تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

ما تبيّن الحكم في مقدّمة الواجب بما لا مزيد عليه ، وإنّما الإشكال في صغرى القياس وهي أنّ ترك الحرام هل له مقدّمة بالمعنى المتقدّم لتكون واجبة بوجوبه أو لا؟

وعلى الأوّل فهذه المقدّمة ماذا؟ فإنّ فيه خلاف بينهم ، فمنهم من زعم أنّ مقدّمته فعل أحد الأضداد الوجوديّة على الإطلاق. ومن هنا نشأ الشبهة المعروفة عن الكعبي في نفي المباح.

ومنهم من توهّم أنّ فعل الضدّ مقدّمة له في الجملة ، كما لو اتّفق توقّفه على فعل المباح بحيث لولاه لما تحقّق الترك ، وإلاّ فالأغلب كون مقدّمته وجود الصارف أو ترك الإرادة ، وعليه جماعة منهم بعض الأعلام ووافقه آخرون.

ومنهم من جزم بانحصار مقدّمته في عدم الإرادة وعدم صلاحيّة فعل المباح أو غيره من الأضداد الوجوديّة لكونه مقدّمة ، بل هو لو اجتمع مع ترك الحرام فهو من باب المقارنات الاتّفاقيّة ، وعليه بعض المحقّقين وهذا هو الأسدّ والموافق للنظر ، لما أشرنا إليه إجمالا ونحقّقه تفصيلا في بحث الضدّ من عدم تمانع الأضداد.

وبيانه الإجمالي هنا : أنّ معنى كون شيء مقدّمة لآخر أنّه من لوازم وجوده ، وأنّه لولا تحقّقه لما اتّفق له الوجود ، وأنّ وجوده لا يستند إلاّ إليه إمّا لكونه علّة تامّة له أو جزء من علّته التامّة شرطا كان أو ما هو بمنزلته ، وكون فعل الضدّ ممّا يترتّب عليه ترك الحرام ترتّبا فعليّا لا يعقل إلاّ على فرض كونه علّة تامّة له أو ما هو بمنزلتها كالجزء الأخير منها ، لأنّ ما عداهما لا يلزم من وجوده الوجود كما لا يخفى ، وكونه علّة تامّة باطل لأنّا نرى بالوجدان الضروري امتناعه مع إرادة فعل الحرام وإلاّ لأدّى إلى تناقض الإرادتين من حيث إنّه يستلزم إرادة اخرى.

وكونه الجزء الأخير منها أيضا باطل ، لأنّا نجد من أنفسنا أنّه لا يستند إلاّ إلى مجرّد عدم الإرادة بحيث لو اتّفق وجوده معه فإمّا من باب المقارنات الاتّفاقيّة إن قلنا بجواز الخلاء ، أو التلازم بين شيئين لم يكن بينهما ترتّب ولا تأثير ، فكما أنّ عدم إرادته مع إرادة ضدّه متلازمان في الوجود ولا ترتّب بينهما فكذلك عدمه مع وجود الضدّ في محلّه متلازمان في الوجود معلولان لعلّة اخرى ، كيف لا وأنّا نقطع بالبديهة أنّ الجزء الأخير من علّة وجوده بعد تحقّق سائر شرائطه مع انتفاء موانعه إنّما هو الإرادة.

ومن البيّن أنّ انتفاء الجزء الأخير من علّة الوجود علّة تامّة للعدم ، فإذا انتفت الإرادة يستند إليه الترك خاصّة ويبقى سائر الأجزاء الّتي كلّ منها شرط في حدّ ذاته على إطلاقها من

٦٠١

غير توقّف للعدم عليها ، ولو فرض تحقّقها معه فهو من باب المقارنات الاتّفاقيّة لا العلّيّة والتأثير.

فمن هنا ظهر فساد ما لو عمّم في الكلام وجعل فعل الضدّ من أحد أجزاء العلّة غير جزئه الأخير ، بناءا على أن لا يكون المراد بمقدّمة ترك الحرام ما يكون مقدّمة موصلة ، فإنّ الترك إذا استند إلى عدم الإرادة الّتي هي جزء أخير من علّة الوجود يبقى ساتر الأجزاء الّتي من جملتها فعل الضدّ ـ على فرض التسليم ـ غير موقوف عليها ، وقضيّة ذلك خروجها عن المقدّمية.

لا يقال : إنّ انتفاء كلّ واحد من أجزاء الوجود يصلح علّة للعدم ، ولعلّ فعل الضدّ من هذا القبيل ، فإنّ الّذي جزء لعلّة الوجود إنّما هو ترك الضدّ فيكون انتفاؤه وهو الفعل علّة للعدم فيكون مقدّمة.

لأنا نقول : بأنّ ذلك يستقيم لو كانت أجزاء علّة الوجود في درجة واحدة من دون ترتّب بينها بحسب الوجود ولا تقدّم ولا تأخّر ، والمقام ليس من هذا الباب ، لما بين الإرادة وغيره من الشرائط الاخر ترتّب بحسب التقدّم والتأخّر ، والإرادة متأخّرة عن الجميع ، ولا يعقل لسائر الشرائط انتفاء مع وجودها ، لأنّها إنّما تحدث بعد ما تحقّق غيرها ممّا تقدّم عليها بحسب الوجود ، فكلّما شرط غيرها فرض انتفاؤه فهي منتفية معه جزما.

ولا ريب أنّ أحقّ ما يستند إليه ترك الحرام حينئذ بالقياس إلى فعل الضدّ إنّما هو عدم إرادته ، لسبقه بحسب التحقّق على فعل الضدّ كما أنّ أحقّ ما يستند إليه ترك الضدّ على تقدير فعل الحرام إنّما هو عدم إرادة الضدّ لسبقه على فعل الحرام.

فمحصّل الكلام : أنّ فعل المباح لا يجب لأجل ترك الحرام ، إمّا لعدم حرمة الفعل الموجبة لوجوب الترك من جهة انتفاء بعض شرائطه الغير الاختياريّة ، أو لعدم كون الضدّ مقدّمة له على تقدير وجود الشرائط وانتفاء الموانع ، بل المقدّمة حينئذ عدم الإرادة فيكون هو الواجب دون ما يقارنه من فعل الضدّ ، ولا فرق في ذلك بين ما يتحقّق من الترك في زمان الحال وما يتحقّق في زمان الاستقبال ، فإنّ ترك الحرام في الجميع إنّما يستند إلى عدم الإرادة.

نعم ربّما يتوقّف عدم الإرادة بالنسبة إلى الترك الاستقبالي على فعل وجودي كالخروج عن مكان يعلم أنّه لو بقى فيه لوقع في المحرّم ، من غيبة أو غناء أو زنا أو نحو ذلك ، فيكون مقدّمة للترك بضابطة أنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، ولكنّه لا يجب لأجل ذلك الترك لا لأنّه مقدّمة للواجب ومع ذلك لا يجب ، بل لعدم وجوب ذلك الترك حينئذ ، وذلك لأنّ التروك تتعدّد بحسب تعدّد

٦٠٢

أجزاء الزمان ، فيكون كلّ ترك واجبا في زمانه المختصّ به على ما هو من مقتضى دوام النهي ، وظاهر أنّ الترك الاستقبالي على تقدير اجتماع شرائط القدرة الموجبة لجواز التكليف لا يجب على المكلّف قبل مجيء زمانه المختصّ به بل يثبت في زمانه خاصّة ، ففي الصورة المفروضة لا يعقل للترك وجوب في غير زمانه حتّى يجب لأجله الفعل الوجودي الّذي يتوقّف عليه عدم إرادة فعل الحرام في القابل الّذي هو مقدّمة للترك المذكور.

