تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

ولكن نقول : إنّ الأمر بغير الأهمّ إذا كان مشروطا بعصيان الأمر بالأهمّ فلا يخلو إمّا أن يكون الأمر بذلك الأهمّ باقيا عند الإتيان بغير الأهمّ أو مرتفعا ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلاشتراط التكليف في بقائه بالإمكان كحدوثه ولا ريب أنّ الأهمّ يمتنع عند الاشتغال بغيره ، وكونه امتناعا بالاختيار لا يجدي كما عرفت.

وأمّا الثاني : فلخروجه عن محلّ البحث ، لأنّ الكلام في فساد الضدّ من جهة النهي المتعلّق به وارتفاع الأمر عن الأهمّ يوجب ارتفاع النهي عن الضدّ لكونه تابعا له متفرّعا عليه ، والتابع لا يبقى بدون المتبوع ، وصحّة الضدّ على تقدير عدم النهي عنه ممّا لا ينكره أحد.

مضافا إلى أنّه لا يعقل كون شرط الوجوب هو المعصية بالأهمّ ، لأنّها تقارن الإتيان بغير الأهمّ من حيث الوجود ، نظرا إلى أنّ محلّ البحث ما لو وقع الضدّ في الزمان المضروب للمأمور به حسبما اقتضاه فوريّة الأمر به ، وظاهر أنّ حصول المعصية بترك الواجب فرع انقضاء وقت ذلك الواجب بتمامه أو بما لا يبقى بعده إلاّ ما لا يسعه خاليا عن الإتيان به من غير عذر ، ومجرّد العزم عليها وإن كان بنفسه معصية غير أنّها ليست بتلك المعصية الّتي فرضت شرطا للوجوب ، فيلزم وجوب الشيء بعد وجوده وهو كما ترى.

وكأنّه رحمه‌الله تفطّن بهذا المعنى حيث أورد على نفسه بما محصّله : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ على تقدير كون ترك الأهمّ الّذي هو مقدّمة لفعل غير الأهمّ مقدّما على الفعل ، لتعلّق الوجوب حينئذ بعد تحقّق شرطه.

وأمّا على تقدير مقارنته لحصول الفعل كما هو الحال في محلّ المقال فلا ، إذ لا وجوب للفعل المفروض قبل حصول مقدّمة وجوبه فلا يكون صدوره عن المكلّف على وجه الصحّة.

فأجاب عنه : بأنّ ذلك إنّما يتّجه على القول بلزوم تقدّم حصول الشرط على المشروط بحسب الوجود ، وعدم جواز توقّف الشيء على الشرط المتأخّر بأن يكون وجوده في الجملة كافيا في حصول المشروط.

وأمّا على القول بجواز ذلك ـ كما هو الحال في الإجازة المتأخّرة الكاشفة عن صحّة الفضولي ، وتوقّف صحّة الأجزاء المتقدّمة في الصلاة على الأجزاء المتأخّرة منها ـ فلا مانع من ذلك أصلا ، فإذا تيقّن المكلّف على حسب العادة بحصول الشرط المذكور تعلّق به الوجوب وصحّ منه الإتيان بالفعل.

٦٨١

ونظير هذا الكلام ما صدر عن المحقّق الثاني في دفع اعتراض من يرى الإجازة ناقلة على القول بالكشف بلزومه حصول المشروط قبل حصول الشرط وتأخّر الشرط عنه وهو محال ، من منع عدم جواز ذلك ووقوعه في الشرعيّات كثيرا ، وكأنّ نظره في ذلك إلى التقابض الّذي هو شرط في الصرف ، والقبض الّذي هو شرط في السلم والهبة ونحو ذلك حيث إنّ الشرط متأخّر فيها عن العقد.

وأنت خبير بفساد ذلك : فإنّ القاضي بامتناع تقدّم المشروط على الشرط إنّما هو العقل ، بل هو من القضايا الّتي قياساتها معها فكيف يسوّغ أن يحصل في الشرع ما يخالف ذلك ، وما ذكر من الموارد ليس من هذا الباب ، لعدم كون المشروط هو العقد بل صحّته وتأثيره ، وكلّ من الامور المذكورة جزء للسبب من جهة كونه شرطا للمسبّب ، ولا نسلّم أنّ الصحّة تحصل من حين العقد بل تحصل من حين تحقّق الامور المذكورة والعقد متأهّل ، لها فلا يلزم تحقّق المشروط قبل تحقّق الشرط.

ومن هنا تبيّن بطلان ما ذكره الفاضل من تنظير المقام على أجزاء الصلاة ، فإنّ الأجزاء السابقة قبل لحوق الأجزاء اللاحقة ليس لها إلاّ الصحّة التأهّليّة ولحوق الأجزاء المتأخّرة شرط للصحّة الفعليّة وهي تقارن حصول الشرط لا أنّها متقدّمة عليه.

وأمّا عدّ إجازة الفضولي من هذا الباب فهو أوضح فسادا من ذلك ، لأنّ الّذي يراها كاشفة ـ كما هو الأقوى ـ لا يجعلها بنفسها شرطا حتّى ينهض شاهدا ، بل يجعل الشرط تعقّب العقد بالإجازة وكونه سيرضى به المالك.

ولا ريب أنّه وصف مقارن للعقد وإن تأخّر الإجازة في حصولها بكثير ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون للإجازة مدخل حتّى لا يترتّب على اعتبارها فائدة ، لابتناء الإضافة المعتبرة في الشرط ـ نظرا إلى كونه أمرا إضافيّا ـ على حصولها ، وإلاّ لما صدق على العقد أنّه متعقّب بالإجازة.

فقوله : « إذا تيقّن المكلّف إلى آخره » ففيه : ما لا يخفى ، فإنّ العلم بحصول الشرط في الزمن المتأخّر لا يوجب تقدّم المشروط عليه بحسب الوجود ، لعدم كونه شرطا ولا دخيلا في التأثير ، إلاّ أن يرجع إلى ما ذكرناه من دعوى كون الشرط هو الأمر الإضافي دون المضاف إليه ، وهو كون المكلّف ممّن يحصل منه المعصية أو يقطع بحصولها منه ، فحينئذ يتعلّق به الوجوب قبل حصولها لحصول شرطه ، غير أنّه ـ مع كونه عدولا عمّا جعله شرطا

٦٨٢

في أوّل الوحلة وهو نفس المعصية ـ تكلّف بلا دليل ودعوى بلا شاهد.

ولا يصلح دليلا عليه ما أفاده بقوله : « ما ذكرناه هو مقتضى إطلاق الأمرين بعد ملاحظة التقييد الثابت بحكم العقل ، فإنّ إطلاق كلّ من الأمرين يقضي بمطلوبيّة الفعل على [ سبيل ] الإطلاق ولمّا لم يمكن مطلوبيّة غير الأهمّ في مرتبة الأهمّ ـ لوضوح تعيّن الإتيان بالأهمّ ، وعدم اجتماعه معه في الوجود ـ لزم تقييد الأمر المتعلّق بغير الأهمّ بذلك ، فلا يكون غير الأهمّ مطلوبا مع الإتيان بالأهمّ.

وأمّا عدم مطلوبيّته على فرض ترك الأهمّ وعصيان الأمر المتعلّق به فممّا لا دليل عليه ، فلا قاضي بتقييد الإطلاق بالنسبة إليه أيضا.

والحاصل : أنّه لابدّ من الاقتصار في التقييد على القدر الثابت ، وليس ذلك إلاّ بالتزام ارتفاع الطلب المتعلّق بغير الأهمّ على تقدير إتيانه بالأهمّ.

وأمّا القول بتقييد الطلب المتعلّق به بمجرّد معارضته لطلب الأهمّ مطلقا ولو كان بانيا على عصيانه وإخلاء الزمان عن الإتيان به فممّا لا داعي إليه ، وليس في اللفظ ولا في العقل ما يقتضي ذلك ، فلابدّ فيه من البناء على الإطلاق والاقتصار في الخروج على القدر اللازم. انتهى.

