تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

إيجاد الطبيعة في الجملة ـ ولو في ضمن المرّة ـ فكذلك النهي لا يقتضي من ترك الطبيعة أزيد من ذلك ، مع أنّه لو اكتفى بمثل ذلك التكرار لكان عدولا عن القول به ، لعدم كونه بهذا المعنى ممّا وضع له الصيغة ، وإنّما يناسب ذلك مذهب من يقول من أصحاب القول بالماهيّة بكون ما زاد على المرّة من المرّة الآخر أيضا امتثالا.

ثمّ ، إنّه نقل الاستدلال على هذا القول بوجوه اخر ، أوضح فسادا من الوجوه المذكورة :

منها : احتجاج الصحابة.

وفيه : أنّ الاحتجاج إنّما هو على أصل الوجوب من دون نظر فيه إلى التكرار.

ولو سلّم فإنّما نشأ ذلك عن دلالة خارجة وهو خارج عن المتنازع فيه ، وأصالة عدمها لا توجب إلاّ ثبوت تبادر في عرفهم ، وهو معارض بالتبادر الثابت في عرفنا القاضي بخلاف مقتضاه كما قرّرناه عند الاستدلال على المختار ، ولعلّ الرجحان معه لأصالة عدم النقل ، أو أنّ التبادر الوجداني أقوى ظنّا من التبادر النقلي ، بل ومع حصول الظنّ به لا يكاد يحصل بغيره ، مع أنّه كثيرا ما يفيد العلم كما في محلّ البحث بخلاف معارضه.

ومنها : فهم لذلك في قوله : « أحسن عشيرة فلان » وتبادره عن قولك : « أكرم أباك » و « أحسن إلى صديقك » و « احذر من عدوّك » إذ لا يفهم منها عرفا إلاّ التكرار.

وفيه : القطع باستناد ذلك إلى خارج من اللفظ ، نظير ما في قولك : « احفظ دابّتي » و « أطع زوجتي » و « اخدم ولدي » فإنّ العادة وقرينة الحال والاعتبار قاضية بإرادة التكرار في أمثال تلك المقامات ، ولو سلّم عدمها ـ ولو بحكم الأصل ـ لوقع التعارض بينه وبين ما ادّعيناه ولازمه التساقط بعد تسليم التكافؤ ، فلا يبقى بعد دليل على مطلوبكم ، مع بقاء سائر أدلّتنا المتقدّمة سليمة عن المعارض.

ومنها : ما عن عمر لمّا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقد جمع بين صلاتين بوضوء واحد عام الفتح ـ : « أعمدا فعلت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال : نعم » فلولا فهمه التكرار عن آية الوضوء لما كان لسؤاله محلّ.

وفيه : نظير ما تقدّم.

مضافا إلى احتمال كون السؤال لأجل توهّم وجوب التكرار على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص الوضوء لمّا رآه أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجمع بين صلاتين بوضوء واحد إلاّ نادرا كما قيل ، أو كون فهمه التكرار في الآية ناشئا عن تعليق الأمر فيها على الشرط ، ولا يخفى إنّ مثل هذا

٢٠١

التكرار لا ينافي وضع الصيغة من حيث هي للماهيّة كما ستعرفه.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » بالتقريب المتقدّم.

وفيه : ما سبق أيضا في ردّ الاستدلال بها على جواز تعدّد الامتثال على القول بالماهيّة ، مضافا إلى أنّها لو تمّت دلالتها وسلم سندها لكان قاضيا بندبيّة التكرار كما تنبّه عليه بعض الفضلاء ، نظرا إلى ما في صدرها من التحذير عن السؤال عن وجوب التكرار ، فتنتفي فائدة التحذير لو كان التكرار واجبا كما لا يخفى.

ولو سلّم فهو من مقتضي التعليق وهو مقام آخر يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

ومنها : أنّ الأمر قد اقتضى التكليف قطعا وبالمرّة لا يحصل اليقين بالبراءة ولا كذلك بالتكرار فيجب ، وإنّما كان التكليف قطعيّا إذ لا كلام عندهم في ذلك إلاّ على القول بالوقف ، إن كان يجعله القائل من باب المجمل الذاتي الّذي لا قضاء له بالتكليف إلاّ بعد البيان فلا تكليف قبله.

وفيه : ما مرّ أيضا من أنّ المقام من مجاري أصل البراءة سواء فرضنا التكرار المحتمل تقييديّا أو تعدّديّا ، ومعه لا يبقى للأصل المذكور محلّ ليكون قاضيا بوجوب التكرار ، مع أنّ الاصول أدلّة تعليقيّة فلا حكم لها عند وجود ما يقضي بخلافها ، ولقد أقمناه في المقام من جهات عديدة.

ومنها : أنّ اللفظ لا إشعار له بوقت معيّن ، فإمّا أن لا يجب أصلا أو يجب في وقت معيّن أو يجب دائما.

والأوّل : باطل للإجماع.

والثاني : ترجيح بلا مرجّح. فتعيّن الثالث وهو المطلوب.

وفيه : انّه واجب في جميع الأوقات على البدل ، بحيث لو أتى به في أيّ جزء منها لكان آتيا بالواجب فسقط به الأمر ، نظرا إلى أنّ ثبوته فيما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل ولا إشعار للّفظ بذلك ، كما لا إشعار له بوقت معيّن.

ومنها : أنّه لولا التكرار لافتقر وجوب فعله في الزمان الثاني إلى دليل ، ولكان ذلك واقعا على وجه القضاء لا الأداء.

وفيه : أنّه كذلك لو اريد به فعله في الزمان الثاني بعد الإتيان به في الزمان الأوّل ولا ضير فيه أصلا ، وليس كذلك لو اريد به فعله قبل الإتيان به أوّلا لدلالة اللفظ على وجوبه مطلقا ، ففي أيّ جزء من الوقت وقع كان واجبا قد وقع في وقته ، فيلزم كونه أداء لا قضاء ، نظرا إلى عدم دلالة اللفظ على الفور و [ عدم ] خروج الزمان الثاني عن الوقت.

٢٠٢

عنه دائما ، بل يتفرّع على الأمر الّذي هو في ضمنه ؛ فإن كان ذلك دائما فدائما ، وإن كان في وقت ، ففي وقت. مثلا الأمر بالحركة دائما يقتضي المنع من السكون دائما ، والأمر بالحركة في ساعة يقتضي المنع من السكون فيها ، لا دائما.

واحتجّ من قال بالمرّة * بأنّه إذا قال السيّد لعبده : ادخل الدار ، فدخلها مرّة عدّ ممتثلا عرفا ، ولو كان للتكرار لما عدّ.

__________________

ومنها : أنّه لو لم يكن للتكرار لما صحّ نسخه واستثناء بعض الأزمان منه ، مع وضوح جواز الأمرين.

وفيه : منع تطرّق النسخ والاستثناء إلى جميع الأوامر ، مع صلوحهما قرينة على إرادة التكرار فيما تطرّقا إليه ، والإرادة لا ينكر جوازها أحد.

ومنها : أنّ الأمر بالصوم يعمّ جميع الأزمان ، كما أنّ ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(١) يعمّ كلّ مشرك ، فإنّ نسبة اللفظ إلى الأزمان كنسبته إلى الأشخاص.

وفيه : منع واضح ، مع ابتنائه على القياس مع الفارق ، لوضوح الفرق بين الصوم والمشركين.

* حجّة القول بالمرّة وجوه :

أوّلها : ما أشار إليه المصنّف من أنّه إذا قال السيّد لعبده : « ادخل الدار » فدخلها مرّة عدّ ممتثلا ، ولو كان للتكرار لما عدّ ممتثلا.