نعم لا نضائق وجوبه من جهة كونه مقدّمة لواجب آخر يثبت وجوبه بحكم العقل وهو دفع الضرر المقطوع أو المظنون ، بناءا على أنّه أعمّ من الدنيوي والاخرويّ ، ولكنّه غير قادح فيما نحن بصدد الفرار عنه من وجوب المباح ، لأجل كونه مقدّمة لترك الحرام الواجب ، فلا يكون ذلك التزاما بشبهة الكعبي في تلك الصورة.

والعجب عن جماعة من فحول الأعلام كيف غفلوا عما قرّرنا فالتزموا بالشبهة في الصورة المفروضة ، ولكن جعلوه غير مضرّ من جهة ندرة الفرض فلا يلزم وجوب كلّ مباح مقدّمة لترك الحرام على ما توهّمه الكعبي. فليتدبّر.

اللهمّ إلاّ أن نوجّه كلامهم هذا بإدراجه فيما تقدّم في الأمر السابق من جواز اتّصاف المقدّمة بالوجوب قبل دخول وقت الغاية ، ولكنّه إنّما يتمّ على ما قرّرناه من كونه وجوبا للمقدّمة حين وجوب ذي المقدّمة لا قبله حتّى يستنكر ، وليس ببعيد نظرا إلى قضاء الوجدان بأنّ من أراد ترك شيء في زمان فهو مريد وطالب في زمن الخطاب ترك جميع التروك اللاحقة المتحقّقة في أجزاء ذلك الزمان المتعاقبة ، فيكون كلّ جزء من الزمان بالنسبة إلى تركه المتحقّق فيه مقدّمة عقليّة لوجوده كما لا يخفى.

المقام الثاني : فيما يكون مقدّمة لفعل الحرام. وفيه أيضا مقامان :

أحدهما : فيما يكون راجعا إلى نفس المكلّف.

وثانيهما : ما يكون راجعا إلى غيره ممّن يعينه في فعل الحرام.

أمّا المقام الأوّل : فالنظر فيه تارة في الفعل الخالي عن العزم على المعصية ، واخرى في العزم المجرّد عن الفعل ، وثالثة في العزم المقرون بفعل يكون من مقدّمات المعصية ، ورابعة في العزم المقارن لفعل لا يكون من المقدّمات بل إنّما أتى به للتوصّل إلى المعصية بتخيّل أنّه من مقدّماتها فانكشف خلافه ، فها هنا جهات :

أمّا الجهة الاولى : ففيها انتقالان :

٦٠٣

أحدهما : الانتقال إلى ما لو أتى المكلّف بما يكون شرطا من شروط فعل الحرام.

وثانيهما : الانتقال إلى ما لو أتى بما يكون علّة له.

أمّا الانتقال الأوّل : فلا ينبغي التأمّل في عدم كونه حراما وإن ترتّب عليه بالأخرة فعل الحرام ، فإنّ من أصلح سيفا للجهاد أو دفع السبع عن نفسه فاتّفق بعد ذلك أنّه قتل به نفسا محترمة ، أو بنى سطحا أو منارة لا لغرض فاسد فاتّفق أنّه ألقى نفسه عنهما للتهلكة ، أو اشترى جارية لغرض الاستخدام فاتّفق أنّه تغنّى بها إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، لا يعاقب على الإصلاح والبناء والاشتراء ولا يذمّ عليها ولا تعدّ قبيحة وإن ترتّب عليها القبيح بضرورة من العقل والشرع دنيا ومذهبا ، كيف ولا يسلم فعل من الأفعال عن جهة فساد مترتّبة عليه فلو صلح ذلك منشأ للفساد لأدّى إلى تحريم الجميع ، وبطلانه من أبده البديهيّات.

وأمّا الانتقال الثاني : فما يكون علّة تامّة لفعل الحرام مع عدم العزم عليه وكونه حراما لأجله ممّا لا يكاد يتعقّل ، إذ لا يتصوّر له فرض إلاّ في مثل ما لو عصر عنبا لا لغرض الخمريّة فاتّفق أنّه استحال خمرا ثمّ اتّفق الشرب منه ، أو أوقد نارا لا لغرض إحراق نفسه فاتّفق الإحراق ، فحينئذ إن كان ترتّب ذلك قصديّا منوطا بلحوق عزمه على المعصية يكون الصورة راجعا إلى الفرض الأوّل ، ضرورة أنّ القصد المذكور حينئذ جزء أخير من العلّة فالفعل بانفراده ليس هو العلّة ، والمفروض أنّه لم يؤت به لأجل التوصّل إلى الحرام فلا يكون حراما لعين ما ذكر ، وإن لم يكن قصديّا منوطا بالعزم لغفلة أو جهل أو بغتة فلا يعقل فيه حرمة ليحرم لأجله العلّة الموصلة إليه ضرورة استحالة تكليف الغافل والجاهل والغير القادر.

وأمّا الجهة الثانية : فلا إشكال في حرمة العزم على المعصية من باب المقدّمة على ما هو من مقتضى التحقيق السابق من أنّ مقدّمة ترك الحرام الواجب على المكلّف فعلا إنّما هو عدم الإرادة ، وقضيّة وجوبه من باب المقدّمة حرمة خلافه وهو الإرادة كما هو الشأن في كلّ واجب ، إذ لا نعني بالعزم على المعصية إلاّ الإرادة ، ولا يفرق في الحرمة بين الحصّة الأخيرة منها المقرونة بفعل الحرام وغيرها من الحصص المتقدّمة عليها كما توهّم ، لضرورة كون كلّ مقدّمة ولو بوسائط ، كما هو الحال في جميع المقدّمات الّتي بينها ترتّب بحسب الوجود الخارجي ، فتأمّل (١).

__________________

(١) وجهه : وضوح الفرق بين سائر المقدّمات المترتّبة في الوجود وبين الإرادة المستمرّة عن زمان طويل المنحلّة إلى أجزاء متعدّدة مقدّمية. وجه الفرق : إنّ كلّ مقدّمة في الأوّل لها مدخليّة في وجود الواجب بحيث لو ترك بعض

٦٠٤

وهذا في الحقيقة خارج عن معقد الكلام الّذي هو في العزم المجرّد عن جميع الأفعال حتّى الفعل المحرّم ، وإنّما المقصود في المقام استعلام أنّه هل له قبح ذاتي غير قبحه المقدّمي بحيث أوجب فيمن تلبّس به استحقاق الذمّ والعقاب الموجب لحرمته النفسيّة أو لا؟ وعلى الأوّل فهل ورد بالنسبة إليه خطاب مستقلّ من الشرع قاض بالمنع عنه شرعا أو لا؟

فنقول : لا ينبغي لأحد أن يرتاب في قبحه الذاتي نظرا إلى قضاء القوّة العاقلة به ، بل لا يأبى عن العقاب لأجله والذمّ على صاحبه كيف وهو من مقرّ بناء العقلاء حيث نراهم أنّهم لا يضائقون عن معاتبة العبد العازم على قتل مولاه بل لا يزالون يذمّونه عليه ، بل على عزمه على كلّ معصية له لو اطّلعوا عليه مفصّلا ويعاقبه المولى كذلك لو أحاط بما في ضميره كما هو أحاط بنفسه.

نعم لو قارن ذلك العزم للفعل يتداخل العقابان ويصير على أصل الفعل.

وبالجملة قبح نيّة المعصية من جملة ما يستقلّ به العقل قطعا ويكشف عنه لمن لا تدبّر له بناء العقلاء.

فما في كلام بعض الأعاظم من منع حكم العقل بقبحه على وجه القطع ليس على ما ينبغي ، فهذا ممّا لا إشكال فيه بل الإشكال في ورود ما يكشف عن قبحه واستحقاق العقوبة عليه من الأدلّة الشرعيّة.

ويمكن الاستدلال عليه من الآيات والأخبار بوجوه.