ولا ريب أنّ ذلك لا يتمشّى في محلّ البحث وهو الأمر المضيّق مع الضدّ الموسّع ، إمّا لاختصاص النزاع به أو لاختصاص ظهور الثمرة المذكورة به كما يعترف به كلّ من لا يقول باختصاص النزاع ، فإنّ تقييد الأمر بالضدّ على القول بكونه منهيّا عنه لو لم يكن من جهة النهي المجامع معه الموجب لاندراجه في اجتماع الأمر والنهي الغير الجائز ، فلابدّ وأن يكون من جهة لزوم الأمر بالمتضادّين في زمان واحد ، نظرا إلى عدم إمكان الجمع بينهما في الامتثال ، وهو إنّما يسلّم فيما لا مندوحة للمكلّف ولا مناص له من الجمع بينهما في زمان واحد ، كما لو كان الأمر بهما تعيينيّا بمعنى كونه في كلّ منهما مضيّقا.

وأمّا في غيره كما لو كان الأمر بأحدهما تعيينيّا وفي الآخر تخييريّا فلا ، لتمكّنه عن امتثالهما معا على نحو التفريق ، بأن يأتي أوّلا بما وجب عينا عملا بعينيّة الأمر به ثمّ بالآخر عملا بتخييريّة الأمر به ، ولا يلزم بذلك تقييد في الأمر الثاني بالنسبة إلى الفرد المعارض للأوّل لعدم كونه بعينه مأمورا به ، بل إنّما كان موجبا للامتثال على تقدير الإتيان به من جهة كونه فردا من المأمور به الكلّي ، ولا ريب أنّ شمول الأمر له من هذه الجهة مع الفرد الآخر المأتيّ به الموجب للامتثال أيضا شمول بدلي ، بمعنى عدم كون كلّ منهما

٦٨٣

مأمورا به بعينه ولا عدم اندراج شيء منهما في المأمور به بل كلّ منهما مشمول للأمر وموجب لامتثال الأمر بالكلّي على تقدير عدم حصول الآخر ، لئلاّ يلزم لزوم الامتثال عقيب الامتثال ، فعدم إفادة كلّ منهما للامتثال على تقدير حصول الآخر ليس من جهة عدم شمول الأمر له بالمرّة حتّى يكون من باب التقييد ، بل من جهة ارتفاع الأمر بالكلّي بسبب حصول امتثاله في ضمن الفرد المأتيّ به.

فحينئذ لو اختار الامتثال بالكلّي بعد الامتثال بالآخر المعيّن خرج عن عهدة الأمرين معا من دون خلاف ظاهر في الخطاب ، ولو اختار الامتثال به قبل الامتثال بالآخر خرج عن عهدة الأمر به أيضا ، وإن عصى بالنسبة إلى الأمر الآخر ، ولا يلزم في حكم العقل قبح على الآمر الحكيم ليوجب تقييدا في الخطاب على أحد الوجهين ، لعدم حصره مناص المكلّف فيما أتى به ليكون صحّته مشروطة بالعصيان المفروض ، ولا في نظر العرف تصرّف في الخطاب مناف للظاهر ، كما أنّه لا يلزم شيء من ذلك لو عصى بترك المعيّن في زمانه المضروب له ثمّ أتى في الزمان المتأخّر بالكلّي في ضمن غير الفرد الأوّل ، فكما أنّه يوجب الامتثال لكونه فردا من الكلّي المأمور به فكذلك الفرد الأوّل يوجبه لأجل ذلك ، من غير لزوم محذور موجب للتأويل في ظاهر الخطاب بجعل الأمر بالنسبة إليه مشروطا.

نعم هذا الكلام له وجه على بعض الوجوه في الضدّين المأمور بهما تعيينا مع كون أحدهما أهمّ في نظر الشارع بالقياس إلى الآخر ، فحينئذ يقال : لا يمكن الامتثال بهما عينا ولا تخييرا ، إذ لا معنى للأمر بغير الأهمّ في مرتبة الأهمّ ، فلابدّ أن يكون الأمر بالأوّل تعيينيّا مع كونه مطلقا وبالثاني تعيينيّا مع كونه مشروطا معلّقا على عدم حصول الامتثال بالأوّل من جهة العصيان أو عدم الإمكان.

ومن البيّن أنّ بينه وبين محلّ الكلام فرق واضح بيّن كرابعة النهار ، ومع الغضّ عن ذلك نقول : بأنّ المراد باشتراط الأمر إن كان اشتراطه بحسب المعنى وهو توقيف الطلب وتعليقه على العصيان.

ففيه : أنّه لا يعقل إلاّ مع الجهل بحصول المعلّق عليه وهو على العالم بالعواقب ممّا لا يعقل ، فدعوى : أنّ التقييد بهذا المعنى ممّا يحكم به العقل افتراء على العقل ، كيف وأنّ الشرط إمّا أن يكون في معرض الحصول فيعلم به العالم بالعاقبة قطعا فيحسن منه الطلب المطلق الفعلي ولو قبل حصول الشرط حسبما قدّمنا تحقيقه في بحث المقدّمة ، وإمّا أن

٦٨٤

يكون في معرض عدم الحصول فيعلم به العالم بالعاقبة ولا يحسن منه الطلب ولو مشروطا ، ومعه فأيّ صورة يبقى في المقام حتّى يحكم العقل فيها بالطلب المشروط ، وإن كان اشتراطه في ظاهر الخطاب فهو وإن كان ممّا لا يقتضي محذورا بعد تأويله إلى ما لا ينافي الإطلاق كما في سائر الخطابات المعلّقة بظاهرها ولكنّه لا يجدي نفعا في حصول غرض الفاضل المعترض.

ومع الغضّ عن جميع ذلك نقول أيضا : إنّ الأمر في المقام دائر بين تقييد الأمر حسبما ذكره الفاضل أو تقييد المأمور به حسبما ادّعاه غيره ممّن يفسد العبادات المضادّة للمأمور به المضيّق ، والثاني هو الأولى والموافق للأصل من غير فرق بين كون دليل الضدّ لفظيّا أو لبيّا.

أمّا الأوّل : فلما مرّ تحقيقه في بحث المقدّمة.

وأمّا الثاني : فلكونه من مقتضى أصالة البراءة ، فإنّ بناء كلام الفاضل على ثبوت التكليف بالضدّ في زمان عصيان المأمور به المضيّق وبناء كلام الآخرين على انتفائه ، فيكون الشكّ المفروض في المقام على تقديره شكّا في التكليف ولا ريب أنّه من مجاري أصل البراءة ولا يعارضه شيء آخر من الاصول.

ثمّ إنّ من العجب أنّ هذا الفاضل فرّق بين فعل غير الأهمّ وإرادة فعله ، فجوّز اجتماع الوجوب والحرمة في الأوّل دون الثاني ، ولذا صار في الحكم بفساد الضدّ وعدمه إلى التفصيل حسبما تقدّم ، مع أنّ الثاني أولى بجواز اجتماعهما فيه من جهة عدم استلزام مخالفة شيء منهما عقابا ولا استحقاقا له. لكون كلّ منهما غيريّا ، وقد سبق تحقيقه في بحث المقدّمة أنّ الوجوب الغيري لا يوجب شيئا من ذلك ، ومثله التحريم الغيري من غير فرق كما لا يخفى ، بخلاف الأوّل فإنّ وجوبه نفسي يوجب مخالفته العقاب واستحقاقه فيقبح على الحكيم أن يعاقب عليها إذا حصلت لموافقة التحريم وطلبه للترك مقدّمة وإن لم يحصل معه ذو المقدّمة.

