ، كما أنّه كلّ من قال بكون الصيغة للوجوب قال بكون المادّة له وبالأولويّة ، نظرا إلى أنّ الخلاف وعدم الظهور في الصيغة أكثر من المادّة ، فلو قال في المادّة بكونها للندب فالأولى بذلك قوله بكون الصيغة له ، وفي كلا الوجهين نظر يظهر بأدنى تأمّل.

وثالثة : بأنّ البيان ربّما يشعر بأنّ الندب غير معناه الحقيقي ، إذ لو كان معناه الحقيقي لم يحتج إلى البيان.

** واعترض عليه تارة : بما أشرنا إليه مع ردّه ، من أنّ الردّ إلى استطاعتنا لا دلالة له على كون « الأمر » للوجوب ، إلاّ إذا ثبت أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فأتوا » للوجوب ، وهو يفضي إلى الدور ، بل الصواب أن يقال : فلا يفيد الندب.

واخرى : بأنّ الردّ إلى الاستطاعة كما هو حاصل في الواجب فكذا في المندوب ، ضرورة عدم استحباب الإتيان بغير المقدور ، فهو أعمّ من الوجوب والندب.

والأولى أن يجاب بما عن الآمدي : بأنّ الّذي وقع التصريح به في الرواية إنّما هو الردّ إلى الاستطاعة لا المشيّة ، وهو ليس من خواصّ الندب حتّى يستدلّ به على كون مطلق « الأمر » للندب ، ضرورة كون كلّ واجب مردودا إلى الاستطاعة بل هو أولى بذلك ، حيث إنّه منع من تركه بخلاف المندوب ، فلا يكون الرواية نصّا ولا ظاهرا في المطلوب إن لم

١١٢

وثانيهما : أنّ أهل اللغة قالوا : لا فرق بين السؤال والأمر إلاّ بالرتبة * ؛ فانّ رتبة الآمر أعلى من رتبة السائل ؛ والسؤال إنّما يدلّ على الندب ؛ فكذلك الأمر ، إذ لو دلّ الأمر على الايجاب لكان بينهما فرق آخر. وهو خلاف ما نقلوه.

وأجيب : أنّ القائل بكون الأمر للايجاب ، يقول : إنّ السؤال يدلّ عليه أيضا ** ؛ لأنّ صيغة « إفعل » عنده موضوعة لطلب الفعل مع المنع من

__________________

يكن ظاهرا في خلافه.

* ولا يخفى أنّ ذلك احتجاج بما كان مدلولا التزاميّا لنقل أهل اللغة إن كان ثابتا عنهم ، لابتنائه على مفهوم الحصر المستفاد من قولهم بطريق الدلالة الالتزاميّة.

والظاهر أنّ مثل ذلك معتبر عندهم في إثبات المطالب اللغويّة ، بل هو المصرّح به في كلام الفحول حيث عدّوا من الأمارات ما كان إحدى مقدّمتيه ثابتا بطريق النقل والاخرى بطريق العقل ، كما ذكروه لإثبات العموم في الجمع المعرّف باللام ، فلا يناقش في ذلك بأنّه احتجاج بطريق العقل الّذي لا مدخل له في اللغات ، ولا بأنّه مبنيّ على القياس الّذي لا أثر له في باب الألفاظ.

** ولا يخفى أنّ ذلك الجواب مبناه على تسليم أصل النقل من أهل اللغة ، والظاهر أنّه في مقابلة احتجاج الخصم يشبه المصادرة بالمطلوب ، فإنّ دلالة السؤال على الإيجاب أوّل المسألة ، ومجرّد كونها ممّا يقول به القائل بأنّ « الأمر » للوجوب لا ينهض دليلا على بطلان قول الخصم ، ولا سيّما مع نقل أهل اللغة أنّ السؤال لا يدلّ إلاّ على الندب كما تضمّنه الدليل.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ هذه المقدّمة من مضافات المستدلّ فلم تكن ممّا صرّح بها أهل اللغة حتّى تنهض دليلا على ردّ الجواب ، فيكون مرجعه حينئذ إلى المعارضة بالمثل.

فمحصّله على هذا التقدير : أنّ النقل المذكور من أهل اللغة غير مناف للقول بالوجوب ، لابتنائه على أن يكون السؤال للندب ، وهو وإن كان ممّا يدّعيه الخصم إلاّ أنّه ليس بأولى من قول خصمه بأنّه كالأمر للوجوب ، والمفروض عدم نهوض ما يكون دليلا على تلك الدعوى ، ومجرّد قول الخصم لا يصلح حجّة على معانده.