وجوابه : مضافا إلى ما يذكره المصنّف ، أنّ أقصى ما يفيده ذلك بطلان التكرار التقييدي ، ولعلّ القائل به يقول بكونه تعدّديّا ولا ينافيه الدليل ، لاستلزامه حصول الامتثال بالمرّة الاولى بالنسبة إلى الطلب المتعلّق بها وإن بقي الطلب بالنسبة إلى المرّات الاخر في العهدة.

نعم لو قرّر الدليل بحصول فراغ الذمّة عرفا عن التكليف بالمرّة لما توجّه ذلك ، إلاّ أنّه يبقى المنع عن حصول الفراغ بهذا المعنى عرفا ، لجواز القيام به لمن يقول بالتكرار.

وثانيها : أنّ الأمر ليس إلاّ كسائر المشتقّات من الماضي والمضارع واسمي الفاعل والمفعول وغيرها ، ولا دلالة في شيء منها على الدوام والتكرار وكذا الأمر.

وجوابه : ما أشار إليه بعض الأفاضل من أنّه إن اريد به قياس الأمر بغيره من المشتقّات فوهنه واضح ، وإن اريد به الاستناد إلى الاستقراء فإفادته الظنّ في مثل المقام غير

__________________

(١) التوبة : ٥.

٢٠٣

والجواب : أنّه إنّما صار ممتثلا ، لأنّ المأمور به ـ وهو الحقيقة ـ حصل بالمرّة ، لا لأنّ الأمر ظاهر في المرّة بخصوصها ، إذ لو كان كذلك لم يصدق الامتثال فيما بعدها *.

__________________

واضح ، [ حتّى ] يصلح للاستناد إليه ، ولو سلّم فأقصى ما يفيده عدم الدلالة على التكرار وأمّا دلالته على المرّة فلا ، وإنّما يفيد مطلق الطبيعة فينبغي أن يكون الأمر أيضا كذلك ، فهو بالحقيقة من شواهد القول بالطبيعة.

وثالثها : أنّ صيغة الأمر إنشاء كسائر الإنشاءآت من العقود والإيقاعات ، وكما أنّ الحاصل من قولك : « بعت » و « أجرت » و « أنت طالق » ليس إلاّ بيع واحد ، وإجارة واحدة ، وطلاق واحد ، فكذا الحاصل من قولك : « اضرب » ليس إلاّ طلب ضرب واحد.

وجوابه : ـ مع أنّه قياس ومع الفارق من وجوه شتّى (١) كما لا يخفى على المتأمّل ـ واضح بعد ملاحظة الفرق بين المنشأ وما يتعلّق بالمنشأ ، ومعلوم أنّ الوحدة في « اضرب » ونحوه وصف في المنشأ وهو الطلب ، ضرورة أنّه لا يقصد منه إلاّ طلب واحد ، كما أنّها في الأمثلة المذكورة وصف للمنشأ وهو البيع وغيره من المعاني المادّية ، ووحدة الطلب لا تلازم وحدة المطلوب ، كما أنّ وحدة البيع لا تلازم وحدة المبيع ، وموضع النزاع هو الثاني والدليل لا يوجبه ، وكأنّ الاستدلال به إشتباه في موضع الخلاف أو خلط بين المنشأ ومتعلّقة.

ورابعها : لو حلف ليصلّينّ أو يصومنّ عدّ ممتثلا بالمرّة.

وفيه : قضاؤه بانتفاء التكرار ، وهو أعمّ من ثبوت المرّة ، ولعلّ الاكتفاء بها من جهة اكتفاء الطبيعة الّتي تعلّق بها الحكم بها في وجودها الخارجي لا من جهة ظهور الصيغة فيها ، مع أنّه لا ربط له بمحلّ البحث لكونه حكما في غير صيغة الأمر كما لا يخفى ، وقياسها عليه باطل بما تقدّم مرارا.

* والأوّل منع لما تضمّنه الاستدلال من ظهور الأمر في المرّة الّتي يكشف عنها حصول الامتثال بها.

__________________

(١) عمدة وجوه الفرق : أنّ الانشائيّة في المقيس عليه إنّما نشأت عن وضع جديد شرعي ، فلذا يعتبر فيها من الشرائط ما لا يعتبر في المقيس أصلا ، ولعلّ اعتبار الوحدة فيها نشأ عن ذلك الوضع باعتبار الشارع وهو ليس من المتنازع فيه في شيء كما لا يخفى. ( منه عفي عنه ).

٢٠٤

ولا ريب في شهادة العرف * بأنّه لو أتى بالفعل مرّة ثانية وثالثة لعدّ ممتثلا وآتيا بالمأمور به. وما ذاك إلاّ لكونه موضوعا للقدر المشترك بين الوحدة والتكرار ، وهو طلب إيجاد الحقيقة ، وذلك يحصل بأيّهما وقع.

__________________

والثاني سند للمنع ، ولا يخفى أنّ ذلك سياق مستحسن فيما بين أهل المناظرة ، فما يقال عليه : من أنّه لا حاجة في دفع الاحتجاج إلى هذه الضميمة لاندفاعه بمجرّد قيام الاحتمال المذكور ليس ممّا يلتفت إليه ، ولو اريد بالضميمة مجموع المقدّمتين المستلزم لكون المراد بالاحتمال ما في قوله : « إنّما صار ممتثلا لأنّ المأمور به وهو الحقيقة حصل بالمرّة » لكان المراد بالضميمة تكميل الإيراد وتكثيرا في إيضاح ما في الاستدلال من الفساد كما فهمه الفاضل المعترض.

* ولا يخفى أنّ بناء هذا الكلام على ما حرّرنا الخلاف فيه على القول بالماهيّة من كون ما زاد على المرّة الاولى امتثالا ، وقد قدّمنا ما عندنا من التحقيق في ذلك فلا حاجة إلى إعادته هنا ، وقد يعتذر عنه بحمله على ما لا يخالف مذهب المانع عمّا ذكر ـ كما اخترناه في الجملة ـ من إرادة الامتثال بالنسبة إلى المرّة الاولى ، بدعوى : أنّ المصنّف إنّما فهم من أصحاب القول بالمرّة المرّة التقييديّة فيكون ما ذكره ردّا عليه ، ولكنّه بعيد ولا سيّما بملاحظة لفظة « فيه » في قوله قبل ذلك : « لم يصدق الامتثال فيما بعدها » لظهورها في كون كلّ من الثانية والثالثة محقّقا للامتثال ، لا أنّه مؤكّدا للامتثال بالأوّل فقط.

حجّة القول بالاشتراك بينهما لفظا ـ على ما حكاه بعض الأجلّة ـ : استعماله فيهما والأصل فيه الحقيقة ، وصحّة التقييد بكلّ منهما ، وحسن الاستفهام بأنّه هل تريد منه المرّة أو التكرار؟

والجواب عن الأوّل : ما مرّ مرارا من أنّ الاستعمال بمجرّده لا يصلح دليلا لكونه أعمّ ، ولو انضمّ إليه مقدّمة الغلبة لكان لنا لا علينا ، لثبوتها في جانب الماهيّة كما يتّضح لمن لاحظ موارد الاستعمالات العرفيّة جيّدا.

وعن الثاني : ما أشرنا إليه إجمالا عند تقرير أدلّتنا من أنّ قضاء صحّة التقييد بالاشتراك فرع انفهام التأكيد عن القضيّة في الجملة ، ولو كانت لها جهة تأسيس أيضا كما يظهر بالتأمّل في قولنا : « العين الجارية » و « العين الباكية » وهذا محلّ منع هنا كما تقدّم.

٢٠٥

واحتجّ المتوقّفون * : بمثل ما مرّ ، من أنّه لو ثبت ، لثبت بدليل ، والعقل لا مدخل له ، والآحاد لا تفيد ، والتواتر يمنع الخلاف.