منها : قوله تعالى : ( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ )(١) و ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(٢) فإنّه تعالى عمّم في التوعيد على ما في النفس بالنسبة إلى كلا تقديري إظهاره الّذي هو عبارة إمّا عن جعله مقرونا

__________________

منها لأدّى إلى ترك الواجب سواء كان ذلك البعض مقرونة بالواجب أو مقدّمة عليه بوسائط ، بخلاف ترك الإرادة فإنّ الّذي يفضى تركه منه إلى ترك الواجب ـ وهو ترك الحرام ـ إنّما هو القصد الأخيرة منه ، وقضيّة ذلك أن يكون المحرّم من [ جانب ] الإرادة هو الحصّة الأخيرة منها دون ما تقدّم عليها كائنا ما كان إذ الّذي يحصل به فعل الحرام إنّما هو الحصّة الأخيرة لأنّها لو تركت ترك وإلاّ ففعل ، بخلاف الحصص المتقدّمة عليها فتركها لا يستلزم ترك الحرام لجواز حدوث الحصّة الأخيرة ولا وجودها يستلزم وجود الحرام لجواز حصول الحصّة الأخيرة الّذي يستند إليه ترك الحرام. ( منه عفي عنه ).

(١) النساء : ١٧٠.

(٢) البقرة : ٢٨٤.

٦٠٥

بالعمل أو إقامة ما يكشف عن ثبوته في النفس ، وإخفائه الّذي هو عبارة عمّا يضادّ الوجهين ، ولا يجوز أن يكون ذلك كناية عن الشرك بالله وغيره من أنواع الكفر بقرينة ما في ذيله من الوعد بالمغفرة المعلّقة على المشيئة ، ولا عن الحسد ونحوه من الصفات الذميمة الباطنيّة بقرينة تعميم الوعيد بالنسبة إلى إخفائه ، نظرا إلى أنّ الصفات الباطنيّة لكونها من الامور القهريّة الخارجة عن اختيار المكلّف لا تصلح بأنفسها لتعلّق التكليف بها إيجابا أو تحريما ، بل الّذي ينبغي أن يكون متعلّقا له منها ما ينشأ منها أو هي ناشئة منه من الامور الاختياريّة ، فالمحرّم في مثل البخل والحسد إنّما هو إظهارهما في الخارج ، والواجب في محبّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه الائمّة المعصومين عليهم‌السلام إنّما هو النظر في فواضلهم ومنافعهم الواصلة ، وفي بغض أعاديهم الملعونين إنّما هو النظر في رذائلهم ومضّارهم الواصلة ، لما يشهد به الوجدان السليم من أنّ ملاحظة المنافع الواصلة من شخص والنعم الخارجة منه توجب حبّه ومودّته كما أنّ ملاحظة المضارّ الواصلة والنقم الخارجة منه تورث بغضه وعداوته ، فلا يبقى حينئذ إلاّ ما يكون عملا اختياريّا للنفس من سوء ظنّ إلى المؤمن وقصدا للمعصية وما أشبه ذلك.

وما عساه يتوهّم من منع كون الآية في سياق الوعيد لأنّ المحاسبة تعمّ الخيرات والمبرّات.

يدفعه : وجود الصارف وهو ما في الذيل من المغفرة المعلّقة.

ومنها : قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ )(١) فإنّ « الفاحشة » على ما في كلام أهل اللغة هو القبيح ، وقد عرفت أنّ العزم على المعصية قبيح فيكون مندرجا فيما نهى الله سبحانه عن قربه نصّا وظاهرا.

امّا الظهور فلعموم الفواحش الشاملة لما يكون باطنيّا.

وأمّا النصوصيّة فلمكان قوله : « وما بطن » وأصرح منها في الدلالة قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ )(٢).

وما عساه يحتمل من كون المراد بالفواحش المعاصي الظاهريّة ، وبما بعده ما يؤتى به جهارا وما يؤتى به سرّا.

يبطله : لزوم التخصيص بلا دليل ، مع كون الثاني خلاف ظاهر قوله : « وما بطن » لظهوره

__________________

(١) الأنعام : ١٥١.

(٢) الأعراف : ٣٣.

٦٠٦

حيثما اطلق في الأعمال الباطنيّة من الظنون والقصود ونحوها.

ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً )(١) فإنّ السمع والبصر ظاهران في الحاسّتين المعروفتين والفؤاد في القلب ، ومعنى السؤال عن كلّ السؤال عمّا عمله ، فإنّ لكلّ عملا في كلّ من الطاعة والمعصية ، كما ورد في التفسير ـ على ما قيل : ـ « إنّ السمع يسأل عمّا سمعه والبصر عمّا رآه والفؤاد عمّا عقده » والسؤال فرع تعلّق الخطاب ، فلولا عمل القلب من قصده واعتقاده متعلّقا للخطاب لما كان لذكره في جملة ما ذكر وجه.

هذا على تقدير عود الضمير المجرور إلى المذكور ، وأمّا على تقدير عوده إلى غيره وهو نفس المكلّف فيخرج عن محلّ الاستدلال ، لكونه حينئذ من باب الإنطاق الّذي ورد به الأدلّة كتابا وسنّة في سائر الجوارح والأعضاء.

ومنها : قوله تعالى : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً )(٢) فإنّه تعالى خصّ الدار الآخرة بمن لا يريد الأمرين ، وهو وعيد لمن يريدهما ، فلولا مجرّد الإرادة مبغوضا في نظره لما صحّ ذلك.

لا يقال : المراد بالإرادة هنا ما يقارنه الفعل ولا كلام فيه ، لمنافاته لما في رواية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ على ما في تفسير المحدّث ـ إنّه قال : « الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية ».

وفي اخرى ـ كما فيه وفي المجمع ـ عن عليّ عليه‌السلام « إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها » فإنّ هذا الرجل إذا دخل تحت الآية فقاصد المعاصي بطريق أولى.

ومنها : قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ )(٣) فإنّ المراد بالمحبّة إمّا معناها الظاهر وهو الصفة النفسانيّة ، أو ما يقرب منه وهو إرادة شيوع الفاحشة ، أو السعي في إشاعة فاحشة الغير ، والأوّل غير صالح للتوعيد لعدم كونه من الاختياريّات ، فتعيّن الثاني لكونه أقرب إلى المحبّة بعد تعذّر الحقيقة ، فإذا كان إرادة شيوع فاحشة الغير محرّمة فإرادة شيوع فاحشة النفس أولى بالتحريم ، غير أنّه مبنيّ على كون المراد بشيوع الفاحشة حدوثها وخروجها عن العدم إلى الوجود ، وهو خلاف ما يتبادر منه

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) القصص : ٨٣.

(٣) النور : ١٩.

٦٠٧

عرفا وهو الشهرة والجهار.

مضافا إلى أنّه المصرّح به في كلام أهل اللغة ـ كما في المجمع ـ من تفسير « شاع » بذاع وظهر ، فالفحوى لو تمّ لقضى بمنع إرادة التجاهر بالفسق ، إلاّ أن يتمّ المدّعى بعدم القول بالفصل من هذه الجهة.

أو يقرّر الاستدلال من وجه آخر وهو : أنّ إشاعة عيوب الغير محرّمة بنفسها ومبغوضة في نظر الشارع ، كما يرشد إليه ما صحّ عن هشام ـ على ما في المجمع ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من قال في مؤمن ما رأت عيناه وسمعت اذناه كان من الذين قال الله تعالى فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ )(١) » الآية ، فيكون الآية توعيدا على ما يعمّ إرادة الإشاعة كما يومئ إليه التعبير في الرواية المذكورة بلفظة التبعيض.

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ قرب الإرادة من المحبّة اعتباري صرف ، وإلاّ فالأقرب إليه عرفا في مثل تلك العبارة إنّما هو السعي في الإشاعة ، فينهض الآية دليلا على تحريم نفس الإشاعة ولا تلازم بينه وبين تحريم إرادة الإشاعة ، وإنّما عبّر عنه بالمحبّة ليكون من باب التعبير باللازم لإرادة الانتقال إلى ملزومه مراعاة لزيادة بلاغة الكناية فليتدبّر.

