تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

فتحقيق المقال في ذلك أن يقال : إنّ من أطلق الطلب على الإرشاد إن أراد به ما ذكرناه في توجيه كلامه فلا كلام ، وإلاّ ففيه منع واضح من القطع بخلوّ الإرشاديّات عن الطلب بالمعنى الملحوظ في الوجوب والندب ، وكونها يقصد بها مجرّد الاراءة إلى طريق الوصول إلى المصالح المترتّبة على الفعل ، والهداية على سبيل التحرّز عن المفاسد المتفرّعة على الترك ، من غير فرق في ذلك بين كون المصلحة من الامور المتعلّقة بالدين كما في أوامر الوعّاظ ونحوهم ، أو الامور المتعلّقة بالدنيا كما في أوامر الطبيب ونحوه ، أخذا بما يساعده فهم العرف وضرورة الوجدان ، مع أنّ ما ذكروه وجها للفرق ينتقض في عكسه بالنظر إلى الندب بأوامر السلطان وغيره من الموالي والمخدومين ، فإنّها في الغالب واجبات أو مندوبات مع عدم اشتمال شيء بما يرجع إلى الآخرة لانحصار مصالحها فيما يترتّب على امور دنياهم ، وفي طرده بالنظر إليه بأوامر الوعّاظ حسبما عرفت ، وفي عكسه أيضا بالقياس إلى الإرشاد بمثل قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(١) و ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ )(٢) و ( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ )(٣) و ( اعْبُدْ رَبَّكَ )(٤) ونظير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، ضرورة كونها من باب الإرشاد على ما يراه المحقّقون ، ويرجّحه النظر الدقيق القاضي بعدم كونها من باب الوجوب ولا الندب.

أمّا الأوّل : فللقطع بعدم تعدّد العقاب في ترك الطاعة.

وأمّا الثاني : فللجزم بعدم تعدّد الثواب في فعلها.

ومن المعلوم أنّ انتفاء اللوازم أقوى دليل على انتفاء الملزوم ، مع أنّ الطلب من الشارع لا بدّ وأن يتبع الصفة الكامنة في ذات المطلوب من حيث هو ، والطاعة والتقوى والاتّباع والعبادة ونحوها ليست إلاّ مفاهيم كلّيّة اعتباريّة منتزعة عن العنوانات المخصوصة الّتي تعلّق بها الأوامر الحقيقيّة ، فلا يكون فيها بخصوصها صفة اخرى زائدة على الصفات الكامنة في العنوانات المندرجة تحتها ، فلا يتصوّر حينئذ حمل تلك الأوامر على أحد الوجهين ، وإلاّ لا نخرم قاعدتهم المتّفق عليها المشار إليها ، فلا يبقى ما يصلح لحملها عليه إلاّ الإرشاد وهو المطلوب مع عدم اشتمال شيء منها على المصالح الدنيويّة.

وفي طرده أيضا بالقياس إليه بالأوامر الواردة مورد التقيّة ، فإنّ الظاهر ورودها لمراعاة

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) آل عمران : ١٠٢.

(٣) آل عمران : ٣١.

(٤) الحجر : ٩٩.

٦١

وقال علم الهدى رضى الله عنه : إنّها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكا لفظيّا * في اللّغة ، وأمّا في العرف الشرعيّ فهي حقيقة في الوجوب فقط. وتوقّف في ذلك قوم ، فلم يدروا للوجوب هي أم للندب ** وقيل : هي مشتركة بين ثلاثة أشياء ، الوجوب والندب والإباحة ***. وقيل : هي للقدر المشترك بين هذه

__________________

المصالح العائدة إلى الدنيا ممّا لا يكاد يخفى على ذي مسكة مع عدم كونها إرشاديّات جزما.

* وفي بعض النسخ وذهب السيّد المرتضى إلى أنّها ... إلى آخره ، وربّما يعزى ذلك إلى السيّد ابن زهرة ، وحكاية هذا القول عن السيّد هو المشهور في الكتب الاصوليّة.

واعترض عليهم : بأنّ الّذي صرّح به السيّد في الذريعة أنّها للوجوب والإباحة لا الوجوب والندب ، مع تبديله الوجوب « بالأمر » حيث قال فيها : « اختلف الناس في صيغة الأمر فذهب الفقهاء كلّهم وأكثر المتكلّمين إلى أنّ للأمر صيغة مفردة مختصّة به متى استعملت في غيره كانت مجازا ، وهي قول القائل لمن دونه : « افعل » وذهب آخرون إلى أنّ هذه اللفظة مشتركة بين « الأمر » و « الإباحة » وهي حقيقة فيهما مع الإطلاق لا يفهم أحدهما ، وإنّما يفهم أحدهما دون صاحبه بدليل ، وهو الصحيح » (١).

ثمّ أخذ في الاستدلال لما صار إليه ، فقال : « إنّ هذه اللفظة مستعملة بلا خلاف في « الأمر » و « الإباحة » في التخاطب والقرآن والشعر ، قال الله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(٢) وهو أمر ، وقال سبحانه ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا )(٣) وهو مبيح ، وكذلك قوله تعالى ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا )(٤) فإنّ الانتشار مباح ، إلى آخر ما ذكره.

** حكاه في النهاية عن أبي الحسين الأشعري وجماعة من أصحابه كالقاضي أبي بكر والغزّالي وغيرهما ، وحكاه بعض الأفاضل عن الآمدي في الإحكام مع نقله حكاية القول بالتوقّف عن جماعة بين كونها للوجوب أو الندب أو لهما اشتراكا لفظيّا أو للقدر الجامع بينهما ليكون مشتركا معنويّا.

وعن البعض التوقّف بين الأحكام الخمسة ، فهي موضوعة لواحد منها لا نعلمه.

*** والمراد به الاشتراك اللفظي بقرينة ما بعده ، وقد حكاه في المنية عن جماعة ،

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٣٨.

(٢) البقرة : ٤٣.

(٣) المائدة : ٢.

(٤) الجمعة : ١٠.

٦٢

الثلاثة وهو الإذن. وزعم قوم أنّها مشتركة بين أربعة امور * ، وهي الثلاثة السابقة ، والتهديد وقيل فيها أشياء اخر ** ، لكنّها شديدة الشذوذ ، بيّنه الوهن ، فلا جدوى في التعرّض لنقلها.

__________________

وعن الحاجبي في المختصر وشارحيه والتمهيد حكايته أيضا.

وقيل : إنّهم حكوا القول الّذي بعده وهو كونها للقدر المشترك بين هذه الثلاثة وهو « الإذن » ولكن قائله مع ما قبله غير معلوم.

* وهي الوجوب والندب والإباحة والتهديد ، قيل هذا القول أيضا معروف بين الفريقين والقائل مجهول.

وعن الحاجبي أنّه عزاه إلى الشيعة ، وردّ بأنّه افتراء عليهم إذ لم يذهب إليه أحد منهم فضلا عن جميعهم ، إلاّ أن يريد بالشيعة بعضهم بالمعنى العامّ المتناول لسائر فرقهم ممّن لا يعتدّ بقوله عندهم.

** كالقول باشتراكها بين الوجوب والندب والإباحة والحرمة والتنزيه ، والقول بكونها لأقلّ المراتب وهي الإباحة حكاهما في المنية ، والقول باشتراكها بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد والتنزيه نقل حكايته عن التمهيد ، والقول بالاشتراك اللفظي بين الأحكام الخمسة الوجوب وأخواته عن التمهيد حكاية ذلك أيضا ، والقول بالاشتراك بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد والتعجيز والتكوين ، والقول بالاشتراك بين الطلب والتهديد والإباحة حكاهما بعض الأفاضل.