والجواب : على سنن ما سبق بمنع حصر الدليل فيما ذكر ؛ فإنّ سبق المعنى إلى الفهم من اللفظ أمارة وضعه له ، وعدمه دليل على عدمه. وقد بيّنا أنّه لا يتبادر من الأمر إلاّ طلب إيجاد الفعل ، وذلك كاف في إثبات مثله.

__________________

وعن الثالث : بأنّه أعمّ من جميع الأقوال فلا يصلح دليلا على الأخصّ ، فإنّ الاستفهام إنّما يحسن عند قيام الاحتمال راجحا أو مرجوحا أو مساويا بل يجامع القول بالماهيّة أيضا ، فلذا ترى بعض أصحابه مستدلاّ به أيضا كما تقدّم نقله.

* وربّما يذكر لهم الحجّة بعدم ثبوت واحد من الأقوال الثلاثة عندهم.

وجوابه : واضح ممّا ذكره المصنّف في ردّ ما قرّره من الحجّة.

« تذنيب »

اختلفوا في الأمر المعلّق على شرط أو صفة نحو ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ )(١) و ( إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(٢) و ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا )(٣) و ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما )(٤) هل يفيد التكرار بتكرّر الشرط والصفة أو لا؟ على أقوال :

أحدها : ما نسب إلى جماعة من أنّه يفيده مطلقا.

وثانيها : ما عن السيّد المرتضى على ما في إحدى النسبتين ـ كما في المنية ـ من أنّه لا يفيده مطلقا ، ولعلّه مأخوذ من إطلاق قوله بعدم الافادة ، وإلاّ فهو من أصحاب القول بإفادته في العلّة خاصّة كما في النسبة الاخرى.

قال في الهداية : بأنّه نصّ في أثناء الكلام في الأدلّة بأنّ الشرط قد يصير مع كونه شرطا علّة فيتكرّر من حيث [ إنّه ] كان علّة لا من حيث كان شرطا.

وفيها أيضا : ويعزى إلى الآمدي مع حكايته الاتّفاق والإجماع على إفادته التكرار في العلّة انّه قال : والاصوليّون من الحنفيّة قالوا : إنّ الأمر المطلق يفيد المرّة ولا يدلّ على

__________________

(١) و (٢) المائدة : ٦.

(٣) النور : ٢.

(٤) المائدة : ٣٨.

٢٠٦

التكرار ، وإذا علّق لم يجب تكرّر الفعل بتكرّر العلّة ، بل ولو وجب تكرّره كان مستفادا من دليل آخر.

والعضدي مع حكايته الاتّفاق فيها أيضا ذكر احتجاج المنكرين للتكرار في العلّة ، فظهر بذلك أنّ هناك جماعة ينكرون إفادته التكرار في المعلّق على العلّة أيضا. انتهى.

وثالثها : ما اختاره الفحول والمحقّقون وعليه العلاّمة والبهائي في التهذيب والزبدة من التفصيل بين العلّة وغيرها ، فيفيد فيها دون غيرها.

ويحكى عن الشيخ ، والسيّدين المرتضى وابن زهرة ، والديلمي ، والفاضلين أحدهما العلاّمة كما عرفت ، وفخر المحقّقين ، والآمدي ، والحاجبي ، والرازي والبيضاوي ، وربّما يعزى إلى أكثر الفقهاء والمتكلّمين.

وهاهنا قول رابع حكاه بعض الأعاظم وهو التفصيل بين اشتماله على سور العموم أو العلّيّة وعدمه ، وقول رابع نقله السيّد في المنية عن فخر الدين وجماعة من المتأخّرين من أنّه لا يفيد التكرار من حيث اللفظ ويفيده من حيث العمل بالقياس.

ثمّ إنّ أصحابنا رضوان الله عليهم اختلفوا في تخصيص هذا النزاع بغير أصحاب القول بكون الصيغة المجرّدة للتكرار ، فمنهم من أطلق في العنوان من غير تعرّض لنقل الخلاف كالعلاّمة ، ومنهم من خصّ الخلاف بأصحاب القول بعدم إفادة الأمر للتكرار من دون تعرّض للتصريح بمذهب من عداهم ، كما في الهداية والكواكب الضيائيّة.

ومنهم من خصّه أيضا مع التصريح بإطباق القائلين باقتضاء الأمر المطلق التكرار على القول بتكرّر الأمر بتكرّر الشرط أو الصفة كما في المنية وكلام بعض الأعلام.

ومنهم من صرّح بالتعميم حتّى على القول بكون الأمر المطلق للتكرار كبعض الأعاظم ، حيث ناقش فيما توهّمه السابقون بأنّ تخصيص النزاع على القول بعدم إفادة الأمر للتكرار ممّا لا ينبغي ، تعليلا : بأنّ إفادة الأمر للتكرار غير إفادته التعليق فيمكن أن يتنازع فيه مطلقا.

ويظهر ثمرته في الترجيحات ، فإنّه على القول بالتكرار ـ لو قيل به ـ يتعدّد الدليل عليه ، كما أنّه على التقدير الآخر ينحصر في أمر واحد كما لو قيل بعدم إفادة الأمر للتكرار وإفادته التعليق.

والّذي يعطيه ظاهر النظر خروجهم عن النزاع ، لأنّ التكرار إذا أفاده الأمر المطلق

٢٠٧

فإفادته الأمر المعلّق بطريق أولى ، لما في التعليق من مظنّة التكرار ما ليس في انتفائه ، وكأنّه مستند المصرّحين باختصاص النزاع بغيرهم ، إلاّ أنّ دقيق النظر قاض بجواز دخولهم في النزاع أيضا ، لوضوح الفرق في التكرار بين ما يفيده الأمر المطلق وما يفيده الأمر المعلّق ، فإنّ المراد بالأوّل ـ على ما تكرّر بيانه سابقا ـ الاستمرار بفعل المأمور به حسب ما يسعه الإمكان عقلا وشرعا ، وبالثاني ـ على ما يستفاد عن مطاوي عباراتهم المصرّحة والمطلقة ـ تعدّد فعل المأمور به حسبما يتعدّد الشرط والصفة ، وهذا المعنى كما ترى أعمّ من الأوّل ، لأنّ الشرط والصفة قد يستمرّان في حصولهما ، وقد يتحقّقان في زمان دون آخر ، ومكان دون غيره ، وحالة دون اخرى ، وهذا ليس من التكرار الّذي يفيده الصيغة بحسب اللغة في شيء لخلوصه عن التقييد بما ذكر ، فالتعليق في الحقيقة مخرج لها عن إفادة معناها اللغوي.

فيأتي النزاع حينئذ في أنّه هل يوجب إفادتها التكرار على حسب ما يتكرّر الشرط أو الصفة إن دائما فدائم وإن أحيانيّا فأحياني أولا؟ فيرجع النزاع عند هؤلاء إلى تعيين المعنى المجازي للصيغة الدائر بين التكرار بهذا المعنى والمرّة والماهيّة إن لم نجعله في وضع الصيغة أو وضع الهيئة التركيبيّة ، بل في صلوح التعليق قرينة صارفة لها عن موضوعها الأصلي.

فمن هنا يتبيّن فساد ما نقلناه عن بعض الأعاظم من توهّم ظهور الثمرة في الترجيحات بتعدّد دليل التكرار على القول به في المقامين ، واتّحاده على القول به في أحدهما ، كفساد (١) ما ذكره بعض الأعلام في العنوان على ما أشرنا إليه إجمالا من أنّ الأمر المعلّق على شرط أو صفة يتكرّر بتكرّر الشرط أو الصفة عند القائلين بدلالته على التكرار قولا واحدا لوجود المقتضي وعدم المانع ، غاية الأمر تقليل التكرار بالنسبة إلى الأمر المطلق.