أو يقال : إنّه منع لبعض مقدّمات الدليل ، فيؤول إلى أنّ الجزء الثاني ممّا نقله أهل اللغة محجوج عليه بما يقضي بكون السؤال للوجوب ، الملازم لكون « الأمر » له أيضا كما يقول

١١٣

الترك * ، وقد استعملها السائل فيه. لكنّه لا يلزم منه الوجوب ؛ إذ الوجوب إنّما يثبت بالشرع ** ، ولذلك لا يلزم المسؤول القبول. وفيه نظر ***.

__________________

به القائل بذلك ، وأنت خبير بقصور العبارة عن إفادة ذلك ، مع اختلالها بخلوّها عمّا يخرجها عن كونها من باب المصادرة ، وهو الدليل المشار إليه القاضي بكون السؤال للإيجاب ، فتأمّل.

* وملخّصه : أنّ « الأمر » والسؤال سمّي في العرف العامّ أو الخاصّ بهما الطلب الحتمي بالصيغة ، أو مطلقا ، أو الصيغة الدالّة عليه باعتبار صدورهما من العالي والسافل والاختلاف في مدلوليهما بذلك الاعتبار لا يوجب اختلافا في مدلول الصيغة إذا كان ذلك الاختلاف ناشئا عن اختلاف وصفي العالي والسافل ، ضرورة عدم اختلاف مدلول لفظ واحد باختلاف اللافظين ، ولا تعدّد أوضاعه بتعدّد المستعملين ، فلو كان في المقام ما يقتضي بكون الصيغة لغة وعرفا بإزاء الطلب الحتمي ـ وهو طلب الفعل مع المنع من الترك ، كما يدّعيه القائل بكونها للوجوب ـ لكانت دالّة عليه من أيّ قائل صدرت.

غاية الأمر أنّه مع علوّ القائل يسمّى « أمرا » ومع خلافه يسمّى « سؤالا » كما أنّه مع مساواته يسمّى « سؤالا » فاللفظ واحد ومدلوله واحد والوضع بينهما أيضا واحد ، وإن تعدّد واختلف القائلون بحسب الصفات والاعتبارات.

** وربّما يتوهّم بين ذلك وبين ما تقدّم من دعوى دلالة السؤال على الإيجاب تدافع ، إذ الإيجاب والوجوب متلازمان فدلالة السؤال على الإيجاب يستلزم دلالته على الوجوب ، وعدم دلالته على الوجوب يستلزم عدم دلالته على الإيجاب ، ففي إثبات أحدهما ونفي الآخر تدافع.

وأجاب عنه بعض الفضلاء : بأنّ مراد المجيب بالإيجاب طلب الفعل مع المنع من الترك بقرينة تفسيره بعد ذلك به ، وبالوجوب كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب بقرينة ثبوته بالشرع ، ولا ملازمة بين الإيجاب والوجوب بهذين المعنيين ، وإنّما الملازمة بين الإيجاب بمعنى طلب الفعل مع المنع من الترك وبين الوجوب بمعنى كون الفعل مطلوب الحصول ممنوع الترك ، وكذلك الحال بين الإيجاب بمعنى جعل الفعل بحيث يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب ، وبين الوجوب بمعنى كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب.

*** يمكن أن يكون وجهه : كونه بعد تسليم أصل النقل من أهل اللغة مصادرة

١١٤

حسبما أشرنا إليه ، إلاّ أنّ ابن المصنّف ذكر له وجهين آخرين :

أحدهما : أنّ المدّعى ثبوت الوجوب لغة ، فقول المجيب : إنّ الوجوب لا يثبت إلاّ بالشرع ، لا وجه له.

وثانيهما : أنّ الظاهر من كلامه الفرق بين الوجوب والإيجاب ، والحال أنّه لا فرق بينهما إلاّ بالاعتبار.