ومنها : الرواية الّتي رواها الكليني ـ على ما في كلام بعض الأعاظم ـ عن أبي هاشم قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا أن يطيعوا الله ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء.

ثمّ تلا قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ )(٢) قال : على نيّته ».

ومنها : ما سمعناه عن بعض مشايخنا مرسلا من قوله عليه‌السلام إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : لأنّه أراد قتل صاحبه ».

ومنها : مثله من قوله : « الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى الداخل إثمان إثم الرضا وإثم الدخول ».

ومنها : كذلك من قوله عليه‌السلام : « وإنّما يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة ».

ومنها : صريح التعليل الوارد في تفسير قوله تعالى : ( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ

__________________

(١) النور : ١٩.

(٢) الإسراء : ٨٤.

٦٠٨

كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )(١) خطابا إلى كفّار قريش وبني أميّة حيث سئل عن علّة إسناد القتل إليهم وليسوا بقاتلين ، وإنّما قتل آباؤهم الأوّلين ، قال : لأنّهم كانوا يرضون بما صدر من آبائهم من قتل الأنبياء.

ومنها : الأخبار الدالّة على العفو عن نيّة السيّئة ، وهي على ما قيل كثيرة.

منها : ما رواه بعض الأعاظم عن الكليني في الصحيح عن جميل بن درّاج عن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أو أبي جعفر عليه‌السلام فقال : إنّ آدم عليه‌السلام قال يا ربّ سلّطت عليّ الشيطان وأجريته منّي مجرى الدم فاجعل لي شيئا ، فقال : يا آدم جعلت لك إنّ من همّ من ذرّيّتك السيّئة لم يكتب عليه فإن عملها كتبت عليه سيّئة ، ومن همّ منهم بحسنة فإن لم يعملها كتب له حسنة وإن هو عملها كتبت له عشرا.

وعن فضيل بن عثمان المرادي سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أربع من كنّ فيه لم يهلك على الله عزّ وجلّ بعدهنّ إلاّ هالك ، يهمّ العبد بالحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيّته ، وإن هو عملها كتب الله له عشرا ، ويهمّ بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإن هو عملها اجّل سبع ساعات ... إلى آخره.

ووجه الدلالة : أنّ نفي الكتابة في نيّة السيّئة المجرّدة عن العمل وإن احتمل كون المراد به نفي الحرمة والخطاب أو نفي المؤاخذة والعقاب ، غير أنّ الظاهر المنساق منه عرفا إنّما هو نفي كتابة أصل النيّة في زبر الأعمال ، نظرا إلى أنّ الّذي يكتبه الملكان إنّما هو أصل العمل من خير أو شرّ من صغيرة أو كبيرة ، وهو يستلزم نفي المؤاخذة والعقاب أيضا فلولا أصل النيّة قبيحة ولا محرّمة مبغوضة عند الله سبحانه لما تمّ الامتنان والإنعام الّذي سيق لبيانه الكلام.

وظاهر الروايات اعتبارا ومساقا كون المنفيّ نفس النيّة لا المنويّ وإلاّ لخرجت القضيّة منتفية الموضوع وهو خلاف الأصل ومناف للسياق.

فما قيل : من أنّه لا دلالة فيها على أنّ العزم على المعصية معصية ، بل تدلّ على أنّ من عزم على معصية كشرب الخمر أو الزنا مثلا ولم يعملها لم يكتب عليه تلك المعصية الّتي عزم عليها وإنّ هذا من ذلك ، ليس ممّا يلتفت إليه.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون المراد به رفع المؤاخذة المستلزمة لرفع الحرمة كما في

__________________

(١) البقرة : ٩١.

٦٠٩

النبوي المعروف « رفع عن أمّتي تسعة ... » إلى آخره.

قلت : الظاهر من النبوي بعد تعذّر الحقيقة إنّما هو ذلك ، مضافا إلى أنّ رفع المؤاخذة من دون رفع الحرمة ممّا لا يتعقّل ، لعدم صلاحيّة الامور التسع المذكورة هنا للتكليف بأنفسها ولا بمواضعها كما لا يخفى على المتأمّل ، بخلاف محلّ البحث فإنّ الحمل فيه على الظاهر ممكن والعدول عنه غير متعيّن.

وقد عرفت أنّ ظاهره نفي كتابة أصل العمل المستلزم لنفي المؤاخذة عليه دون التكليف به ، مضافا إلى أنّه ممّا يقتضيه الحمل على النظائر ، فإنّ الكتابة قد وردت في الروايات نفيا وإثباتا في مواضع كثيرة ، منها : ما في فضيلة يوم الغدير ، وثلاثة أيّام من شهر الربيع من عدم كتابة المعاصي ، ضرورة أنّ الّذي لا يكتب إنّما هو نفس العمل من ترك واجب أو فعل محرّم لا أنّ التكليف غير ثابت وهو واضح.

ثمّ إنّه لا يخفى ما بين هذه الأخبار الدالّة على ثبوت العفو عن نيّة المعصية وغيرها ممّا تقدّم من التعارض على ثبوت الاستحقاق للعقاب على الإطلاق من دون عفو.

وربّما يجمع بينهما بحمل أخبار العفو على من نواها مع القدرة عليها ولكن لم يعملها اختيارا وحمل أخبار الاستحقاق من غير عفو على من نواها ولم يعملها من جهة عدم قدرته على الإعمال ، بمعنى انتفاء العمل عنه قهرا لا اختيارا.

وهذا محلّ نظر ، إذ الكلام إنّما هو في العزم المجرّد عن العمل مطلقا حتّى نفس المعصية ، ولا يعقل تجرّد العزم عن المعصية إلاّ مع انتفاء شرط من شروطها أو وجود مانع من موانعها ، وإلاّ فمع تحقّق جميع الشرائط وانتفاء سائر الموانع يقع العزم جزءا أخيرا من العلّة ، ولازمه ترتّب المعلول أيضا لاستحالة انفكاكه عن علّته التامّة ، كيف وإنّ الترك الاختياري ملزوم لعدم الإرادة لكونه مقدّمة له كما تقدّم ، وهو مع الإرادة غير ممكن الاجتماع ، ومعلوم أنّ ملزوم معاند الشيء معاند لذلك الشيء فلا يجتمعان إلاّ أن يفرض حصول الإرادة حين انتفاء بعض الشروط ، فإذا اجتمعت الشروط وحصل جميع جهات الاختيار زالت الإرادة فترتّب عليه ترك العمل اختيارا ، غير أنّه فرض خارج عن محلّ البحث ، إذ الكلام في عدم حصول العمل حين تحقّق الإرادة والفرض ينافيه ، والإرادة الحاصلة قبل اجتماع الشرائط كانت حاصلة حين حصول الترك لا عن اختيار ، وهو مناف لما ذكر في وجه الجمع ، والأولى أن يخصّص أخبار العفو بما عدا نيّة قتل الأنبياء

٦١٠

وأوصيائهم ، ونيّة إيذائهم ونيّة هدم الكعبة وغيرها من المساجد ، وشاهد الجمع ما ورد في تفسير قوله تعالى : ( فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ )(١).

ثمّ إنّه لا يذهب عليك أنّ قصد المعصية ليس كقصد الطاعة الّذي يكتسب به الطاعة المنويّة كقصد الصلاة الّذي يكتب صلاة على ما يستفاد من الأخبار ، بل هو بنفسه معصية لا أنّه يكتب به المعصية المنويّة ، فنيّة الزنا مثلا لا تكتب زنا بل تكتب معصية اخرى.

فمن هنا ظهر أنّ نيّة الكبيرة ليست بكبيرة كما توهّم.