كما ينقدح ممّا أشرنا إليه أنّ في كون النزاع في وضع الصيغة عند وقوعها في حيّز التعليق ، أو في الهيئة التركيبيّة المشتملة على التعليق ، أو في ظهور التعليق في إرادة التكرار بتكرّر المعلّق عليه ، إحتمالات لم يصرّح بشيء منها في كلامهم ، مع عدم ظهور الأدلّة في شيء منها ، إلاّ أنّ الأوّل يبعّده الجزم بأنّ اللفظ لا يختلف وضعه باختلاف محالّه في الاستعمال ، إلاّ أن يرجع ذلك إلى احتمال طروّ وضع جديد لها عرفا ، حيثما علّقت على شرط أو صفة تعيينا أم تعيّنا ، فيدفعه : حينئذ الأصل السليم عن المعارض المعمول به عند

__________________

(١) وجه الفساد ما في آخر كلامه من التعليل بوجود المقتضي وانتفاء المانع ، فإنّ ذلك لا ينطبق على ما ذكرناه بل مناف له. ( منه ).

٢٠٨

الكلّ ، كما أنّ الاحتمال الثاني يدفعه الأصل.

ثمّ إنّ في كون النزاع صغرويّا راجعا إلى إفادة التعليق علّية المعلّق عليه وعدمها مع الاتّفاق على الكبرى وهي استلزام العلّية لوجوب التكرار بتكرّر العلّة احتمالا قويّا ، لو لا القول بإنكاره مطلقا ولو كان علّة ، كما عرفت حكاية نقله عن الاصوليّين من الحنفيّة.

ويرشدك إلى ذلك دعاوي الاتّفاق على إفادته في العلّة مع تصريح جماعة بخروج التعليق عليها عن المتنازع فيه ، مضافا إلى ما في كلام بعض الأفاضل من تقرير حجّة القول بإفادة التكرار بأنّ الغالب في التعليق على الشرط إفادة التسبيب ، وكون الأوّل قاضيا بترتّب الثاني عليه ، إلى أن قال :

« فإذا كان المعلّق عليه علّة لحصول المعلّق فقضى تكرّره بتكرّره قضاء لحقّ العلّية » فإنّ ذلك ينبئ عن تسالم التكرار عند تكرّر العلّة على فرض ثبوت العلّية حذرا عن المصادرة بالمطلوب ، فلا يبقى للنزاع محلّ إلاّ إحراز العلّية ومنعها ، وأقوى من ذلك شاهدا ما سيأتي من حجّة القول بالتفصيل بين جهة اللفظ وجهة القياس الصريحة فيما ذكر ، إلاّ أنّ ما عرفته من حكاية إنكاره في العلّة أيضا يمنعنا عن دعوى القطع بذلك.

ثمّ ، إنّ ظاهرهم كون المراد بالعلّة على ما يشهد به الأمثلة المذكورة لها ـ مضافا إلى الاستقراء القاضي بانتفاء العلّة التامّة عمّا بين أفعال المكلّفين ـ هو السبب لا العلّة التامّة ، كما أنّ ظاهرهم ـ بل صريح بعضهم ـ (١) كون المراد بها ما ثبت علّيته بدليل خارج من عقل أو شرع لا بأصل القضيّة ، وإلاّ لتدافع قول جماعة منهم هنا بنفي إفادة التعليق تكرّر المعلّق بتكرّر المعلّق عليه لقولهم في حجّيّة مفهوم الشرط بتبادر السببيّة عن القضيّة الشرطيّة.

فبذلك يتّضح خروج الأمر المعلّق على العلّة عن معقد كلامهم ، ضرورة اقتضاء العلّة تكرّر المعلّل عليها بتكرّرها وإن لم يكن هناك أمر لفظي ، فلذا ترى التكرار مستفادا عن القضيّة المشتملة على العلّة إذا كانت غير إنشائيّة كقولنا : « إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود » مع أنّ ظاهرهم بل صريحهم انحصار دليل التكرار على القول به في الأمر المعلّق.

ويبقى الإشكال في وجه الفرق بين ما ثبت علّيته بدليل خارج وما ثبتت العلّية له بظهور أصل القضيّة في السببيّة عند من يمنع اقتضاء التعليق التكرار إلاّ في العلّة ، مع إذعانه بظهور القضيّة في العلّية في موضع آخر كما عرفته عن جماعة منهم بعض الأعلام ، فإنّ

__________________

(١) كما في الكواكب الضيائيّة ( منه ).

٢٠٩

الحكم إذا كان منوطا بالعليّة فهي ثابتة في كلا المقامين وكونها مستفادة في أحدهما عن اللفظ وفي الآخر عن الخارج لا يوجب ذلك الفرق بينهما.

غاية الأمر دلالة اللفظ في الأوّل على علّية المعلّق عليه وهي تستلزم التكرار كما أنّها في الثاني تستلزمها ، فهذان الكلامان على ظاهرهما متناقضان.

إلاّ أن يدفع :

بأنّ ما ثبت علّيته بدليل خارج فهو علّة مطلقة فيفيد عمومها عموم الحكم وتكرّرها تكرّر المحكوم به ، بخلاف ما ثبت علّيته بأصل القضيّة فإنّه علّة في الجملة غير قاضية بترتّب الحكم عليها في أزيد من مرّة ، وقضاؤها بما زاد على المرّة مبنيّ على إطلاق علّيته واللفظ قاصر عن إفادته.

وبذلك يقوى ما نبّهناك عليه من خروج التعليق على العلّة الثابتة عن المتنازع فيه ، فإنّ التكرار حينئذ من مقتضى عموم العلّة وإطلاقها لا من مقتضى التعليق أو الأمر المعلّق من حيث هما ، كما هو موضع النزاع ، ويمكن دعوى عدم مخالفة الاصوليّين من الحنفيّة أيضا في ذلك ، لجواز كون مرادهم بالعلّة المصرّح بنفي التعليق بها مفيدا للتكرار في كلامهم ما ثبت علّيته بأصل القضيّة الّذي يوافقهم غيرهم بالنسبة إليه في ذلك النفي.

فبذلك يتّضح ضعف ما نقلناه عن بعض الأفاضل من توهّم أنّ هناك جماعة ينكرون إفادته التكرار في المعلّق على العلّة أيضا ، كما يتّضح بذلك إنّ ما نقل من القول بالتفصيل بين العلّة وغيرها ليس منافيا لقول النافي مطلقا لرجوع كلّ إلى الآخر ، نظرا إلى أنّ انكار التكرار فيما علّق على العلّة المطلقة ممّا لا يعقل عن جاهل فضلا عن أهل العلم إلاّ ممّن أنكر حجّيّة العلّة ، فيعود الكلام معه حينئذ إلى الصغرى لا أنّه منكر للكبرى كما لا يخفى.

وبهذا التقريب نقول بخروج المعلّق على شرط عامّ عن المتنازع فيه ، كـ « كلّما » و « مهما » وما يؤدّي مؤدّاهما ، فإنّ التكرار في مثل ذلك أيضا غير قابل للإنكار إلاّ ممّن ينكر العموم فيما ادّعى كونه عامّا ، فلا وجه لعدّ ما عدا القولين الأوّلين قولا في المسألة مقابلا لهما ، ولعلّه توهّم نشا عن إطلاق جماعة من الفريقين في النفي والإثبات مع تصريح الآخرين بالتفصيل غفلة عن أنّ ما في كلام الآخرين تفصيل لما أجمله الأوّلون وتوضيح لما أبهموه.

ثمّ ، إنّ النزاع غير مختصّ بأصحاب القول بحجّيّة مفهومي الشرط والصفة ، لأنّ إنكار

٢١٠

الحجّية معناه منع اقتضاء انتفاء المعلّق عليه لانتفاء المعلّق ، وإلاّ فاقتضاء وجوده لوجوده في الجملة كما هو منطوق القضيّة ليس ممّا ينكره أحد.