وأجاب بعض المحقّقين عن أوّلهما : بأنّ القائل بكون « الأمر » للوجوب لغة قال بأنّ صيغة « افعل » مطلقا موضوعة لغة للطلب الحتمي الّذي يلزمه ممنوعيّة الترك ، سواء صدرت بعنوان السؤال أو غيره ، هذا هو المراد بالوجوب لغة كما أنّه المراد من كونه لغة للإيجاب ، وأمّا ترتّب الذمّ على عدم الامتثال واستحقاق العقاب على المخالفة فليس داخلا في معنى الوجوب وحقيقته بل هو لازم لبعض أفراده ، وهو ما إذا كان القائل ممّن يجب ويلزم إطاعته وتحصيل مراده عقلا أو شرعا ، كالله سبحانه والسيّد وغيرهما ممّن له حقّ على المأمور ، ولا ينافيه تعريفهم الوجوب باستحقاق الذمّ على الترك أو استحقاق العقاب عليه ، لكونه تعريفا بلازم هذا الفرد نظرا إلى أنّه المقصود بالأصالة في فنّ الاصول ، وكأنّ إلى ذلك ينظر قول المجيب : « إذ الوجوب إنّما يثبت بالشرع » وهذا لا ينافي كون ما هو حقيقة الوجوب لغة مفاد الصيغة لغة مطلقا.

ولو سلّم دخول ترتّب الذمّ واستحقاق العقاب في حقيقة الوجوب لغة فلا منافاة بين دلالة السؤال عليهما أيضا ، وعدم حصولهما فيه بحسب الواقع لجواز التخلّف في الدلالات اللفظيّة.

ألا ترى أنّ صيغة « افعل » الصادرة في مقام الأمر قد لا تقتضي حصول ترتّب الذمّ في الواقع حتّى عند أصحاب القول بكون الأمر للوجوب ، وإن كان اللفظ دالاّ عليه بحسب الظاهر ، كما لو أمر شخص حرّا أو عبدا بغير جهة شرعيّة تقتضي وجوب إطاعته ، بل لو صرّح حينئذ بالوجوب ويقول : « أوجبت عليك ذلك الفعل » فإنّه لا يقتضي حصول ترتّب الذمّ على المأمور بحسب الواقع مع دلالة اللفظ عليه صريحا بحسب الظاهر ، وكأنّ الاشتباه إنّما نشأ من الخلط بين دلالة اللفظ على الشيء وبين حصول ذلك المدلول في الخارج.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ ما ذكر من جواز تخلّف المدلول عن الدالّ في الدلالات اللفظيّة إنّما يتمّ في الإخبارات ، وأمّا الإنشاءات فيمتنع تخلّف المدلول عنها ، كما هو معلوم من ملاحظة التمنّي والترجّي والنداء وغيرها ، فلو كان مدلول « الأمر » هو وجوب

١١٥

الفعل بمعنى كونه على وجه يستحقّ تاركه الذمّ لم يمكن تخلّفه عنه.

أقول : وكأنّ مرجع كلام المحقّق إلى تعميم ترتّب الذمّ الّذي أخذ جزءا من الموضوع له على هذا الفرض بالنسبة إلى الواقعي والظاهري معا ، كما ادّعى نظير ذلك في النسبة الّتي جعلت جزء ممّا وضع له الفعل ، بل المركّبات الإسناديّة.

ومن هنا لا يعدّ الكذب في الإخبارات من باب التجوّز ، بل هو الحال في سائر الإنشاءات طلبيّة وغيرها.

ألا ترى أنّه لا تجوّز في قول القائل : « ليتني أموت » أصلا مع عدم كونه ناظرا إلى الواقعي ، وأنّه لا فرق بين قولك : « ستضرب زيدا » وقولك : « اضرب » في عدم حصول المدلول في الخارج إذا كان مخاطبك ممّن لا يصدر منه الضرب في شيء من خطابيك ، مع أنّه لا تجوّز في شيء منهما.

وأمّا ما أورد عليه الفاضل المذكور فكأنّه مبنيّ على الخلط بين ما هو مناط الفرق بين الإخبار والإنشاء ، وما هو مصبّ الدلالات اللفظيّة من الواقع والظاهر ، وجواز تخلّف الثاني من الأوّل ، كيف ولو جعل المدار في الإنشاءات على عدم جواز تخلّف المدلول عنها لامتنع عدم الامتثال في الأوامر والنواهي ، أو خرجت عن كونها أوامر ونواهي وهو كما ترى ، بل إنّما جعل المدار فيها على عدم ورودها مورد الحكاية ، كما أنّ الإخبارات جعل المدار فيها على ورودها موردها.