وعن الشهيد في التمهيد : أنّه ـ مضافا إلى ما سبق ـ حكى أقوالا اخر :

منها : الاشتراك بين الوجوب والإرشاد.

ومنها : الاشتراك بين الوجوب والندب والإباحة والإرشاد والتهديد.

ومنها : إنّ أمر الله للوجوب وأمر الرسول للندب.

وعن جماعة الاشتراك لفظا بين الوجوب والندب من غير تفصيل بين اللغة والشرع ، هذه مجموع الأقوال الّتي عثرنا بها دراية وحكاية.

ثمّ ، إنّهم ذكروا لصيغة « افعل » معاني كثيرة بالغة إلى خمسة عشر (١) أو أزيد ، وفي تغاير

__________________

(١) وهي على ما ضبطها السيّد في المنية خمسة عشر معان :

٦٣

لنا وجوه ، الأوّل : أنّا نقطع بأنّ السيّد إذا قال لعبده : « افعل كذا » فلم يفعل عدّ عاصيا وذمّه العقلاء *

__________________

جملة منها لآخر نظر واضح يظهر بأدنى تأمّل ، وعلى كلّ تقدير فقد اتّفقوا على عدم كونها حقيقة في الجميع ، بدعوى اختصاص وضعها بالبعض ، ولكنّهم اختلفوا في تعيين ذلك البعض على أقوال عرفتها مشروحة ، إلاّ أنّ المصنّف صار إلى أنّ ذلك البعض هو الوجوب خاصّة دون غيره ، وأنّ ما عداه معاني مجازيّة تعرف من الخارج ، وهو الراجح في النظر القاصر.

* ولا يخفى أنّ ذلك إحراز لصغرى القياس في أخصّ موارده ، واستدلال على الملزوم بأظهر لوازمه ، فإنّ المقصد الأصلي في المقام إنّما هو التمسّك بالتبادر الّذي هو من شواهد الوضع وعلائم الحقيقة ، ولمّا كان ذلك من الامور الباطنيّة الّتي قد تعتريها أيادي الإنكار وكثيرا مّا لا تجدي نفعا في إفحام الخصم وإسكاته وقطع العذر عليه فاحتجّوا بما هو محسوس من لوازمه ، وهو ذمّ العقلاء عبدا ترك الامتثال بمقتضى الصيغة الصادرة عن سيّده ، الكاشف عن تبادر الوجوب إلى أذهانهم وكونه ممّا فهمه العبد أيضا فخالف ، وهو

__________________

الأوّل : الإيجاب كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ).

الثاني : الندب كقوله : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).

الثالث : الارشاد كقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ). وهذه الثلاثة مشتركة في طلب تحصيل المنفعة إلاّ أنّ المصلحة في الأوّلين اخرويّة وفي الثالث دنيويّة ، إذ الثواب لا ينقص ولا يزداد بالإشهاد ولا بعدمه.

الرابع : التهديد كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).

الخامس : الإهانة كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ).

السادس : الدعاء مثل (رَبِّ اغْفِرْ).

السابع : الإباحة كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا).

الثامن : الامتنان كقوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ).

التاسع : الإكرام كقوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ).

العاشر : التسخير كقوله : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

الحادي عشر : التعجيز كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).

الثاني عشر : التسوية نحو (فَاصْبِرْ) أو لا تصبر.

الثالث عشر : التمنّي نحو « ألا يا أيّها الليل الطويل ألا انجلي ».

الرابع عشر : الاحتقار نحو بل (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ).

الخامس عشر : التكوين نحو (كُنْ فَيَكُونُ) ( منه عفى عنه ).

٦٤

وإن كان يعدّ من خواصّ العالي ومن الآثار المترتّبة على علوّه فلذا لا يتحقّق في مخالفة الداني بل المساوي ، إلاّ أنّه مستند إلى تبادر الوجوب وليس إلاّ ، فلذا لو اعتذر العبد بما كان مقبولا عندهم من الأعذار على عدم فهمه إيّاه لسقط عنه ذلك جزما.

وبما قرّرناه يندفع ما أورد عليه تارة : بأنّ ذلك إنّما هو لدلالة الشرع على وجوب طاعة السيّد على العبد.

واخرى : بأنّه لا يأمر إلاّ بما فيه نفعه ودفع ضرره ، والعبد يجب عليه إيصال المنافع إلى سيّده ودفع المضارّ عنه.

فإنّ الطاعة في غير ما أوجبه السيّد على عبده غير واجبة عليه في الشرع جزما ، فلذا لو طلب منه بعنوان الندب والاستحباب ـ بأيّ لفظ كان ـ فترك الامتثال لم يعدّ عاصيا ولا يستحقّ ذمّا أصلا ، ومجرّد ما فيه نفع السيّد أو دفع الضرر عنه لا يوجب قيام العبد به لو لا إيجاب السيّد ، كما هو واضح لكلّ ذي بصيرة.

كما يندفع به أيضا ما اورد عليه : من أنّه معارض بالصيغة المجرّدة عن القرينة الصارفة من مجهول الحال ممّن لا يعلم وجوب طاعته بحسب الشرع أو العرف ، فإنّ المأمور لا يعدّ عاصيا بالترك ولا يتوجّه إليه ذمّ ، فلو كانت حقيقة في الوجوب لزم تعلّق الذمّ به أيضا ، فإنّ المتبادر من الصيغة إنّما هو الوجوب بمعنى الطلب الحتمي والطلب المتأكّد من أيّ قائل صدرت ، كما يشهد به التأمّل في موارد الإطلاقات ويقضي به البناء على ما يقتضيه الإنصاف.

غاية الأمر ، أنّ القائل بها لو كان ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا أو عرفا لترتّب على مخالفتها الذمّ ، فهو من لوازم الصيغة إذا صدرت من العالي لا من مقتضيات الوضع حتّى يجب اطّراده ، وإنّما الّذي من مقتضياته فهم الوجوب بالمعنى المذكور وهو مطّرد قطعا.

وأمّا ما قد يجاب عن ذلك أيضا : بأنّ دلالة اللفظ لا تستلزم مطابقة مدلوله للواقع.

وغاية الأمر دلالة الصيغة على الوجوب ، وهو لا تستلزم الوجوب في الواقع ليترتّب على مخالفته استحقاق الذمّ.

نعم ، لو علم وجوب طاعة الآمر من الخارج دلّ ذلك على مطابقة لما هو في الواقع ، ويتفرّع الذمّ على مخالفته ، فلذا فرضوا الكلام في أمر السيّد لعبده ، فهو مبنيّ على ما بيّنّا وهنه من دعوى تبادر الطلب الحتمي من الصيغة المجرّدة عن القرائن وكون القائل بها عاليا ، فلا تعويل عليه بعد ملاحظة ما قدّمناه ، وفرض المثال في أمر السيّد لعبده ليس

٦٥

لأجل كونه هو محلّ كلامهم ، بل إنّما هو لأجل الاستدلال على المطلوب بأظهر أفراد التبادر ، لاقترانه في ذلك الفرض بأمر ظاهر محسوس كاشف عن حصوله الكاشف عن ثبوت الوضع كما عرفت.

ومن البيّن أنّ اختصاص المثال لا يوجب اختصاص النزاع كما لا يخفى ، وإلاّ لكان ذلك إشكالا مطّردا في أغلب الاستدلالات كما لا يخفى ، فالإيراد إنّما يندفع بما ذكرناه دون غيره.