والمفروض أنّ النزاع متفرّع على ذلك ، لرجوعه إلى أنّ هذا الاقتضاء هل هو على نحو الإطلاق والعموم أو لا؟

ولا بأصحاب القول بكون العلل الشرعيّة علل واقعيّة فيما علّق على العلّة ـ على فرض اندراجه في المتنازع فيه ـ كما تنبّه عليه بعض الأجلّة ، فإنّ المعرّف والعلامة على القول بهما في العلل يفيد تكرّرهما تكرّر ذيهما في موضع يفيد تكرّر العلّة تكرّر المعلول ، وإلاّ لخرج ما جعله الشارع معرّفا وعلامة على الإطلاق عن كونه كذلك وهذا خلف ، كما لا يفيده له في كلّ موضع لا يفيده العلّة ، وإنّما الثمر [ ة ] في هذا الخلاف يظهر في جواز اجتماع العلل على معلول واحد وعدمه كما هو المصرّح به لا في محلّ البحث.

فإذا تمهّد جميع ما قرّر ، نقول : الّذي يقتضيه التحقيق والنظر الدقيق أنّ الأمر المعلّق بمجرّده لا يفيد أزيد من طلب الماهيّة.

لنا : ما تقدّم من وضع الصيغة لغة وعرفا لطلبها من غير إفادتها تكرارا ، والتعليق بمجرّده لا يوجب خروجها عن وضعها الأصلي ، لوضوح الفرق بين قولنا : « كلّما أو مهما جاءك زيد فأكرمه » وقولنا : « إن جاءك أو إذا جاءك زيد فأكرمه » فإنّهما في التعليقيّات نظير قولنا : « أكرم زيدا دائما » و « أكرم زيدا » في التنجيزيّات ، فلذا يعاقب المأمور التارك لما زاد على المرّة في الأوّل ويستحقّ ذمّ العقلاء ولا يعاقب و [ لا ] يستحقّ ذمّهم في الثاني ، وليس ذلك إلاّ من جهة استفادة التكرار في الأوّل دون الثاني ، مع صحّة تقييده عرفا بكلّ من المرّة والدوام من دون انفهام تناقض ولا تكرار.

ولا ينافي ظهوره في علّيّة وجود الشرط لوجود الجزاء ، لأنّ التكرار ممّا يقتضيه عموم العلّيّة وهو غير مستفاد من القضيّة عرفا بشيء من وجوه الدلالة ، كما لا ينافي ما نصّ عليه أهل الميزان من أنّ وضع المقدّم ينتج وضع التالي ، ورفع التالي ينتج رفع المقدّم ، تعليلا : بأنّ وجود العلّة يستلزم وجود المعلول ورفع المعلول يستلزم رفع العلّة من دون عكس في المقامين ، لعدم إفادة ذلك أيضا أزيد ممّا يفهمه العرف من أصل القضيّة ، ولو سلّم فهو ليس من الحجج التعبّديّة الصرفة ، وإنّما الحجّة في أمثال المقام هو العرف وهو مخالف له ، وأمّا الاحتجاج بقوله : « إذا دخلت السوق فاشتر اللحم » فلعلّه ليس على ما ينبغي ، لكون ذلك

٢١١

في المثال من جهة قرينة المقام وشهادة الحال والخصم لا ينكره.

حجّة القول بالتكرار : غلبة وروده للتكرار في الشرع ، كقوله (١) تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا )(٢) و ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(٣) و ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا )(٤) و ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا )(٥) و ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا )(٦) إلى غير ذلك من الآيات والروايات ، فإنّ الأمر يتكرّر فيها بتكرّر الشرط ، فكذا فيما يحصل فيه الشكّ إلحاقا بالغالب.

وقد يقرّر : بأنّ كلّ أمر ورد في الكتاب والسنّة معلّقا عليهما يفيد التكرار ، وليس ذلك إلاّ لكونه لغة كذلك ، وإلاّ لزم المجاز والنقل المخالفان للأصل.

ويقرّر أيضا : بأنّ الغالب في التعليق على الشرط إفادة التسبيب وكون الأوّل قاضيا بترتّب الثاني عليه ، ألا ترى أنّ قولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » و « إن ضربك فاضربه » و « إن قاتلك فاقتله » و « إن جاءك فأعنه » و « إن زارك فزره » إلى غير ذلك من الأمثلة إنّما يفيد ترتّب الثاني على الأوّل وتسبّبه عنه ، ثمّ يستشهد له بما تقدّم من تنصيص أهل المنطق.

وأجيب عن الأوّل : بأنّ التكرار فيما ذكر إنّما هو من جهة فهم العلّيّة ، ولا إشكال فيه ، ولا يخفى وهنه.

بل الأولى أن يجاب : بأنّ الاستقراء في الشرعيّات ـ إن تمّ أركانه مفيدا للظنّ باللحوق ـ يصلح دليلا على الحمل على التكرار في موضع الشكّ والاشتباه ، وحمله عليه لقيام دليل عليه ليس ممّا ينكره أحد ، وهو لا يقضي بكون التعليق من حيث هو ممّا يفيد التكرار عرفا كما هو محلّ البحث.

وعن الثاني : بمنع الكلّية ، فإنّ الحجّ معلّق على الاستطاعة مع عدم تكرّره بتكرّرها.

نعم أغلب العبادات كذلك ، وبأغلبيّتها لا يثبت الغلبة مطلقا ، مع أنّ الغلبة لا تكون دليلا شرعيّا ، وهو أيضا كسابقه في الوهن.

والأولى أن يقال : أنّ كون كلّ أمر معلّق في الكتاب والسنّة كذلك ـ على فرض تسليمه ـ لا يلازم كونه في العرف واللغة أيضا كذلك ، ولا يلزم من ذلك مجاز فيما ذكر ليكون مخالفا للأصل ، لجواز كون الاستعمال في ذلك من باب إطلاق الكلّي على الفرد بإرادة الماهيّة من اللفظ والتكرار من الخارج ، نظرا إلى ما تقرّر من أنّه في اللغة والعرف لطلب

__________________

(١) في الأصل : « فإنّ قوله الخ » والصواب ما أثبتناه في المتن.

(٢ ـ ٤) المائدة : ٦.

(٥) النور : ٢.

(٦) المائدة : ٣٨.

٢١٢

الماهيّة ، مع أنّ المجاز على تقديره أولى من الاشتراك إلاّ أن يدفع الوضع لغير التكرار لغة وعرفا ، ولكنّه مناف لما نصّوا عليه من كون النزاع واقعا بين غير أصحاب القول بالتكرار ، إلاّ أن يرجع إلى دعوى الوضع في الهيئة التركيبيّة ، فيدفعه : الأصل النافي لطروّ الوضع لها بإزاء التكرار من غير لزوم نقل فيها ولا مجاز ، وكلّ هيئة لا يستعمل في معنى مغائر لمعاني مفرداتها ليردّد بين امور ثلاث منفيّ غير واحد منها بالأصل ، والقضيّة لا يستفاد منها إلاّ التعليق وهو مدلول للأداة لا الهيئة ، مع أنّه لا يستلزم التكرار كما عرفت ، فيبقى التكرار في الأمثلة المذكورة مراد من الصيغة فيلزم المجاز ولا معنى للأصل حينئذ ، أو من الخارج فلا يلزم فلا حاجة إلى الأصل.

والجواب عن الثالث (١) : بأنّ مضمون الدليل مسلّم والمدّعى مع ذلك غير ثابت ، لما ذكرنا مرارا من أنّ ترتّب الجزاء على الشرط في الجملة لا يوجب التكرار المبنيّ على دوام السببيّة ، ومجرّد التعليق قاصر عن إفادته ، وقد ذكرنا أنّ كلام أهل المنطق لا يقضي بما زاد على ذلك.