وأعجب من ذلك أنّه فرّق في ذلك أيضا بين ترك الأهمّ وفعل غير الأهمّ فجوّز اجتماعهما فيه ومنعه في الأوّل ، حيث أورد في أثناء كلامه على نفسه بقوله : فإن قلت : إنّ ترك الأهمّ لمّا كان مقدّمة للإتيان بغير الأهمّ وكان وجوب الشيء مستلزما في حكم العقل لوجوب مقدّمته بحيث يستحيل الانفكاك بينهما كما مرّ الكلام فيه ، كيف يعقل وجوب غير الأهمّ مع انحصار مقدّمته إذن في الحرام ، فيلزم حينئذ أحد أمرين من اجتماع الوجوب

٦٨٥

والحرمة في المقدّمة المفروضة ، أو القول بانفكاك وجوب المقدّمة عن وجوب ذي المقدّمة ، ولا ريب في فساد الأمرين. فأجاب عنه بقوله : ما ذكرناه من كون تعلّق الطلب بغير الأهمّ على فرض عصيان الأهمّ إنّما يفيد كون الطلب المتعلّق به مشروطا بذلك ، فيكون وجوب غير الأهمّ مشروطا بترك الأهمّ وإخلاء ذلك الزمان عن اشتغاله به.

ومن البيّن عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط ، فلا مانع من توقّف وجود الواجب على المقدّمة المحرّمة إذا توقّف وجوبه عليها أيضا. انتهى.

ولا يخفى ما في أطراف كلامه من التدافع ، فإنّ المقامين لا فرق بينهما إلاّ في كون الوجوب في الأوّل غيريّا والتحريم نفسيّا وكونهما في الثاني بالعكس ، وهو لا يوجب فرقا في الحكم أصلا.

فإن قلت : لعلّه في الثاني حيثما يثبت الوجوب بحصول شرطه وهو العصيان لا يقول بالتحريم حتّى يتوجّه إليه ما ذكر.

قلت : مع أنّه ينافيه تصريحه سابقا بعدم المانع عن اجتماعهما بقوله : « فيجتمع الوجوب والتحريم المفروضان في آن واحد من غير تمانع بينهما » ينافيه مذهبه في مقدّمة الواجب من عدم انحصار وجوبها في المقدّمة الموصلة كما صرّح به أيضا هنا فيما نقلنا عنه في دفع الإيراد السابق على إيراده.

وبالجملة كلامه من البداية إلى النهاية مختلّ النظام لاشتماله على تدافعات وحزازات وتكلّفات.

ومنها : ما يستفاد عن كلام بعض الأعلام من أنّ النهي الثابت هنا تبعي وهو ليس ممّا يثمر ، تعليلا بأنّ ترك الضدّ من مقدّمات المأمور به ووجوب تركه تبعي والوجوب التبعي لا يفيد إلاّ أنّ ترك الضدّ مطلوب الآمر تبعا ، بمعنى أنّ المقصود بالذات هو الإتيان بالمأمور به وطلب ترك الضدّ إنّما هو لأجل الوصول إليه ، فلا يثبت بذلك عقاب على ترك الترك ـ بمعنى فعل ـ فلا يثبت الفساد.

وجوابه : يظهر ممّا مرّ ، ومحصّله : أنّ النهي كائنا ما كان يقتضي لزوم الامتثال وإلاّ لما كان نهيا ، والوجوب المجامع معه أيضا يقتضي الامتثال ، والجمع بين ترك الشيء وفعله غير ممكن عقلا فيجب في حكمة الحكيم أن يخرج الفرد من المأمور به حيثما ينهى عنه ـ ولو للغير ـ عن تحته لئلاّ يكون حاملا للمكلّف على الممتنع بالذات ، وهذا معنى اقتضاء النهي

٦٨٦

لنا على عدم الاقتضاء في الخاصّ لفظا : أنّه لو دلّ لكانت واحدة من الثلاث ، وكلّها منتفية *.

__________________

للفساد ، ولا ملازمة بينه وبين استحقاق العقاب حتّى يلزم من انتفائه انتفاؤه.

وبالجملة لا مجال إلى إنكار كون فساد الضدّ متفرّعا على نهيه إن كان من العبادات على القول بدلالة النهي فيها على الفساد كما هو الراجح في النظر ، بل ربّما ينفى الإشكال عنه ، بل يقال : بظهور عدم كونه محلاّ للخلاف بين العلماء.

فالمسألة إجماعيّة على طريقة الإجماع المركّب ، فكلّ من قال بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ قال بفساد الضدّ ، وكلّ من لم يقل بفساده لم يقل بالدلالة على النهي ، فلذا ترى أنّ بعض الفقهاء حيث منع عن فساد الضدّ منعه باعتبار إنكار الصغرى وهي الدلالة على النهي وإلاّ فالكبرى مسلّمة عند الكلّ ، بل هو ممّا عزي إلى قاطبة القدماء من الفقهاء ، حيث إنّ في المعتبر نسبه إلى المشايخ الثلاثة الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيّد المرتضى وأتباعهم مثل السلاّر وابن زهرة والحلبي والحلّي وغيرهم إلى يحيى بن سعيد ، فإنّهم في مسألة المضايقة والمواسعة أطبقوا على بطلان الحاضرة في أوّل الوقت ممّن عليه قضاء الفائتة استنادا إلى فوريّة أوامر القضاء بل الأخبار الّتي تمسّكوا بها عليه صريحة في كونه لأجل تضيّق الفائتة فيجب تقديمها على الحاضرة.

ومن هنا ترى أنّ القائلين بعدم البطلان يمنعون عن فوريّة الأوامر تعليلا بأنّه لو صحّ ذلك للزم حرمة اكثر المباحات ، واللازم باطل بالضرورة الواضحة والسيرة القاطعة ، فإنّه كما ترى صريح في مسالمة الملازمة لاختصاص منعهم بالاستناد إلى منع اللازم ، بل كثيرا مّا ترى عن بعضهم ما وقع من دعوى الإجماع على ذلك كابن إدريس في مسألة بطلان الصلاة أوّل الوقت ممّن عليه دين مع مطالبة الغريم أو خمس أو زكاة ، فحكم بالبطلان مستدلاّ بأنّ كلّ شيء يمنع عن الواجب المضيّق فهو قبيح.

والحاصل لم نجد من العلماء من قال بالنهي فيما نحن فيه وهو قائل بعدم الفساد عدا الشيخ في كشف الغطاء. انتهى.

* احتجاج على نفي الدلالة اللفظيّة ردّا على من يزعمها ومعلوم أنّها غير خالية عن الأقسام الثلاث المذكورة.

٦٨٧

أمّا المطابقة ، فلأنّ مفاد الأمر لغة وعرفا هو الوجوب * ، على ما سبق تحقيقه.

__________________

وحاصل الدليل : أنّه لو فهم من الأمر بالشيء النهي عن ضدّه فإمّا أن يفهم بعنوان أنّه تمام مدلول الأمر ، أو بعنوان أنّه جزء مدلوله ، أو بعنوان أنّه لازم لمدلوله ، والكلّ باطل.

وقد عرفت سابقا أنّ هذا الخلاف واقع في الملازمة بين إيجاب الشيء وتحريم ضدّه ، وإيجاب الشيء وإن لم يكن منحصرا فيما يستفاد من الأمر اللفظي غير أنّ نفي الملازمة بالنسبة إليه يقضي بنفيها بالنسبة إلى غيره ، وهذه الحجّة وإن كانت لا يجري في جميع موارد الدعوى إلاّ أنّ الحجّة الآتية في نفي الالتزام المعنوي جارية في الموارد.

* وفي التعبير عن مفاد « الأمر » بالوجوب دون الإيجاب مسامحة أو وجه اعتباري لا يساعده التحقيق وقد تقدّم بيان الكلّ في بحث الصيغة ، ولكن جعله مفادا للأمر على وجه المطابقة مع عدم انحصاره فيه مبنيّ إمّا على وضع الصيغة للإيجاب بانفراده زيادة على وضعها للإسناد ، أو على ما أشرنا إليه في بحث الصيغة من احتمال تفسير الإيجاب بإسناد الفعل إلى فاعل معيّن من حيث كونه مطلوبا على وجه الحتم والإلزام ، أو جعل الإيجاب بمعنى طلب الفعل حتما أو مع عدم الرضا بالترك بحيث يتضمّن النسبة الفاعليّة أيضا.