ويندفع به أيضا ما يقال على الاستدلال أيضا من أنّ غاية ما يفيده ذلك دلالة الصيغة الصادرة من العالي على الوجوب ، وأين ذلك من دلالة الصيغة من حيث هي على الوجوب ، فإنّ الّذي يترتّب على العلوّ إنّما هو مجرّد الذمّ على المخالفة الكاشف عن فهم الوجوب ، وأمّا نفس ذلك الفهم فليس ممّا يتفرّع عليه بل هو عامّ له ولغيره ، والمفروض أنّ الاستدلال دائر على ذلك لا غير ، مع أنّه على تقدير تسليم عدم معلوميّة حال سائر الأصناف يثبت الحقيقيّة في الصيغة الصادرة من العالي بذلك التبادر المسلّم عندنا وعندك ، ثمّ نتسرّى منها إلى ما تصدر عن سائر الأصناف بأصالة عدم تعدّد وضع الصيغة بتعدّد المستعملين لها ، وأصالة التشابه وعدم الاختلاف بين الأصناف المختلفة من أهل اللغة في أمر لسانهم ، كما تقدّم ذلك في أوائل الكتاب عند البحث عن أحوال التبادر.

وأمّا ما يقال أيضا ـ في منع أصل التبادر ـ : بأنّه لو صحّ تبادر الوجوب عن الصيغة لزم انتقال الذهن منها إلى المنع من الترك وليس كذلك ، حيث لا يخطر الترك بالبال فضلا عن المنع عنه.

ففيه : أنّ كون المنع من الترك مأخوذا في مفهوم الوجوب إنّما هو في تحليل العقل كما صرّح به فحول الأصحاب وفضلاؤهم ، وإلاّ فمفهومه المنساق منه عرفا عند الإطلاق ليس إلاّ أمرا بسيطا إجماليّا يعبّر عنه تارة بالطلب الحتمي وأخرى بالطلب المتأكّد ، نظير المفاهيم الإجماليّة المنساقة عن سائر الألفاظ الموضوعة للطبائع المركّبة من أجزاء عقليّة.

ألا ترى أنّ الإنسان لا يتبادر منه عرفا إلاّ أمر إجمالي معلوم عند كلّ أحد ، مع أنّه عند تحليل العقل ينحلّ إلى كونه جسما وناميا ومتحرّكا بالإرادة وقابلا للأبعاد الثلاثة وناطقا ، فعدم تبادر الأجزاء العقليّة عند الإطلاق لا ينافي تبادر ما هو محصّل المعنى ولبّه الّذي عليه مدار التفاهم والتخاطب ، كيف مع أنّه لو لا الاعتماد على هذا التبادر لانسدّ باب التمسّك بالتبادرات بل أغلب الأمارات في إثبات المطالب الراجعة إلى اللغات ،

٦٦

معلّلين حسن ذمّه بمجرّد ترك الامتثال * وهو معنى الوجوب.

لا يقال : القرائن على إرادة الوجوب في مثله موجودة غالبا ** فلعلّه إنّما يفهم منها ، لا من مجرّد الأمر.

__________________

لعدم انفهام الأجزاء العقليّة في شيء منها.

* ولا يخفى أنّ ذلك توطئة لدفع ما يقال أيضا : من أنّ ذمّ العقلاء لعلّه لعلمهم بأنّ السيّد كاره للترك لا لأجل كونه تاركا للامتثال حتّى يلزم منه إفادة الصيغة للوجوب ، فإنّ علّة الذمّ والانتقام إذا كان مجرّد ترك الامتثال فلا وقع لذلك الكلام ، كيف مع أنّهم إذا سألوا عن وجه الذمّ عليه وانتقامه علّلوه بعدم امتثاله لأمر سيّده ، فلو لا دلالة الصيغة الصادرة عنه على الوجوب لما كان لذلك التعليل وجه ، إذ لا طريق لهم إلى معرفة وجوب الامتثال سواها.

ومن هنا يندفع أيضا ما اعترض : بأنّه قد يقع الذمّ على ترك بعض المندوبات وارتكاب بعض المكروهات فلا اختصاص له بمخالفة الواجب ، فيكون الدليل حينئذ أعمّ من المطلوب ، فإنّهم يعلّلون الذمّ بمجرّد ترك الامتثال.

ومن الواضح المتّفق عليه أنّ مجرّد ترك الامتثال بالمندوب لا يعدّ عصيانا ولا يوجب استحقاق الذمّ ما لم ينجرّ إلى عنوان آخر محرّم في حدّ نفسه كقصد الإهانة أو عدم الاعتناء بشأن السيّد ونحو ذلك ، فتوجّه الذمّ لأجل تلك العنوان كلام آخر لا دخل له في المقام ، إذ المفروض توجّهه هنا لترك الامتثال فلولا وجوبه لم يتوجّه جزما.

** وأنت خبير بأنّ وجوب الامتثال الموجب لاستحقاق الذمّ على المخالفة أعمّ من المطلوب ، لجواز استناد انفهامه إلى أمر خارج عن اللفظ من القرائن الحاليّة أو العاديّة الموجودة مع اللفظ كعادة السيّد ، والعطش عند طلب السقي ، والجوع عند طلب الطعام ونحو ذلك ممّا لا يكاد يخفى على المتأمّل ، فمسّت الحاجة إلى ضمّ مقدّمة اخرى ليندفع بها تلك المناقشة ـ الّتي هي معروفة في الألسنة ـ وبدونها لا ينهض الاستدلال على المدّعى أصلا.

فلا يرد عليها ما أورده بعض الأفاضل : من أنّه بعد أخذ قضيّة التعليل في الاحتجاج لا يتوجّه ما أورده بقوله : « لا يقال » إذ بعد ثبوت تعليلهم حسن الذمّ بمجرّد ترك الامتثال لا فرق بين قيام القرائن على إرادة الوجوب وعدمه ، إذ غاية ما يلزم من ذلك حينئذ أن تكون القرائن مؤكّدة لا مفيدة للوجوب وإلاّ لم يحسن التعليل ، والحاصل إمّا أن يؤخذ في

٦٧

الاحتجاج انتفاء القرائن في الصيغة الصادرة من السيّد أو تعليلهم الذمّ بمجرّد ترك الامتثال ، ويتمّ الاحتجاج بأخذ واحد منهما ، وحينئذ فمع أخذه التعليل المذكور في الاحتجاج وعدم اعتبار انتفاء القرائن هناك لا يتّجه الإيراد لاحتمال وجود القرائن في المقام (١).

ولا يخفى أنّ ذلك كلام وارد في غير محلّه ، فإنّ مجرّد التعليل غير كاف في تماميّة الاستدلال ، كيف مع أنّ الوجوب إذا كان مستفادا من الخارج لصحّ التعليل المذكور أيضا من دون تأمّل ، ومع ذلك كيف يتفوّه بعدم الحاجة إلى مقدّمة.

ودعوى كون القرائن الموجودة ـ على فرض قيام ـ مؤكّدة أمر لابدّ له من شاهد قويّ ، لكونها احتمالا معارضا بكون تلك القرائن مفيدة ولا سيّما مع ملاحظة كون المعارض أقوى ، لاعتضاده بقاعدتهم المعروفة من أولويّة التأسيس من التأكيد ، فلا مناص من مقدّمة اخرى تدفع احتمال وجود المعارض ، وبالجملة فهذا كلام لا ينبغي الالتفات إليه.

فمحصّل ما أفاده المصنّف في دفع المناقشة : أنّا نفرض صدور الصيغة في مقام غير صالح لاحتمال قيام تلك القرائن ، فلا يبقى للفهم والتبادر حينئذ وجه إلاّ كونه مستندا إلى حاقّ الصيغة.