واستدلّ أيضا : بأنّه لو تكرّر الفعل بتكرّر العلّة لتكرّر الشرط أيضا بطريق أولى ، لأنّ الشرط ما يعدم بعدمه المشروط بخلاف العلّة لجواز تخلّف علّة اخرى عنها.

واجيب عنه : بعد النقض باشتراكهما في جواز الخلافة لو سلّم في العلّة ، بثبوت الفارق بينهما ، فإنّ التكرار في العلّة إنّما هو لاستلزام وجودها وجود المعلول وذلك منتف في الشرط وأمّا التلازم بين العدمين فهو لا يوجب التكرار ومع ذلك فهو مشترك بينهما ، فالأولويّة في الشرط ممنوعة بل الأمر بالعكس قطعا.

حجّة القول بالتفصيل بين ما علّق على العلّة وغيره ـ على ما قرّره بعض الأجلّة ـ فعلى الشقّ الثاني : وضع الصيغة للماهيّة من حيث هي من دون إفادة للتكرار ، ومجرّد التعليق لا يستلزمه عقلا ولا عرفا ، ولم يثبت كونه مخرجا لها عن الوضع اللغوي فالأصل بقاؤها عليه حتّى يثبت خلافه ، بل يقيّد بقيدي المرّة والتكرار معا فيقال : « إن جاءك زيد فأكرمه مرّة أو مرارا ».

وعلى الأوّل : بعد الإجماع المدّعى من الحاجبي والعضدي والبهائي وغيرهم ، استحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، ولزوم تحقّقه كلّما تحقّقت ، وكلّ من الوجهين متين لا ننكره إلاّ كون الثاني ممّا تعلّق به النزاع كما عرفت سابقا.

__________________

(١) وفي الأصل : « والجواب عن الثاني » والظاهر أنّه سهو من قلمه الشريف ، ولذا صحّحناه بما في المتن.

٢١٣

وحجّة القول بإفادته من جهة القياس دون اللفظ :

فعلى الجزء الثاني : أنّ المعلّق على الشرط أو الصفة لا يفيد التكرار بتكرّرهما عرفا ، فكذا لغة وشرعا.

أمّا الأوّل : فلأنّ من قال لغلامه : « إن دخلت السوق فاشتر اللحم » و « أعط هذا درهما إن دخل الدار » لم يحسن منه شراء اللحم كلّما دخل السوق ، وإعطاء المذكور كلّما دخل الدار ، ولو فعل ذلك لذمّه العقلاء وذلك دليل على عدم إفادة التكرار.

وأمّا الثاني : فإنّه لولاه لزم النقل وهو خلاف الأصل.

وأورد عليه : بأنّ ذلك مستفاد من القرينة ولهذا لم يطّرد في غيره من الصور ، فإنّ من قال لعبده : « إذا شبعت فاحمد الله » فهم منه التكرار.

وعلى الجزء الأوّل : بأنّ ترتّب الحكم على الشرط أو الصفة يشعر بكون ذلك الشرط أو الصفة علّة لذلك الحكم ، وإذا كان علّة تحقّق الحكم حيث تحقّقت.

أمّا الثاني : فظاهر ، وأمّا الأوّل : فلأنّ من قال : « إن كان هذا عالما فاقتله ونكّل به ، وإن كان جاهلا فأكرمه وأحسن إليه » ذمّه العقلاء واستقبحوا منه ذلك ، وكذا إذا قال : « استخفّ بالعلماء وأعظم الجهلاء » فهذا الاستقباح إمّا أن يكون من حيث جعل العلم علّة للقتل والتنكيل والاستخفاف والجهل علّة للإكرام والإحسان والتعظيم ، أو من جهة كون العلم ينافي الاستخفاف والجهل ينافي التعظيم ، والثاني باطل ، فإنّه لا امتناع في استحقاق العالم للقتل والاستخفاف بسبب ارتداد أو زنا أو غير ذلك من الامور الموجبة لاستحقاق ذلك ، ولا في استحقاق الجاهل للإكرام والتعظيم بسخاوته وشجاعته ، ولا يجوز إسناد الاستقباح إلى وجه آخر لتحقّق الحكم مع الذهول عن سائر الصفات بل ومع فرض عدمها ، فتعيّن الأوّل وحينئذ يتكرّر الحكم بتكرّره ضرورة وجود المعلول في جميع صور وجود علّته.

أقول : وكأنّ محصّل المراد أنّ اللفظ في الأمر المعلّق لا يدلّ على التكرار عرفا ولغة وشرعا ، وإنّما يدلّ على علّية المعلّق عليه شرطا أو صفة وهي مقتضية لتعدية الحكم إلى ما يحصل معه التكرار من باب القياس للعلّة المستنبطة.

والجواب : أنّ العلّيّة إن اريد بها المطلقة الدائمة فاستفادتها في القضيّة الشخصيّة ممنوعة ، وإن اريد بها الجزئيّة فاقتضاؤها تعدّي الحكم إلى ما يحصل معه التكرار ممنوع ، كيف وأنّ الحكم لابدّ وأن يتعلّل بعلّته وهي في غير المرّة الاولى غير ثابت العلّيّة.

٢١٤

أصل

ذهب الشيخ رحمه‌الله وجماعة إلى أنّ الأمر المطلق يقتضي الفور والتعجيل * ؛ فلو أخّر المكلّف عصى ، وقال السيّد ـ رضي الله ـ هو مشترك بين الفور والتراخي ؛ فيتوقّف في تعيين المراد منه على دلالة تدلّ على ذلك.

__________________

* تنقيح المسألة يستدعي رسم امور :

الأوّل : في الإشارة إلى ما عثرنا عليه من الأقوال محصّلا ومنقولا وهي كثيرة :

منها : قول بالفور ، حكاه جماعة منهم المصنّف عن الشيخ منّا ـ كما في الهداية ، والكواكب الضيائيّة ، والفصول ـ وعليه المحقّق في موضع من المعتبر ـ على ما حكاه في الكواكب ـ وهو المحكيّ عن أصحاب القول بأنّ مطلق الأمر مفيد للتكرار كما في المنية.

وعن الحنفيّة ـ كما فيها والهداية والكواكب ـ وعن الحنابلة ـ كما في الأوّلين ـ والسكّاكي وأبي بكر الصيرفي وأبي الحسين البصري والكرخي والمالكيّة وجمع من الفقهاء والمتكلّمين ـ كما في الثالث ـ والقاضي وجماعة من الاصوليّين من العامّة واختاره جماعة من المتأخّرين أيضا ـ كما في الثاني ـ ولكنّ القاضي عدّه في الأوّل في أصحاب القول بالتراخي وخالفهما ما في الثالث من أنّه نقل عن القاضي أنّه قال : يجب في الحال إمّا الفعل أو العزم عليه مسندا له أيضا إلى ظاهر السيّد وكلّ من ذهب إلى بدليّة العزم.

فمن هنا تبيّن إنّ أصحاب القول بالفور بين قائل بعينيّة الفور وقائل بالتخيير بينه وبين العزم ، كما تنبّه عليه بعض الأفاضل بعد ما صرّح بأنّ هذا القول ينحلّ إلى أقوال عديدة ، لأنّ منهم من فسّر الفور بأوّل أزمنة الإمكان.

وبعضهم بالفوريّة العرفيّة فلا ينافيه تخلّل نفس أو شرب ماء أو نحو ذلك.

وبعضهم بالعرفيّة المختلفة باختلاف الأفعال كطلب شرب الماء ، وشراء اللحم ، والذهاب إلى البلاد القريبة أو البلاد البعيدة على اختلافها في البعد وتهيّؤ الأسباب.