وممّا يؤيّد المختار من كون العزم على المعصية معصية ، ذهاب جماعة في الإصرار على الصغيرة إلى أنّ الإصرار يتحقّق بفعل المعصية تارة ثمّ القصد إلى فعلها اخرى وان لم يفعلها ، فإنّ العزم محقّق لموضوع الإصرار وإن لم يكن بعين المعصية المأتيّ بها.

وأمّا توهّم كون ترك التوبة بعد الصغيرة إصرارا أيضا نظرا إلى وجوبها فورا فلا حاجة في تحقّق موضوع الإصرار إلى لحوق قصد الإتيان بالمعصية مرّة اخرى ، ففاسد جدّا ، لأنّ وجوب التوبة ـ إن قلنا به كما عليه المتكلّمون ـ من كونه لدفع الضرر وتكفير الذنب وجوب إرشادي نظير الوجوب المستفاد من أوامر الطبيب ، فلا يترتّب على مخالفته إلاّ بقاء استحقاق العقاب المترتّب على المعصية ، وإلاّ فمع قطع النظر عنه لا عقاب على ترك التوبة بنفسه ، كما أنّ مخالفة أمر الطبيب لا يترتّب عليه إلاّ بقاء الضرر المترتّب على المرض السابق.

ثمّ إنّ ما اخترناه من كون العزم على المعصية معصية مع ثبوت العفو عنها في الجملة ، هو الّذي نسبه بعض الأعاظم إلى جماعة من الخاصّة والعامّة كعلم الهدى والطبرسي والزمخشري والبيضاوي والبهائي ، حتّى عن الأوّل أنّه قال : وقد تجاوز قوم حتّى قالوا :العزم على الكبيرة كبيرة وعلى الكفر كفر.

بل عن الأخير : أنّه جعل ممّا لا ريب فيه عندنا وعند العامّة ، وادّعى كونه من ضروريّات الدين ولكن لم ينقل عنهم القول بالعفو عدا ما استظهره عن البهائي من اعترافه بثبوت العفو عنه.

قال المحقّق الطوسي في التجريد : إنّ إرادة القبيح قبيحة.

وعن السيّد الداماد : إنّه نسب إلى فقهائنا وفقهاء العامّة واصولينا واصوليّهم أنّهم قد اتّفقوا على أنّ العزم على المعاصي ونيّتها ممّا لا يترتّب عليه عقاب ومؤاخذة ما لم يتحقّق التلبّس بالمعصية.

__________________

(١) البقرة : ٩١.

٦١١

وظاهر ذلك الاعتراف بأصل المعصية مع دعوى العفو عنها.

وعن جماعة التصريح بالعدم ، وعن المازندراني إنّه نسبه إلى كثير من أصحابنا ، وعن المقدّس إنّه عزاه إلى المشهور إلاّ أنّه احتمل أن يريدوا أنّه لا يعاقب بالمنويّ الحرام.

وعن الشهيد قال : لا يؤثّر نيّة المعصية عقابا ولا ذمّا ما لم يتلبّس بها وهو ممّا ثبت في الأخبار العفو عنه ، وهو كما ترى لا ينافي ما اخترناه.

كما أنّ ما عن الصدوق من أنّه عدّ من اعتقادنا الظاهر في كونه مذهب الإماميّة أنّ من همّ بسيّئة لم يكتب حتّى يعملها ، فإن عملها كتبت عليه سيّئة واحدة ، لا ينافيه فما في كلام بعض الأعاظم من أنّ ذلك ظاهر في العفو وعدم الحرمة غير سديد.

وأمّا الجهة الثالثة : في العزم المقرون بعمل يكون من مقدّمات المعصية.

واعلم أنّ الّذي ينبغي أن ينظر هنا في حكمه إنّما هو أصل العمل ، إذ العزم المقرون له قد علم ممّا سبق حكمه بل بطريق أولى ، فإنّ العزم المجرّد إذا كان محرّما فالعزم المقارن لما يكون من مقدّمات المعصية أولى بالتحريم ربّما يمكن أن يقال هنا بترتّب العقاب وعدم ثبوت العفو عنه.

بل يمكن أن يجعل ذلك وجه جمع آخر بين الأخبار المتعارضة المتقدّمة في الجهة السابقة ، بحمل ما دلّ منها على ثبوت العفو على العزم المجرّد كما يشهد به صريح أخبار نفي كتابة نيّة السيّئة على هذه الأمّة ، وحمل ما دلّ منها على ثبوت العقاب فعلا على العزم المقرون بما يكون من مقدّمات المعصية.

ويشهد به ما تقدّم في رواية القاتل والمقتول ، من حيث إنّ المقتول الّذي يدخل بنيّة قتل صاحبه في النار يكون ناويا له مع التلبّس ببعض مقدّماته.

فما يقال في المقام من الترديد في كون العقاب على العزم المقرون بالعمل أو العمل المتلبّس بالعزم مع دعوى أنّه له وجهين ، ليس على ما ينبغي إذ العزم على كلّ تقدير محرّم وموجب للعقاب ، وإنّما الشأن في معرفة أنّ العمل المقارن له أيضا يتّصف بالحرمة أو لا ، وعلى الأوّل فهل يوجب عقابا آخر عليه غير ما هو على عزم المعصية أو لا؟

فنقول : إنّ مقدّمة الحرام إذا أتى بها بقصد التوصّل إلى الحرام لا إشكال في حرمتها من حيث المقدّمية ، من غير فرق بين كونها شرطا كنصب السلّم بقصد الطلوع على سطح الغير غصبا ، واتّخاذ العنب أو عصره ليعمل خمرا ، وصنع الآلة القتّالة أو الجارحة أو اشتراؤها

٦١٢

ليجني بها على الغير من غير حقّ ونحو ذلك ، ممّا لا يحصى ، أو سببا كالتدرّج من درجات السلّم المنصوب في المثال المذكور ونحو ذلك ، ودليله واضح من حيث الجزم بأنّ من يبغض أصل المحرّم ولا يرضى بفعله (١).

...................................................................

ممّا سبق أيضا فإنّ المتلازمين لا يعقل بينهما توقّف بل هما يتوقّفان معا على ثالث هو علّة لهما ، فيرجع الاستدلال إلى كونه من باب الاستدلال على أحد المتلازمين بالمتلازم الآخر الكاشف عنه باعتبار كشفه عمّا هو علّة لهما من دون أن يكون فيه شائبة دور.

وأمّا ما ذكره بعض الأفاضل ، ففيه : منع كون توهّم الاختصاص ناشئا عمّا ذكره لجواز كونه ناشئا عمّا أشرنا إليه من الامور.

ولو سلّم فلا يستقيم بعض ما ذكره اعتراضا على دعوى الاختصاص ، لأنّ الترتيب الّذي اعتبره في المضيّقين إن أراد به ما يحصل في الخطاب بهما بأن يتقدّم أحد الخطابين على الآخر فممّا لا يدفع المحذور ، لأنّ مبناه على لزوم التكليف بما لا يطاق الممتنع من الحكيم على الإطلاق ، وهو لا ينوط بورود الخطابين متقارنين للزوم المحذور أيضا عند ورودهما متعاقبين ، ولو أراد به ما يكون قيدا في المكلّف به بأن يكون المقصود بالخطاب تحصيل الامتثال بأحد المتضادّين عقيب الامتثال بالآخر فهو خروج عن موضع البحث بالمرّة ، لأنّ فرض الكلام فيما لو حصل بين القيدين تعاند وليس بينهما في الصورة المفروضة ، إذ المفروض وقوع كلّ في زمان لا يزاحمه الآخر بل يكون إطلاق الضدّين عليهما حينئذ خروجا عن الاصطلاح.