بدعوى : أنّ الواضع وإن لاحظ الطلب الحتمي ووضع الصيغة بإزائه ، غير أنّه لكونه أمرا نسبيّا يقتضي مطلوبا منه وهو المنسوب إليه الحدث المطلوب ، كما أنّه يقتضي طالبا فيكون الموضوع له متضمّنا للنسبة الفاعليّة ، كما أنّه متضمّن للنسبة الطلبيّة ، وذلك يتصوّر على وجهين :

أحدهما : كون الموضوع له هو الطلب المقيّد بهاتين النسبتين على وجه يكون القيد خارجا ، فيكون دلالة الصيغة عليه بيّنا بالمعنى الأخصّ.

وثانيهما : كونه مجموع المقيّد والقيدين معا أو أحدهما مع خروج الآخر ولزومه بيّنا ، وكلام القوم خال عن تنقيح هذا المطلب وإن كان يمكن استفادة الأوّل من كلام الجمهور حيث يصرّحون بكون مدلول الصيغة هو الوجوب أو الإيجاب ، وهو أمر بسيط ليس المنع من الترك جزءا له بل هو ممّا يلزمه بعد التحليل العقلي ، فتأمّل.

وكيف كان فأقرب الوجوه الثلاث هو الوجه الأخير ، وربّما يومئ بعض عبارات بعض الأعلام إلى دعوى الأوّل ، حيث يفرّق بين النسبة الطلبيّة والنسبة الفاعليّة ، بدعوى : كون

٦٨٨

وحقيقة الوجوب ليست إلاّ رجحان الفعل مع المنع من الترك *. وليس هذا معنى النهي عن الضدّ الخاصّ ضرورة **.

وأمّا التضمّن ، فلأنّ جزءه هو المنع من الترك. ولا ريب في مغايرته للأضداد الوجوديّة المعبّر عنها بالخاصّ.

وأمّا الالتزام ، فلأنّ شرطها اللّزوم العقليّ أو العرفيّ. ونحن نقطع بأنّ تصوّر معنى صيغة الأمر لا يحصل منه الانتقال إلى تصوّر الضدّ الخاصّ ، فضلا عن النهي عنه.

ولنا على انتفائه معنى : ما سنبيّنه ، من ضعف متمسك مثبتيه *** ، وعدم قيام دليل صالح سواه عليه.

__________________

الأوّل مدلولا للصيغة من باب الوضع العامّ مع الموضوع له العامّ والثاني مدلولا لها من باب المداليل الحرفيّة ، والوجه في ذلك أنّ الجمع بين هذين الوجهين غير ممكن بوضع واحد ، ولكنّه كما ترى أبعد الاحتمالات ولا أظنّ من الاصوليّين من ظنّه وصار إليه.

* ولا يخفى ما فيه وفيما سيأتي من بيان ماهيّة الوجوب من المسامحة ، فإنّ الوجوب بمعنى الإيجاب وصف للآمر مأخوذ فيه الطلب جنسا له والرجحان وصف في الفعل المأمور به ، وهو من لوازم الطلب والعلل الداعية إليه ، وكذلك لو جعلناه بالمعنى الراجع إلى الفعل فإنّه أيضا وصف آخر للفعل مبائن لوصف الرجحان مبائنة المعلول لعلّته والمسبّب لسببه ، وكأنّه أراد به تفسير الوجوب بما هو لازم له ولكنّه لا يلائمه تصريحه الآتي بكونه كالمنع من الترك جزءا للماهيّة ، وكيف كان فلا يخلو العبارة عن نوع حزازة ولكن الخطب فيه سهل.

** لأنّ معناه طلب ترك الضدّ مع المنع عن فعله ، وهذا يبائن المعنى الأوّل جنسا وفصلا كما يشهد به الضرورة.

*** إذ ليس لهم سوى وجوب المقدّمة واستلزام تحريم اللازم لتحريم الملزوم ، وكلاهما ممنوعان.

وقد يورد عليه : بأنّ ضعف متمسّك القوم وعدم وجدان دليل آخر عليه لا يدلّ على انتفائه.

أقصى الأمر قضاء ذلك بالوقف فكيف يجعل ذلك دليلا على عدم الاستلزام.

٦٨٩

ولنا على الاقتضاء في العامّ بمعنى الترك : ما علم من أنّ ماهيّة الوجوب مركّبة من أمرين * (١) ، أحدهما المنع من الترك. فصيغة الأمر الدالّة على الوجوب دالّة على النهي عن الترك بالتضمّن ، وذلك واضح.

__________________

وأنت بالتأمّل فيما قدّمناه في تأسيس الأصل تقدر على دفع ذلك ، فإنّ دليل عدم الاستلزام حقيقة هو الأدلّة القاضية بإباحة الضدّ بالمعنى الأعمّ ، وظاهر أنّ دليل الخصم لو كان إنّما يرد مورد دعوى التخصيص أو التقييد ، والمفروض انحصاره في الوجهين المذكورين على حسب الظاهر ، فإذا تبيّن ضعفه وقصور دلالته تبقى الأدلّة الأوّلية القاضية بالاباحة سليمة عن المعارض ولو بضميمة الأصل.

* واعترض عليه بعض المحقّقين : بأنّ تركّب معنى الوجوب من أمرين ـ على تقدير تسليمه ـ لا يستلزم تضمّن الأمر لهما ، فإنّ الوجوب حكم من أحكام المأمور به وليس مفهومه عين مفهوم الأمر ، بل الحقّ استلزام الأمر بالشيء النهي عن تركه لزوما بيّنا بالمعنى الأعمّ.

ومثله ما في كلام بعض الأعاظم من أنّ ذلك لو سلّم لا يستلزم المدّعى ، لكون الأمر حقيقة في الطلب الحتمي ولا تركيب فيه ، وعدّ الوجوب مدلولا للأمر في كلماتهم لو أرادوا منه ذلك مسامحة ، والمنع من الترك كترتّب العقاب خارجان عن مدلول الصيغة لغة وعرفا وشرعا.

وما في كلام بعض الأعلام من أنّ المنع من الترك ليس جزء معنى « افعل » فإنّ معناه هو الطلب الحتمي الجازم ، ويلزمه إذا صدر من الشارع ترتّب العقاب على تركه والممنوعيّة عنه ، فالمنع عن الترك ـ لو سلّم كونه جزء معنى الوجوب ـ لا يلزم منه كونه جزء معنى « افعل ».

وما في الضوابط من أنّ الفرق بين التضمّن والالتزام أنّه يتبادر إلى الذهن في الأوّل الهيئة التركيبيّة ويفهم الجزء في ضمن الكلّ وفي الثاني يتبادر إلى الذهن أوّلا الملزوم ثمّ ينتقل بعده إلى اللازم ، والأمر في المقام من هذا القبيل إذ المتبادر من « الأمر » أمر بسيط إجمالي وهو طلب الشيء وإظهار محبوبيّته حتما ، ثمّ بعد ذلك بل بعد تصوّر الطرفين يفهم النهي عن الترك التزاما ، فالقول بأنّ صيغة الأمر دالّة على المنع من الترك بالتضمّن فاسد ، لأنّ دلالة « الأمر » على نفس الوجوب التزامي فكيف يكون دلالته على جزء الوجوب تضمّنيا.

ولا يخفى أنّ هذه العبارات كلّها واردة في سياق تسليم كون « الأمر » حقيقة في الطلب الحتمي ، والتفكيك بينه وبين الوجوب الّذي هو مركّب عن أمرين على الفرض أو الواقع ،

٦٩٠

بدعوى : كونه لازما له ، وظاهر أنّ جزء اللازم لا يعدّ جزءا للملزوم ، ويمكن توجيهها بوجوه :

أحدها : كون مرادهم بالطلب الحتمي في معنى « الأمر » الإيجاب القائم بنفس المتكلّم ، وبالوجوب المغاير له الأثر الحاصل منه المتعلّق بالفعل ، ولا ينافيه تفسيره بطلب الفعل مع المنع من تركه ، لكون معناه حينئذ مطلوبيّة الفعل وممنوعيّة تركه ، ولا ريب أنّه أثر حاصل من الإيجاب بمعنى الطلب الحتمي ولازم من لوازمه ، كما أنّ ترتّب العقاب على الترك حيثما صدر من الشارع من لوازمه ، بمعنى أنّ الطلب الحتمي إذا تعلّق بالشيء يتّصف بكونه مطلوب الفعل وممنوع الترك ، ويكون قولهم : « وهو أمر بسيط » في معرض السند لمنع ما عساه يقوله المستدلّ في دفع اعتراضهم المذكور من أنّ الإيجاب المدّعى كونه مدلول « الأمر » أيضا مركّب من الأمرين المذكورين ، غايته كونهما على حدّ البناء للفاعل ، وفي معنى الوجوب على حدّ البناء للمفعول كما عرفت.