وبعضهم بما لا يصل إلى حدّ التهاون ، وأطلق بعضهم فيحتمل كلاّ من الوجوه الأربعة ، وربّما يحمل على الفوريّة العرفيّة بأحد التقريرين.

أقول : ويمكن القول بتفسيره بثاني زمان الأمر أيضا كما احتمله بعضهم ، ثمّ إنّه جعلهم من جهة اخرى بين ثلاثة مذاهب ، لأنّ الظاهر من بعضهم كما يظهر من بعض الأدلّة الآتية

٢١٥

دلالة الأمر عليه بالوضع.

وذهب بعضهم إلى دلالته عليه من جهة انصراف الإطلاق إليه.

وبعضهم إليه من جهة قيام القرائن العامّة عليه.

أقول : ويمكن إرجاع الجميع إلى الدلالة بحسب الوضع ، كما سنقرّره إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّهم بين قائل بوجوب الفور ، فإذا أخّر وعصى سقط الفور وبقى وجوب الفعل على إطلاقه من غير لزوم التعجيل ، فلا يعصى بالتأخير حينئذ إلى الثالث وما بعده.

وقائل بوجوب التعجيل أيضا ، فيعصى بالتأخير إلى الثالث ومنه إلى الرابع وهكذا.

وقائل بسقوط الفعل بالتأخير عن أوّل الأمر ، فإنّ كلّ ذلك محكيّ عنهم كما صرّح به الفاضل المذكور.

ومنها : قول بالتراخي وهو المحكيّ عن الجبائيّين وأبي الحسين البصري والقاضي أبي بكر ، وجماعة من الشافعيّة والأشعريّة كما في المنية ، لا بمعنى وجوبه بل جواز تأخير الفعل عن أوّل أوقات الإمكان.

وفي الكواكب : أنّهم اختلفوا في تفسيره فعند جماعة بمعنى أنّه لو بادر لم يكن ممتثلا وهو المنسوب إلى الجبائيّين وبعض الأشاعرة.

وفسّره بعضهم بجواز التراخي لا وجوبه ، بل نقل عن بعض إنكار القائل به فحينئذ يكون ثمرته ثمرة القول بالماهيّة.

وفي الهداية : المقصود به جواز التراخي دون وجوبه ، إذ لا قائل ظاهرا بدلالته على الوجوب.

نعم ربّما يحكى هناك قول بالوجوب حكاه شارح الزبدة عن بعض شرّاح المنهاج قولا للجبائيّين وبعض الأشاعرة ، لكنّ المعروف عن الجبائيّين القول بالجواز ، إلى أنّ قال : « فالقول المذكور مع وهنه جدّا ـ حيث لا يظنّ أنّ عاقلا يذهب إليه ـ غير ثابت الانتساب إلى أحد من أهل الاصول ».

نعم ربّما يقرّب وجود القائل به ويرفع الاستبعاد المذكور ما عزاه جماعة منهم الإمام والآمدي والعلاّمة إلى غلاة الواقفيّة من توقّفهم في الحكم بالامتثال مع المبادرة أيضا ، لجواز أن يكون غرض الآمر هو التأخير ، فإذا جاء التوهّم المذكور لا استبعاد في ذهاب أحد إلى وجوبه ، إلى أن قال : « لكن نصّ في الإحكام والنهاية بأنّ التوقّف المذكور خلاف إجماع السلف ».

٢١٦

وكيف كان فلو ثبت القول المذكور فهو مقطوع الفساد ، إذ كون أداء المأمور به على وجه الفور قاضيا بأداء الواجب ممّا يشهد به الضرورة بعد الرجوع إلى العرف.

فقد تبيّن ممّا قرّرنا أنّ أصحاب القول بالتراخي على تقدير ثبوت القول المذكور بين قائل بالجواز وقائل بالوجوب.

ومنها : قول بالاشتراك بين الفور والتراخي ، حكاه في المنية عن الواقفيّة وعزاه المصنّف وغيره إلى السيّد.

وفي الكواكب حكى ذلك عن السيّدين المرتضى وابن زهرة وإن نسب إلى الذريعة والشافي القول بوضعه للماهيّة أيضا.

وفي الهداية : احتجاجه في الذريعة باستعماله في الفور والتراخي وظهور الاستعمال في الحقيقة يشير إليه ، إلاّ أنّ كلامه في تحرير المذهب صريح في اختياره القول بالطبيعة.

ويمكن حمل احتجاجه بما ذكر على أنّ طلب ترك الطبيعة على سبيل الفور أو التراخي نحو من الطلب ، وعلى القول بوضعه لمطلق الطلب يكون كلّ من الإطلاقين حقيقة فيوافق أصالة الحقيقة ، بخلاف ما لو قيل بوضعه لخصوص أحدهما ، فالمقصود إذن بيان أصالة الحقيقة في كلّ من الإطلاقين لا فيما إذا استعمل في خصوص كلّ منهما ، فإنّ ذلك غير معلوم ولا مفهوم من كلامه فلا يكون ما ذهب إليه قولا بالاشتراك ، إلاّ أنّه ذهب إلى حمل الأوامر على الفور كحملها على الوجوب ، نصّ عليه في بحث دلالة الأمر على الوجوب أو غيره وظاهره كونه حقيقة شرعا في خصوص الفور ، فيكون إذن مذهبا آخر إلاّ أنّه يندرج في جملة أقوال القائلين بالفور.

أقول : ولعلّ ما نقله بعض الأعاظم من القول بالفور شرعا بحسب الوضع إشارة إلى ما أفاده ذلك الفاضل.

ومنها : القول بوضعه لطلب الماهيّة من دون دلالة على فور ولا تراخ ، ذهب إليه كافّة أجلّة المتأخّرين وفاقا للعلاّمة وشيخنا البهائي في التهذيب والزبدة ونسبه في الزبدة إلى المحقّق أيضا ، والكواكب ـ شرحها ـ (١) إلى شارحيها (٢) والفاضلين وثاني الشهيدين ،

__________________

(١) الكواكب الضيائيّة في شرح زبدة البهائيّة ـ للسيّد يوسف بن محمّد الحسينى الجنابذي القائني الخراساني الاصفهاني ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٨ : ١٨٠ ).

(٢) وللزبدة البهائيّة شروح وحواش كثيرة ، ذكر بعضها في الذريعة ( ١٣ : ٢٩٨ ).

٢١٧

والحاجبي ، والعضدي ، والبيضاوي ، والرازي ، والآمدي ، والتفتازاني ، وغيرهم.

وفي الهداية : أطبق عليه المتأخّرون كالشهيدين والمصنّف إلى آخره ، كما في المنية : من أنّه اتّفق عليه المتأخّرون.

ومنها : قول بالوقف ، ذهب إليه جماعة من العامّة فلا يدرون أهو للفور أو لا؟ كما في الهداية.

وفي الفصول : إنّهم بين من يقول : إنّه إذا بادر لم يقطع بكونه ممتثلا لجواز أن يكون المقصود هو التأخير ، وبين من يقول : إنّه إذا بادر كان ممتثلا قطعا وإن أخّر لم يقطع بخروجه عن العهدة ، حكاه في الهداية أيضا.

ومن أقوال المسألة ما في الكواكب عن الفاضل التوني في الوافية من أنّه لا يدلّ على شيء منها لغة ، لكنّ الدليل الخارج دلّ على وجوب المبادرة إلى امتثال الأوامر المطلقة بحيث يعدّ عرفا مبادرا ، وهو أمر يختلف بحسب اختلاف المأمور والمأمور به.

ولعلّ الإجماع المنقول عن السيّدين المرتضى وابن زهرة على فوريّة الأوامر شرعا ناظر إلى هذا المعنى ، مع احتمال كون المراد به الدلالة على الوضع الشرعي الّذي عدّه بعض الأعاظم من الأقوال ، وكيف كان فلا ينبغي عدّ القول المذكور منها لما سيظهر في طيّ الأمر الثاني.