ثمّ اعلم : أنّه لو ورد أمران موسّعان ـ بناء على دخولهما في موضع الخلاف ـ وقلنا باقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ مع ملاحظة ما قدّمنا ذكره من تعلّق النهي حينئذ بالقدر المشترك بين الأفراد التقديريّة كالأمر يرجع مفاد كلّ منهما إلى أن يكون الآمر قد قال في

__________________

(١) ومن المؤسف عليه ضياع أوراق هاهنا من نسخة الأصل طيلة الأيّام ، التي كانت تشتمل على قليل من أواخر مبحث المقدّمة وقليل من أوائل مبحث الضدّ ، ونحن مع كثرة فحصنا عنها لم نعثر عليها ، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا.

وسيأتي بعد ذلك مسألة الضدّ بقوله : « ممّا سبق أيضا » الخ.

ولا يخفى أنّه قدس‌سره شرع في الجزء الثالث من التعليقة ـ حسب تجزئته ـ من أوّل مسألة الضدّ كما يظهر ذلك ممّا أورده في ص ٦١٨ بقوله : « ... للأصل الّذي قررّناه في ذيل بحث الفور من الجزء الثاني من الكتاب ، ومن أراد الاطّلاع فليرجع إليه ».

٦١٣

خطابه : « أنت مأمور من الفعل الفلاني بما يقع في الوقت الفلاني ومنهيّ عمّا يعانده في ذلك الوقت » ولمّا كان كلّ من المأمور به والمنهيّ عنه كلّيّا له أفراد تقديريّة متعدّدة بحسب تعدّد أجزاء الوقت فينتزع العقل عن كلّ خطاب خطابا آخر راجعا ، إلى أن يقال : « أنت مخيّر في ذلك الفعل بين إيقاعه في أيّ جزء من ذلك الوقت إلاّ الجزء الّذي تزاحم الفعل الآخر الّذي يقع في ذلك الجزء » وهو تخيير عقلي مستفاد من خطاب الشرع ، والاستثناء في كلّ مفاد النهي في الآخر.

وإن قلنا بعدم الاقتضاء يسقط عن كلّ من الخطابين عقده السلبي المفيد للنهي والاستثناء المذكورين ، وينحصر مفادهما في الأمر بالكلّي المخير فيه المكلّف بين أفراده التقديريّة ، ولكن كلّ كلّي يعاند الآخر في الجزء الّذي يقع فيه من الوقت ، ضرورة عدم صلاحيّة ذلك الجزء لكليهما ، ولمّا كان كلّ صالحا لوقوعه في كلّ جزء فكان التعاند حاصلا فيهما في كلّ جزء.

وإن شئت فقل : إنّ التعاند بينهما من حيث فرض الوقوع لهما يحصل بين كلّ فردين منهما.

فما ذكره بعض الأعاظم من قوله : إنّ الأمرين لو كانا موسّعين لم يتحقّق بينهما تناقض ، ليس على ما ينبغي ، إن كان مراده بالتناقض هو التدافع والتعاند ، كيف وهو مناقض لما قدّمنا منه في دفع توهّم الاختصاص من قوله : مدار النزاع على حصول التعاند في الوجود ، مع دعواه دخول الموسّعين في النزاع.

غاية الأمر أنّ الجمع بينهما في صورة التوسعة ممكن بخلاف المضيّقين ، وهو لا يوجب انحصار التعاند فيهما دون الموسّعين ، كيف ولو كان موجبا لذلك لزم أن لا يكون بين المضيّق والموسّع أيضا تعاند لإمكان الجمع بينهما ، وهو لا يقول بذلك جزما.

وإن أراد به ما هو مصطلح أهل الميزان فهو أجنبيّ عن المقام ، ضرورة عدم حصول التناقض بهذا المعنى فيما بين المضيّقين أيضا ، لأنّهما أمران وجوديّان لا يجتمعان في محلّ واحد ، مع أنّه يسلّمه بينهما بل وبين المضيّق والموسّع على ما يستفاد من كلامه.

ثمّ إنّ قضية ما قرّرناه على القول بالاقتضاء وقوع كلّ من الفعلين المأمور بهما مأمورا به ومنهيّا عنه من باب اجتماع الأمر والنهي ، فكلّ من حيث كونه ما يقع في الوقت تعلّق به الأمر ومن حيث كونه ما يعاند الآخر تعلّق به النهي ، غير أنّه غير قادح على القول بعدم

٦١٤

جواز الاجتماع ، لكون الجهتين كلّيين متضادّين لا يتّفق لهما مورد اجتماع من الجزئيّات الحقيقيّة حتّى يندرجا في موضع نزاعهم في مسألة الاجتماع ، ضرورة أنّ كلاّ من الفعلين عند وقوع الآخر غير ممكن الاجتماع معه ليجتمع في كلّ منهما جهتا الأمر والنهي وإلاّ لما كانا متعاندين ، كالغصب والصلاة فلا يعقل فرد يكون مصداقا لكلتا الجهتين ، حيث لا يعقل فرد يكون مصداقا لكلا الفعلين ، فمورد اجتماع الأمر والنهي حينئذ مجرّد الكلّي من الفعلين نظير الضرب للتأديب والتعذيب ، وإلاّ فكلّ حيثما وقع من أجزاء الوقت نفس المأمور به إلاّ أن يناط ملاك فرض الاجتماع بينهما في أمر واحد شخصي بالقصد والنيّة ، فحينئذ إن وقع الفعل بعنوان أنّه مأمور به يكون امتثالا أو بعنوان أنّه يعاند المأمور به يكون عصيانا أو بكلا العنوانين يكون امتثالا وعصيانا على القول بجواز الاجتماع ، وإلاّ يكون عصيانا محضا كالصورة الثانية غير أنّه خلاف ما يظهر من أصحاب القول بالاقتضاء ، حيث يجعلون المنهيّ عنه نفس الضدّ كيفما اتّفق لا خصوص ما يقع منه بقصد كونه معاندا للمأمور به ، فيشكل عليهم الحال بالنظر إلى ما قرّرناه من تعميم النزاع من جهة أنّ ظاهرهم من اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ أنّ الأمر بالشيء يكشف عن أنّ ضدّ المأمور به ليس بمأمور به بل منهيّ عنه ، فلو اجري هذا الكلام بالنسبة إلى الموسّعين أيضا يلزم من إثبات الأمر لأحدهما نفيه عن الآخر ، فيرجع مفاد الأمرين إلى تحريم الضدّين وهو باطل بالضرورة.

وإن قالوا بأنّ الّذي يكشف عنه الأمر إنّما هو مجرّد النهي عن الضدّ حتّى أنّه لو جمع بين الأمرين يلزم كون كلّ من الضدّين مأمورا به ومنهيّا عنه بضابطة ما ذكرناه.

فيرد عليهم : منع ما تقدّم من عدم إمكان اتّفاق الجهتين في محلّ واحد شخصي ، وإن لم نجعل الأمر منوطا بالقصد.

فإنّ غاية ما في الباب أنّ الضدّين لا يجتمعان معا لما بينهما من التعاند ، وأمّا الجهتان في كلّ منهما فلا تعاند بينهما بل لا يتّفق فعل في الخارج إلاّ وهو مصداق لعنوان ذلك الفعل ولعنوان الضدّية بمعنى كونه معاندا لما يقابله ، فيكون كلّ من الواجبين الموسّعين إذا وقع في كلّ جزء من الوقت مصداقا لعنوان كونه مأمورا به ومعاندا للمأمور به الآخر فيكون منهيّا عنه أيضا فيتوجّه منه إشكالان :

أحدهما : ما يرد منهم على القائلين بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي.

والآخر : ما يعمّهم والآخرين.

٦١٥

أما الأوّل : فعود المحذور الّذي أشرنا إليه من استلزام ثبوت الأمر في كلّ من الضدّين نفيه في الآخر ، فيكونان محرّمين وهو خلاف الفرض.