وأمّا ما يقال على ذلك : من أنّ فرض انتفاء القرائن لا يستلزم وقوع الانتفاء ، فربّما كان حكم النفس ببقاء الذمّ لانضمام القرائن وحصولها في نفس الأمر والواقع وإن فرض انتفاؤها ، نعم لو انتفت القرائن في الواقع وحكم الوجدان ببقاء الذمّ ينفع في المطلوب ، فكلام ظاهريّ لا يعبأ به ، منشؤه عدم الخبرة بما هو قانون المجازات من افتقارها بقيام قرينة ملتفت إليها من كلا طرفي الخطاب لأجل توقّف الفهم والدلالة.

وأنت بالتأمّل فيما حقّقناه ـ في مبحث التبادر في الجزء الأوّل من الكتاب ـ من أنّ الّذي يعدّ من كواشف الوضع يعتبر فيه تجرّد اللفظ عن القرائن بأجمعها ، أو عدم الالتفات منهما إلى القرينة الموجودة معه ، أو كون الالتفات إليها لا لأجل توقّف الدلالة على أصل المعنى وفهمه من اللفظ تعرف فساد هذا الكلام ، فإنّ مجرّد احتمال القرينة في الواقع غير قادح في الدليل ، لأنّه احتمال يدفع بالأصل على فرض عدم العلم بانتفائها في الواقع ، بل العلم بوجودها في المقام أيضا غير كاف في الانصراف عن حكم التبادر ، لاندفاع احتمال

__________________

(١) هداية المسترشدين ١ : ٦١٠.

٦٨

تأثيرها في الفهم والدلالة بالأصل النافي لاحتمال الالتفات.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه يظهر ما في الإيراد أيضا ـ بأنّ التبادر المذكور بعينه حاصل في لفظ « الطلب » وما بمعناه ، كما إذا قال لعبده : « أطلب منك شراء اللحم » أو « اريد منك ذلك » مع أنّه لا كلام في كون الطلب أعمّ من الوجوب والندب ، فلو كان التبادر المفروض دليلا على الوضع للوجوب بالخصوص لجرى ذلك فيما ذكر مع أنّ المعلوم خلافه ـ من الفساد ، فإنّ التبادر مع العلم بكون الموضوع له خلاف المتبادر محكوم عندهم بكونه إطلاقيّا ومثله لا يعدّ من أدلّة الوضع ، بل الّذي يدلّ عليه عندهم إنّما هو التبادر إذا كان وضعيّا ، وهو الّذي لم يكن له استناد إلى أمر غير الوضع.

ولقد تقرّر في محلّه أنّ الأصل فيه التبادر الوضعي ، وإنّما يتمسّك بذلك الأصل في موارد الشبهة وعدم معلوميّة جهة التبادر ، والمفروض في المقام كونه وضعيّا بحكم الوجدان ، وعلى تقدير اعتراء التشكيك في ذلك يكفينا الأصل المذكور ، فبطلت المقايسة وفسدت المعارضة.

وبذلك يندفع أيضا ما أورده بعض الأفاضل : من أنّ التبادر إنّما يكون دليلا على الوضع إذا كان الانصراف مستندا إلى نفس اللفظ دون ما إذا استند إلى أمر آخر حسبما قرّر في باب التبادر.

والظاهر أنّ انصراف « الأمر » إلى الوجوب في المقام من جهة دلالة اللفظ على الطلب الظاهر حين إطلاقه في الوجوب ، كما عرفت في انصراف لفظ « الطلب » إليه ، وكأنّه من جهة كون الوجوب هو الكامل منه ، نظرا إلى ضعف الطلب في المندوب من جهة الرخصة الحاصلة في تركه ، فإنّ الوجدان قاض بعدم مدخليّة الأمر الخارج في هذا التبادر ، وعلى تقدير الشكّ ينفي احتمال الالتفات إليه بالأصل ، مع أنّ صلاحيّة الكمال في الفرد لكونه موجبا للانصراف في المطلقات أوّل الكلام بل التحقيق خلافها ، لابتنائها على اعتبار عقلي واستحسان ذوقي لا عبرة بها في اللغات اتّفاقا ، وإنّما المعتبر فيها الأقربيّة العرفيّة المسبّبة في أفراد المطلقات عن غلبة الوجود أو غلبة الإطلاق ، وتحقيق هذه الغلبة في المقام وإن كان مسلّما ، للقطع بكون الصيغة أكثر إطلاقا على الوجوب كما لا يخفى على من تأمّل في موارد إطلاقها عرفا ، إلاّ أنّها لا تجدي المعترض نفعا في دعواه الانصراف ، لأنّها تجري في محلّ علم بكون اللفظ للماهيّة من الخارج ، فحصل انصراف تلك الماهيّة إلى بعض أفرادها بملاحظة تلك الغلبة ، والمقام ليس من هذا الباب ، لأنّ كون الصيغة لماهيّة الطلب من حيث هو أوّل المسألة ، فينهض تلك الغلبة حينئذ دليلا على كونها للوجوب ، لاندراجها تحت

٦٩

لأنّا نقول : المفروض فيما ذكرناه انتفاء القرائن ، فليقدّر كذلك ، لو كانت في الواقع موجودة. فالوجدان يشهد ببقاء الذمّ حينئذ عرفا. وبضميمة أصالة عدم النقل يتمّ المطلوب *.

__________________

قاعدة قرّرناها في الجزء الأوّل من الكتاب ـ في بحث الاستعمال من الأمارات ـ وهي الحكم بكون اللفظ حقيقة فيما غلب استعماله فيه من أحد المعنيين فصاعدا ممّا علم باستعمال اللفظ فيهما مع العلم بقدر جامع بينهما استعمل فيه اللفظ أيضا أو لا.

فبجميع ما قرّرناه أيضا ينقدح الجواب عمّا عساه يورد من احتمال استناد التبادر إلى قرينة العلوّ في خصوص المثال ، بل عدّه بعضهم من الاعتراضات ، فإنّا ندّعي التبادر في الأعمّ ممّا صدر عن العالي ، ومعه لا وقع لهذا الاحتمال.

* والغرض من هذه المقدّمة دفع ما لعلّه يورد على الدليل من أنّ قصارى ما يلزم من هذا الدليل إنّما هو كون الصيغة في العرف حقيقة في الوجوب ، لما قرّر في محلّه من اشتراط كون التبادر في اصطلاح التخاطب في إثبات الوضع به ، مع أنّ الغرض الأصلي في محلّ الخلاف إثبات ما وضع له الصيغة بحسب اللغة ليفيد في أوامر الكتاب والسنّة.

ومحصّل ما يدفعه : أنّ ذلك يثبت بأصالة عدم النقل الّتي لا يزال الناظر في الأمارات المبنيّة على القواعد العربيّة لإثبات المطالب اللغويّة محتاجا إليها ، فإنّ الصيغة لو لم تكن في اللغة للوجوب أيضا للزم النقل ، للقطع بكونها عند أهل اللغة لمعنى ، والأصل عدمه.

وربّما اعترض عليه : بكونه معارضا بأصالة تأخّر الحادث ، لكون الوضع للوجوب أمر حادث والأصل تأخّره.

ويردّه : كون ذلك الأصل مقدّما على معارضه لكونه بالقياس إليه من باب المزيل ، ولاعتضاده بغلبة بقاء الألفاظ على معانيها الأصليّة الثابتة لها عن أهل اللغة إلى عرف زمن الشارع بل إلى عرفنا هذا أيضا كما لا يخفى ، وقيل أيضا لاعتضاده بالشهرة بل الإجماع ، بل بظهور عدم القائل بالفصل بين زماننا وزمان اللغة ، وبأنّ الحكم بتعدّد الوضع حكم بوجود حادث لم يكن والحكم بتقدّم الوضع حكم بسبق موجود ، ومن الظاهر أنّ الأخير أهون من الأوّل.