وأظهر العبارات في إفادة هذا المعنى أوليها ، فلا يرد عليها ما أورده بعض الأفاضل من أنّ المقصود بالوجوب في المقام إن كان معناه المصطلح ـ أعني ما يذمّ تاركه أو ما يستحقّ تاركه العقاب ـ صحّ ما ذكر ، وان كان هو الطلب الحتمي الحاصل من الأمر بالشيء سواء تفرّع عليه استحقاق ذمّ أو عقوبة فيما إذا كان الآمر ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا فلا مانع من كونه مدلولا وضعيّا للصيغة ، بل هو الّذي وضعت الصيغة لإنشائه.

ودعوى : أنّ الطلب الحتمي عين الوجوب بالمعنى المذكور ومغائر له بالاعتبار واضح الفساد ، لوضوح الفرق بين التأثير والأثر المترتّب عليه كالفرق بين الكسر والانكسار.

وثانيها : أن يكون المراد أنّ « الأمر » لغة وعرفا حقيقة في الطلب الحتمي ، وهو أمر بسيط من غير فرق بين صدوره من الشارع أو غيره ، عاليا كان أو دانيا أو مساويا ، ووجوب الشيء بمعنى كونه مطلوبا فعله وممنوعا تركه وصف واقعي له ، بمعنى كونه كذلك في متن الواقع لا في نظر المتكلّم ، وهو ليس إلاّ من وظيفة الشارع أو العالي مطلقا كما أنّ ترتيب العقاب على المخالفة كذلك ، فلا يكون بعين الطلب الحتمي ولا جزئه وإلاّ لكانت الصيغة من خصائص العالي وهو خلاف الفرض ، بل من لوازمه المترتّبة عليه إذا صدرت الصيغة من العالي ، كما أنّ استحقاق العقاب من اللوازم المترتّبة عليه إذا صدرت من الشارع ، وهذا المعنى أوفق بعبارة بعض الأعاظم وبعض الأعلام كما لا يخفى.

وثالثها : أنّ الصيغة موضوعة للطلب الحتمي وقيد « الحتم » وإن كان يفيد الوجوب بمعنى

٦٩١

طلب الفعل والمنع عن الترك ، غير أنّه خارج عن الموضوع له فيكون وضع الصيغة للطلب المقيّد على طريقة خروج القيد كوضع العمى للعدم المقيّد وهذا المعنى أوفق بعبارة الضوابط.

ورابعها : أنّ الصيغة لغة وعرفا للطلب الحتمي ، وهو أمر بسيط لا جزء له وإنّما ينحلّ عند العقل إلى طلب للفعل ومنع عن الترك ، فيكون من لوازمه العقليّة الثابتة له في ظرف التحليل.

وعبارة بعض الأعلام أظهر من غيرها في إفادة هذا المعنى بقرينة ما ذكره في بحث الصيغة ، وأشار إليه هنا أيضا من أنّ معنى الوجوب وغيره أمر بسيط إجمالي وهو الطلب الحتمي الخاصّ ولكنّه ينحلّ عند العقل بأجزاء كسائر الماهيّات المركّبة كالإنسان والفرس وغيرهما ، وهذا الطلب البسيط الإجمالي الخاصّ إذا تحلّل عند العقل ينحلّ إلى طلب الفعل مع المنع عن الترك.

وعلى ذلك ينطبق ما أورده بعض الأفاضل على الاعتراض بأنّ الوجوب معنى بسيط لا جزء له ، والمنع من الترك ليس جزء من مدلوله وإنّما هو لازم من لوازمه ، من أنّ الوجوب وإن كان معنى بسيطا في الخارج ولكنّه منحلّ في العقل إلى شيئين ، فإنّ البساطة الخارجيّة لا تنافي التركيب العقلي ، فلا مانع من كون الدلالة تضمّنيّة نظرا إلى ذلك إلى آخره.

فتبيّن ممّا ذكر أنّ المتأخّرين لهم خلاف في موضعين :

أحدهما : في أنّ الوجوب هل هو مفهوم مركّب أو بسيط؟

وثانيهما : في أنّ المفهوم من « الأمر » هل هو شيء مركّب أو لا؟

فالمصنّف ومن وافقه في دعوى كون دلالة « الأمر » على النهي عن الضدّ العامّ تضمّنيّة على أنّ الوجوب مفهوم مركّب ، وأنّ الأمر موضوع لذلك المفهوم المركّب ، وغيره ممّن تقدّم ذكرهم على منع الدعوى الاولى ، ثمّ منع الدعوى الثانية بعد التنزّل عن المنع الأوّل والبناء على المماشاة مع الخصم.

ومن البيّن أنّ هذا الخلاف ليس راجعا إلى الوجوب باعتبار لفظه لغة وعرفا ، إذ لا يستريب أحد في أنّ كونه للمعنى الإنشائي وضع جديد محدث من المتشرّعة أو الشارع في وجه ، ولا فيه باعتبار مفهومه الاصطلاحي ، لأنّ كونه مركّبا في لسان القوم حيث نراهم لا يزالون يفسّرونه بالطلب مع المنع [ من الترك ](١) لا مجال للتأمّل فيه ، بل راجع إليه باعتبار

__________________

(١) أضفناه لاستقامة العبارة.

٦٩٢

كونه أحد الخمس المعروفة الثابتة بحسب متن الواقع من غير دورانها إلى اصطلاح ولا تصرّف جديد ، وهو باعتبار العنوان وإن كان خاصّا به إلاّ أنّه من حيث المعنى جار في الجميع ، كما أنّه جار في « الأمر » بكلا اعتباريه الصيغة والمادّة بل يجري أيضا في صيغة النهي ولفظه ، لأنّ الكلّ من باب واحد وظاهر أنّ الوجوب بمعنى طلب الفعل والمنع من الترك باعتبار اندراجه في عداد الأحكام الشرعيّة مفهوم له إضافة إلى فعل المكلّف وإضافة إلى الشارع المكلّف غير أنّه من الحيثيّة الاولى لابدّ من كونه بالبناء للمفعول ومن الحيثيّة الثانية بالبناء للفاعل.

ونحن حيثما نفرّق بينه وبين الإيجاب نريد منه الحيثيّة الاولى ، وحيثما نصرّح بكونه ممّا وضع له صيغة « الأمر » نريد منه الحيثيّة الثانية ، وهما كما ترى حيثيّتان متغايرتان ذاتا ووصفا واعتبارا ، فبطل بذلك ما صار إليه بعض الفضلاء وفاقا لبعض الأفاضل من أنّ الوجوب لا فرق بينه وبين الإيجاب إلاّ بالاعتبار ، فإن قيس إلى الآمر باعتبار صدوره منه كان إيجابا وإن قيس إلى الفعل باعتبار قيامه به كان وجوبا ، والّذي يصلح لكونه محلاّ للخلاف المذكور إنّما هو مفهومه بالحيثيّة الثانية خاصّة ، فيكون مرجعه إلى أنّ ما ينشئه الشارع بالقياس إلى فعل المكلّف هل هو مفهوم مركّب أو لا؟

والقوم على ما عرفت بين من يجعله مفهوما مركّبا ومن يجعله أمرا بسيطا ينحلّ في تحليل العقل إلى مفهوم مركّب.

ولا يخفى أنّ البسيط في لسان العلماء قد يطلق على ما لا جزء له أصلا لا ذهنا ولا خارجا كالجزء الّذي لا يتجّزى على رأي من يزعمه موجودا.

وقد يطلق على ما لا جزء له في الخارج وإن كان له جزء في الذهن كالإنسان الّذي هو عند العقل مركّب من الحيوان والناطق.