وأمّا الثاني : فلزوم كون إثبات النهي لكلّ منهما بدلالة خطاب الآخر مع عدم جعل العبرة بالقصد والنيّة التزاما للنهي عمّا ليس باختياري للمكلّف ، لأنّ عنوان المعانديّة لكلّ من الفعلين بالنسبة إلى الآخر يحصل له عند الإتيان به لقصد الامتثال قهرا ، بل هو من اللوازم الّتي يستحيل التحرّز عنها في حين الامتثال نظير التوليديّات ونهيه عنه لأجل هذا العنوان الغير المقدور له تكليف بما لا يطاق ، وهو عند غير الأشاعرة محال ، مع إشكال آخر على القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي منهم من جهة عدم انطباق ذلك على ما ذكروه في الثمرة من فساد العبادة عند الأمر بالمضيّق ، وإن التزموا هنا باعتبار القصد والنيّة إلى المعاندة لتحقّق الجهة المحرّمة ، فمع أنّه ينافي ظاهر كلامهم كما عرفت ينافي إطلاق القول بالثمرة المذكورة وغيرها ممّا فرضوها من فساد المعاملة ونحوها ، لأنّ قضيّة ذلك حينئذ الفرق في ترتّب الثمرة بين ما لو كان الإتيان بالضدّ الموسّع لأجل أن يكون معاندا للمأمور به المضيّق وبين غيره.

فالمتّجه حينئذ سقوط الموسّعين عن محلّ نزاعهم كما ذكره الجماعة ، وكأنّ ما قرّرناه صار منشأ لذلك فيكون حينئذ كلاما على وفق ما يساعد عليه التحقيق ، ويبطل به ما توهّمه الآخرون من عموم النزاع.

وعلى أيّ حال كان فإذا ورد أمران موسّعان يجب امتثالهما معا لوجود المقتضي وفقد المانع ، إذ المفروض إمكان الجمع بينهما من غير فرق في ذلك بين الموقّتين والغير الموقّتين والمختلفين ، فإن اعتبر بينهما ترتيب بحسب الوجود الخارجي كما في الظهرين والعشاءين في الوقت المشترك يبنى عليه ويؤتى بالوظيفة ، وإلاّ فيقدّم ما هو الأهمّ منهما في نظر الشارع لبناء العقلاء وحكم القوّة العاقلة إن كان ، وإلاّ كصلاة الصبح وما قيّد من المنذورة بما بين الطلوعين يبنى على التخيير في التقديم والتأخير ، لقبح الترجيح من غير مرجّح.

وأمّا المضيّقان حيثما ورد الأمر بهما فالقطع حاصل بملاحظة عدم إمكان الجمع بينهما ، بأنّ الحكيم العدل لا يحمل المكلّف عليهما مريدا للإتيان بهما معا في آن واحد ، فلابدّ من البناء على ما يقتضيه الإمكان وهو الإتيان بأحدهما تخييرا إن لم يكن أحدهما أهمّ لقبح الترجيح من غير مرجّح ، أو تعيينا إن كان أحدهما أهمّ في نظر الشارع ، لقضاء

٦١٦

القوّة العاقلة بأنّ الحكيم لا يترك الأهمّ بغيره ، وبناء العقلاء على تقديم الأهمّ.

وربّما يتمسّك بقاعدة الاشتغال واستصحابه تحصيلا للبراءة اليقينيّة الموقوفة على الإتيان بالأهمّ وليس في محلّه كما لا يخفى.

فتقرّر بما قرّرنا أنّ الأصل في كلّ واجبين مضيّقين هو التخيير أو الإتيان بالأهمّ ، وهذا أصل كثير النفع عامّ الفائدة لكون مجراه بابا واسعا في الفقه يتفرّع عليه فروع غير محصورة في أبوابه المتفرّقة ، ويعبّر عنه كثيرا بتزاحم الواجبين ، ومن أفراده قيام ما يقضي عند الحاكم وجوب الإفتاء والقضاء معا في آن واحد وكذلك الإفتاءين والقضاءين.

ومنها : إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق إذا تعدّدا أو اختلفا.

ومنها : إزالة النجاسة عن المسجد وإنقاذ القرآن من يد الكافر إذا تعدّد كلّ منهما أو اجتمعا معا.

ومنها : ردّ الدين وردّ الوديعة مع تعدّد كلّ منهما أو اجتماعهما معا.

ومنها : صوم نهار رمضان والصوم المنذور إذا عيّن له يوما من السنة وصادف ذلك اليوم من رمضان ، ويمكن أن يقال بخروجه عن محلّ الكلام لكشف المصادفة عن عدم انعقاد النذر من جهة تقيّده بالإمكان ، ولا إمكان مع المصادفة المذكورة.

وهل قضيّة ما ذكرنا من التخيير أو تقديم الأهمّ في المضيّقين سقوط الأمر عن الآخر بالمرّة وفراغ ذمّة المكلّف منه ، أو جواز التراخي في الآخر الموجب لبقاء الأمر المقتضي للامتثال فيما بعد ذلك؟ وجهان من كون المراد بالمضيّق ما هو بمعناه الأخصّ أو الأعمّ ، والتحقيق أنّ الحكم يختلف باختلاف الموارد.

وتفصيل ذلك : أنّ الأمر في كثير من المواضع كان باقيا في غير زمان الفور أيضا كما في مسألة الإفتاء والقضاء ، ومسألتي أداء الدين وردّ الوديعة ، ومسألتي إزالة نجاسة المسجد وإنقاذ القرآن من يد الكافر ونحوها ، فلابدّ من ضابط كلّي يعرف به حكم الموارد الجزئيّة.

فنقول : إنّ الأمرين إمّا مضيّقان بالذات أو بالعارض ، كما لو تضيّق وقت الفريضة بظنّ الموت أو قرب انقضائه ، أو مختلفان.

وعلى التقادير فإمّا موقّتان أو غير موقّتين أو مختلفان.

وعلى جميع التقادير فإمّا أن يعلم ببقاء العلّة الداعية إلى الأمر أو يعلم بعدم بقائها ، أو يشكّ في البقاء والعدم بسبب الجهل بأصل العلّة كما في العبادات الصرفة ، فما كان منهما من

٦١٧

قبيل الموقّت ـ مع ندوره في الشرعيّات ـ فالحكم فيه سقوط الأمر لفوات الأمر بخروج الوقت وانتفاء المقيّد بانتفاء قيده ، من غير فرق بين ثبوته فيهما أو في أحدهما بالأدلة اللفظيّة أو الأدلّة اللبّية ، ولا مجرى للاصول العمليّة هنا سوى أصل البراءة ، ومقتضاه موافق لما ذكر.

ولا يعارضه أصل الشغل لأنّه في جريانه فرع ثبوت الاشتغال والقطع بالتكليف ، وهما بعد التعارض بالنسبة إلى ما بقي بعد امتثال أحدهما منتفيان ، وإلاّ لخرج عن فرض المسألة.

ولا الاستصحاب لاقتضائه يقينا سابقا بالثبوت وشكّا لاحقا في البقاء ، والأوّل منتف لو اريد استصحاب الأمر الثابت بعد انقضاء الوقت ، كما أنّ الثاني منتف لو اريد استصحاب ما ثبت قبل خروج الوقت للقطع بعدم بقائه ، وما كان منهما من غير هذا القبيل فإن علم فيه ببقاء العلّة يحكم ببقاء الأمر ، لأنّه معلول ويكشف عن كون الفوريّة مطلوبا آخر لرجحان التعجيل في نظر المولى.

ومن هذا الباب مسألة الإفتاء والقضاء وإنقاذ الغريق والحريق إن علم بحياة أحدهما بعد إنقاذ الآخر أو إطفائه وإزالة نجاسة المسجد إن بقيت إحدى النجاستين على حالها بعد ما أزال الاخرى ، لكون العلّة في الأوّلين رفع حاجة الناس وفي تاليهما حفظ النفس المحترمة ، وفي الأخيرين وجود النجاسة وهي باقية في الجميع.