ثمّ إنّ المراد بالنقل الّذي نفاه بالأصل إنّما هو حدوث الوضع الجديد للصيغة بعد زمن أهل اللغة غير ما كانت عليه أوّلا ، من دون فرق في ذلك بين كونه من باب التعيين أو

٧٠

التعيّن ، فلا يرد عليه ما عن بعضهم من أنّ هذه الضميمة لا تدلّ على المراد ، لجواز أن تكون الصيغة في اللغة للطلب أو الندب مثلا ثمّ استعملها الواضع في الوجوب مجازا ، فاشتهر عند العرف حتّى صارت حقيقة فيه ، فأصالة عدم النقل باقية بحالها من غير استلزام الوضع للوجوب ، فإنّ ذلك إنّما يتّجه لو اريد بالنقل خصوص ما كان من باب التعيين ، وصدر من الواضع ، وهو بمحلّ من المنع ، بل المراد أعمّ منه وممّا كان من باب التعيّن أو التعيين من غير الواضع من العرف بعد زمانه ، فلا وقع حينئذ للاحتمال المذكور قطعا.

فبالجملة لا إشكال في تماميّة الدليل وكون مرجعه إلى دعوى التبادر ، فإنّ المتبادر من الصيغة من أيّ قائل صدرت إنّما هو الطلب الحتمي الّذي يلزمه ترتّب استحقاق الذمّ والعقاب على ترك المطلوب بها لو صدرت ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا أو عرفا ، فلذا نرى في أنفسنا حين العزم على مخالفة من طلب منّا شيئا بالصيغة فيمن يساوينا أو دوننا في الرتبة التعويل على عدم كون القائل ممّن يجب طاعته علينا ، والركون إلى عدم صيرورة مطلوبه واجبا علينا عقلا أو شرعا أو عرفا بمجرّد إيجابه دون عدم كون الصيغة ممّا لا يفيد الوجوب.

وأيضا لا نزال عند العزم على مخالفة من هو أعلى منّا في أمره بالصيغة نفتّش في تحصيل عذر يكون مقبولا عنده نعتذر به لو أخذنا على المخالفة.

وأنت لو تأمّلت في الأوامر العرفيّة وطريقة كلّ أهل لسان في لسانهم لوجدت من القرائن الكاشفة عن فهم الوجوب عن الصيغ المجرّدة والشواهد القاضية بتبادره عنها عند الإطلاق أكثر ممّا يعدّ ويحصى ، فمع ذلك التبادر المقطوع بعدم مدخليّة ما عدا اللفظ في حصوله لعموم مورده كيف يسوغ التشكيك في كونها للوجوب خاصّة ، مضافا إلى أنّ استعمالها في الوجوب أغلب وأكثر بمراتب شتّى من استعمالها في الندب أو غيره بحيث لم نجده في جنب الأوّل إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، كما نشاهده في الصيغ الصادرة منّا بالنسبة إلى عبيدنا وخدّامنا وأزواجنا وكلّ من يساوينا ، بل نشاهده في الصيغ الصادرة ممّن هو دوننا بالنسبة إلينا من أزواجنا أو أبنائنا أو عبيدنا وخدّامنا ، فيندرج تحت قاعدة أشرنا إليها وأسّسناها في أوائل الكتاب.

وأيضا لم نجد استعمالها في خصوص الندب إلاّ ومعها قرينة من الحال أو المقال دلّتنا على فهمه بحيث لولاها لما انتقلنا إلى إرادته ، بل نجد أنفسنا ملتزمين بنصب قرينة عند إرادة الندب من تحريك يد أو إشارة أو تصريح بما يكشف عن رضانا بالترك مع أولويّة

٧١

الثاني : قوله تعالى مخاطبا لإبليس ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )(١). *

__________________

الفعل ، ونحو ذلك ممّا يدلّ مخاطبينا عليه لئلاّ يتضيّق عليهم الأمر في تحصيل المطلوب لو كان فيه نوع عسر أو تعب أو صعوبة عليهم ، ولا يخفى أنّ ذلك أيضا من لوازم المجاز.

* وأنت بالتأمّل فيما قرّرناه في ذيل بحث صحّة السلب وعدمها من الأمارات تعرف وجه الاستدلال بتلك الآية وما عداها من الآيات والروايات ، فإنّ مآل ذلك أيضا إلى الاستدلال بالتبادر كالوجه الأوّل ، إلاّ أنّه تبادر في مخاطبات عرفنا والإطلاقات المتداولة في عرف زماننا يجده العقل ، وذلك تبادر في العرف القديم يكشف عنه النقل ، ولعلّه ـ لو سلم ناقله عن المناقشات ـ أقوى وأفيد من الأوّل ، لعدم افتقاره في تتميم الاستدلال به إلى ضمّ بعض المقدّمات كما لا يخفى.

ومن المعلوم بإجماع العلماء الأعلام وبناء قاطبة أهل اللسان أنّ التبادر كما أنّه يوجب المطلوب مع العلم بعدم مدخليّة أمر خارج من اللفظ في حصوله ، فكذلك يوجبه مع عدم العلم بمدخليّة الأمر الخارج فيه.

غاية الأمر مسيس الحاجة إلى ضمّ أصل ينفي احتمال وجوده أو احتمال الالتفات إليه ، فإنّ كلّ ذلك أمر حادث ينفى بالأصل عند الشكّ في حدوثه ، ولا ريب في اعتباره أيضا بعد ضمّ ذلك إليه مع تحقّق سائر شرائطه المقرّرة في محلّه ، فلا وقع حينئذ لما عن بعضهم من المناقشة في الآية بأنّها من الخطاب الشفاهي لكون المخاطب بها أوّلا هو الملائكة وثانيا هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والخطابات الشفاهيّة حكمها مجملة بالنسبة إلى الغائبين ، لاحتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائها علينا كما تتّفق كثيرا في موارد يكشف عنها الإجماع على إرادة خلاف ظاهر الخطاب ، فإنّ الخطابات الشفاهيّة بناء على عدم تناولها لغير الحاضرين تصير مبيّنة بضميمة الاصول الاجتهاديّة.

ولو سلّم ، فلسنا نستفيد حكما من الآية حتّى يرد علينا قضيّة الإجمال ، بل الغرض الأصلي من النظر فيها إحراز تبادر تكشف عن تحقّقه في العرف القديم بعنوان الجزم واليقين بالتقريب الّذي يأتي بيانه.

غاية الأمر بقاء تشكيك في استناده حين التخاطب إلى ما هو خارج عن اللفظ من

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

٧٢

والمراد بالأمر : ( اسْجُدُوا ) في قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ )(١) ؛ *

__________________

القرائن المحتملة وجودها ثمّة ، فأيّ فرق حينئذ بينه وبين التبادر الّذي يحصّله الفقيه وجدانا عن ملاحظة المتفاهمات وموارد الإطلاقات أوجب جواز تتميم ذلك بضميمة الاصول دونه.

ودعوى جريانها في القرائن اللفظيّة دون الحاليّة للقطع بوجود حالة حين الخطاب.

يدفعها : مع أنّه خرم لقانون التمسّك بأكثر التبادرات ، عدم كفاية مجرّد وجود القرينة في الانصراف عن قضيّة الوضع ، لوجوب الالتفات إليها بعد وجودها ، والمفروض أنّه في المقام ـ على تقدير تسليم وجودها ـ محلّ شكّ فينفى بالأصل.