وقد يطلق على الشيء بالإضافة إلى ما ادّعي كونه جزءا له مرادا به نفي جزئيّته له كالتصديق على رأي من يجعله بسيطا عبارة عن الحكم فقط دون المجموع منه ومن التصوّرات الثلاث.

وهذا الخلاف لا يمكن إرجاعه إلى المعنى الأوّل إذ تركّب الوجوب ذهنا في نظر العقل ممّا لا مجال لأحد إلى إنكاره ، كيف وله باعتبار كونه من منشآت الشارع مشاركات ، فيجب أن يتحصّل فيه ما به يمتاز عمّا عداه من مشاركاته وإلاّ لاتّحد معها وهو ضروري البطلان والشيء كلّما فرض فيه ما به يشاركه غيره وما به يمتاز عن غيره كان مركّبا عقليّا لا محالة.

٦٩٣

مضافا إلى أنّهم يعبّرون عن الأمر البسيط هنا بالطلب الحتمي ، فيكون مركّبا ضرورة تركّب المقيّد عمّا ورد عليه القيد وما حصل له باعتبار ورود القيد عليه من الوصف العنواني وإن لم نجعل القيد داخلا.

كما أنّه لا ينبغي إرجاعه إلى المعنى الثاني أيضا ، إذ لا ينبغي على المصنّف بل ومن دونه أن يزعم الوجوب من المركّبات الخارجيّة ، كيف وأنّ مناط الفرق بينها وبين المركّبات العقليّة بكون التركّب مدركا في نظر الحسّ بإحدى الخمس المعروفة ، أو في نظر العقل من غير مدخل فيه للحسّ ، ولا يستريب جاهل فضلا عن العالم الماهر في أنّ تركّب الوجوب من طلب الفعل مع المنع عن تركه ليس من جملة ما يدركه الحسّ في شيء من آلاته ، فانحصر اللائق بهذا الخلاف في المعنى الثالث ، لأنّه الّذي يقتضيه الاعتبار مع مساعدة كلماتهم ، فيكون محصّله : أنّ المنع من الترك هل هو جزء من مفهوم الوجوب أو لا؟ بل هو مفهوم بسيط وهو الطلب الحتمي والمنع من الترك من جملة لوازمه الخارجة عنه ، فيكون مرادهم من البساطة ما يكون إضافيّا لا البساطة المطلقة جزما.

ولنذكر قاعدة يعرف بها ما هو حقيقة الحال في هذا المقال ، وهي الّتي أشرنا إليها مرارا على سبيل الإجمال وتفصيلها هنا أن يقال : إنّه لا ريب أنّ الحكم الشرعي على ما يشهد به طريقة العرف وضرورة الوجدان ـ بل كلّ حكم اقتضائي وغيره ، إلزامي وغيره ، إيجابي وتحريمي ـ لا ينعقد إلاّ بتلاحق أوصاف بعضها ما يرجع إلى المحكوم به من دون إضافة له فيه إلى غيره ، وبعضها ما يرجع إلى الحاكم مع إضافته إلى المحكوم به أيضا ، وبعضها ما يرجع إليه مع إضافته أيضا إلى المحكوم عليه والمحكوم به معا.

أمّا الأوّل : فكالرجحان في الفعل أو الترك والمرجوحيّة كذلك والتساوي فيما بينهما ، والمراد بالرجحان مزيّة في أحد الطرفين منشؤها اشتمال ذلك الطرف على مصلحة كامنة فيه ، وهي عبارة عن خاصيّة تترتّب عليه ممّا يتعلّق بوجوده الغرض الأصلي من جعل الحكم ، وبالمرجوحيّة منقصة فيه منشؤها اشتماله على مفسدة كامنة ، وهي عبارة عن خاصيّة تترتّب عليه ممّا تعلّق بعدمه الغرض الأصلي من الجعل ، وبالتساوي تكافؤهما الّذي ينشأ عن خلّوهما عن الصفتين بالمرّة أو بعد التساقط ، وهو ما يقضي بإنشاء التخيير بينهما المعبّر عنه بالإباحة بالمعنى الأخصّ كما أنّ الرجحان والمرجوحيّة يقضيان بإنشاء الأحكام الأربع الباقية بالتقريب المتقدّم إليه الإشارة في صدر المسألة ، من أنّ مصلحة الفعل إمّا أن

٦٩٤

يكون انتفاؤها في جانب الترك موجبا لقيام مفسدة فيه أو لا ، وكذلك مفسدة الفعل إمّا أن يكون انتفاؤها في جانب الترك موجبا لقيام مصلحة فيه أو لا.

وأمّا الثاني : فكاعتقاد الرجحان أو المرجوحيّة أو التساوي على طريقة منع الخلوّ في الأوّلين بالنسبة إلى الطرفين.

ومن البيّن أنّه لا يتأتّى إلاّ بالالتفات إلى الرجحان أو المرجوحيّة وتصوّرهما ، وهما لكونهما إضافيّين فلا يحصل تصوّرهما إلاّ بتصوّر طرفيهما الراجح والمرجوح ، فلا يعقل في حكم العقل تصوّر الرجحان في الفعل أو الترك إلاّ بعد تصوّر الفعل والترك معا ، فبطل بذلك ما يقال في الاستدلال على أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ من جواز الغفلة على الآمر عن الترك فضلا عن النهي ، فإنّ تجويز ذلك يوجب تجويز الأمر بدون تصوّر الرجحان أو تجويز تصوّر الأمر الإضافي بدون تصوّر طرفيه ، ولا يكاد يعقل شيء منهما ولا سيّما من الحكيم العدل العالم الّذي يمتنع عليه الغفلة والذهول مطلقا ، بل الضرورة قاضية بأنّ العلم بالرجحان لا يحصل إلاّ بعد تصوّره الّذي هو تابع لتصوّر طرفيه الراجح والمرجوح.

فإذا حصل ذلك العلم يترتّب عليه الإرادة والكراهة بمعنى ميل النفس وانقباضها.

والظاهر أنّهما مرادفان للحبّ والبغض النفسانيّين اللذين يعبّر عنهما في الفارسيّة « بخوش داشتن » و « بد داشتن » وقد يتخيّل في بادئ النظر ترادف الرضا وعدم الرضا لهما أيضا ، ولكن التأمّل يقضي بكون الرضا واقعا على ما يعمّ الإرادة وعدم الكراهة ، فلذا لا يتحقّق بينهما واسطة إلاّ في صورة التردّد بخلاف الإرادة والكراهة ، ومثلهما الحبّ والبغض فإنّ الواسطة بينهما ما لا يكون محبوبا ولا مبغوضا ، ولازمه كونه مرضيّا به كما في طرفي المباح وفعل المكروه وترك المندوب ، فعدم الرضا حينئذ يرادف الكراهة والبغض ، وأمّا الرضا فقد يطلق على ما يرادف الإرادة والحبّ وهو الرضا بالمعنى الأخصّ كما في فعل الواجب والمندوب وترك المحرّم والمكروه ، وقد يطلق على ما يشمل عدم الكراهة أيضا وهو الرضا بالمعنى الأعمّ كما عرفت ، فكلّ واجب يستلزم الرضا بالمعنى الأخصّ في أحد طرفيه ومثله المحرّم ، وكلّ مندوب ومكروه ومباح يستلزم الرضا بالمعنى الأعمّ في كلا الطرفين.

وأمّا الثالث : فكالطلب والتخيير اللذين يتمّ بإنشائهما الحكم ، ولا يتحقّقان إلاّ فيما بين الثلاثة الحاكم والمحكوم به والمحكوم عليه ، ويعبّر عن الأوّل في الفارسيّة « بخواستن » وبه يفرّق بينه وبين الإرادة من حيث إنّها بمعنى « خوش داشتن » لا تقتضي انتسابا إلى الثالث

٦٩٥

بخلاف الطلب بمعنى « خواستن » فإنّه أمر نسبي بين الطالب والمطلوب والمطلوب عنه ، كما يرشد إليه المنساق من ترجمته الفارسيّة فهو الّذي يقع جنسا لما عدا الإباحة من الأحكام ، وقد يجعل « الإذن » جنسا لما عدا التحريم فتشمل الإباحة أيضا ، والظاهر أنّها في مقابلة الطلب في هذا القسم كالرضا في مقابلة الحبّ والإرادة من القسم الثاني ، فيكون الإذن بالمعنى الأخصّ أعني ما يتحقّق في ضمن الطلب ملزوما للرضا بالمعنى الأخصّ ، كما أنّ الإذن بالمعنى الأعمّ الشامل للإباحة ملزوم للرضا بالمعنى الأعمّ.