ومنه أداء الدين وردّ الوديعة لكون العلّة فيهما تفريغ الذمّة وإيصال حقّ الغير إلى صاحبه ، وإن علم بانتفاء العلّة كما في الإنقاذ أو الإطفاء إذا علم بموت الباقي ، ومثله الإفتاء والقضاء إذا علم رفع حاجة الباقي ، وأداء الدين إذا علم بقضاء الغير عنه تبرّعا يحكم بزوال الأمر أيضا لعدم المقتضي ، مضافا إلى أصالة البراءة ، ولا يعارضها الأصلان الآخران لعين ما تقدّم.

وإن شكّ في انتفائها والعدم يشكل الحال من احتمال وجود المقتضي وفقده مع عدم العلم بالرافع ، ويمكن الفرق بين ما ثبت بالأدلة اللفظيّة وغيره ، فعلى الأوّل يحكم بالبقاء للأصل الّذي قرّرناه في ذيل بحث الفور من الجزء الثاني من الكتاب ، ومن أراد الاطّلاع فليرجع إليه.

وعلى الثاني يحكم بالعدم للأصل وعدم العلم بالمقتضي.

وربّما يحتمل هنا جريان الاستصحاب ولكن النظر الصحيح يدفعه ، لأنّ أحد الأمرين من أوّل الأمر بسبب المزاحمة الموجبة للقطع بلزوم التكليف بما لا يطاق لو ثبتا معا في آن واحد غير معلوم الثبوت بل مقطوع بعدم ثبوته في ذلك الآن الّذي وقع فيه الآخر وفيما بعد

٦١٨

ذلك الآن لا يقين بثبوته وإلاّ لخرج عن فرض المسألة وارتفع الحاجة إلى الاستصحاب.

وقد يشكل الحال فيما يحكم بالتخيير إذا استفيد الوجوب من الأمر اللفظي من جهة كونه مرادا به العيني في غير مورد التزاحم ، فلو اريد منه التخييري أيضا في مورد التزاحم يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو مرجوح أو غير جائز ولعلّنا نشير إلى دفعه فيما بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ قضيّة ما تبيّن في بحث المقدّمة من المذاهب في الأمر المشروط من كونه مجازا فيه ، أو حقيقة بينه وبين المطلق من باب الاشتراك مع ظهوره عند الإطلاق في المطلق من باب الانصراف أو الإطلاق وترك ذكر القيد ، خروج الأمر المشروط عن العنوان بل قضيّة احتجاجهم على القول بالاقتضاء بقاعدة المقدّمية خروجه عن المبحث أيضا ، لما تقرّر ثمّة من خروج مقدّمات الواجب المشروط إذا كانت راجعة إلى الوجوب عن المتنازع فيه بخلاف ما يرجع منها إلى الوجود فقط.

فقضيّة ما قرّرناه أيضا من جواز دخولها في محلّ النزاع. غاية الأمر كون الوجوب الثابت لها بناء على وجوب المقدّمة مشروطا نظير ما ثبت لذيها دخوله في المبحث أيضا ، غايته كون الضدّ منهيّا عنه على القول بالاقتضاء بالنهي المشروط على القول بوجوب المقدّمة إذا كان خاصّا بل مطلقا إذا كان عامّا فمن يرى الفعل واجبا مشروطا فلا جرم يجعل الترك حراما مشروطا هذا على مذهب من يرى ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر.

وأمّا على مذهب غيره فدخوله في المبحث بالنسبة إلى الضدّ العامّ بل الخاصّ أيضا مبنيّ على كون المراد بالأمر ما يعمّ المشروط حقيقة أو مجازا ، فعليه يكون النهي في الضدّ نفيا وإثباتا مشروطا أيضا وذلك واضح ، وأمّا الأمر المطلق فلا ينبغي الشكّ في دخوله بجميع أنواعه في محلّ النزاع نفسيّا كان أو غيريّا ، تعبّديّا كان أو توصّليّا ، أصليّا كان أو تبعيّا.

غاية الأمر عدم ترتّب الثمرة المعروفة من فساد الضدّ المنهيّ عنه في بعض تلك الأنواع كالغيري والتبعي ، بناء على اختصاص اقتضاء الفساد بالنهي الأصلي النفسي.

فقضيّة ما ذكر دخول أضداد مقدّمات الواجبات في المتنازع فيه فتكون محرّمة بالحرمة التبعيّة على المختار في وجوب المقدّمة إن قلنا بالاقتضاء هنا. ويدخل في المتنازع فيه أيضا الواجب الكفائي والتخييري في كلّ من ضدّيهما العامّ والخاصّ.

والمراد بالضدّ العامّ في الأوّل حصول الترك من الجميع أو من كلّ واحد لا إلى بدل.

٦١٩

وفي الثاني ترك الجميع أو كلّ واحد لا إلى بدل.

وبالضدّ الخاصّ في الأوّل ما يمنع كلّ واحد عن الإتيان بالمأمور به من الأفعال الوجوديّة قبل قيام غيره بالعمل.

وفي الثاني ما يضادّ من الأفعال الوجوديّة كلّ واحد من أفراد الواجب التخييري ، وأمّا لو كان فعل يضادّ البعض دون الآخر كالسفر بالقياس إلى خصال الكفّارة حيث يضادّ صيام شهرين متتابعين دون التحرير والإطعام فكونه من محلّ البحث نظر ، من حيث عدم تحقّق الضدّية فيه للواجب بما هو واجب التفاتا إلى عدم انحصاره في واحد معيّن.

ويمكن القول بتعلّق النهي به أيضا على القول بالاقتضاء تخييرا بينه وبين ما يضادّ البعض الآخر من الأفعال الوجوديّة خاصّة كالنوم الّذي يضادّ الإطعام والتحرير دون الصيام ، والكلام الّذي يضادّ التحرير دون الإطعام والصيام ، وإخراج المال عن الملك الّذي يضادّ الاطعام دون التحرير والصيام ، فكما أنّ الأمر بينها تخييريّ فكذلك النهي بين أضدادها.

ومن الفضلاء من أفرط بعد ما اختار اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ الخاصّ من باب المقدّمة ، فصرّح بكون كلّ واحد من آحاد الواجب المخيّر منهيّا عنه بالنهي التخييري من باب المقدّمة إذا تضادّت وتوقّف وجود كلّ واحد منها على عدم الآخر ، تعليلا بأنّ وجوب مقدّمة الواجب المطلق ليس مخصوصا بغير هذه المقدّمة.

ثمّ أورد على نفسه اشكالين :

أحدهما : أنّ قضيّة التخيير تساوي الآحاد في المطلوبيّة بمعنى أنّ مطلوبيّة كلّ واحد هي مطلوبيّة الآخر ، فلا يكون تركه مطلوبا له وإلاّ لساواه في المطلوبيّة على ما مرّ الإشارة إليه في بحث المقدّمة ، فيلزم تساوي فعله وتركه في المطلوبيّة فيرجع إلى الإباحة.

وثانيهما : أنّ طلب شيء لشيء يستدعي رجحانه له وهو يستدعي مرجوحيّة الفعل وهو ينافي رجحانه فضلا عن مساواته للآخر في الرجحان.

فأجاب أوّلا عنهما : بالنقض بما إذا كان الضدّ شرعيّا ، كما لو خيّر بين الجميع ومنع الجمع فإنّه لا ريب في مطلوبيّة كلّ واحد للتوصّل إلى الامتثال بفعل الآخر مجرّدا عن وصف الاجتماع ، فيتأتّى الإشكال فيه أيضا والفرق بينه وبين الضدّ العادي أو العقلي غير معقول كالفرق بين المقدّمات.

وثانيا عن الأوّل : بأنّ مطلوبيّة الترك للتوصّل إلى الفرد الآخر إنّما يقتضي مطلوبيّته

٦٢٠