وإلى ذلك ينظر تحديدهم المعروف : « بأنّ الخبر كلام لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه بخلاف الإنشاء » فكأنّ في العبارة إضمارا ، أى لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه من حيث وقوعها حكاية عنه ، لئلاّ يفوت الحدّان عليهم بلا محصّل ، ولا التفرقة بينهما بلا ثمر ، ضرورة عدم ورود الإنشاءات بأسرها مورد الحكاية بخلاف الإخبارات بأجمعها ، فيكون ما أفاده المحقّق واردا مورد التحقيق ، إذ لا ملازمة بين مدلول الإنشاءات عنها وبين خروجها عن حدّها.

وأمّا الجواب عن ثاني الوجهين : فبما قرّرناه سابقا في ذكر أقوال المسألة في الفرق بين الإيجاب والوجوب مفصّلا ، ومحصّله : أنّ من يجعلهما متّحدين بالذات مختلفين بالاعتبار إن أراد به كونهما متلازمين فهو مسلّم ، ولكنّه لا يرد على المجيب شيء في المقام لعدم كونه ممّن ينكر ذلك ، ولو فسّر الإيجاب بطلب الفعل مع عدم الرضا بتركه فالتلازم بينه وبين الوجوب إنّما هو بحسبه ، ولو فسّر الوجوب بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الثواب

١١٦

والتحقيق : أنّ النقل المذكور عن أهل اللّغة غير ثابت * ، بل صرّح بعضهم بعدم صحّته.

__________________

وتاركه الذمّ والعقاب فالتلازم بينه وبين الإيجاب إنّما هو بحسبه ، وإن أراد به وراء ذلك حتّى يكون مرجعه إلى نفي التعدّد بينهما ، ففيه : منع واضح ، كيف وأنّهما متغايران ذاتا ـ من حيث كون الإيجاب من مقولة الفعل ، والوجوب من مقولة الكيف ـ ومتعاقبان زمانا ـ من حيث كونهما مترتّبين ترتّب العلّة والمعلول ـ ومتعدّدان محلاّ ـ من حيث كون الأوّل وصفا للآمر والثاني وصفا للمأمور به ـ.

* ولا يخفى أنّ مرجع ذلك إمّا إلى إبطال جعل الفرق الّذي اسند التصريح به إلى أهل اللغة ، أو إلى إنكار دعوى كون السؤال للندب إن كان ذلك أيضا من جملة ما صرّح به أهل اللغة ، فلا تكون العبارة نصّا ولا ظاهرا في أوّل الاحتمالين حتّى يرد عليه ما أورد بعض الفضلاء من : أنّ التزام تعدّد وضع « الأمر » بالنسبة إلى العالي وغيره ممّا يأبى عنه الذوق السليم ، لجواز أن يكون مراده ثانيهما فلا تعدّد في الوضع حينئذ كما لا يخفى.

ثمّ إنّ لأصحاب هذا القول دليلا ثالثا حكاه بعض الأعاظم وهو : أنّ « الأمر » لطلب الفعل فلابدّ من رجحان جانبه على جانب الترك ، وأدناه الندب لتساوي الطرفين في الإباحة ، وكون المنع من الترك زائدا على الرجحان.

وفيه : أنّ رجحان جانب الفعل على جانب الترك في « الأمر » إنّما هو من الامور الّتي تجب رعايتها على الآمر إذا كان حكيما دفعا لقبح ترجيح المساوي أو المرجوح عن طلبه ، لا من الامور الواجب رعايتها على الواضع حين الوضع واعتبارها في الموضوع له ، نظير القدرة والمقدوريّة في المأمور به اللتين لا يجوز للحكيم الإهمال فيهما حين الطلب ، من دون مدخليّة لهما فيما وضع له اللفظ ، فلذا يقال : بأنّ قول القائل : « طر إلى السماء » لا اختلال فيه بحسب اللغة أصلا ، بل لو كان هناك اختلال فإنّما هو بحسب العقل بالنظر إلى القائل من حيث منافاته لما فيه من الحكمة ، وإنّما الّذي يرتبط في محلّ البحث باللغة ويتوقّع من الواضع هو جعل « الأمر » بإزاء الطلب مع كونه مقيّدا بالمنع من الترك ، أو الإذن فيه أو مطلقا.

ومن البيّن أنّ أوسط الاحتمالات ليس بأولى من أوّلها ، لتساوي كلّ منهما في

١١٧

حجّة القائلين بأنّه للقدر المشترك : أنّ الصيغة * استعملت تارة في الوجوب ، كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) ، وأخرى في الندب ، كقوله : ( فَكاتِبُوهُمْ ) ، فان كانت موضوعة لكلّ منهما لزم الاشتراك. أو لأحدهما فقط لزم المجاز ؛ فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو طلب الفعل ، دفعا للاشتراك والمجاز.