والمناقشة في ذلك أيضا : بكون الشكّ في الحادث ، للقطع أو الظنّ بالتفات مّا زائدا على الالتفات إلى الوضع حين الخطاب ، وإنّما الشكّ في الملتفت إليه ، متّضح المنع ، بأنّ المعتبر منه إنّما هو الالتفات إليها في فهم المعنى ، والّذي نقطع بحدوثه في المقام إنّما هو الالتفات إلى اللفظ ووضعه ، وأمّا الالتفات إلى حالة منضمّة إليه لأجل الفهم فليس بمقطوع ولا مظنون ، فالأصل جار.

إلاّ أن يقال : بأنّ القطع بالالتفات إلى حالة مّا حاصل ، وإنّما الشكّ في كونها من باب الضميمة إلى اللفظ لتكون قرينة ، وعدمه لتكون أجنبيّة ، فلا يجري الأصل.

ففيه : أنّ الشكّ حينئذ يقع في تأثيرها في فهم المعنى ، لأنّها قبل حدوث حالة الخطاب كانت منعدمة فكان تأثيرها أيضا منعدما ، فإذا حصل الخطاب وحدثت الحالة حينه والالتفات إليها فانقطع الأصل بالنسبة إلى هذه المذكورات بالقطع.

وأمّا بالنسبة إلى تأثير الحالة المذكورة فباق بحاله ، مع أنّ طريقة العرف في تلك المقامات على عدم الاعتناء بتلك الاحتمالات.

ألا ترى أنّهم ينقلون التواريخ والقصص من الكتب والطوامير القديمة اعتمادا على ظواهرها ، فإنّ ذلك كاشف عن عدم اعتنائهم بوجود القرائن الحاليّة ولا الالتفات إليها.

* دفع لما قيل : من أنّ أقصى ما تقضي به الآية إنّما هو كون لفظ « الأمر » للوجوب وهو ليس من محلّ الكلام في شيء ، حيث إنّه لا ملازمة بينه وبين الصيغة فتكون باقية

__________________

(١) الأعراف : ١١.

٧٣

على ما كانت عليها من جهالة حكمها.

وتوجيهه : أنّ المراد بالأمر هاهنا صيغة « اسجدوا » بدليل تقدّمها عليه ، مع فقد ما يكشف عن صدور طلب آخر منه تعالى سواها.

وأورد عليه : بأنّ إطلاق « الأمر » عليها مبنيّ على إرادة الوجوب عنها ، وهو أعمّ من أن يكون من جهة دلالتها عليه بالوضع أو بواسطة القرينة.

ويدفعه أوّلا : ظهور سياق الآية في عدم اقترانها بالقرينة ، فإنّه لو كانت دلالتها على الوجوب بواسطة القرينة لما اطلق عليها « الأمر » مجرّدا عنها.

فإن قلت : إنّ ذلك إنّما يتّجه على مذهب من يجعل « الأمر » من مقولة الألفاظ عبارة عن الصيغة ، وأمّا على ما اخترته من كونه من قبيل المعاني عبارة عن الطلب بأىّ آلة تحقّق فلا ، لكون المراد به حينئذ الطلب الحتمي الصادر من العالي وهو أعمّ من كونه مستفادا عن الصيغة بالوضع أو عنها مع ضميمة القرينة.

قلت : إطلاق « الأمر » في الآية على هذا المعنى إنّما هو من جهة استفادته عن صيغة « اسجدوا » فلو كان لغيرها أيضا مدخليّة في إفادته لذكر معها ، لكون آلة حصوله على هذا التقدير هو المجموع من حيث هو ، ولا يخفى أنّه ممّا ينافيه إطلاق الآية ، ولا يستقيم ذلك إلاّ مع الالتزام بكون الصيغة بنفسها آلة لحصوله وهو المطلوب.

وثانيا : أنّ في أصالة عدم القرينة أو الالتفات إليها على تقدير وجودها منضمّة إلى الصيغة كفاية في اندفاع ذلك الاحتمال ، والقول بأنّها معارضة بأصالة عدم دلالة الصيغة على الوجوب ممّا لا يرتاب في فساده ، فإنّ دلالتها عليه أمر متيقّن وإنّما الشبهة في أنّها هل دلّت عليه بالوضع أو بالقرينة فكيف يقال بتعيّن الثاني بأصالة عدم الأوّل ، مع أنّه معارض بالمثل.

والمناقشة فيها أيضا : بأنّ مجرّد الأصل لا حجّيّة فيه لدوران الأمر فيه مدار الظنّ ، مسلّمة إلاّ أنّها في محلّ البحث ليست في محلّها ، لكونه بملاحظة سياق الآية مع قرائن اخر مفيدا للظنّ فيكون حجّة.

وأمّا ما ذكره بعض المحقّقين (١) في دفع الإيراد : من أنّ المراد بلفظ « الأمر » هناك هو الصيغة ، والذمّ على مخالفتها يدلّ على استعمالها في الوجوب ، والأصل في الاستعمال

__________________

(١) وهو المدقّق الشيرواني رحمه‌الله في حاشيته المتعلّقة بالمقام ـ المعالم : ٤٠.

٧٤

فإنّ هذا الاستفهام ليس على حقيقته * ، لعلمه سبحانه بالمانع ، وإنّما هو في معرض الإنكار والاعتراض ، ولو لا أنّ صيغة « اسجدوا » للوجوب لما كان متوجّها.

__________________

الحقيقة ، فعار عن التحقيق.

أمّا أوّلا : فلأنّ جواز استعمالها في الوجوب ولو مجازا لم يكن من محلّ الكلام عندهم حتّى يتمسّك لإثباته بتلك الآية.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الاستعمال الثابت بالوجدان لا يعدّ من أمارات الحقيقة إلاّ على قول شاذّ ، لكونه أعمّ منها ومن المجاز باعتبار كونه جنسا لهما أو فصلا هو بمنزلة الجنس ، فكيف الاستعمال الثابت بالظاهر ولا سيّما في محلّ البحث الّذي قد استعمل في معاني عديدة كثيرة حسبما أشرنا إليها على طريق الإجمال.

* بيان لوجه الاستدلال ومحصّله : أنّ لفظة « ما » ليست على حقيقتها ، لامتناع الاستفهام الحقيقي على الله سبحانه من حيث علمه تعالى بعلّة ترك السجود ، فتكون مرادا بها الإنكار ، والمراد بالمنع الدعاء والبعث ، ووجه إطلاقه عليهما لكون المانع عن السجود ـ كما في قوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )(١) في آية اخرى ـ داعيا وباعثا على تركه وعلّة له ، فيكون المراد إنكار ما يصلح داعيا إلى الترك وباعثا عليه عقلا أو شرعا لا مطلقا ، لاستحالة الترك بدونه كاستحالة الفعل بدونه.

ومن المقرّر في محلّه أنّ الإنكار في الماضي يفيد الذمّ والتوبيخ ، كما أنّه في المستقبل يفيد الترغيب والتحريص ، ولا معنى للذمّ والتوبيخ على ترك السجود إلاّ إذا كان واجبا ، وهو فرع كونه ممّا أفاده الصيغة المجرّدة عن القرائن ، كما أنّ الاستحقاق بهما فرع لفهمه عنها وهو المطلوب.

ويمكن تقرير ذلك : بأنّ الصيغة حين صدورها إن كانت ممّا فهم منها الوجوب فهو المطلوب ، وإلاّ فيلزم الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه على تقدير كونها حقيقة في غير الوجوب فقط ، أو تأخير البيان عن وقت الحاجة على تقدير اشتراكها بين الوجوب وغيره.