الأمر الثاني : لا يخفى أنّ في كون النزاع في دلالة الصيغة باعتبار الوضع ، أو انصراف إطلاقها مع الإطباق على كونها لمطلق الطلب ، أو قيام دلالة خارجيّة من باب الصرف أو الإفهام مع الإطباق على انتفاء الانصراف أيضا أوجه أوجهها الأوّل ، وإن كان قد يحصل لبعضهم التردّد في ذلك ، بل ربّما ينشأ عن اختلاف مقتضى أدلّة القول بالفور ـ على حسب الظاهر ـ توهّم كون أصحابه على مذاهب كما تقدّم الإشارة إليه.

لنا ـ على ذلك ـ تصريح جماعة من الأجلّة (١) وقاطبة المحشّين للكتاب منهم ابن المصنّف في طيّ البحث وردّهم لأدلّة القول بالفور الغير الصالحة لإثبات الوضع بها ، وصريح أدلّة القول بالماهيّة مع تصريح أهله به عند تقرير الاستدلال بها ، فلولا كلامهم في الوضع لما تحقّقت بينها وبين أدلّة سائر الأقوال منافاة ، مع أنّ القول بالاشتراك لفظا فيما بين

__________________

(١) منهم السيّد والعلاّمة في التهذيب والمنية وبعض الأعلام وبعض الأعاظم والسيّد الخراساني وابن عمنّا السيّد القزويني والمرحوم الشيخ محمّد حسين مؤلّف الفصول ( منه ).

٢١٨

الفور والتراخي لو ثبت فيما بين الأقوال لا معنى له إلاّ دعوى الوضع لذلك ، فلا يصحّ حينئذ عدّه مقابلا لسائرها إلاّ على فرض رجوعها إلى دعوى الوضع ، مع أنّ القول بالتراخي لا يتغاير القول بالماهيّة إلاّ على تقدير رجوعه إلى دعوى الوضع لذلك بالخصوص لاشتراكهما في تجويز التراخي الغير المنافي لحصول الامتثال بالبدار أيضا.

نعم ربّما يحصل الفرق بينهما لو اتّفقا في الوضع للماهيّة لو فسّرناه بوجوب التراخي ، إلاّ أنّه مبنيّ على ثبوت القول به.

وقد تقدّم حكاية المناقشة فيه وإنكار جماعة له ، ومع ذلك غير مناف لما ادّعيناه على فرض ثبوته ، مع أنّه لولاه لخرج النزاع فيما بين القول بالماهيّة والقول بالفور لفظيّا لاعتراف كلّ على هذا التقدير بما يقول به الآخر ، لأنّ الفور حينئذ لا ينكر الوضع للماهيّة كما أنّها لا تنكر وجوب الفور لو دلّتها قرينة خارجة على إرادتها في ضمن الفور ، فيعود النزاع حينئذ إلى أنّ الصيغة موضوعة لمطلق الطلب وأنّ الخارج قد دلّ على إرادة الفور.

ولا يخفى أنّ القضيّتين لا تناقض بينهما لتكونا قولين متقابلين ، حيث لا اتّحاد بين موضوعيهما.

نعم لو قدّر الخلاف في صلاحيّة ما ادّعى من الخارج دليلا على إرادة الفور لكونه قرينة على ذلك وعدمه لعاد النزاع إلى أمر معنوي ، إلاّ أنّه أيضا في كمال البعد لظهور كلامهم في تحرير العنوانات وتقرير الاستدلالات في كون النزاع في كبرى القياس والتوجيه فرض له في صغراه.

ولا منافاة لأدلّة القول المذكور لما ذكر من كونه دعوى للوضع لظهور جملة منها في تلك الدعوى ، كمثال السقي وآية الذمّ لإبليس لابتناء نهوضيهما دليلا على مطلوبهم على فهم الفور المفيد للوضع لأصالة عدم غيره حدوثا أو التفاتا إلى الحادث ولو من جانب واحد كما في سائر التبادرات لو توهّم استناده إلى غير اللفظ الموضوع ، مع عدم منافاة بواقيها لذلك أيضا لصلوح آيتي المسارعة والاستباق لكونهما من باب القرائن المنفصلة تؤكّد مقتضى الوضع.

فيرد على المستدلّين بهما حينئذ أنّ كونهما من باب الإفهام أو الصرف أولى ، لأصالة التأسيس فيما بين القرائن بالقياس إلى التأكيد.

وأمّا ما اعتمدوا عليه من البرهان العقلي أيضا وإن كان ظاهرا في الكشف عن المراد ،

٢١٩

إلاّ أنّه لا مانع عن كون نظرهم في الاستدلال به إلى توهّم كونه العلّة الباعثة للواضع على وضع الصيغة للفور.

فيرد عليهم : حينئذ أنّ ترجيح اللغة بالعقل غير سائغ ، مع أنّ القول بالوقف لا يصحّ توجيهه إلاّ إلى كونه وقفا في وضع الصيغة ، وإلاّ فالوقف من جهة المراد قد يتّفق حصوله لأصحاب القول بالماهيّة بل الفور والتراخي أيضا كما لا يخفى ، فيفوت المقابلة بينه وبينها وهو كما ترى.

الأمر الثالث : قد يتخيّل في بادئ النظر خروج القائلين بالتكرار عن هذا النزاع ، نظرا إلى أنّ محصّل المراد بالتكرار ـ على ما تقدّم تفصيل بيانه ـ الإتيان بالمأمور به في جميع أزمنة الإمكان فيندرج فيها زمان الفور أيضا في بعض تفاسيره ، ولعلّه الباعث على تخصيص الخلاف عند تحرير العنوان بغيرهم كما في الكواكب ، وعدّهم من القائلين بالفور كما في المنية.

وربّما يعلّل ذلك أيضا ـ مضافا إلى ما قرّرناه ـ بأنّه لو كان الفور مدلولا آخر للصيغة عندهم غير الدوام ـ على حسبما يجعله القائل بالمرّة ـ لزم اعتبار الدوام حينئذ بالنسبة إلى مصداق الفور لا إلى آخر أزمنة الإمكان ولا يقول به القائل بكونه للدوام ، واللازم حينئذ عدم كون الفوريّة مدلولا آخر للصيغة بل ليس مفاد الصيغة عنده إلاّ طلب طبيعة الفعل على وجه الدوام ويتبعه لزوم الفور.

ولكن الّذي يعطيه التأمّل ـ نظرا إلى ما قدّمنا تحقيقه من كون النزاع في دلالة الصيغة باعتبار الوضع ـ جواز دخولهم في النزاع أيضا ، لوضوح الفرق بين كون الشيء مدلولا التزاميّا خارجا عن الموضوع له أو تضمّنيا داخلا فيه ، فيرجع النزاع حينئذ إلى أنّ استفادة الفور عن الصيغة هل هي بطريق الدلالة بالالتزام ولو من جهة العقل المستلزمة لعدم كونه ملحوظا في نظر الواضع أصالة ، أو هي بطريق الوضع الموجب لكونه ملحوظا عند الوضع بالخصوص ، إلاّ أنّه على هذا التقدير يفوت (١) عليهم بلا فائدة كما لا يخفى.

وأمّا القول بأنّ القائل المذكور كما يقول بوجوب الفور كذا يقول بالتراخي أيضا بل بوجوبه ، تعليلا : بأنّه كما يحكم بوجوب الفعل في أوّل الأزمنة كذا يقول بوجوبه في آخرها فيتساوى نسبته إلى القولين ويكون قائلا بوجوب الفور والتراخي معا ، فواضح الفساد جدّا.

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢٢٠