فقد تقرّر بما ذكر أنّ ما يتحقّق في هذا القسم من الأمر الإنشائي المأخوذ جنسا للأحكام متأخّر بحسب الرتبة عمّا يتحقّق في القسم الثاني من الامور المذكورة فيكون كلّ منها من لوازمه ، كما أنّ ما يتحقّق في القسم الأوّل من لوازمه.

فقضيّة ذلك كون الطلب كاشفا عن الرضا بالمعنى الأخصّ الملازم للإرادة والحبّ النفساني الملازم للرجحان والاعتقاد به ، والإذن بالمعنى الأعمّ كاشفا عن الرضا بالمعنى الأعمّ الملازم لعدم الكراهة والبغض النفساني الملازم لعدم المرجوحيّة والاعتقاد به مطلقا.

كما تقرّر أيضا أنّ الطلب ملازم للرجحان ، بمعنى أنّه يتعلّق من طرفي الفعل والترك بما كان راجحا مشتملا على المصلحة النفس الأمريّة ، فهو عند إنشاء الوجوب والندب إنّما يتعلّق بطرف الفعل لأنّه الراجح المشتمل على المصلحة ، كما أنّه عند إنشاء التحريم والكراهة إنّما يتعلّق بطرف الترك لأنّه الراجح المشتمل على المصلحة.

وظاهر عند أهل التحقيق أنّ الطلب أمر وحداني وارد في الجميع على منوال واحد من غير فرق بينها من جهته أصلا لا من حيث الكمّ ولا من حيث الكيف ، وإلاّ امتنع كونه جنسا لها ، فلذا ترى أنّ التحريم والكراهة يمتازان في نظر العقل والوجدان عن الوجوب والندب بتعلّق الطلب المعتبر فيهما بالترك وتعلّقه في الوجوب والندب بالفعل.

وأمّا الامتياز فيما بين الندب والوجوب فإنّما هو بمقارنة الطلب المعتبر فيهما للإذن في الترك بمعنى الإعلام والإشعار بالرضا بالترك في الندب ، ولنفي الإذن فيه بمعنى الإعلام والإشعار بعدم الرضا بالترك الملازم للكراهة في الوجوب ، كما أنّ الامتياز فيما بين الكراهة والتحريم بمقارنة الطلب المعتبر فيهما للإذن في الفعل بمعنى إظهار الرضا بالفعل في الكراهة ، ولنفي الإذن فيه بمعنى إظهار عدم الرضا بالفعل الملازم للكراهة في التحريم.

فالّذي يتحقّق في الضمير عند إنشاء الوجوب شيئان :

٦٩٦

أحدهما : الطلب الكاشف عن رجحان الفعل وكونه محبوبا في نظر العقل.

وثانيهما : نفي الإذن في الترك الكاشف عن مرجوحيّته وكونه مبغوضا في نظر العقل ، لقضاء الذوق والوجدان والمراجعة إلى ما يتحقّق في النفس والضمير عند إرادة الإنشاء بأنّ المنشئ لا يقصد بإنشائه إلاّ إفادة هذين المعنيين ، فيكون كلّ جزءا من ماهيّة الوجوب على حدّ الجنس والفصل ، فأمّا المنع من الترك الّذي اختلف في جزئيّته حسبما تقدّم إن فسّرناه بعدم الرضا بالترك فلا ينبغي التأمّل في عدم كونه فصلا للوجوب ، لما عرفت من اندراجه في مرتبة اللوازم المتقدّمة على مرتبة الإنشاء فيبطل بذلك قول المصنّف ومن وافقه لو أرادوا هذا المعنى ، كما يومئ إليه تفسير الوجوب في بعض العبائر : « بطلب الفعل مع عدم الرضا بالترك » وإن فسرناه بما يقابل الإذن أعني إظهار عدم الرضا والإشعار به من غير اعتبار طلب فيه فعلا ـ كما أنّ الإذن لا يعتبر في حقيقته الطلب على ما تبيّن سابقا ـ فلا ينبغي التأمّل في كونه فصلا للوجوب ، وإنكاره دفع للضرورة فيصحّ بذلك قول المصنّف وموافقيه لو أرادوا هذا المعنى.

وأمّا الآخرون فإن أرادوا من الطلب الحتمي ما يقارن هذا المعنى فمرحبا بالوفاق ، غير أنّه يقضي بخروج النزاع فيما بينهم وبين الأوّلين لفظيّا وهو بعيد عن ظاهر عبائرهم ، وإن أرادوا غير ذلك فهو متّضح الفساد ، إذ لا يعقل لحتميّة الطلب الّتي يمتاز بها الوجوب عن الندب معنى حادثا عند الإنشاء إلاّ مقارنته لإظهار كراهة الترك وعدم الرضا به ، وإن فسّرناه بالنهي عن الترك المتضمّن للطلب كما هو ظاهر هذه العبارة وظاهر قولهم : « الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام » فهو لازم له بالمعنى الثاني ، أعني نفي الإذن في الترك إن فرضنا الطلب المأخوذ فيه طلبا شأنيّا ، ضرورة أنّ إظهار عدم الرضا بالترك الكاشف عن كراهته يستلزم الطلب المتعلّق بالترك شأنا ، لضابطة أنّ كلّ مكروه من شأنه أن يطلب تركه وليس بلازم منه ولا جزء للوجوب إن فرضنا الطلب المعتبر فيه طلبا فعليّا زائدا على الطلب المتعلّق بالفعل فعلا ، إذ لا يجد العقل عند إنشاء الوجوب إلاّ طلبا واحدا فعليّا متعلّقا بالفعل فقط كما يظهر بأدنى تأمّل.

فعلى هذا المبنى يبطل قول أحد الفريقين ويصحّ قول الفريق الآخر في أحد تقديريه ويبطل قولهما معا في تقديره الآخر.

فتقرّر بما ذكر : أنّ الوجوب يتضمّن طلب الفعل وإظهار عدم الرضا بالترك ، ويستلزم

٦٩٧

عدم الرضا بالترك والنهي عنه المتضمّن للطلب الشأني ، ولمّا كان صيغة الأمر حقيقة في الوجوب فكان كلّ من الأوّلين مدلولا تضمّنيا لها وكلّ من الأخيرين مدلولا التزاميّا لها.

فصار الحق عندنا : أنّ الأمر بالشيء مطلقا يقتضي النهي عن ضدّه العام التزاما ولكن بالطلب الشأني مع إشكال فيه أيضا يأتي الإشارة إليه ، فالّذي يوافقنا على تلك المقالة إن أراد هذا المعنى فمرحبا بالوفاق ، وإلاّ لكان واضح المنع من جهة مخالفته لضرورة العقل والوجدان.

وأمّا الطلب المتأكّد الّذي يجعل الوجوب عبارة عنه في بعض العبائر عند منع مقالة المصنّف وموافقيه ، فإن كان راجعا إلى ما ذكرناه (١) فلا بأس به أيضا ، وإلاّ ففيه أيضا منع واضح ، لأنّه مفهوم لابدّ له من مؤكّد وهو إمّا من جنس الطلب بمعنى أنّ الوجوب طلب يؤكّده طلب مثله ، أو من غير جنسه ممّا يتحقّق عند تحقّقه.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون المؤكّد متّصلا بالمؤكّد أو منفصلا عنه ، كأن يطلب الفعل أوّلا ثمّ يتبعه بطلب آخر نظير ما لو ورد أمران متعلّقان بمفهوم واحد ، ولا سبيل إلى شيء منها.