واعترض عليه بوجوه :

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

٧٥

منها : منع كون الاستفهام إنكاريّا ويقرّر ذلك بوجهين :

أحدهما : أنّ الاستفهام الحقيقي أعمّ من كونه للنفس أو للغير الّذي يعبّر عنه بـ « التقريري » بدليل عدم صحّة السلب عن المستفهم لأجل غيره ، والّذي يمتنع عليه تعالى إنّما هو الأوّل دون الثاني ، فلم لا يجوز أن يكون المراد به طلب الإقرار عن ابليس بالعلّة الداعية له إلى ترك السجود ، وذلك لا ينافي استحباب السجود ولا طرد إبليس ولعنه ، لجواز كون تلك العلّة بمكان من القبح بذاتها أوجبت هذه العقوبات وغيرها.

وثانيهما : أنّ المتعيّن عند تعذّر الحقيقة إنّما هو الاستفهام التقريري لكونه أقرب إليها من الإنكاري باعتبار مشاركته لها في الجنس وهو طلب الفهم.

غاية الأمر أنّه في المجاز لأجل الغير وفي الحقيقة لأجل النفس ، وهو فرق بينهما في الفصل فقط ، بخلاف الإنكار فإنّه يفارقها جنسا وفصلا كما لا يخفى ، فيكون المراد حينئذ إبراز العلّة الّتي بعثته على ترك السجود وإقراره بها وهو الاستكبار الّذي اعترف به بعد ذلك في قوله : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )(١) وهذا أمر يتمّ إذا كان الأمر للندب أيضا ، فلا دلالة للاستفهام على ذمّه ولا توبيخه ، ولا في طرده وإبغاضه بعد إقراره بكون العلّة فيه ما ذكر.

ويمكن الجواب عن الأوّل ، أوّلا : بمنع شمول حقيقة الاستفهام للطلب لأجل الغير ، لكون الظاهر المتبادر منه كونه لأجل النفس ، والأصل فيه كونه وضعيّا ، ودعوى عدم صحّة السلب ، يدفعها : الجزم بصحّة أن يقال ـ لمن استفهم للتقرير ـ : إنّه ما استفهم بل طلب الإقرار والاعتراف بما هو معهود في البين.

وثانيا : منع هذه الدعوى ـ لو سلّمت في المادّة ـ في أدوات الإستفهام ، لما حقّقناه في محلّه من عدم جواز التعدّي عن إحداهما إلى الأخرى في إعمال الأمارة المختصّة بإحداهما ، ولا الحكم بمدلولها في الاخرى إلاّ بدليل آخر وليس بموجود هنا ، والملازمة بينهما أيضا غير ثابتة بل الثابت خلافه ، فإنّ المتبادر من الأدوات ليس إلاّ طلب الفهم للنفس.

وثالثا : عدم كون هذه الدعوى ـ بعد الغضّ عمّا ذكر ـ مجدية في منع وجوب السجود بدلالة الصيغة ، فإنّ كونه مندوبا ينافيه إطلاق لفظ « الأمر » لظهوره في الإيجاب بواسطة الوضع حسبما عرفت في محلّه ، فلا يراد به ما ليس بإيجاب إلاّ مع القرينة وهي مفروض الانتفاء.

__________________

(١) ص : ٧٥.

٧٦

وبالجملة : كون الاستفهام تقريريّا يجامع كلاّ من احتمالي الندب والوجوب ، إلاّ أنّ قضيّة ظهور لفظ « الأمر » في الوجوب يعيّنه مراد من الصيغة ، والمفروض انتفاء القرينة عنهما معا ولو بحكم الأصل.

وعن الثاني : بأنّ العبرة في أمثال المقام إنّما هو بالقرب العرفي الّذي هو في جانب الإنكاري ، من حيث صيرورته من المجازات الشايعة كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات الواردة في العرف.

ولو سلّم فالمراد بالندب الّذي لا ينافيه التقرير إن كان مجرّد الاحتمال بزعم أنّه ممّا يوجب سقوط الاستدلال ، فيردّه : أنّه احتمال بملاحظة فساد لازمه ـ على ما تعرفه ـ مرجوح بالقياس إلى ما يقابله ، فلا يصلح للمعارضة حتّى يترتّب ما ذكر.

وإن كان تعيّنه ، فيردّه : مع أنّه مخالف للإجماع لزومه مجازين لا يصار إلى أحدهما بغير دليل كيف ومع كليهما ، مجاز في الاستفهام ومجاز في لفظ « الأمر » فلابدّ في الخروج عن الأصل ـ عملا بالدليل القاضي بتعذّر الحقيقة بالقياس إلى الاستفهام ـ من الاقتصار على مجاز واحد ، فلا وجه لحمل « الأمر » على الندب من دون شاهد وهو مناف لعدم كون الصيغة هنا للوجوب.

ولقد عرفت تجرّدها عن القرينة ولو بحكم الأصل ، فلا حاجة حينئذ في دفع الإشكال إلى أن يقال : بأنّ الاستكبار من إبليس لم يكن على الله سبحانه ليكون محرّما ، بل كان على آدم فيرجع بالنسبة إلى الله تعالى إلى محض المخالفة التبعيّة الغير المقصودة بالذات المتولّدة من المخالفة الحاصلة من الحميّة والعصبيّة ، وهذه شيء ربّما يعدّ من تبعها في عداد المقصّرين.

حتّى يرد عليه تارة : أنّ الترك الصادر من ابليس قد كان على جهة الإنكار ، وكان استكباره على آدم باعثا على إنكاره رجحان السجود ، ولا شكّ إذن في تحريمه بل بعثه على الكفر ، فهناك امور ثلاثة إباؤه للسجود ، واستكباره على آدم ، وإنكاره لرجحان السجود الراجح المأمور به من الله تعالى ، بل دعوى قبحه لاشتماله على تفضيل المفضول ، ولا ريب في بعثه على الكفر ، كما لو أنكر أحد أحد المندوبات الثابتة بضرورة الدين وكان في قوله تعالى ( أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ )(١) إشارة إلى الامور الثلاثة ، فليس عصيانه

__________________

(١) البقرة : ٣٤.

٧٧

المفروض مجرّد ترك الواجب ، بل معصية باعثة على الكفر ، سيّما بالنظر إلى ما كان له من القرب والفطانة وغاية العلم والمعرفة.

واخرى : بأنّ ذلك مبتن على أنّ الاستكبار وإظهاره ولا سيّما على مثل آدم عليه‌السلام وترك طاعته تعالى في استحقاره لا يوجب الطرد واللعنة ، سيّما بالنسبة إلى الذين يرون أنفسهم بمكان من عبوديّته والانقياد إليه ، وهذا كلّه في محلّ المنع ، وممّا يدلّ على حرمة استكباره قوله تعالى : ( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ )(١) وقوله تعالى : ( فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها )(٢).

ومحصّل التحقيق في المقام : أنّا لا نضائق كون الاستفهام تقريريّا مطلوبا به الإقرار والاعتراف بعلّة ترك السجود وهو الاستكبار ، لا لما قيل من أنّه أقرب إلى الحقيقة ، بل لوقوع التصريح به في آية اخرى حيث يقول عزّ من قائل : ( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ )(٣) ولكنّه لا يقضي بسقوط الاستدلال على وجوب السجود المدلول عليه بالصيغة للمخاطبين بها ، لعدم انحصار طريق الاستكشاف عنه في استفادة الذمّ والتوبيخ عن الاستفهام حتّى ينافيها حمله على التقرير ، بل إنّما نستفيدهما عن سياق الآية ، فإنّها كنظائرها من الآيات المتكرّرة في حكاية تلك واردة في سياق الذمّ والتوبيخ كما لا يخفى على من تأمّل فيها بعين الإنصاف.