والجواب : أنّ المجاز ، وإن كان مخالفا للأصل ، لكن يجب المصير إليه إذا دلّ الدليل عليه **. وقد بيّنا بالأدلّة السابقة أنّه حقيقة في الوجوب بخصوصه ؛ فلابدّ من كونه مجازا فيما عداه ، وإلاّ لزم الاشتراك المخالف للأصل المرجوح

__________________

الافتقار إلى ملاحظة الواضع خصوصيّة زائدة على طبيعة الطلب واعتباره إيّاها في الموضوع له ، بل الوجه الموافق للأصل والاعتبار هو الاحتمال الأخير ، لافتقار ما عداه من الأوّلين إلى مؤنة زائدة على ملاحظة أصل الطلب ، فيدفع عند الشبهة بالأصل ، مع كون الوضع له من حيث هو توسعة في أمر اللغة وطريق المحاورة ، من حيث إنّ الموضوع له حينئذ صالح لأمرين يشتدّ الحاجة إلى كلّ منهما من دون عدم صلاحيّته إلاّ لأحدهما على الاحتمال الثاني الّذي صار إليه المستدلّ تعويلا على ما ذكره من الاعتبار ، مع أنّ نفي اعتبار المنع من النقيض الّذي هو أمر زائد على الرجحان لابدّ له من سند ، فلا وجه لإرسال الكلام خاليا عنه.

ولو سلّم أنّه الأصل المطويّ فيه فنسبته إلى احتمالي الندب والوجوب على نهج سواء ، لتساوي كليهما في الافتقار إلى فصل مميّز هو أمر زائد على أصل الرجحان.

غاية الأمر أنّه في الأوّل هو الإذن في الترك ، كما أنّه في الثاني هو المنع عنه ، فالاستناد إلى الأصل في نفي أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

ولو سلّم ، فإنّما يفيد ذلك لتشخيص مراد المتكلّم من حيث إنّ المنع من الترك كالرضا به من صفاته ، ولا ملازمة بينه وبين الموضوع له ، فلم يكن المطلوب بذلك ـ وهو كون « الأمر » للندب بحسب اللغة ـ حاصلا كما لا يخفى.

* ومحصّل الدليل على ما في كلام جماعة : أنّ الحقيقة الواحدة خير من الإشتراك والمجاز ، [ و ] وجهه : مخالفة كلّ من الاحتمالين للأصل ، فيكون ما يوافقه خيرا.

** وملخّصه : أنّ أولويّة الوضع للقدر المشترك بين معنيين بالقياس إلى اشتراكه

١١٨

بالنسبة إلى المجاز ، إذا تعارضا ، على أن المجاز لازم بتقدير وضعه للقدر المشترك أيضا ؛ لأنّ استعماله في كلّ واحد من المعنيين بخصوصه مجاز ، حيث لم يوضع له اللفظ بقيد الخصوصيّة ** ، فيكون استعماله فيه معها استعمالا في غير ما وضع له. فالمجاز لازم في غير صورة الاشتراك ، سواء جعل حقيقة ومجازا ، او للقدر المشترك. ومع ذلك فالتجوّز اللاّزم بتقدير الحقيقة والمجاز أقلّ منه بتقدير القدر المشترك ؛ لأنّه في الأوّل مختصّ بأحد المعنيين ، وفي الثاني حاصل فيهما.

__________________

بينهما ، أو كونه مجازا في أحدهما ـ على تقدير تسليمها على الإطلاق ـ إنّما هي قاعدة عامّة يتمسّك بها عند انتفاء الدلالة المعتبرة على تعيين أحد المرجوحين ، كما أنّه يستغني عنها عند قيام الدلالة على الوضع لأحد المعنيين بخصوصه ، ولقد قدّمنا الأدلّة على الوضع للوجوب خاصّة ، فينفى احتمال الوضع للندب أيضا بقاعدة قاضية بأولويّة المجاز من الاشتراك ، نظرا إلى كون المقام بعد ما ذكر من مجاري تلك القاعدة دون ما ذكر ، واحتمال الوضع مع ذلك للقدر المشترك أيضا منفيّ بندرة الاشتراك لفظا بين الكلّي وفرده ، مضافا إلى الأصل النافي له في موارد الاحتمال.