أمّا الأخير : فلأنّه لا يعقل من الامور الخارجة عن ماهيّة الطلب ما يصلح لكونه مؤكّدا له ممّا ينشئه الآمر عند إنشائه له إلاّ ما ذكرناه من إنشاء نفي الإذن في الترك ، والمفروض عدم كونه مرادا في هذا المقام.

ولو اريد به عدم الرضا النفساني فهو من لوازم الوجوب واللازم لا يعقل كونه مؤكّدا للملزوم ، وإلاّ لما كان لازما لجواز انفكاك المؤكّد عن المؤكّد.

وأمّا الثاني : فلخروجه عن محلّ الفرض ، لأنّ تأكيد الطلب بالطلب المنفصل لا يعقل إلاّ في صورة تعدّد الأمر وهو خلاف الفرض.

وأمّا الأوّل : فلأنّ الطلب المتّصل المؤكّد للطلب لا يعقل إلاّ إذا كان الطلب من الماهيّات القابلة للتشكيك الّتي يطرأها القوّة والضعف والشدّة والرخاء كالسواد والبياض ، بدعوى أنّه ماهيّة تتفاوت أفرادها في القوّة والضعف (٢) فهو في فرده القويّ يكون وجوبا وفي فرده الضعيف يكون ندبا ، كما أنّه في أقوى أفراده يكون من أقوى الواجبات وأهمّها ،

__________________

(١) بدعوى : أنّ الطلب المتعلّق بالفعل فعلا يؤكّده الطلب الشأني المتعلّق به الّذي يستفاد عن النهي عن الترك المدلول عليه بالالتزام. ( منه عفي عنه ).

(٢) وفي المصدر : « في القوّة والطلب » والظاهر أنّه سهو ، فلذا صحّحناه بما في المتن.

٦٩٨

وهو كما ترى ممّا ينكره الضرورة والوجدان الغنيّ عن البيان حيث إنّ الطلب بما هو طلب لا يرد إلاّ على منوال واحد ، وهو في الندب ليس إلاّ مثله في الوجوب من دون زيادة ونقيصة ، فهو كالموت ليس من الكلّيّات القابلة للتفاضل ولا يطرأه شدّة وضعف أصلا ، ولا يتفاوت أفراده في القوّة وغيرها.

وما يقال : من أنّ الوجوب ممّا يتضاعف ويقبل الاشتداد كما أنّ التحريم ممّا يتضاعف ويشتدّ ومثلهما الندب والكراهة ، فلذا حصل الاختلاف في أقسام الواجب بكون بعضها أهمّ وبعضها غير الأهمّ على اختلاف مراتبهما المقرّرة في فنّ الفقه ، كالاختلاف الحاصل في أنواع المحرّمات بكون بعضها أشدّ حرمة من بعض آخر ، فإنّما هو من جهة اختلاف الصفة الكامنة في الواجب والمحرّم المقتضية لإنشاء الوجوب والتحريم فيهما ، فإنّ مصالح الأفعال والتروك ومفاسدهما الكامنتين ـ بمعنى الخواصّ المترتّبة عليهما ـ ممّا يتفاوت ويختلف أفراده في القوّة والضعف ، فكلّ مصلحة الفعل ومفسدة الترك في شيء إذا كانتا أقوى منهما في غيره يكون ذلك الشيء من أهمّ الواجبات ، كما أنّ مصلحة الترك ومفسدة الفعل في شيء إذا كانتا أقوى منهما في غيره يكون ذلك أشدّ حرمة من غيره ، وعلى هذا القياس المندوب والمكروه على حسب اختلاف أنواعهما في المرتبة ، فلا يراد (١) منه أنّ صفة الطلب في بعض الواجبات وبعض المحرّمات أشدّ منها في البعض الآخر كيف وهو غير معقول ، ولا يذهب توهّم ذلك إلى جاهل فضلا عن العالم.

فلا وقع لما يقال : من أنّ الطلب له مراتب منها مرتبة الندب وهو أوّلهما ، ومنها مرتبة الوجوب الّتي تختلف أيضا باعتبار الأهمّيّة وغيرها ، كيف وأنّ الترتّب حسبما ذكر لا يعقل إلاّ في موضوع واحد واختلاف الموضوعات مع تبائنها في محلّ البحث ممّا لا يفتقر إلى البيان واعتباره فيما بين الموضوعات المختلفة على فرض كونه معقولا إن كان من قبل العقل فهو قاض بخلافه ، وإن كان من قبل الشرع فلا دليل عليه إن لم نقل بقيام الدليل على الخلاف ، وإن كان من مقتضى طبائع الأفعال أو الصفات الكامنة فيها فهو تحكّم بحت وقول لمجرّد هوى النفس ، وكيف كان فهذا القول ممّا لا ينبغي الالتفات إليه لكونه من وظيفة غير أهل العلم.

هذا كلّه في القول بالدلالة تضمّنا والقول بها التزاما ، فقد تبيّن ما هو الصحيح منهما

__________________

(١) جواب لقوله : « وما يقال » الخ.

٦٩٩

عمّا هو الفاسد.

وبقي من أقوال الضدّ العامّ قولان آخران :

أحدهما : القول بنفي الدلالة رأسا ، وهو محكيّ عن السيّد منّا والأشاعرة من العامّة.

وقد يعترض عليه : بأنّ عدم دلالة الأمر على النهي عن الضدّ العامّ غير معقول ، وإلاّ لزم خروج الواجب عن كونه واجبا.

وفيه : أنّه استبعاد محض ولا يعتدّ به في أمثال المقام ، لجواز أن يقول أحد في الضدّ العامّ بنحو مقاله النافي للدلالة في الضدّ الخاصّ ، فإنّه يقول بأنّا لا نستفيد عن قوله : « صلّ » ونحوه حكما من الأحكام بالنسبة إلى الأكل والشرب وغيرهما من الأضداد الوجوديّة ، لما يقع كثيرا من الغفلة للآمر عن جميع تلك الأضداد ومعه لا يعقل طلب تركها ، فيجوز أن يقول النافي هنا بأنّا لا نستفيد عن قوله : « صلّ » ونحوه حكما من الأحكام لترك الصلاة لا تضمّنا ولا التزاما.

أمّا الأوّل : فلأنّ مدلول « الأمر » طلب إلزامي متعلّق بالفعل وليس تحريم الترك جزءا منه.

وأمّا الثاني : فلأنّ « الأمر » وإن استلزم النهي شأنا إلاّ أنّه لا يفيد التحريم الّذي هو الغرض ، لوجوب كون الطلب المعتبر فيه طلبا فعليّا ، بدعوى عدم كفاية الطلب الشأني في انعقاد الحكم الشرعي ، ولا يلزم بذلك خروج الواجب عن الوجوب وانقلابه مندوبا ، لأنّ الطلب الإلزامي يستلزم عدم الرضا بالترك وكراهته النفسانيّة ومرجوحيّته في حدّ ذاته واشتماله على المفسدة ونحو ذلك من اللوازم ، بخلاف الندب فإنّه يستلزم أضداد هذه المذكورات واختلاف اللوازم دليل على اختلاف الملزومات.

فإن قلت : لعلّ النافي للدلالة ربّما يفسّر الوجوب بطلب الفعل مع المنع عن النقيض كما هو المعروف ، فيتوجّه إليه الاعتراض نظرا إلى أنّ النقيض لا يراد به إلاّ الترك ، كما أنّ المنع عنه لا يراد به إلاّ النهي عن الترك ، ومعه كيف يعقل خلوّ الترك عن الحكم التحريمي.

قلت : لعلّه يريد من المنع ثاني ما تقدّم من المعاني ، وهو إظهار عدم الرضا بالترك المعرّى عن الطلب الفعلي ، والمفروض أنّ المعتبر في انعقاد التحريم إنّما هو الطلب الفعلي.

وكيف كان فالمحكيّ من حجّة هذا القول أنّه لا دلالة للأمر بالشيء على النهي عن ترك المأمور به بشيء من الدلالات الثلاث ، أمّا المطابقة فلضرورة أنّ الأمر بالشيء ليس بعين النهي عن تركه ، وأمّا التضمّن فلأنّ مدلول الأمر طلب بسيط إلزامي متعلّق بالفعل

٧٠٠