ومن البيّن أنّهما فرع الوجوب ، مضافا إلى أنّ احتمال الندب منفيّ بالمحذور الّذي أشرنا إليه ، بحيث لولاهما لكفانا في إثبات المطلوب.

ولا ينافي ترتّبهما عليه قبح استكباره على آدم وإنكاره لرجحان المأمور به الموجبان لكفره وطرده ولعنه ، لجواز ترتّبهما عليه وترتّب الامور المذكورة عليهما ، فإنّ العصيان إذا تعدّد تعدّدت المؤاخذة والعقوبة بالضرورة ، والمفروض بملاحظة سياق الآيات الواردة في تلك الواقعة في مواضع عديدة متكثّرة وفقراتها المصرّح بها فيها صدرا وذيلا أنّ هناك بالنسبة إليهم تكاليف بعضها إيجابي كالسجود لآدم ، وبعضها تحريمي كالاستكبار له وإنكار رجحان السجود المكلّف به ، بل ورجحان أصل التكليف كما يقتضيه دعواه كونه خيرا من آدم ، وإنّه خلق من النار وآدم من الطين أو صلصال وحمأ مسنون ، المشعرة بقبح مثل هذا التكليف وخروجه عن موافقة الحكمة والعدالة ، فأيّ مانع من أن يترتّب الذمّ المستفاد عن السياق على مخالفة التكليف الإيجابي نظرا إلى عدم بلوغ قبحها حدّا أوجب ما زاد على

__________________

(١ و ٣) ص : ٧٥.

(٢) الأعراف : ١٣.

٧٨

ذلك ، ويترتّب الامور المذكورة الزائدة عليه على مخالفة التكليف التحريمي التفاتا إلى بلوغها في شدّة القبح حدّا أوجبها ، بل الظاهر بملاحظة قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )(١) ترتّب الأوّل على الأوّل ، حيث لم يذكر فيها شيء من الاستكبار والإنكار ، وإنّما علّق الذمّ على مجرّد فسقه عن أمر ربّه الّذي هو عبارة عن الخروج عن الطاعة ، كما أنّ الظاهر بملاحظة الآيات الاخر ترتّب الثاني وهو الطرد والرجم واللعن على الثاني وهو الاستكبار والإنكار الموجبان للكفر ، نظرا إلى لفظة « الفاء » الظاهرة في ترتّب ما بعدها على ما قبلها على ما يساعده الفهم والعرف ، كما في قوله تعالى بعد قول إبليس ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )(٢)( قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ )(٣) وقوله في آية اخرى بعد قول إبليس ( لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ )(٤)( قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ )(٥) وقوله في آية ثالثة بعد قول إبليس ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )(٦)( قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ )(٧).

وممّا يشهد بترتّب الكفر على الاستكبار دون ترك السجود من حيث هو قوله تعالى في آية رابعة ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ )(٨) ، (٩) فلا منافاة بين كونه موجبا للطرد والرجم واللعن وكون ترك السجود موجبا لمجرّد الذمّ والتوبيخ ، لما أشرنا إليه من تفاوت مراتب القبح الثابت في المخالفة مع تعدّد التكاليف الموجب مخالفة كلّ شيء بحسب مرتبتها.

فمع ما ذكرنا من القرائن والشواهد لا ينبغي لأحد الارتياب في وجوب السجود الّذي دلّ عليه الصيغة مجرّدة عن القرائن المقتضية للدلالة ، بإبداء احتمال كونه مندوبا من دون قيام شاهد عليه من حال ولا مقال ، فإنّ هذا من الاحتمالات السوداويّة الّتي لو دارت عليها الخطابات الشرعيّة لانخرمت أساس الشريعة بالمرّة ، وانهدمت عماد الدين والطريقة ، بل

__________________

(١) الكهف : ٥٠. (٢) الأعراف : ١٢.

(٣) الأعراف : ١٣. (٤) الحجر : ٣٣.

(٥) الحجر : ٣٤ ـ ٣٥. (٦) ص : ٧٥.

(٧) ص : ٧٦ ـ ٧٧.

(٨) البقرة : ٣٤.

(٩) ومن الآيات الشاهدة ببعض ما ذكر قوله تعالى في سورة بني اسرائيل ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ ابليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ) ( منه ).

٧٩

انسدّت أبواب الاستدلال بالكتاب والسنّة.

ومنها : أنّ غاية ما يستفاد من الآية هو كون صيغة الأمر في عرف الملائكة دالّة على الوجوب قبل نزول آدم إلى الأرض ، وإفادة صيغة الأمر في لسانهم له لا تقضي بدلالتها عليه عندنا.

ويدفعه : أنّ الغرض الأصلي من الاستدلال بالآية إثبات كون صيغة الأمر المحكيّ عنها الصادرة للملائكة مفيدة للوجوب وهو حاصل بما ذكر في وجه الاستدلال ، سواء وافقتها الصيغة المحكيّة الواقعة في الآية بحسب الجنس أو لا.

فإن وافقتها فلا كلام ، غاية الأمر خروج الحاجة ماسّة إلى ضمّ شيء من الاصول إليها كأصالة عدم النقل ، أو أصالة عدم تعدّد الوضع مضافة إلى أصالة التشابه الّتي مدركها غلبة التطابق في أوضاع الألفاظ ومعانيها بالنسبة إلى الأزمنة والألسنة ، ولا بأس به بعد وضوح الحجّة على الاعتبار.

وإن خالفتها فكذلك إذ الظاهر من ملاحظة بناء العرف في موارد الحكاية توارد المحكيّ والمحكيّ عنه على وصف واحد وإن تخالفا بحسب الذات ، فكما كانت الصيغة المحكيّ عنها حقيقة في الوجوب فهكذا تكون الصيغة المحكيّة ، مع أنّ الظاهر من ملاحظة الغلبة والاستقراء توافق اللغات المتبائنة في معاني هيئاتها والأوضاع الراجعة إلى تلك الهيئات ، كما لا يخفى على من لاحظ الهيئات المتداولة في لغة الفرس واللغة التركيّة واللغة العربيّة وغيرها. وإن شكّ في الموافقة والعدم فحاله قد اتّضح ممّا مرّ ، إذ المشكوك فيه بحسب الواقع غير خال عن أحد القسمين.

وأمّا ما ذكره بعض الأعلام في دفع الإشكال من أنّ حكاية أحوال كلّ أهل اللسان لآخرين إنّما يصحّ من الحكيم إذا تكلّم بما يفيد المطلب من لسان الآخرين ويستعمل حقيقتهم في حقيقتهم ومجازهم في مجازهم ، فإن رجع إلى ما ذكرناه ففي غاية المتانة وإلاّ فللنظر فيه مجال (١).

ومنها : أنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية إنّما هو دلالة الصيغة الصادرة منه تعالى على الوجوب ، وهو ليس من إثبات الدلالة عليه بحسب اللغة كما هو المطلوب.

__________________

(١) وجهه : أنّ ما يقتضيه حكمة الحكيم إنّما هو نقل المطلب بعبارة وافية بتمامه ، سواء وقع التعبير بلفظ حقيقي أو مجازي ، وسواء حصلت الموافقة بين المعبّر والمعبّر عنه أو لم يحصل. ( منه ).

٨٠