ويمكن التشبّث في نفي القول المذكور بقاعدة اخرى ـ ممّا قرّرناها في مباحث الاستعمال من الجزء الأوّل من الكتاب ـ جارية فيما لو استعمل في معنيين بينهما جهة جامعة وعلاقة معتبرة مع عدم بلوغه حدّ الغلبة إلاّ في الخصوصيّتين ، فإنّ مقتضى القاعدة الاجتهاديّة عدم كونه حقيقة في القدر المشترك وإن ثبت استعماله فيه أيضا ، فيدور أمره بين كونه مشتركا بين الخصوصيّتين أو حقيقة ومجازا.

ومن البيّن أنّ استعمال « الأمر » في القدر المشترك بين الوجوب والندب في غاية الندرة إن لم ننكره كما عليه بعضهم ، فيحكم بمجازيّته فيه مع نفي احتمال الاشتراك بالقاعدة المشار إليها.

** وفيه ما لا يخفى من أنّها معارضة في غير محلّها ، فإنّ استلزام الوضع للقدر المشترك لكون الاستعمال في كلّ من الخصوصيّتين على تقدير وقوعه [ مجازا ](١) لا يوجب

__________________

(١) أضفناه لاستقامة العبارة.

١١٩

مرجوحيّة في هذا الاحتمال ، وإلاّ لكان كلّ حقيقة مرجوحة في حدّ نفسها لعموم العلّة المذكورة ، إذ ما من حقيقة إلاّ ولمعناها الموضوع له جزء أو جزئي أو لازم أو مشابه أو سبب أو مسبّب أو غير ذلك ممّا يناسبه بشيء من أنواع العلائق ، وحدانيّا أو ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا وهكذا ، فكونها موضوعة بإزاء ذلك المعنى يستلزم كون استعمالها في جميع تلك المذكورات مجازا فيكون مرجوحة ، وهو ممّا لم يتفوّه به أحد ، كيف وهو موجب لتعطيل أمر الوضع ، فتنهض الضرورة قاضية ببطلانه.

وبالجملة : فرق بين إرسال اللفظ ليكون مجازا في معنى ، وجعله لمعنى آخر يستلزم كون استعماله في غير ذلك المعنى ممّا هو جزء أو جزئي له ـ على تقدير وقوعه فيه ـ على طريق التجوّز ، والّذي يعدّ مرجوحا في نظر العقول موجبا على الحكيم عدم جواز إيثاره من حيث هو إنّما هو الأوّل دون الثاني ، من حيث إنّه ممّا يترتّب على فعله ترتّب اللازم على ملزومه بغتا واتّفاقا بخلاف الأوّل.

مضافا إلى فرق آخر بين المجاز على بعض التقادير والمجاز على جميعها في كون الثاني أشدّ مرجوحيّة من الأوّل كما لا يخفى.

وكأنّه إلى ذلك ينظر ما أورده بعض محقّقي المحشّين من أنّ المستدلّ له أن يقول : إنّما ثبت استعماله فيهما مطلقا وهو لا يستلزم كونه مجازا فيهما على تقدير وضعه للقدر المشترك إذا كان ذلك الاستعمال فيهما من حيث حصول الكلّي فيهما واتّحادهما معه ، وإنّما علمت الخصوصيّة عن دليل خارج ، نظرا إلى أنّ مثل هذا الاستعمال في الفرد لا يعدّ مجازا كما صرّح به المحقّقون.

وقد يقال عليه : بأنّ المرجوح إنّما هو المجاز الفعلي لا المجاز الشأني ولعلّه ناظر إلى أوّل ما أوردناه عليه.

ثمّ إنّه عن المصنّف نقل ابنه في الحاشية أنّه ذكر في الحاشية : أنّ كون استعمال اللفظ الموضوع للكلّي في خصوص الجزئي مجازا واضح عند من لا يقول بأنّ الكلّي الطبيعي موجود بعين وجود أفراده ، سواء قيل بعدم وجوده أصلا أو وجوده في ضمن الجزئي ، فعلى الأوّل يكون الاستعمال واقعا على ما يغاير الموضوع له وعلى الثاني على مجموع ما وضع له وغيره ، وأمّا على هذا القول ـ وهو كون الكلّي موجودا بعين وجود أفراده ـ فوجه (١)

__________________

(١) وفي عبارة بعض الأفاضل : أنّ المصنّف ذكر ذلك الوجه جوابا عن إشكال أورده على المجازيّة على هذا التقدير ،

١٢٠